وقد أنكر «ابن تيمية» على
عادته في إنكار الواضحات والثوابت من فضائل أمير المؤمنين علي «عليه
السلام» نزول آية الشراء في علي «عليه السلام» وقال:
«كذب باتفاق أهل العلم
بالحديث والسير.
وأيضاً قد
حصلت له الطمأنينة بقول الصادق له:
لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم،
فلم يكن فيه فداء بالنفس، ولا إيثار بالحياة،
والآية المذكورة، في سورة البقرة. وهي مدنية باتفاق.
وقد قيل:
إنها نزلت في صهيب «رضي الله عنه» لما هاجر»([1]).
ونقول:
1 ـ
إن كانت الآية مدنية بالنسبة إلى علي «عليه السلام»، فهي أيضاً مدنية
بالنسبة إلى صهيب، فما يقال هناك يقال هنا.
2 ـ
لقد أجاب الإسكافي المعتزلي على دعوى الجاحظ: أنه «صلى الله عليه وآله»
قال لعلي «عليه
السلام»:
لن يصل إليك شيء تكرهه! فقال:
«هذا هو الكذب الصراح،
والإدخال في الرواية ما ليس منها، والمعروف المنقول أنه «صلى الله عليه
وآله» قال له: «فاضطجع في مضجعي، وتغش ببردي الحضرمي، فإن القوم
سيفقدونني، ولا يشهدون مضجعي، فلعلهم إذا رأوك يسكنهم ذلك، حتى يصبحوا،
فإذا أصبحت فاغد في أمانتي».
ولم ينقل ما ذكره الجاحظ، وإنما ولده أبو بكر الأصم،
وأخذه الجاحظ،
ولا أصل له.
ولو كان هذا صحيحاً لم يصل إليه منهم مكروه، وقد وقع
الإتفاق على أنه «عليه السلام» ضرب، ورمي بالحجارة قبل أن يعلموا من
هو، حتى تضور، وأنهم قالوا له: رأينا تضورك الخ..»([2]).
هذا وقد
تقدم في أوائل هذا الفصل:
أن النبي «صلى الله عليه وآله» إنما قال لعلي «عليه
السلام»: إنه لا يصل إليه شيء يكرهه، حينما التقى معه في الغار، وأمره
برد ودائعه، وأن ينادي في مكة بذلك، وطمأنه إلى أن نداءه هذا لن يتسبب
له بمتاعب وصعوبات وليس المقصود: أنه لن يناله مكروه من أي مشرك في
جميع الأحوال والأزمان.
3 ـ
ويدل على أنه كان «عليه السلام» موطناً نفسه على القتل ما يلي:
ألف:
لو صح ما ذكره ابن تيمية لم يكن معنى للافتخار بموقفه ذاك؛ فقد روي أن
عائشة فخرت بأبيها، ومكانه في الغار مع الرسول «صلى الله عليه وآله»،
فقال عبد الله بن شداد بن الهاد: وأين أنت من علي بن أبي طالب، حيث نام
في مكانه، وهو يرى أنه يقتل؟! فسكتت، ولم تحر جواباً([3]).
ب:
عن أنس:
أنه
«عليه السلام» كان موطناً نفسه على القتل([4]).
ج:
إن علياً
«عليه السلام» نفسه قد أكد على هذا، ودفع كل شبهة فيه، حينما قال
في
شعره المتقدم:
وقيت بنفسي خير من وطـئ
الثرى
ومن طـاف بالبيت العتيق بالحجر
إلى أن قال:
وبـت
أراعـيـهـم
متـى
يثبتـوننـي
وقد وطنت نفسي على القتل والأسر
وبـات
رسـول
الله في الغـار
آمنــاً
هناك
وفي حفظ الإلـه
وفي سـتر
([5])
د:
وعنه «عليه السلام»: «وأمرني أن أضطجع في مضجعه، وأقيه
بنفسي، فأسرعت إلى ذلك مطيعاً له، مسروراً لنفسي بأن أقتل دونه، فمضى
«صلى الله عليه وآله» لوجهه، واضطجعت في مضجعه،
وأقبلت رجالات قريش موقنة في
أنفسها أن تقتل النبي «صلى الله عليه وآله»، فلما استوى بي وبهم البيت
الذي أنا فيه ناهضتهم بسيفي؛ فدفعتهم عن نفسي بما قد علمه الله والناس.
