ونحن نعتقد ـ
كما يعتقد ابن شهراشوب
([1])
ـ:
أنه لا ريب في كذب هذه الرواية، وذلك استناداً
إلى ما يلي:
أولاً:
إن الروايات
مختلفة ومتناقضة، كما يظهر بالمراجعة والمقارنة وذلك يسقط شطراً وافراً
منها عن الإعتبار.
ثانياً:
ما جاء في هذه
الروايات لا ينسجم مع ما تقدم في بحث تكنية علي «عليه
السلام»
بأبي تراب
: من أنه لم
يسؤ فاطمة "
قط.
ثالثاً:
حديث بريدة عن علي «عليه السلام» في غزوة بني زبيد
([2])يكذب
هذه الأسطورة،
حيث حصلت لعلي جارية من أفضل السبي في الخمس، فخرج عليهم ورأسه يقطر،
فسألوه فأخبرهم أنه وقع بها.
فأرسل خالد بريدة
إلى رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
بكتاب يشتكيه فيه.. فغضب رسول الله غضباً لم يره غضب مثله إلا يوم
قريظة
والنضير
،
وقال: يا بريدة ، أحب علياً، فإنه يفعل ما آمره.
وفي نص آخر:
أن بريدة صار يقرأ الكتاب على رسول الله
«صلى الله عليه وآله»،
فأمسك
«صلى الله عليه وآله»
بيده، وقال: يا بريد أتبغض علياً؟!
قال:
نعم.
فقال:
لا تبغضه، وإن كنت تحبه فازدد له حباً، فوالذي نفسي بيده لنصيب آل علي في
الخمس أفضل من وصيفة([3]).
وفي نص ثالث:
أن عمرشجع بريدة على
الشكوى قائلاً له: «امضِ لما جئت له، فإنه سيغضب لابنته مما صنع علي»([4]).
على أننا لا
نكاد نثق بصحة الفقرة التي تقول:
إن علياً «عليه السلام» أخبرهم بأنه دخل بتلك الوصيفة، فلعلهم هم
تخيلوا ذلك، فقد ورد: أن النساء محرمة على علي «عليه السلام» في حياة
فاطمة
«عليها السلام»([5]).
إلا أن يقال:
المراد تحريم الزواج الدائم عليه.. أو باستثناء ما كان بأمر ورضى من
الله ورسوله، أو طلب من الزهراء لمصلحة تقتضي ذلك.
رابعاً:
حين قال ابن عباس لعمر : إن علياً «عليه السلام» «ما غير ولا بدل، ولا
أسخط رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
أيام صحبته له.
قال عمر :
ولا في ابنة أبي جهل وهو يريد أن يخطبها على فاطمة «عليها
السلام»؟!
فأصر ابن عباس
على أنه لم
يعزم على إسخاط النبي
«صلى الله
عليه وآله»،
ولكنها الخواطر لا يقدر أحد على دفعها عن نفسه إلخ..([6]).
فابن عباس
لم
يستطع أن يواجه الخليفة بتكذيبه في قصة بنت أبي جهل ، فبين له أنه مجرد
خاطر، ولم يفعل شيئاً أكثر من ذلك، فصدقه عمر ..
بل إن ابن
عباس أورد كلاماً مبهماً لم يصرح فيه بأن هذا الخاطر قد راود علياً
«عليه
السلام». بل قال: إن الخواطر تراود الناس. ولكن هل راودت علياً أم لا؟!
لم يصرح ابن عباس بهذا.. وإن كان كلامه يوحي به..
خامساً:
تقول الرواية: إنه
«صلى الله
عليه وآله»
قال في خطبته: «إني لست أحرم حلالاً، ولا أحل حراماً».. ثم هو يفرض على
علي «عليه السلام» أن يطلق ابنته إن أراد التزويج ببنت أبي جهل . مع أن
الله لم يجعل لأبي الزوجة الحق في أن يفرض على صهره طلاق ابنته كما لم
يجعل للزوجة أن تفرض عليه ذلك.
ولا أن يفرض على صهره عدم الزواج بالثانية، إذا كان
الله قد أحل ذلك له في قوله تعالى:
﴿فَانْكِحُوا
مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾([7]).
فإن قيل:
لعله
«صلى الله عليه وآله» استعمل ولايته في هذا المورد على علي
«عليه السلام»، فإنه
«صلى الله عليه وآله» أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
فيجاب:
ألف:
لو استعمل ولايته في ذلك لكان ينبغي أن يستعملها أيضاً في أمر الطلاق،
فيطلقها منه أيضاً بحسب ولايته، ولا يترك ذلك له، فإن من يعصيه في أمر
الزواج يعصيه في أمر الطلاق أيضاً.
