الهجرة من دار الحرب

   

صفحة :   

الهجرة من دار الحرب:

وبعد.. فإن الإسلام قد حث على الهجرة من دار الحرب، وشدد على ذلك بدرجة كبيرة، لا بهدف التخلي عن تلك الدار نهائياً، وإنما من أجل التحرز عن سلبياتها، ثم العود إليها بالإسلام، الذي هو محض الحق، والعدل، والخير، والبركات..

ومن هنا فقد ذم الإسلام، وحذر الدين يقيمون في بلاد الشرك، ويعرضون أنفسهم لسلبياتها، واعتبر أن ذلك يجعل المسلمين غير مسؤولين عن أي سوء يتعرض له هؤلاء نتيجة لذلك، بالإضافة إلى أن ذلك يسقط حقهم في أمور أخرى، حسبما هو مذكور في محله..

وقد تقدمت رواية ابن عباس ـ حين الكلام على وسائل الحرب ضد المشركين ـ حول سؤال ناس من المسلمين رسول الله «صلى الله عليه وآله» عن: المسلمين يكونون مع المشركين يكثرون سوادهم على رسول الله، فيأتي السهم، فيصيب أحدهم، فيقتله، أو يضرب، فيقتل، فأنزل الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ..﴾([1]).

وواضح: أن الآثار السلبية لتكثير سواد المشركين على أهل العدل، لا تنحصر بالمشركين، بل هي موجودة بالنسبة لمن يحارب أهل العدل، من المسلمين البغاة أيضاً.. والذين يشكلون خطراً على أهل الحق والعدل..

ومن هنا فقد نقل: «..عن الشهيد الحاق بلاد الخلاف، التي لا يتمكن فيها المؤمن من إقامة شعار الإيمان، فتجب عليه الهجرة مع الإمكان إلى بلد تمكن فيه ذلك، واستحسنه الكركى..»([2]).

ثم ذكر رحمه الله تعالى: أن المعيار والميزان هو عدم المعارضة والأذية، على ما يقتضيه دينه، في واجب، أو ندب، فلو تمكن من بعض دون بعض، ووجبت.. إلى آخر كلامه([3]).

وذكر رحمه الله أيضاً: أن الهجرة باقية، مادام الكفر باقياً([4]).

وقال ابن سعيد: «.. والإقامة في دار الشرك محرمة على المتمكن من الهجرة، الخائف، فلا يقدر على إظهار دينه، ومكروه للمتمكن منها، الآمن على نفسه، القادر على إظهار دينه، ولا حرج على من لا حيلة له»([5]).

وواضح: أن كلامه هذا ينسحب على كل بلد لا يمكن فيها إظهار الدين، وليكن منها البلاد التي تحكمها الأحزاب الكافرة، أو التي لا تسمح للمسلم بممارسة شعائر دينه..

وعليه.. فإنه إذا كان عدم التمكن من القيام بواجبه، أو ندب في بلاد الخلاف، يوجب الهجرة، فكيف إذا كان المقام معهم يوجب تقوية الفئة الباغية، وشدة شوكتها ضد أهل الحق والعدل؟! أو منعهم من تسجيل النصر الحاسم، على من يحاربهم، ويعمل على استئصال شأفتهم؟!.

ونضيف هنا إلى رواية ابن عباس المتقدمة، روايات أخرى تحث على الهجرة. وتدعو إليها([6]).. فضلاً عن الآيات القرآنية الواردة في ذلك.

فقد جاء في بعضها قوله «صلى الله عليه وآله»: إني برئ من كل من نزل مع مشرك في دار الحرب([7]).

ويقولون: إنه «صلى الله عليه وآله» قد قال ذلك، حينما بعث سرية إلى خثعم، فاعتصم ناس منهم بالسجود، فأسرع فيهم القتل، فبلغ ذلك النبي «صلى الله عليه وآله»، فأمر لهم بنصف العقل، وقال: أنا بريء الخ..([8]).

وحسب نقل الجصاص عنه «صلى الله عليه وآله»: «من أقام مع المشركين، فقد برئت منه الذمة، أو قال: لا ذمة له».

