علي
ومبدأ
المقابلة بالمثل في صفين:
وبعد.. فلعله يجول في خاطر البعض اعتراض على مبدأ
المقابلة بالمثل، وهو:
أن أمير المؤمنين «عليه السلام»، لم يعمل بهذه القاعدة
في صفين، فلم يمنع أهل الشام من الماء، كما صنعوا هم معه([1])..
بل إنه لما استردّ أصحابه الماء، وطردوا أهل الشام عنه،
قال معاوية لعمرو بن العاص: ما ظنك بعلي؟!
فقال: ظني: أنه لا يستحل منك ما استحللت منه، وأن الذي
جاء له غير الماء([2]).
ولكن هذا الإعتراض غير وارد، لعدة أمور، منعته «عليه
السلام» من العمل بمبدأ المقابلة بالمثل، وهي:
1ـ إن قضية استيلاء معاوية على الماء قد حصلت في أول
وصوله عليه الصلاة والسلام إلى المنطقة، ولم يكن قد أقام حجته عليه
وعلى من معه بعد، فإنه «عليه
السلام»،
كان لا يباشر الحرب حتى يحتج على خصمه، ويوضح له ولغيره الحق، وذلك
معروف عنه ومشهور، ولا جهله أحد..
2ـ إنه «عليه السلام» لم يكن ليبتدئهم بالحرب، حتى
يبدؤوه هم بها أولاً.. وقضية منع الماء قد انتهت، ويبقى القتال المرتبط
بأمر مصير الأمة وحكومة الحق والعدل، ولم يبتدئ معاوية بعد بالقتال،
على هذه الناحية: ولا يريد «عليه السلام»: أن يوجد ـ ولو عن طريق
المعاملة بالمثل ـ مبرراً لمعاوية لمواصلة حرب تفقد مبرراتها الحقيقة
لتصب في اتجاه انحرافي، الأمر الذي من شأنه أن يؤثر على القضية، إن لم
يكن سبباً في ضياعها.
3ـ إن ما يريده «عليه
السلام»
يمكنه الحصول عليه، من دون أن يستفيد من حق المقابلة بالمثل، فإن
المقابلة بالمثل ليست من الواجبات مادام يمكن الحصول على المطلوب
بدونها، وإنما هي أمر جائز..
4ـ إنه «عليه السلام»، كان لا يريد أن تشغله، أو يشغل
نفسه بهذه الأمور الصغيرة، والهامشية، التي ربما يكون التوجه إليها ـ
أحياناً ـ سبباً في تضييع الهدف الكبير، أو تأخير الوصول إليه، إلا بعد
تضحيات كبيرة.. وقد أشار «عليه السلام» إلى هذا في قوله الآتي: «إن
الخطب أعظم من منع الماء..».
5ـ كما أن العفو والتفضل في موارد كهذه، من شأنه أن
يخدم الهدف الكبير، ويفهم الناس الفرق بين ما يرمي إليه علي «عليه
السلام»، وما يرمي إليه معاوية في مجال الدعوة، تماماً كما كان الحال
بالنسبة للرسول الأكرم «صلى الله عليه وآله»، وعفوه عن المنافقين، حتى
عن ابن أبي، وكذلك إرساله للمستضعفين في مكة خمس مئة دينار لتورزع
عليهم في أيام الجماعة([3]).
لأن هذا العفو يخدم الدعوة، التي كانت في بداياتها ولعل
منع علي «عليه السلام» الماء مقابلة لهم بالمثل ـ وإن كان له الحق في
ذلك ـ يوجب أن لا يفرق الأعداء بين علي «عليه السلام» ومعاوية.. ولعل
ثمة مصالح اخرى لسنا هنا في صدد التعرف عليها.. ولكننا نقول: إن ما
تقدم يكفي لأن يقف «عليه السلام» موقفه ذاك، ولا يختار إلا ذلك..
6ـ بل لقد ورد: أنه «عليه السلام» هو نفسه قد صرح بمبدأ
المقابلة بالمثل وأمضاه في نفس هذه الواقعة كما صرح بغيره من النقاط
المذكورة آنفاً..
فقد جاء أنه أرسل صعصعة بن صوحان إلى معاوية، وأوصاه أن
يقول له:
«إنا سرنا مسيرنا هذا، وأنا أكره قتالكم قبل الاعتذار
إليكم، وإنك قد قدمت بخيلك، فقاتلتنا قبل أن نقاتلك، وبدأتنا. ونحن من
رأينا الكف حتى ندعوك، ونحتج عليك، وهذه أخرى، قد فعلتموها، حتى حلتم
بين الناس، وبين الماء، فخل بينهم وبينه، حتى ننظر فيما بيننا وبينكم،
وفيما قدمنا له وقدمتم.
وإن كان أحب إليك أن ندع ما جئنا له، وندع الناس
يقتتلون على الماء، حتى يكون الغالب هو الشارب، فعلنا..»
([4]).
فنجده «عليه السلام» يشير بوضوح إلى ما قدمناه من أنه «عليه
السلام»
لابد وأن يحتج عليهم قبل أن يقاتلهم.. كما أن عبارته
الأخيرة تكاد تكون صريحة بأن لأصحابه «عليه السلام» أن يمنعوهم من
الشرب، إذا غلبوا على الماء، لأن الغالب هو الذي يشرب، دون المغلوب..
كما أنه «عليه السلام» بعد استرجاع الماء من يد أهل
الشام بعث إلى معاوية ما يفيد: أنه «عليه السلام» إنما لم يمنعهم الماء
بعد أن غلب عليه تكرماً وتفضلاً منه، ولأنه لم ير أن يكافيه بصنعه،
فبعث إليه:
«أنا لا نكافيك بصنعك، هلم إلى الماء، فنحن وأنتم فيه
سواء. وقال علي «عليه
السلام»
لأصحابه: أيها الناس، إن الخطب أعظم من منع الناس..»
([5]).
كما أنه «عليه السلام» يجيب أصحابه، حين أصروا عليه: أن
يمنعهم من الماء كما منعوه، وأن يقتلهم بسيوف العطش، ويأخذهم قبضاً
بالأيدي بلا حاجة إلى الحرب ـ يجيبهم، فيقول: «لا والله، لا أكافؤهم
بمثل فعلهم، أفسحوا لهم عن بعض الشريعة، ففي حد السيف ما يغني عن ذلك»([6]).
([1])
صفين للمنقري ص161 حتى ص193.
([3])
آثار الحرب في الفقه الإسلامي للزحيلي ص522 عن المبسوط ج10 ص92
وعن شرح السير الكبير ج1 ص70.
([4])
صفين ص161 وراجع: الفتوح لابن أعثم ج3 ص1و2 والأخبار الطوال
ص168 والكامل لابن الأثير ج3 ص284 وتاريخ الأمم والملوك ج4
ص571 و 572.
([5])
صفين ص193وراجع: الفتوح لابن أعثم ج3 ص23 حيث ذكر قول علي
«عليه السلام» لأصحابه.
([6])
شرح النهج للمعتزلي ج1 ص24.
|