ب:
إن التعليل الذي ذكره «صلى الله عليه وآله» لمنعه علياً من التزويج يدل
على أن ما فعله «صلى الله عليه وآله» لم يكن تصرفاً ولائياً، لأنه ذكر
علةً يوجب تعميمها وجوب طلاق الكثيرين، اذا كان الزواج يوجب اجتماع بنت
عدو الله، وبنت ولى الله.
سادساً:
إذا كانت لفاطمة XE "فاطمة"
خصوصية هي عدم جواز التزويج بالثانية معها، فقد كان يكفي أن يخبره
النبي
«صلى الله عليه وآله»
بهذا الحكم بينه وبينه، ولم يكن علي «عليه السلام» بالرجل الذي يتعمد
مخالفة حكم الله سبحانه.. لا سيما وأن آية التطهير تنص على أنه طاهر
مطهر من الرجس، ومنه مخالفة أحكام الله تعالى.. فما معنى أن يبادر إلى
فضحه، وإهانته بهذه الطريقة؟!.
سابعاً:
ألم يكن لدى علي من أدب المعاشرة مع رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
ما يدعوه إلى استئذانه في هذا الأمر ولو بمقدار ما كان لدى بني
المغيرة، حيث جاءوا ليستأذنوا رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
في تزويج ابنتهم؟!
ثامناً:
ما معنى القول المنسوب إليه
«صلى الله
عليه وآله»:
«لا تجتمع بنت عدو الله، وبنت رسول الله عند رجل»؟!
وهم يدعون:
أن عثمان قد تزوج بنتي رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
(وإن كنا نحن نقول: أنهن لسن بناته على الحقيقة) وقد جمع بين أحداهما
وبين فاطمة بنت الوليد ، ورملة بنت شيبة ، وأم البنين بنت عيينة .. وهن
بنات أعداء الله.
تاسعاً:
المعيار هو إيمان نفس المرأة التي يريد أن يتزوجها فإن كانت مؤمنة فلا
مانع من الجمع بينهما وبين مؤمنة أخرى.. ولا دخل للأبوين في ذلك.. بل
أن النبي
«صلى الله
عليه وآله» نفسه قد جمع بين بنات أعداء الله، وهن اللواتي كان أباؤهن
مشركين أو ماتوا على الشرك، وبين بنات أناس دخلوا في الإسلام.
عاشراً:
ما نسب إليه
«صلى الله
عليه وآله»
من أنه قال عن ابنته: «إني أخاف أن تفتن في دينها». يتضمن إنتقاصاً
لمقام فاطمة
في إيمانها ويقينها، وإقراراً بضعف هذا الإيمان، الى حد
ان مجرد تزويج علي «عليه السلام» بامرأة أخرى يجعلها مظنة الخروج من
الدين، حتى كأنها لم تسمع قول أبيها: «جدع الحلال أنف الغيرة»([8]).
حادي عشر:
قال السيد المرتضى : «أين كان أعداؤه «عليه السلام» من بني أمية
وشيعتهم عن هذه الفرصة المنتهزة؟! وكيف لم يجعلوها
عنواناً لما يتخرصونه من العيوب والقروف؟! وكيف تمحلوا الكذب، وعدلوا
عن الحق»؟!([9]).
ثاني عشر:
تزعم الرواية: أنه
«صلى الله
عليه وآله»
وصف بنت أبي جهل على المنبر بقوله: «بنت عدو الله».. مع أنهم يروون أنه
«صلى
الله عليه وآله»
منع الناس من أن يقولوا لعكرمة
أخيها: إنه «ابن عدو الله»، معللاً ذلك بأن «سب الميت
يؤذي الحي»([10]).
ثالث عشر:
لقد ولد المسور بن مخرمة ، المعروف بتعصبه ضد علي «عليه السلام» في
السنة الثانية من الهجرة، فما معنى قوله: إنه سمع النبي
«صلى الله
عليه وآله»
يخطب على المنبر، وهو محتلم؟!
وأخيراً..
فقد قال السيد المرتضى
«رحمه الله»:
إن راوي هذه الأسطورة هو الكرابيسي البغدادي ، صاحب الشافعي
، والكرابيسي معروف بنصبه، وانحرافه عن علي أمير
المؤمنين «عليه السلام»([11]).
([1])
راجع: مناقب آل أبي طالب ج1 ص4.
([2])
ذكرنا هذه الغزوة وهذا الحديث في كتابنا الصحيح من سيرة النبي
«صلى الله عليه وآله» ج26 فصل: علي «عليه السلام» في اليمن،
وناقشنا ما جرى فيها فراجع.