قال ابن عائشة: «هو الرجل يسلم، فيقيم معهم، فَيُغْزَوْن([9])، فإن أصيب، فلا دية له، لقوله «عليه السلام»: فقد برئت منه الذمة»([10]).

وفي بعض النصوص لم يقيد بكون الدار دار المشركين، بل عبر بدار الحرب، فقال: لا ينزل دار الحرب إلا فاسق، برئت منه الذمة([11]).

قال الجصاص: «وقوله: أنا بريء منه، يدل على أن لا قيمة لدمه، كاهل الحرب الذي لا ذمة لهم..» ([12]).

وقد حاول الجصاص: أن يستدل لذلك بدليل اجتهادي وبآية قرآنية رآها تدل على ذلك أيضاً، فقال:

«.. فلما لم يوجب الله تعالى له ديةً قبل الهجرة، لا للمهاجرين ولا لغيرهم، علمنا: أنه كان مبقى على حكم الحرب، لا قيمة لدمه، وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ﴾([13]) يفيد: أنه ما لم يهاجر، فهو من أهل دار الحرب، باق على حكمه الأول، في أن لا قيمة لدمه، وإن كان دمه محظوراً، إذ كانت النسبة إليهم قد تصح بأن يكون من بلدهم، وإن لم يكن بينه وبينهم رحم، بعد أن يجمعهم في الوطن بلد، أو قرية، أو صقع، فنسبه الله إليهم بعد الإسلام، إذ كاهن من أهل ديارهم، ودلّ بذلك على أن لا قيمة لدمه..» ([14]).

فإذا صح ما ذكره الجصاص، فلا ينحصر ذلك بمن أسلم في دار الشرك أو الكفر، فإن من يقيم في دار البغاة على أهل الحق والعدل، المحاربين لهم يصدق عليهم: أنه من قومٍ عدو لكم، أي عدوٍ لأهل العدل والحق، لأنه ينسب إلى ذلك العدوّ بالبلد، أو القرية أو الصقع، وإن لم يكن له معهم رحم.. فينبغي أن يشمله ذلك الحكم أيضاً.. ولاسيما بعد امره بمنابذة البغاة، وتركهم، والهجرة عن ديارهم، وبعد تحذيره من مغبة الاستمرار في الإقامة معهم، فضلاً عن معاونتهم..

هذا.. وقد عاد الجصاص أخيراً ليذكّر بأن الذي لم يهاجر من دار الحرب، وإن كان محظور الدم، لكنه لا قيمة لدمه، وأجروه أصحابنا ـ على حد تعبيره ـ مجرى الحربي في إسقاط الضمان على متلف ماله، لأن دمه أعظم من حرمة ماله([15])..

أما الحسن بن صالح، فقد أغرب وأغرق كثيراً حين زاد على ما تقدم فقال: «من أقام في أرض العدو، وان انتحل الإسلام، وهو يقدر على التحول إلى المسلمين، فأحكامه أحكام المشركين، وإذا أسلم الحربي، فأقام ببلادهم، وهو يقدر على الخروج فليس بمسلم، يحكم فيه بما يحكم على أهل الحرب، في ماله ونفسه..».

وقال الحسن: «إذا لحق الرجل بدار الحرب، ولم يرتدعن الإسلام، فهو مرتد بتركه دار الإسلام»([16]).

ونحن لا نستطيع أن نوافق على هذا الكلام الأخير بأي وجه، وكلام الجصاص هو الأولى بالاعتبار، والأوفق بالأصول والمعايير الإسلامية، لاسيما ما تقدم من أنه «صلى الله عليه وآله» قد أعطى نصف العقل لذوي الذين أظهروا الإسلام، فلم يُسْمَعْ منهم، وقُتِلوا من بني خثعم.. كما أن العلماء قد أوجبواو الكفارة في المسلم الأسير أو التاجر، الذي يقتل في دار الحرب أثناء التحام القتال، حسبما تقدم، وإن لم يحكموا بالدية.. وحملوا إعطاء نصف العقل لنبي خثعم على التبرع منه «صلى الله عليه وآله» أو الشك في كون دارهم دار حرب([17]).

