إن الفرار من الزحف ليس من المفردات التي يكفر الناس
بسببها، وإن كان من عظائم الذنوب، فما معنى ما تقدم من أنه حين فر
المسلمون قال رسول الله «صلى الله عليه وآله» لعلي
«عليه السلام»:
ما لك لم تلحق بني أبيك؟!
فقال
«عليه السلام»:
يا رسول الله، أكفر بعد إيمان؟! إن لي بك أسوة([1]).
وعند المفيد
:
أنه «صلى الله عليه وآله» قال له: مالك لا تذهب مع القوم؟!
فقال «عليه
السلام»:
أذهب وأدعك يا رسول الله؟! والله لا برحت حتى أقتل، أو ينجز الله لك ما
وعدك من النصر.
فقال له
النبي «صلى الله عليه وآله»:
أبشر يا علي، فإن الله منجز وعده، ولن ينالوا منا مثلها أبداً([2]).
ثم ذكر رده «عليه السلام»
للكتائب عنه «صلى الله عليه وآله».
وفي نص آخر
قال له:
أأرجع كافراً بعد إسلامي؟!([3]).
ونحن نرى:
أن الصحيح هو أنه قال: أكفر بعد إيمان؟!.. لأن قوله:
أأرجع كافراً بعد إسلامي؟! قد يوحي بأنه كان كافراً وأسلم. وهذا غير
صحيح..
وفي نص آخر:
أنه لما سأل النبي «صلى الله عليه وآله» ما صنع الناس؟!
قال «عليه
السلام»:
كفروا يا رسول الله، وولوا الدبر، وأسلموك([4]).
لكن بعض
الروايات ذكرت:
أن هذه الحادثة قد جرت مع أبي دجانة
([5]).
والسؤال هنا
هو:
هل صحيح أن الذين فروا عن رسول الله «صلى الله عليه
وآله» لهم أحكام الكفر؟!
ونجيب بما يلي:
1 ـ
إن أخذنا برواية علل الشرايع التي تقول: إن هذه القضية قد حصلت مع أبي
دجانة
سقط الإشكال من أساسه.
لكن هذه الرواية غير سليمة، فإن النصوص تؤكد على أن
علياً «عليه السلام» قد ثبت وحده.. إلا أن يكون أبو دجانة
قد فر
أولاً ثم عاد، فجرت هذه القصة له بعد عودته، أو أن فراره قد حصل بعد
ذلك وحيث تأزمت الأوضاع.
ويبقى
السؤال وهو:
أنه إذا كان قد حصل ذلك بالفعل، وكان علي وأبا دجانة
معاً
قد ثبتا، فلماذا لم يسأل النبي «صلى الله عليه وآله» علياً «عليه
السلام» وأبا دجانة
معاً،
إلا إن كان «صلى الله عليه وآله» يعامل علياً معاملة نفسه، فوجه السؤال
لأبي دجانة
على هذا
الأساس .
2 ـ
إن قوله «صلى الله عليه وآله» لعلي: لِمَ لا تلحق ببني أبيك، يدل على
مدى تغيظه من ذلك الفعل الشنيع الذي صدر منهم!!
3 ـ
إنه يريد أن يبين فضل علي
«عليه السلام»
على من سواه، من حيث ثباته في الأهوال وإقتحامه المخاطر.
ثم من حيث ما يملكه من وعي
وإيمان، ويقين وبصيرة في دينه، وثبات على مبادئه..
وهذا الثبات ليس نتيجة شجاعة
متهورة، بل هو نتيجة فكر وقناعة، وإعتقاد، ورؤية واضحة.
4 ـ
إنه «صلى الله عليه وآله» حسب النص الذي ذكرناه أولاً لم يقل له: لم لا
تلحق بإخوانك، أو رفقائك، أو نحو ذلك، بل أشار إلى الجهة النسبية..
ليأتيه الجواب من علي
«عليه السلام»:
أن المعيار عنده ليس هو النسب، والعشيرة، والقوم، وإنما هو الإيمان،
ومقتضياته، ودواعيه، ومسؤولياته..
