أما بالنسبة لوصية النبي «صلى
الله عليه وآله» المسلمين بعدم تضييع إمامة علي «عليه السلام»، فنشير
إلى ما يلي:
1 ـ
إن هذه الوصية كانت بعد قتل علي «عليه السلام» فرسان بني قريظة
.. ثم كان الفتح بعد ذلك على يده «عليه السلام».
2 ـ
إن الذين حضروا هذه الوصية يفترض أن يكونوا من المهاجرين ، ومن الأنصار
، ومن مختلف القبائل، ولكنه «صلى الله عليه وآله» وجه كلامه فيها إلى
خصوص قريش ، مما يدل على أنه يتوقع من قريش
موقفاً ذا طابع معين، يريد منها أن تعيد النظر فيه، أو
يريد أن يحرجها فيه، بإسماعه الآخرين أمراً يمكنهم مطالبتها به في
الوقت المناسب.
وقد يكون «صلى الله عليه وآله» قد علم بالوحي، ويمكن أن
يكون قد بلغه بأن لدى قريش نوايا معينة، تكونت، أو هي في طور التكوين
تجاه ما سمعته من النبي «صلى الله عليه وآله» في حق علي في المواقف
المختلفة عن المقام الذي حباه الله به، وأن ثمة رفضاً باطنياً لهذا
الأمر.. وهذا ما دلت عليه نصوص عديدة..
3 ـ
إن هذه الوصية إنما تصبح ذات تأثير، ولها تبريرها المعقول والمقبول حين
يكون علي «عليه السلام» قد حقق إنجازاً عظيماً عَجَزَ عنه المعنيون
المخاطبون بهذه الوصية، وهم جماعة من ذوي القدر والشأن من المهاجرين
والأنصار
، وهم الذين لهم نفوذهم وكلمتهم المسموعة في الناس، إلى
حد أن موقعهم هذا يجعلهم يطمحون إلى مواقع ومقامات، وإلى الحصول على
إمتيازات لا يطمح لها، ولا يطمع بها غيرهم..
وهم الذين يتوقع منهم
الإبتلاء بداء الحسد البغيض، لمن هو جدير حقاً بتلك المقامات
والمناصب..
4 ـ
والإنجاز الذي حققه علي «عليه السلام» في هذه الغزوة كان عظيماً، وهذه
الوصية ستكون أعظم نفعاً، وأشد وقعاً، لأن أولئك الطامحين ليس فقط قد
أخفقوا للتوّ في تحقيق نفس ذلك الذي تحقق على يد من يحسدونه ويتآمرون
عليه، وإنما هم قد مثلوا هذا الإخفاق وجسدوه ضمن خطيئة كبرى تجلب لهم
العار في الدنيا والآخرة، وهي جريمة الفرار من الزحف الذي هو من عظائم
الذنوب..
وإرتكاب هذه الخطيئة سوف
يلجمهم، ولا يبقى لهم مجالاً للجهر بالإعتراض على هذا القرار الإلهي
النبوي، ويحد من قدرتهم على تسميم الأفكار، وبلبلة الخواطر، والتشكيك
في صوابية ما يريده الرسول منهم، ويأمرهم بمراعاته والإلتزام به.
5 ـ
إن تسجيل موقف في لحظة وقوع حدث هائل يجعل الإنسان أكثر انشداداً إليه،
وذاكرته تصبح أكثر استعداداً للإحتفاط به، كما أنه يعطيه بعداً
مشاعرياً يميزه عما عداه.
ولذلك
نلاحظ:
أن خالد بن سعيد بن العاص
لما رأى أن تلك الوصية خولفت بادر إلى التذكير ،
والمطالبة بالإلتزام بها.
6 ـ
لقد حصر «صلى الله عليه وآله» عواقب نقض تلك الوصية بثلاثة أمور، هي:
ألف:
الإختلاف في الأحكام.
ب:
اضطراب أمر دينهم عليهم.
ج:
أن يليهم شرارهم.
وهي أمور خطيرة وحساسة، تلامس بصورة مباشرة سعادتهم في
الدنيا والآخرة، لأن ولاية الأشرار تضر بأمنهم في الدائرة الأوسع:
الأنفس والأعراض والأموال، ثم هي تفقدهم الثقة بسياسات حكامهم، وبسلامة
نواياهم، وبصحة وصوابية قراراتهم، وتفقدهم القدرة على التخطيط السليم
للمستقبل، وتضعهم في مهب رياح الأهواء، وتكون قراراتهم غبية، ومرتجلة،
وعشوائية. وتتهيأ الفرصة لغيرهم ليتدخل في شؤونهم، ويتحكم في مصيرهم
بما ينسجم مع مصالحه وأهوائه..
وذلك هو الخسران المبين في
الحياة الدنيا..
كما أن إبعاد من نصبه الله
ولياً، وإماماً، وحاكماً عن موقعه الطبيعي، يحرمهم من قسط كبير مما كان
يمكن أن يوفره لهم من تربية وتعليم، وهداية، وتهذيب، وتزكية، كما أنه
يؤدي بهم إلى الإختلاف في الأحكام، لأن ترك الإمام، وإبعاده عن مقامه
يجعل الناس بمثابة غَنَمٍ غاب عنها راعيها، وفقدت في غابات الجهالات
والضلالات حافظها وحاميها.
وسيجعلهم ذلك نهبة لكل ناهب، وطعمة لكل سالب، ولن
ينتفعوا بما يقدمه لهم الآخرون، لأن الآخرين لن يكونوا أحسن حالاً
منهم، وليس لديهم ضمانة تجعلهم يأمنون من أن يقع من يريدون اللجوء إليه
في الزلل، والخطأ، والخطل..
وسيجعلهم غير قادرين على معرفة الكثير الكثير من
الحقائق والدقائق، والعلل، والمؤثرات، بل هم قد يفهمون الأمور على غير
وجهها، فيقعون في فخ الجهل المركب، الذي لا يرحم، فيفهمون الخاص عاماً
والعام خاصاً، والمطلق مقيداً، وعكسه، وتختلط عليهم الأمور، ويضيعون في
متاهات الأهواء..
وقد روي عن الإمام الحسن «عليه السلام» عن النبي «صلى
الله عليه وآله» أنه قال: «ما ولت أمة أمرها رجلاً قط، وفيهم من هو
أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتى يرجعوا إلى ما تركوا..»([1]).
والدلائل على ذلك كثيرة
ووفيرة.
([1])
أمالي الطوسي ج2 ص172 و (ط دار الثقافة) ص560 و 566 والإحتجاج
(ط دار النعمان) ج1 ص219 وج2 ص8 وبحار الأنوار ج10 ص143 وج30
ص323 وج31 ص418 وج44 ص22 و 63 وج69 ص155 وجامع أحاديث الشيعة
ج13 ص66 ومستدرك الوسائل ج2 ص247 وج11 ص30 والعدد القوية ص51
وينابيع المودة ج3 ص369 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة)
ج1 ص336 وج2 ص262 والتعجب للكراجكي ص58 وحلية الأبرار ج2 ص77 و
80 ومدينة المعاجز ج2 ص87 والغدير ج1 ص198 ومستدرك سفينة
البحار ج10 ص467 والدر النظيم ص500 وصلح الحسن للسيد شرف الدين
ص287.
|