ثم
أقبل على أصحابه، فقال:
أليس كذلك، قالوا: بلى يا أمير المؤمنين»([6]).
وقيل:
إنهم ضربوا علياً، وحبسوه ساعة، ثم تركوه([7]).
ملاحظة:
يمكن أن
يفهم مما تقدم:
أن الحديث الذي يقول: إنه «عليه السلام» قد حاربهم بسيف خالد موضع شك
وريب، لأنه إنما حاربهم بسيفه هو لا بسيف خالد.
إلا أن
يقال:
أن نسبته إليه لا تدل على ملكيته له.
أو يقال:
لعله حاربهم بسيفه أولاً، ثم بسيف خالد ثانياً بعد أن
أخذه منه، أو العكس وإن كان هذا القول ضعيفاً.
4 ـ
وبعد، فإن قيمته
«عليه
السلام»
كامنة وقائمة في عمق ذاته، من حيث صفاء جوهره، تماماً كما هي قيمة
الذهب والجوهر، والألماس، بالقياس إلى الحديد والنحاس، فإنك تستخدم
الحديد، وتستفيد منه ليل نهار، أما الجوهر والألماس، فإنه يحتفظ بقيمته
العالية رغم أنه مودع في أعماق الخزائن، وقد لا يستفاد منه في شيء من
الأعمال إلا ما شذ وندر.
ولأجل ذلك
نقول:
إن نزول الآية لتعظيم أمير المؤمنين
«عليه
السلام»
يصح، حتى لو لم يكن علي حاضراً في واقعة ليلة الهجرة، لأن من شؤون
وخصائص علي «عليه السلام» أنه يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، دون كل أحد
سواه.
5 ـ
وأما دعوى ابن تيمية: أن حديث حراسة جبرائيل وميكائيل
له «عليه السلام»، ونزول الآية فيه، كذب باتفاق أهل العلم بالحديث
والسير.
فلا تصح أصلاً،
إذ لم نجد أحداً منهم صرح بكذب هذه الرواية سواه، فهو
يدعي عليهم ما لا يعرفون، وينسب إليهم ما هم منه بريئون.
بل قد عرفت تصحيح الحاكم
والذهبي لهذا الحديث، وتقدم أيضاً: أن طائفة كبيرة من الحفاظ والعلماء
قد رووه من دون غمز أو لمز فيه.
إلا أن يكون شيطان ابن تيمية
قد أوحى إليه بأن ينسب إليهم ما هم منه براء.
6 ـ
وأجاب الحلبي عن كلام ابن تيمية بقوله: «..لكنه في الإمتاع لم يذكر أنه
«صلى الله عليه وآله» قال لعلي ما ذكر؛ أي لن يصل إليك شيء تكرهه،
وعليه فيكون فداؤه للنبي بنفسه واضحاً.
ولا مانع من تكرار نزول الآية في حق علي، وفي حق صهيب.
وحينئذٍ يكون «شرى» في حق علي «عليه السلام» بمعنى باع، أي باع نفسه
بحياة المصطفى،
وفي حق صهيب بمعنى اشترى، أي اشترى نفسه بماله.
ونزول هذه الآية بمكة لا يخرج سورة البقرة عن كونها
مدنية؛ لأن الحكم يكون للغالب»([8]).
انتهى.
ولكن بعض ما أجاب به الحلبي
محل نظر؛ فإن استعمال شرى بمعنى باع تارة وبمعنى اشترى أخرى محل نظر؛
لأنه يلزم منه استعمال المشترك في أكثر من معنى، وقد منعه طائفة من
العلماء.