([3])
راجع: مجمع الزوائد ج9 ص128 عن الطبراني، وخصائص أمير المؤمنين
«عليه السلام» للنسائي ص102 و 103 ومشكل الآثار ج4 ص160 وصحيح
البخاري (ط دار الفكر) ج5 ص110 ومسند أحمد ج5 ص359 و 350 و 351
والسنن الكبرى للبيهقي ج6 ص342 وقال: رواه البخاري في الصحيح،
وحلية الأولياء ج6 ص294 ومعرفة السنن والآثار ج5 ص156 وتاريخ
مدينة دمشق ج42 ص194= = وأسد الغابة ج1 ص176 وتهذيب الكمال ج20
ص460 وسنن الترمذي ج5 ص632 و 639 وكنز العمال ج15 ص124 و 125 و
126 ـ 271 والمناقب للخوارزمي ص92 ونيل الأوطار ج7 ص110
والعمدة لابن البطريق ص275 وعمدة القاري ج18 ص6 وتحفة الأحوذي
ج10 ص144 ونهج السعادة ج5 ص283 وجواهر المطالب لابن الدمشقي ج1
ص88 وسبل الهدى والرشاد ج6 ص236 والمستدرك للحاكم ج3 ص110 و
111 على شرط مسلم، وتلخيص المستدرك للذهبي (بهامشه) وسكت عنه،
والبداية والنهاية ج7 ص344 و 345 و (ط دار إحياء التراث
العربي) ج7 ص380 عن أحمد والترمذي، وأبي يعلى وغيره بنصوص
مختلفة. والغدير ج3 ص216 عن بعض من تقدم، وعن: نزل الأبرار
للبدخشي ص22 والرياض النضرة ج3 ص129 و 130 وعن مصابيح السنة
للبغوي ج2 ص257. والبحر الزخار ج6 ص435 وجواهر الأخبار والآثار
المستخرجة من لجة البحر الزخار للصعدي (مطبوع بهامش المصدر
السابق) نفس الجلد والصفحة، عن البخاري والترمذي. وشرح إحقاق
الحق (الملحقات) ج6 ص86 وج16 ص453 وج21 ص532 وج2 ص275 و 276 و
277 و 278 وج30 ص278.
([4])
الإرشاد للشيخ المفيد ج1 ص161 وبحار الأنوار ج21 ص358 وكشف
اليقين ص150 والمستجاد من الإرشاد (المجموعة) ص98.
([5])
تهذيب الأحكام للطوسي ج7 ص475 ومناقب آل أبي طالب ج3 ص330 و (ط
المطبعة الحيدرية ـ النجف الأشرف ـ سنة 1956م) ج3 ص110 وبشارة
المصطفى ص306 والأمالي للطوسي ج1 ص42 ومقتل الحسين للخوارزمي
ج1 ص64 وبحار الأنوار ج43 ص16 و 153 وضياء العالمين (مخطوط) ج2
ق3 ص7 وعوالم العلوم ج11 ص387 و 66 ومستدرك الوسائل ج2 ص42
وراجع: فتح الباري ج9 ص287 ومجمع النورين ص23 والإمام علي بن
أبي طالب «عليه السلام» للهمداني ص231 واللمعة البيضاء ص201
والأسرار الفاطمية ص431 والحدائق الناضرة ج23 ص108.
([6])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج12 ص50 والدر المنثور ج4 ص309 وكنز
العمال ج13 ص454 وتفسير الآلوسي ج16 ص270 ومنتخب كنز العمال
(مطبوع بهامش مسند أحمد) ج5 ص229 وفلك النجاة لفتح الدين
الحنفي ص167 والتحفة العسجدية ص145 وحياة الصحابة ج3 ص249 عن
الموفقيات، وقاموس الرجال ج6 ص25 وتفسير الميزان ج14 ص228.
([7])
الآية 3 من سورة النساء.
([8])
محاضرات الأدباء، المجلد الثاني ص234 ووفيات الأعيان ج3 ص476.
([9])
راجع: تلخيص الشافي ج2 ص276 ـ 279 وتنزيه الأنبياء للسيد
المرتضى ص168 و (ط دار الأضواء) ص220.
([10])
المستدرك للحاكم ج3 ص241 والإستيعاب (ط دار الجيل) ج3 ص1082
وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج18 ص10 وكنز العمال ج11 ص741 وج13
ص542 وتاريخ مدينة دمشق ج41 ص63 وإمتاع الأسماع ج1 ص398 وج14
ص5 وسبل الهدى والرشاد ج5 ص253 والسيرة الحلبية (ط دار
المعرفة) ج3 ص40 والوافي بالوفيات ج20 ص39 وأسد الغابة ج4 ص5
والمنتخب من ذيل المذيل ص9 وبحار الأنوار ج21 ص144 وقاموس
الرجال ج6 ص325 و 326.
([11])
تنزيه الأنبياء ص167 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج4 ص64 و 65.
|