5 ـ
إن الفرار من الزحف حين يكون مع الإلتفات إلى وجود رسول الله «صلى الله
عليه وآله»، وإلى أن هذا الفرار من شأنه أن يعرض حياة النبي «صلى الله
عليه وآله» للخطر، وهو يحمل معه الدلالة على عدم الإهتمام للدفع
والدفاع عنه «صلى الله عليه وآله»
، فإنه يكون من موجبات الكفر، والخروج من الدين..
أما حين يكون هذا الفرار بسبب الإندهاش الذي يفقد
الإنسان القدرة على وعي الأمور، ويصرفه عن الإلتفات إلى ما ينبغي
الإلتفات إليه، ويسلب منه الحرص على ما يجب الحرص عليه، فلا يوجب الكفر
بعد الإيمان..
من أجل
ذلك نقول:
إن الكثيرين من الذين فروا
كانوا يعرفون أنهم يفرون عن رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وقد
أهمتهم أنفسهم، ولم يهتموا له، وذلك تفريط منهم به، ومن دلائل ضعف
إيمانهم، وشدة تعلقهم بالدنيا..
6ـ
واللافت هنا: أن عمر بن الخطاب
قال
للنبي «صلى الله عليه وآله»: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا
من نفسي.
فقال النبي
«صلى الله عليه وآله» له:
لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك.
فقال عمر
:
فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي.
فقال «صلى
الله عليه وآله»:
الآن يا عمر
؟!([6]).
وقوله «صلى
الله عليه وآله»:
الآن يا عمر
؟! قد جاء ـ
فيما يظهر ـ على سبيل الإستفهام الإنكاري.. إذ لا يعقل أن يتحول في نفس
اللحظة من النقيض إلى النقيض مما كان عليه..
وقد قال تعالى: ﴿قُلْ
إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ
وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا
وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ
إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ
فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي
الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾
([7]).
([1])
إعلام الورى ج1 ص177 وبحار الأنوار ج20 ص95 و 107 والكافي ج8
ص110 وقصص الأنبياء للراوندي ص339 وموسوعة أحاديث أهل البيت
«عليهم السلام» للنجفي ج11 ص114.
([2])
الإرشاد ج1 ص89 وبحار الأنوار ج20 ص87 وحلية الأبرار ج2 ص431
وأعيان الشيعة ج1 ص388 وكشف الغمة ج1 ص194.
([3])
الإرشاد للمفيد ج1 ص85 وبحار الأنوار ج20 ص85 ومستدرك الوسائل
ج11 ص72 وشرح الأخبار ج1 ص476 وجامع أحاديث الشيعة ج13 ص168
والدر النظيم ص160 وكشف الغمة ج1 ص193.
([4])
الإرشاد للمفيد ج1 ص86 ومناقب آل أبي طالب ج2 ص315 وحلية
الأبرار ج2 ص430 وبحار الأنوار ج20 ص86 وج41 ص83 وإعلام الورى
ج1 ص378 والدر النظيم ص161 وكشف الغمة ج1 ص194.
([5])
علل الشرايع ص14 و (ط المكتبة الحيدرية) ج1 ص7 وبحار الأنوار
ج20 ص70 وحلية الأبرار ج2 ص433 وموسوعة أحاديث أهل البيت
«عليهم السلام» للنجفي ج8 ص342.
([6])
راجع: مسند أحمد ج4 ص233 و
336 وج5 ص293 وصحيح البخاري ج4 ص92
و (ط محمد علي صبيح بمصر) ج8 ص161 و (ط دار الفكر) ج7 ص218
وعمدة القاري ج1 ص144 وج23 ص169 والمعجـم الأوسط ج1 = = ص102
وكنز العمال ج12 ص600 وتفسير القرآن العظيم ج2 ص356 وج3 ص476
وتاريخ مدنية دمشق ج19 ص87 وفتح البـاري
ج1 ص56 وإمتـاع
الأسماع ج13 ص173
وخلاصة عبقات الأنوار ج9 ص63
والشفـا بتعريف حقوق
المصطفى ج2 ص19 وسبل الهدى والرشاد ج10 ص476 وج11 ص430
وسيرتنا وسنتنا للأميني ص26
وراجع: المستدرك للحاكم ج3
ص456 والدر المنثور ج3 ص223 .
([7])
الآية 24 من سورة التوبة.
|