صفحة : 163   

بايعنـي من بايع أبا بكر وعمر..

السؤال رقم 65:

ورد في كتاب (نهج البلاغة) الذي تقدره الشيعة ما يلي:

(ومن كتاب له (عليه السلام) إلى معاوية: إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر، وعمر، وعثمان، على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسمَّوه إماماً كان ذلك لله رضاً، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى.

ولعمري يا معاوية لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ الناس من دم عثمان، ولتعلمن أني كنت في عزلة عنه إلا أن تتجنى فتجن ما بدا لك. والسلام)([1]).

ففي هذا دليل على:

1 ـ أن الإمام يختار من قبل المهاجرين والأنصار، فليس له أي علاقة بركن الإمامة عند الشيعة!

2 ـ أن علياً قد بويع بنفس الطريقة التي بويع بها أبو بكر وعمر وعثمان «رضي الله عنهم أجمعين».

3 ـ أن الشورى للمهاجرين والأنصار. وهذ يدلُّ على فضلهم ودرجتهم العالية عند الله، ويعارض ويخالف الصورة التي يعكسها الشيعة عنهم.

4 ـ أن قبول المهاجرين والأنصار ورضاهم ومبايعتهم لإمام لهم يكون من رضا الله، فليس هناك اغتصاب لحق الإمامة كما يدعي الشيعة، وإلا فكيف يرضى الله عن ذلك الأمر؟!

5 ـ أن الشيعة يلعنون معاوية «رضي الله عنه»، ولم نجد علياً «رضي الله عنه» يلعنه في رسائله!

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

وله الحمد، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين..

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

وبعد..

فإننا نجيب بما يلي:

النظرة الشاملة:

إن الباحث المنصف والخبير والقدير، هو ذلك الذي ينظر إلى المسألة من جميع جوانبها، ويضع كل نص في موضعه، الذي يجب أن يكون فيه، في منظومة مكتملة يشد بعضها أزر بعض، ويفسر بعضها بعضاً، لا سيما إذا كان يتحدَّث عن مثل علي «عليه السلام»، الرجل الكامل والحكيم العاقل.. فعليه أن يتدبر في كل كلمة صادرة من رجل مثله عاقل وحكيم، واجه قضية أساسية، واتخذ منها موقفاً، ولا يمكن أن يكون متناقضاً..

وعلى هذا الأساس: لا بد من أن نضع هذا النص المنقول عن أمير المؤمنين «عليه السلام» إلى جانب النصوص التي تحدَّثت عما جرى على علي «عليه السلام» بعد رسول الله «صلى الله عليه وآله».. وأن نضعه أيضاً في مواجهة منطق معاوية، وتكون حصيلة ذلك كله من خلال النصوص والمواقف: أن علياً «عليه السلام» يعتبر أبا بكر وعمر وعثمان قد استولوا على حقه.. وأنهم قد بايعوه يوم الغدير، ثم نقضوا بيعتهم، وأنهم غصبوا فدكاً، وأنهم اعتدوا على بيته، وضربوا زوجته، وأسقطوا جنينها.. وهو الذي يقول: «أرى تراثي نهباً»، ويقول: «وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذَّاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه. فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجاً، أرى تراثي نهباً الخ..»([2]).

ثم يرى معاوية يتذرع بما جرى لأبي بكر وعمر، ويظهر أنه يسير على خطاهما، ويلتزم نهجهما، ويزعم أن المعيار ليس هو النص، بل المعيار هو بيعة المهاجرين والأنصار، وأن الشورى للمهاجرين والأنصار.. الخ..

فيفهم من خلال ملاحظة ذلك كله: أن علياً «عليه السلام» قد احتج عليه بما يلزم به نفسه، فكأنه قال له: إن كان المعيار عندك، هو بيعة الذين بايعوا أبا بكر وعمر، فقد بايعني هؤلاء. حتى لو خالفهم بنو هاشم وسعد بن عبادة، وجماعات غيرهم..

وإن كان المعيار عندك هو اجتماع المهاجرين والأنصار، أو الأكثرية الساحقة منهم، بحيث لا يعبأ بالشاذ منهم، فقد تحقق هذا الأمر بأجلى مظاهره وأتم حالاته ببيعتهم لي بعد قتل عثمان..

المقصود إلزام معاوية:

قد أظهر البيان المتقدم: أن كلام علي «عليه السلام» لا يدلُّ على أنه لا يرى أن النص هو المعيار، بل غاية ما يدلُّ عليه: هو أنه يريد أن يلزم معاوية بما يُظْهِر للناس أنه يلتزم به.

والشاهد على ذلك: أن علياً «عليه السلام» قد وضع معاوية بين أمرين مختلفين، يكاد ينقض أحدهما الآخر:

أحدهما: إنه قال له: إن الذين بايعوه هم الذين بايعوا أبا بكر وعمر، مع أن بيعة أبي بكر كانت فلتة، والذين بايعوا أبا بكر وعمر لم يكونوا جميع المهاجرين والأنصار، لأن فريق سعد بن عبادة من الأنصار لم يكن موافقاً على البيعة لأبي بكر، كما أن فريق علي «عليه السلام» وبني هاشم، ومعهم الزبير، وسلمان، وعمار، والمقداد، وأبو ذر، وقسم من بني أمية كأبي سفيان، وكخالد بن سعيد بن العاص، وكثيرين غيرهم لم يكونوا من المجمعين على البيعة لأبي بكر، ولم يسموه إماماً، بل فرض عليهم البيعة له بالقوة والقهر.

