ويقولون:
إن أبا ذر «رحمه الله» كان رابع أو خامس من أسلم([1])،
حيث إنه سمع بمبعث النبي «صلى الله عليه وآله»، فأرسل أخاه ليستقصي له
الخبر، فرجع إليه، ولم يشف له غليلاً.
فذهب إلى مكة
بنفسه، فكره أن يسأل عن النبي «صلى الله عليه وآله» علانية، فاضطجع في
ناحية المسجد الحرام، فرآه علي «عليه السلام»، فعرف أنه غريب، فدعاه
إلى بيته، فاستضافه ثلاثة أيام لا يسأله عن شيء.
ثم سأله أبو
ذر عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» فاقترح عليه أمير المؤمنين «عليه
السلام» أن يتبعه أبو ذر، فإن رأى ما يخاف منه عطف كأنه يريد أن يقضي
حاجة، أو يصلح نعله..
فأوصله «عليه
السلام» إلى النبي «صلى الله عليه وآله»، وأسلم أبو ذر، فخرج إلى
المسجد الحرام، فأعلن إسلامه، فضربوه حتى اضجعوه.
فأتى العباس فأكب عليه، وقال:
ويحكم ألستم تعلمون أنه من غفار، وإنها طريق تجارتكم إلى الشام؟!
فتركوه..
وعاد في اليوم
التالي فصنع مثلما صنع في اليوم الأول، فخلصه العباس أيضاً([2]).
ونقول:
قد تحدثنا عن
بعض ما يرتبط بهذه الحادثة في كتابنا الصحيح من سيرة النبي «صلى الله
عليه وآله»، ولذلك فنحن نكتفي هنا بتسجيل ما يلي:
1ـ
دلت هذه الرواية على أن الناس قد تأخروا كثيراً في قبول الإسلام، حيث
علمنا: أن خديجة وعلياً وجعفراً «عليهم السلام» كانوا أسبق الناس إلى
الإسلام، فإذا كان أبو ذر رابع من أسلم، فذلك يعني أن أحداً لم يدخل
بعد هؤلاء في الإسلام إلى ما بعد سنوات، أي إلى أن طار خبر بعثة النبي
«صلى الله عليه وآله» في البلاد، وبلغ بني غفار الذين كانوا يسكنون قرب
المدينة، ثم أرسل أبو ذر أخاه إلى مكة ليستطلع الأمر، ثم عاد إليه، فلم
يجد أبو ذر عنده ما يشفي غليله، ثم سافر أبو ذر إلى مكة وبقي أياماً
حتى وصل إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» وأسلم على يديه.
فإن هذا لو
فرض أنه قد تواصل واستمر، فهو يحتاج إلى المسير الجاد ذهاباً وإياباً
حوالي شهر ونصف.
فإذا أضيف إلى
ذلك أن الرواية تذكر ما يدل على أن مجيئ أبي ذر إلى مكة قد حصل حيث كان
النبي «صلى الله عليه وآله» في وضع صعب، وكان الإتصال به يحتاج إلى تخف
وتستر، مما يعني أن العداوات كانت قد ظهرت بين المشركين والمسلمين، وهو
يدل على أن إسلام أبي ذر قد حصل ربما حين كان النبي في دار الأرقم أو
بعد ذلك. وأن أحداً لم يسلم طيلة هذه المدة، لكي يصح أن يكون أبو ذر
رابع من أسلم.
ولعل هذا يفسر لنا عدم استجابة أحد لرسول الله «صلى الله عليه وآله» في
حديث: ﴿وَأَنذِرْ
عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾،
حتى حمزة وجعفر «عليهما السلام».
وهذا كله يؤذن
بوجود فاصل زمني طويل، يمتد إلى ثلاث أو أربع سنوات فيما بين إسلام أبي
ذر، وبين تاريخ بعثة الرسول «صلى الله عليه وآله».
ويكون إسلامه
الذي أعلنه وفق هذه الطريقة، التي تحدثت عنها رواية اسلامه بداية عهد
جديد، جرأ الناس على الدخول في هذا الدين، والمباهاة به، وتحدي
المشركين فيه.
فما يدعى من
سبق أبي بكر وغيره إلى الإسلام وأنه سبق علياً أو قاربه ليست له أدنى
درجة من المقبولية أو المعقولية.
2 ـ
إن سن علي «عليه السلام» في أول البعثة كان لا يتجاوز العشر سنوات،
والمفروض أنه لا يملك لنفسه بيتاً مستقلاً يستضيف به الغرباء، الأمر
الذي يعني أنه قد دعا أبا ذر إلى منزل أبيه أبي طالب صلوات الله عليه..
أو فقل إلى المكان المخصص له من قبل رسول الله
«صلى الله عليه وآله»، أو من قبل
والده
العظيم..
