صفحة : 25   

الراصد المصلي:

ويواجهنا هنا سؤال يقول:

ذكروا: أن علياً «عليه السلام» أصاب رجله في غزوة أحد سهم صعب، فأمر «صلى الله عليه وآله» بإخراجه منها حين اشتغال علي «عليه السلام» بالصلاة، فأخرجوه من رجله، فقال بعد فراغه من الصلاة: إنه لم يلتفت لما جرى([1]).

وفي نص آخر: كانوا إذا أرادوا إخراج الحديد والنشاب من جسده الشريف تركوه حتى يصلي، فإذا اشتغل بالصلاة، وأقبل على الله تعالى أخرجوا الحديد من جسده ولم يحسّ، فإذا فرغ من صلاته يرى ذلك، فيقول لولده الحسن «عليه السلام»: إن هي إلا فعلتك يا حسن([2]).

وفي نص ثالث: أن الزهراء «عليها السلام» هي التي أشارت عليهم بذلك([3]).

وفي نص آخر: أن ذلك كان في حرب صفين ، وأنهم أخرجوه حال سجوده([4]).

ولا مانع من أن تتكرر الواقعة، فإنه «عليه السلام» قد خاض حروباً كثيرة، لعلها تعد بالعشرات، ولم يكن يجرؤ أحد على الإقتراب منه، فكان رشقه بالسهام هي الطريقة الممكنة لإلحاق الأذى به «عليه السلام»..

فلنا بعد هذا أن نسأل: كيف يمكن رصد حركة العدو من قبل من هو مشغول بالصلاة، إذا كان هذا هو حال الراصد في صلاته؟!

ونجيب:

أولاً: بأن الله تعالى قد أجاب عن ذلك في آية قرآنية مباركة، هي قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ([5]).

وقد جعل الله تبارك وتعالى حديث التصدق بالخاتم في حال الركوع مبرراً للإعلان عن أخطر منصب، وأجلّ مقام، يرتبط بمستقبل ومصير البشرية بأسرها، لا في جيل بعينه، وإنما في الأجيال المتعاقبة كلها إلى يوم القيامة..

مع أن هذا التصدق إنما حصل من نفس هذا الذي استخرجت السهام من جسده وهو يصلي، ولم يشعر بذلك..

ثانياً: إن هذا التصدق لا يتنافى مع تلك الصلاة، فإنهما معاً من سنخ واحد، فهما عيش مع الله، وتفكير بما يرضيه، فهو لم يفكر في الدنيا، ولا اهتم لزبارجها وبهارجها.. بل انصرف إلى عبادة الله..

ثالثاً: بل هو «عليه السلام» قد مارسهما معاً في آن واحد، ومن الممكن توضيح ذلك بالإشارة إلى أن من يشرف على الجنة، فإنه يرى أشجارها، وأنهارها، وحورها، وقصورها بنظرة واحدة.

كما أن من يعيش في واحات الرضى والقرب الإلهي، فإنه يشعر ويحس ويرى، ويتفاعل مع كل ما تحويه تلك الواحات، فهو يسبح الله، ويبكي خوفاً منه، ويفرح بكونه في مقام الزلفى، ويرجو أن يحصل على المزيد من منازل الكرامة في آن واحد أيضاً.

وهذا بالذات هو ما جرى حين التصدق بالخاتم في الصلاة، وكذلك حين كان «عليه السلام» يصلي ويرصد حركة أعداء الله..

رابعاً: حتى لو أردنا أن نضع هذا الأمر في سياق الحسابات المفرطة في ماديتها، فنسلخها عن أبعادها الإيمانية، العميقة، فإن الناس العاديين قد يتمكنون من فعل ذلك، فإذا كان الراصد يصلي ركعتين مثلاً، ثم يجري معاينة للمحيط الذي يرصده، فإن رأى أنه لم يتغير شيء عاد إلى صلاته.. فإن التحرك المؤثر للعدو، يستغرق أكثر مما تستغرقه صلاة ركعة أو ركعتين، لأن الهدوء في الليل يفضح الأصوات، لمن يكون قريباً من مصدرها، مهما حاول من تصدر عنه أن يتستر عليها، وتحتاج لكي تختفي في ذلك الزمان الذي كان يعتمد في تحركاته الوسائل المغرقة في بدائيتها إلى المزيد من الوقت، حال الإنتقال من مكان إلى مكان.

فكيف إذا كانت تلك التحركات في مكان لا يتحاشى العدو وفيها من أحداث الأصوات، لأنه يظن نفسه بعيداً عن مواقع الرصد من الطرف الآخر..


 

([1]) إحقاق الحق (الملحقات) ج8 ص602 عن المناقب المرتضوية الكشفي الحنفي ص364.

([2]) إرشاد القلوب ص217 وحلية الأبرار ج2 ص179.

([3]) المحجة البيضاء ج1 ص397 و 398 وجامع السعادات ج3 ص263.

([4]) الحدائق الناضرة ج7 هامش ص242 وأسرار الشهادة (ط سنة 1319هـ) ص255.

([5]) الآية 55 من سورة المائدة.

 
   
 
 

موقع الميزان