وقد تمادوا في سعيهم لفرض هذا الأمر إلى أن بلغ حدوداً خطيرة جداً خشي علي «عليه السلام» من أن تكون سبباً في مصيبة أعظم من فوت الخلافة، ألا وهي ظهور الدعوة إلى محق دين محمد «صلى الله عليه وآله» كما ورد في كلماته «عليه السلام»..

الثاني: إنه قال له: إن المعيار هو ما أجمع عليه المهاجرون والأنصار، وهذا ينقض خلافة أبي بكر، لأن ذلك لم يحدث بالنسبة إليه، لعدم حصول الإجماع عليه.. فظهور التنافي في هذين السبيلين اللذين حدَّدهما علي «عليه السلام» لثبوت الخلافة يُظْهِر: أنه «عليه السلام» لم يكن يعبر عن قناعاته هو، بل كان بصدد الإلزام لمعاوية.

وخلاصة الأمر:

لو كان «عليه السلام» يرى أن إجماع المهاجرين والأنصار هو المعيار في الإمامة، وليس النص من الله ورسوله، لم يجز له أن يذكر إلى جانب ذلك ما ينقضه، فإن أبا بكر وعمر لم يجتمع المهاجرون والأنصار على تسميتهما إمامين، وقد كان هو نفسه على رأس الرافضين لهما فضلاً عن بني هاشم، وفضلاً عن زعيم الخزرج ومن معه، وعن غيرهم، وغيرهم!!

الإلتزام بالمتناقضات:

إن هذين الأمرين اللذين ألزم بهما معاوية يظهران: كيف أن هذا الفريق قد ألزم نفسه بالمتناقضات، وهذا يدلُّ على تخبطه في حججه، وأن هدفه منها مجرد التبرير لما حدث، مهما كان هذا التبرير هشاً أو متناقضاً.

لا يدل هذا على فضل الصحابة:

إذا كان استدلاله على معاوية جدلياً، ويراد به الإلزام، فهو لا يدلُّ على فضل المهاجرين والأنصار، ولا على عدمه..

لو تحقق الإجماع لالتزمنا به:

إن قول المستدل في الفقرة الرابعة: إن رضا المهاجرين والأنصار بمبايعة رجل يكون من رضا الله صحيح في حد نفسه، لأن الإجماع إذا تحقق، فإن علياً «عليه السلام»، وسائر الملتزمين بالنص سيكونون معهم ومن بينهم، ولن يختار هؤلاء ـ بحيث يتحقق الإجماع ـ إلا من يرضاه الله ورسوله، وهو المنصوص عليه في يوم الغدير.

وهذا لم يحصل إلا بعد قتل عثمان.. أما قبل ذلك، فإن حال البيعة لأبي بكر قد علم مما ذكرناه، آنفاً. أما خلافة عمر، فكانت بوصية من أبي بكر، فحالها حالها..

وكذلك الأمر بالنسبة لعثمان، فإن الشورى كانت من صنع عمر الذي استمد شرعيته من وصية أبي بكر له، فلم تكن هناك خلافة حقيقية أجمع عليها المهاجرون والأنصار، ونص عليها الله ورسوله، وتأكدت بالبيعة في يوم الغدير، وبعد قتل عثمان، سوى بيعة علي «عليه السلام».

أين بيعة علي من بيعة الخلفاء؟!:

قد ظهر عدم صحة قول السائل: إن علياً «عليه السلام» قد بويع بنفس الطريقة التي بويع بها أبو بكر وعمر، فإن عمر قد أخذ الخلافة بالوصية من أبي بكر، ولم يأخذ علي «عليه السلام» الخلافة بوصية من أحد، بل بوصية من الله ورسوله..

كما أن خلافة أبي بكر قد اعتمدت على القهر والضرب، ومحاولة إحراق أهل بيت النبوة، وإسقاط جنين فاطمة الزهراء «عليها السلام» بنت رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وسيدة نساء العالمين. ولم يصاحب البيعة لعلي «عليه السلام» شيء من ذلك..

ثم إن البيعة لعلي «عليه السلام» كانت إجماعية، ولم تكن البيعة لأبي بكر كذلك.

ثم إن هذه الرسالة العلوية إلى معاوية، كانت رسالة احتجاج، وإبطال لحجج معاوية..

والظاهر: أنها كانت قبل حرب صفين، فلم يكن من الحكمة أن تتضمن الجهر باللعن، وإنما لعن علي «عليه السلام» معاوية بعد ذلك..

والحمد لله، والصلاة والسلام على محمد وآله..


([1]) انظر: كتاب «صفوة شروح نهج البلاغة» (ص593).

([2]) نهج البلاغة (بشرح عبده) ج1 ص31.

 
   
 
 

موقع الميزان