وقد اتضح من
هذه الحادثة أن تصرفات أمير المؤمنين «عليه السلام» في صغره كانت ملزمة
لوالده، ولم يكن يعترض عليه حتى حين يدعو الغرباء إلى بيته لينزلهم
فيه، لا يوماً واحداً وحسب، وإنما ثلاثة أيام.
وهذا التصرف
لا يقبل عادة ممن كان في سن علي «عليه السلام»، الأمر الذي يشير إلى
امتياز ظاهر له على من سواه وعلى مكانته «عليه السلام» المتميزة لدى
أبيه، ومدى ثقته به وبحصافة رأيه، وعلى أنه «رحمه الله» كان يحترم له
هذا التصرف النبيل، ويقدر فيه هذا الخلق الجميل.
3ـ
إن عنصر السرية الذي اعتمده «عليه السلام» في أسلوب إيصال أبي ذر إلى
رسول الله «صلى الله عليه وآله»، يدل على دراية وروية، وتبصر وتدبر
للأمور.
وقد وثق أبو
ذر بهذا الفتى اليافع، ومنحه كل حبه واحترامه.. وأدرك أنه فتى المهمات
الصعبة، منذ أن دعاه ليكون في ضيافته ثلاثة أيام، ثم زاد إكباره له،
وهو يقترح عليه هذا الأسلوب الحكيم.. الذي لا يصدر إلا من أعقل
العقلاء، ومن أهل التبصر والحكمة، والروية والتدبير.
4 ـ
إن هذا الأسلوب الذي اقترحه «عليه السلام» من شأنه أن يحفظ أبا ذر،
ويحفظ من خلاله الدعوة نفسها من أن تتعرض للأذى وللحصار، من خلال تهديد
أمن وسلامة من يسعى للوصول إلى صاحبها للتعرف عليه، والإستفادة منه
إيماناً، ومعرفة، ووعياً، وإلتزاماً.
5 ـ
إن عدم سؤال
علي «عليه السلام» أبا ذر عن شأنه مدة ثلاثة أيام.. ربما لكي لا يشعر
أبو ذر أن مضيفه قد مل وجوده. كما أنه يريد له أن يأنس في هذا البلد،
وتذهب وحشة الغربة عنه، ويرتاح نفسياً كما ارتاح جسدياً.. وليكون من ثم
اكثر طمأنينة، وأنفذ بصيرة في بيان حاجته، وأعرف بالمسالك التي توصله
إليها. وبالأسباب التي تمكنه من الحصول عليها..
([1])
دلائل النبوة للبيهقي ج1 ص458 والطبقات الكبرى لابن سعد ج4
قسم1 ص164 وحلية الأولياء ج1 ص157 ومستدرك الحاكم ج3
والإستيعاب (بهامش الإصابة) ج1 ص313 والإصابة ج4 ص63 وأسد
الغابة ج5 ص186 و (ط دار الكتاب العربي) ج1 ص301 والبداية
والنهاية ج7 ص185 والغدير ج8 ص308 ـ 309 عن بعض من تقدم، وعن
شرح الجامع الصغير للمناوي ج5 ص423. والمجموع للنووي ج2 ص76
وج4 ص35 وشرح مسلم للنووي ج2 ص51 وعمـدة القـاري ج1 ص205
ومستدرك = = سفينة البحار ج3 ص435 وراجع: الإحتجاج ج1 ص231
وبحار الأنوار ج27 ص319 وج31 ص276 والفوائد الرجالية ج2 ص152
وتقريب المعارف ص268 والدرجات الرفيعة ص225 وتذكرة الحفاظ ج1
ص17 وسير أعلام النبلاء ج2 ص46 وشيخ المضيرة أبو هريرة ص223
والسيرة الحلبية ج3 ص109.
([2])
هذا ملخص ما في البخاري (ط سنة 1309هـ) ج2 ص206 ـ 207 و (ط دار
الفكر) ج4 ص241 والبداية والنهاية ج3 ص34 و (ط دار إحياء
التراث العربي) ج3 ص46 وحلية الأولياء ج1 ص159 ومستدرك الحاكم
ج3 ص339 والغدير ج8 ص309 ـ 310 عن بعض من تقدم، وصحيح مسلم ج7
ص155 و 156 والإستيعاب (بهامش الإصابة) ج4 ص63 و (ط دار الجيل)
ج4 ص1652 ـ 1653 ودلائل النبوة لأبي نعيم ج2 ص86 والطبقات
الكبرى لابن سعد ج4 قسم1 ص161 ـ 162 و 164 ـ 165 والإصابة ج4
ص63 و (ط دار الكتب العلمية) ج7 ص106 وعمدة القاري ج17 ص2
والدرجات الرفيعة ص228 وأسد الغابة ج5 ص187 وإمتاع الأسماع ج4
ص370 والسيرة النبوية لابن كثير ج1 ص447 وسبل الهدى والرشاد ج2
ص314 و 315 والسيرة الحلبية ج1 ص451 ـ 452.
|