ومهما يكن من أمر، فإننا نستخلص من الروايات الآنفة الذكر، ومن غيرها: أن المسلم الذي يقيم في دار الحرب، يكون بعمله هذا قد رضي بتحمل كل التبعات الناشئة عن ذلك، والمترتبة عليه، لاسيما بعد التحذير الدائم والمتكرر..

نعم.. يفترض باهل الحق والعدل ـ أن يتجنبوا الإضرار به ما أمكنهم، إلا إن كان الإسلام والمسلمون في خطر داهم وأكيد، يحتم عليهم استعمال الوسائل الرادعة، حيث لا يمكن تجنب الخطر بدونها، وذلك وفقاً لأحكام العقل، وانسجاماً مع مقتضيات الفطرة.

وأخيراً فإننا لو غضضنا النظر عن كل ما تقدم، نقول: إنه إذا كان مقابلة البغاة بالمثل، ولو بضرب مدنهم بعد التحذير المتكرر من شأنها أن تقلل من حجم الخسائر التي يمنى بها أهل الحق والعدل فتجعل الخسائر تقل من خمسين إلى عشرة مثلاً.. فإن العقل ـ كالشرع ـ يلزم بهذه المقابلة حقناً للدماء، وحفاظاً على المؤمنين، وتقليل خسائرهم إلى أدنى حدٍ ممكن، كما هو معلوم لدى كل أحد..


 

([1]) الآية 97 من سورة النساء.

([2]) الجواهر ج21 ص36 و 37.

([3]) المصدر السابق.

([4]) الجواهر ج21 ص34 ـ 36.

([5]) الجامع لأحكام الشرايع ص239.

([6]) راجع على سبيل المثال: الكافي ج5 ص29 والتهذيب ج6 ص139 ودعائم الإسلام ج1 ص369 والبحار ج19 ص179 والوسائل ج11 ص44 وجامع أحاديث الشيعة ج13 ص118و 119 ومجمع الزوائد ج5 ص250 ـ 255 وسنن البيهقي ج9 ص12 و 13 وبداية المجتهد ج1 ص397.

([7]) الكافي ج5 ص43 والتهذيب ج6 ص152 والأشعثيات ص79 و 82 ودعائم الإسلام ج1 ص376 وجامع أحاديث الشيعة ج13 ص184 ومستدرك الوسائل ج2 ص260 والبحار ج97 ص34 وفي هامشه عن: نوادر الترمذي ص34 وراجع: المنتقى ج2 ص816 عن الترمذي، وأبي داود، وأحكام القرآن للجصاص ج2 ص242 وكنز العمال ج4 ص236 عن الطبراني، والبيهقي، وأبي داود، والترمذي، والضياء، عن سمرة، وجرير.. والوسائل ج11 ص76.

([8]) أحكام القرآن للجصاص ج2 ص242 والتهذيب ج6 ص152 والكافي ج5 ص43 والوسائل ج11 ص76 ودعائم الإسلام ج1 ص376.

([9]) الظاهر: أنها مبنية للمجهول، ويحتمل خلافه، ولكنه ضعيف، لأن الكلام في إصابته الناشئة عن إقامته في دار الشرك.

([10]) أحكام القرآن للجصاص ج2 ص242.

([11]) الأشعثيات ص82 ومستدرك الوسائل ج2 ص260. وراجع: السنن الكبرى ج9 ص3 وأحكام القرآن للجصاص ج2 ص242 والدر المنثور ج2 ص194 عن ابن المنذر.

([12]) أحكام القرآن للجصاص ج2 ص242.

([13]) الآية 92 من سورة النساء.

([14]) أحكام القرآن للجصاص ج2 ص243.

([15]) أحكام القرآن للجصاص ج2 ص244.

([16]) أحكام القرآن للجصاص ج2 ص241 وراجع الدر المنثور ج2 ص194.

([17]) أحكام القرآن للجصاص ج2 ص242.

 
   
 
 

موقع الميزان