وقد روي:
أن علياً «عليه السلام» خطب جيشه في صفين، فكان مما قال: «ورايتكم فلا
تميلوها، ولا تخلوها، ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم، والمانعين الذمار([1])
منكم، فإن الصابرين على نزول الحقائق هم الذين يحفون براياتهم،
ويكتنفون حفافيها([2])،
ووراءها وأمامها، ولا يتأخرون عنها فيسلموها، ولا يتقدمون عليها
فيفردوها..»([3]).
وفي نص آخر عنه «عليه السلام»:
«فإن المانع للذمار عند نزول الحقائق هم أهل الحفاظ، الذين يحفون
براياتهم، ويضربون حفافيها وأمامها»([4]).
ونقول:
1 ـ من الواضح:
أن الراية العظمى، واللواء الأعظم نقطة الإرتكاز، وعنوان الثبات ورمز
الاستمرار، ومحط الأنظار، ومنتهى همم الأعداء، وعليها تأتلف قلوب
الأولياء.
من أجل ذلك..
جاء التوجيه القوي والحاسم، والدقيق والحازم، أن الراية لا يحملها إلا
الشجعان، ولكن لا لمجرد الشجاعة، فإنها وحدها لا تكفي، بل لا بد أن
تنطلق من خصوصيةٍ في الروح، وفي القناعة والوعي، وفي المشاعر
والأحاسيس، وهي أن يكون هذا الشجاع ممن يحمي الذمار، بمعنى: أن رصيده
ليس مجرد إقدامه على المخاطر، حتى لو كان ذلك ينشأ عن انقياد أعمى، ومن
دون وعي.
بل هو نتيجة
الإيمان بقضية يرى أنه لا مجال للسماح بالمساس بها.. فتكون تضحيته،
وإقدامه وإحجامه بها، ومن أجلها ومن خلالها.
وهذا هو ما عناه «عليه السلام» بقوله:
إن حامل الراية لا بد أن يكون من المانعين للذمار، ولا يكفي مجرد
الشجاعة وخوض المخاطر، ولو من دون هدف، أو من دون وعي.
2 ـ
ثم بين «عليه السلام» طريقة التعاطي مع هذه الراية.. إذ لا يكفي أن
يحملها أحد الشجعان، وحماة الذمار، وانتهى الأمر، بل هناك مسؤولية
تترتب على الآخرين تجاه هذه الراية، وهو أن يحفوا بها من جميع الجهات،
لصيانتها ليس فقط من مجرد السقوط، بل صيانتها من أن تهتز، لأن إهتزازها
سوف يهز قلوب الأولياء خوفاً ورعباً، وسيدعوهم ذلك للإحساس بالضعف،
وربما يؤدي إلى التردد أو التباطؤ في بذل الجهد، وسيهز قلوب الأعداء
فرحاً وإستبشاراً وتوثباً، وسيعطيهم جرعة من الشجاعة والإقدام،
والإمعان في التشدد في مواجهة أهل الإيمان..
3 ـ
من أجل ذلك كان لا بد أن تتوفر في هؤلاء الحماة صفات وميزات خاصة،
تؤهلهم للقيام بهذا الواجب، وهو أن يكونوا من الصابرين على نزول
الحقائق، وحلول الشدائد، لأن محيط هذه الراية لا بد أن يكون مستهدفاً
بشدة من قبل الأعداء، وسيكون الوصول إليها، والإخلال بها هو منتهى
همهم، وغاية جهدهم.. وسوف تتوالى حملاتهم عليها، فتمس الحاجة إلى الصبر
والتحمل للمشقات في طول الزمان..
وقد قلنا آنفاً:
إن المطلوب في حامل الراية هو الشجاعة، وحماية الذمار.. والشجاعة هي
الإقدام على المخاطر والأهوال.. لكن صبر الشجاع قد ينفد، فيندفع للتخلص
مما هو فيه إلى إيجاد وضع جديد.
أما الذين
يحمون هذه الراية فهم بحاجة إلى أمرين:
أحدهما:
الصبر على الشدائد مهما طال الأمر.
الثاني:
أن ينطلق هذا الصبر من مواجهة الحقائق، وإدراكها، وشعورهم بلزوم تحمل
المسؤولية تجاهها..
ولأجل ذلك جاء
التعبير عن الشدائد بكلمة الحقائق، ليشير إلى أن هذه الشدائد هي الوضع
الطبيعي لمن يكون لديه قضية يريد أن يقوم بواجباته تجاهها، وعليه
مسؤولية لا بد له من القيام بها..
4 ـ
ثم بين «عليه السلام» مواقع وجود هؤلاء الحماة، فذكر أنهم لا بد أن
يحفظوا رايتهم من جميع الجهات، بصورة عملية وفعلية، فيكونون أمامها
ووراءها، وفي كل جانب من جوانبها، بل وعلى كل حافة يمكن أن تكون لها..
ولا يكفي تقدير أن يأتيهم العدو من جهة بعينها، وهي الجهة التي يرونه
موجوداً فيها.. إذ قد يأتيهم من جهة لم تخطر لهم على بال، إذ من مأمنه
يؤتى الحذر.
5 ـ
وآخر
ما نشير إليه هنا: أنه «عليه السلام» قد بين موضع الراية أيضاً، فذكر
أنها يجب أن تكون في قلب هذا الحضور العسكري الكثيف، وأن عليهم أن لا
يتأخروا عنها، فيبادرها العدو بالضربة القاضية، قبل أن يتمكن حماتها من
الوصول إليها..
كما أن عليهم
أن لا يتقدموا عليها، فقد ينقض عليها كمين للأعداء، أو يلحق بها لاحق
منهم، فيستغل انفرادها، ويورد بها ضربته، قبل أن يعرف المتقدمون عليها
ما جرى لها، وقبل أن يتمكنوا
من اتخاذ مواقع قتالية تمكنهم من استنقاذها، أو إبعاد الخطر عنها..
علماً بأن
مجرد تعرضها لأي إهتزاز أو ضعف أو خطر ممنوع، كما قلنا في البداية.
([1])
الذمار: ما يجب على الرجل أن يحميه، وسمي ذماراً، لأنه يوجب
على أهله التذمر، أي الغضب له.
([2])
الحقائق: الشدائد حفافيها: جانباها.
([3])
نهج البلاغة (بشرح عبده) الخطبة رقم 124 ج2 ص2 وصفين للمنقري
ص235 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج15 ص60 و 96 و (ط دار
الإسلامية) ج11 ص44 و 71 والكافي ج5 ص39 والفتوح ج3 ص73 وبحار
الأنوار ج33 ص455 وج32 ص563 و 367 وج97 ص40 والإرشاد للمفيد ج1
ص266 وجامع أحاديث الشيعة ج13 ص123 و 127 وموسوعة أحاديث أهل
البيت «عليهم السلام» للنجفي ج7 ص10 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي
ج8 ص3
.
([4])
الكافي ج5 ص41 وبحار الأنوار ج32 ص564 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة
آل
البيت) ج15 ص96 وجامع أحاديث الشيعة ج13 ص124 ونهج السعادة ج8
ص344 وتاريخ الأمم والملوك (ط مؤسسة الأعلمي) ج4 ص11.
|