فإذا لم نجز استعمال المشترك
في معنيين لم يصح كلام الحلبي حتى وإن كانت الآية قد نزلت مرتين لأن
محل الكلام إنما هو في قراءتنا نحن للآية، وكيفية فهمنا لها.
أما نحن
فنرى:
أنه لا مانع من ذلك؛ إلا ما كان من قبيل الاستعمال في المعنى الحقيقي
والمجازي معاً.
لأن المجاز يحتاج إلى القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي. فلا يمكن أن
تجتمع معه.. لحصول التكاذب والتناقض.
وشاهدنا على ذلك صحة التورية وشيوعها في كلام العرب.
هذا عدا عن أن صهيباً لا خصوصية له في بذله ماله،
فإن كثيراً من المهاجرين قد تخلوا عن أموالهم للمشركين، وهاجروا فراراً
بدينهم.
7 ـ
إن قوله «صلى الله عليه وآله» لن يصلوا إليك من الآن
بشيء تكرهه: إنما كان بعد أن ذهب الطلب عن النبي «صلى الله عليه وآله»،
لا قبل ذلك.. كما أن المراد به هو نفي حصول الأذى له في خصوص واقعة
الهجرة. أما بعد ذلك فلم يكن محط النظر..
كما أنه يدل على أن الفترة التي كانت قبل صدور هذا
القول لم تكن مأمونة من حدوث ما يكره حدوثه.
8 ـ
قولهم إن سورة البقرة مدنية، ولو صح نزول الآية في علي «عليه السلام»
لكانت مكية. غير مقبول، فإن نزول الآية لو سلم أنه كان في نفس ليلة
المبيت، فمن الواضح أن النبي «صلى الله عليه وآله» كان حينئذٍ في
الغار، وليس معه سوى أبي بكر؛ فلم يكن ثمة مجال للإعلان بنزول الآية
إلا بعد وصوله «صلى الله عليه وآله» إلى المدينة، واستقراره فيها، ثم
إتاحة الفرصة له في الظرف المناسب لإظهار هذه الفضيلة العظيمة لابن عمه
ووصيه.
أما آية الغار فيمكن أن تكون قد نزلت في السنة التاسعة
أو العاشرة، لأجل إبطال بعض الإشاعات وزعمهم أن الحضور في الغار كان
فضيلة لأبي بكر.
فلا بأس أن تعد بهذا الاعتبار
مدنية، وتجعل في سورة البقرة، التي كان نزولها في مطلع الهجرة، كما هو
معلوم.
هذا بالإضافة إلى أن وجود آية
مكية في سورة مدنية ليس بعزيز.
وأما ما ذكره الحلبي من تكرر نزول الآية فلا دليل عليه،
بل الأدلة الآنفة تدفعه وتنافيه.
([1])
السيرة الحلبية ج2 ص27 و (ط دار المعرفة) ج2 ص192.
([2])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج13 ص263. وراجع: قاموس الرجال
للتستري ج12 ص97 والعثمانية للجاحظ (تحقيق عبد السلام محمد
هارون) ص326.
([3])
أمالي الشيخ الطوسي ج2 ص62 وبحار الأنوار ج19 ص56 عنه.
([5])
نور الأبصار ص86 وشواهد التنزيل ج1 ص102 ومستدرك الحاكم ج3 ص4
وتلخيصه للذهبي هامش نفس الصفحة، وأمالي الشيخ الطوسي ج2 ص83 =
= وتذكرة الخواص ص35 وفرائد السمطين ج1 ص330 ومناقب الخوارزمي
ص74 و 75 والفصول المهمة لابن الصباغ ص31 وبحار الأنوار ج19
ص63 وتاريخ الخميس ج1 ص325. والسيرة النبوية لدحلان (مطبوع
بهامش الحلبية) والمصادر لهذا الشعر كثيرة جداً لا مجال
لتتبعها.
([6])
بحار الأنوار ج19 ص45 عن الخصال ج2 ص14 و 15.
([7])
تاريخ الخميس ج1 ص325.
([8])
السيرة الحلبية ج2 ص27.
|