صفحة :71-72   

ضرورة المعجزات الكونية:

ومن الواضح: أن المعجزة إنما تأتي لرد التحدي، أو لأتمام الحجة على أهل العناد. وهم الذين يجب أن يروها، أما الآخرون الغافلون فقد يكون الواجب هو أن لا يروها، حفظاً وصيانة لإيمانهم من أن يفقد قيمته وتأثيره في جلب المثوبة، وليحتفظ بقدرته على تأهيل الإنسان لنيل مقام الرضا الإلهي، فإن الإيمان الذي ينتج عن الهلع، والخوف لا قيمة له، وليس هو المناط في استحقاق المثوبة والعقوبة، بل المناط في ذلك هو ما كان عن وعي والتفات، وعن قناعة ناتجة عن روية وتبصر، وتأمل وتفكر، ووعي وتدبر..

وقد يكون من المفيد أن يراها بعض الصفوة إذا كانت رؤيتهم هذه تزيد إيمانهم وترسخ يقينهم، وتفيد في بصيرتهم ووعيهم.

وخلاصة القول: إن المعجزات الهائلة من قبيل حادثة رد الشمس وانشقاق القمر لا يجب أن يراها جميع البشر. إنما يجب أن يراها أصناف من الناس وهم:

1 ـ من قصد بها إبطال كيده، ودفع غائلته عن الذين يسعى إلى استضعافهم، وأسر عقولهم، وسد أبواب الهداية أمامهم، بما يثيره أمامهم من شبهات، وما يسختف به عقولهم من ترهات..

2 ـ من وقفوا تحت تأثير أولئك الأقوياء، وخُدعوا بأقاويلهم، وأباطيلهم، وأصبحوا بحاجة إلى المساعدة في كشف باطل أولئك، وتعريفهم بجحودهم.

فإذا ظهرت هذه المعجزة له، ولمن يراد إزالة الغشاوة عن أعينهم، فإن أي جحود من هؤلاء وأولئك بعد هذا سيكون على قاعدة: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ}([1]).

3 ـ من كان من الصفوة الأخيار، والمؤمنين الذين اختاروا طريق الإيمان من خلال الاستجابة لنداء العقل والفطرة. وقد بلغوا الدرجات العلى في ذلك. وذلك بهدف تربيتهم وزيادة يقينهم، وترسيخ إيمانهم ومصالح أخرى يعلمها الله مثل تعريفهم لمقام إمامهم لتيسير طاعتهم له وما إلى ذلك.

4 ـ وهناك قسم رابع وهم الغافلون الذين لا يجوز مواجهتهم بما ربما يثير الرعب في قلوبهم، لكي لا يجدوا أنفسهم في دائرة الإلجاء.. والاضطرار فإن فطرتهم الصافية وعقولهم السليمة، وعدم دخولهم دائرة الاستكبار والتحدي، وحسن اختيارهم كفيل بتهيئتهم للإيمان. أو على الأقل لابد من إعطائهم الفرصة لاختيار أحد النجدين، ليختاروا طريق الشكر أو الكفر، ثم الجحود والعناد عن بصيرة ويقين..

ولو أنهم يواجهون بالتخويف الذي يفقدون معه فرصة التأمل والتفكر والاختيار، كان ذلك معناه التخلي عن مقتضيات الحكمة، والابتعاد عن طريق العدل، وحاشاه تبارك وتعالى من ذلك..

ولعلنا نجد التأييد لما قلناه فيما ذكره الخطابي وابن عبد البر، وأبو نعيم في دلائل النبوة، فقد قالوا:

إن حكمة كون المعجزات المحمدية لم يبلغ منها شيء مبلغ التواتر الذي لا نزاع فيه ـ كالقرآن ـ هي: أن معجزة كل نبي كانت إذا وقعت عامة أعقبت هلاك من كذب به من قومه([2]).

ثم: >إن أبا نعيم زاد على ذلك قوله: ولاسيما إذا وقعت الآية في كل بلدة كان عامة أهلها يومئذٍ الكفار الذين يعتقدون أنها سحر، ويجتهدون في إطفاء نور الله<.

قال الزرقاني: >وهو جيد بالنسبة إلى من سأل عن الحكمة في قلة من نقل ذلك من الصحابة.

وأما من سأل عن السبب في كون أهل التنجيم لم يذكروه.

فجوابه: أنه لم ينقل عن أحد منهم أنه نفاه. وهذا كاف. فإن الحجة في من أثبت لا في من لم يوجد عنه صريح النفي. حتى إن من وجد منه صريح النفي، يقدم عليه من وجد منه صريح الإثبات<([3]).


 

([1]) الآية 14 من سورة النمل.

([2]) المواهب اللدنية ج2 ص208.

([3]) شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج6 ص483

 
   
 
 

موقع الميزان