والذي يظهر
من متابعة النصوص:
أن ثمة تعمداً للإساءة إلى أمير المؤمنين «عليه السلام»، واتهامه بما
هو منه بريء، فقد صرحت عائشة بقولها:
«لا جرم لا أحب علياً أبداً..»([1]).
فهي تتهم علياً «عليه السلام» لتبرر بغضها له، مع أن النبي «صلى الله
عليه وآله» قد ذم من يبغض علياً «عليه السلام»، فلماذا لا تطيع الله
ورسوله في ذلك.
وقد كان بنو
أمية ، حتى الخلفاء منهم يسعون لتكريس هذا الإتهام الباطل الموجه له
«عليه السلام»، وتسويقه، ودفع أعوانهم للإقرار به، وترويجه وإشاعته بين
الناس.. ويدلنا على ذلك:
ألف:
قول الزهري
: إن
الوليد بن عبد الملك
قال له: الذي
تولى كبره منهم، علي؟!
قلت:
لا. ولكن حدثني سعيد بن المسيب ، وعروة ، وعبيد الله ، كلهم عن عائشة
،
قالت: الذي تولى كبره عبد الله بن أُبي
([2]).
زاد في الدر المنثور:
«فقال لي: ما كان جرمه؟!
قلت:
حدثني شيخان من قومك: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، وأبو بكر بن عبد
الرحمن بن الحارث بن هشام
: أنهما سمعا
عائشة
تقول: كان مسيئاً في أمري»([3]).
وفي حلية
أبي نعيم ، من
طريق ابن عيينة ، عن الزهري :
كنت عند الوليد بن عبد الملك ، فتلا هذه الآية: ﴿..وَالَّذِي
تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾([4])،
فقال: نزلت في علي بن أبي طالب.
قال الزهري :
أصلح الله الأمير، ليس الأمر كذلك، أخبرني عروة ، عن عائشة
.
قال:
وكيف أخبرك؟!
قلت:
أخبرني عروة عن عائشة ، أنها نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول
([5]).
ولابن مردويه من وجه آخر، عن الزهري :
كنت عند الوليد بن عبد الملك ليلة من الليالي، وهو يقرأ سورة النور
مستلقياً، فلما بلغ هذه الآية: ﴿إِنَّ
الذِينَ جَاؤُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنكُمْ..﴾
حتى بلغ: ﴿..وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ﴾
جلس.
ثم قال:
يا أبا بكر
، من الذي تولى كبره منهم؟
أليس علي بن أبي طالب؟!
قال:
فقلت في نفسي:
ماذا أقول؟ لئن قلت لا، لقد خشيت أن ألقى منه شراً، ولئن قلت: نعم، لقد
جئت بأمر عظيم.
قلت في نفسي:
لقد عودني
الله في الصدق خيراً.
قلت:
لا.
قال:
فضرب بقضيبه
على السرير، ثم قال: فمن؟! فمن؟! حتى ردد ذلك مراراً.
قلت:
لكنه عبد الله
بن أُبي
([6]).
ب ـ
وأخرج يعقوب بن شيبة في مسنده، عن الحسن بن علي الحلواني ، عن الشافعي
، قال: حدثنا عمي، قال: دخل سليمان بن يسار على هشام بن عبد الملك
، فقال له: يا
سليمان ، الذي تولى كبره من هو؟!
قال:
عبد الله بن أُبي
.
قال:
كذبت، هو علي.
قال:
أمير المؤمنين أعلم بما يقول.
فدخل الزهري فقال:
يا ابن شهاب من الذي تولى كبره؟!
قال:
ابن أُبي
.
قال:
كذبت، هو علي.
فقال:
أنا أكذب لا أبا لك. والله لو نادى مناد من السماء: أن الله أحل الكذب
لما كذبت.. حدثني عروة
، وسعيد ،
وعبيد الله ،
وعلقمة ، عن عائشة : أن الذي تولى كبره هو عبد الله بن أُبي .
فذكر قصته مع
هشام .
وجاء في
آخرها قول هشام:
نحن هيجنا الشيخ، أو ما بمعناه. وأمر فقضى عنه ألف ألف
درهم([7]).
فالوليد بن
عبد الملك إذن، وكذلك هشام بن عبد الملك
يريدان تأكيد
هذه الفرية على أمير المؤمنين
«عليه
السلام»،
إلى درجة أنهم قد افتروا عليه:
أنه هو الذي تولى كبر الإفك.
كما أن
عائشة ذكرت:
أن علياً «عليه السلام» كان مسيئاً في شأنها،
كما تقدم في الرواية التي ذكرها البخاري ـ حسب رواية النسفي وغيره
عنه
([8]).
غير أن
العسقلاني
قال:
ذكر عياض : أن
النسفي رواه عن البخاري بلفظ مسيئاً، قال: وكذلك رواه أبو علي بن السكن
، عن الفربري ، وقال الأصيلي
بعد أن رواه بلفظ مسلماً: كذا قرأناه، ولا أعرف غيره([9]).
وكذلك نقله في
الدر المنثور، عن البخاري كما تقدم، وعن ابن المنذر ، والطبراني"
وابن
مردويه
، والبيهقي .
ورواه عبد
الرزاق
أيضاً بلفظ
«مسيئاً»،
وكذلك
أخرجه الإسماعيلي ، وأبو نعيم في المستخرجين.
ويقوي
الرواية التي فيها:
«مسيئاً» ما
في رواية ابن مردويه
بلفظ: إن علياً أساء في شأني، والله يغفر له. انتهى([10]).
وقال
العسقلاني
أيضاً:
إن عائشة
قد نسبت علياً إلى الإساءة في شأنها([11]).
وذلك كله يشير إلى:
أن رواية
البخاري قد حرفت من قبل النساخ على كل حال.. ونحن نستقرب أن كلمة
«مسلماً» حرفت فصارت «مسيئاً» للتقليل من بشاعة هذا الأمر، وفظاعته،
وحفاظاً على عائشة ، والوليد ، والزهري ، ومن لف لفهم.
وأيضاً حفاظاً
على كرامة البخاري نفسه،
إذ ليس
من السهل تكذيب القرآن من خلال توجيه هذه الفرية لعلي، الذي أذهب الله
عنه الرجس وطهره تطهيراً.. وهو مع الحق، والحق معه يدور معه حيث دار.
واللافت هنا:
أنهم في حين
يصرون على تأكيد الفرية على أمير المؤمنين «عليه السلام» فإنهم لا
يجرؤون على القول:
بأن علياً
«عليه
السلام»
قد جلد أيضاً، بل يقولون بكل وضوح وإصرار:
إن
علياً «عليه السلام» لم يجلده مع من جلد، ولم يحده النبي معهم
بالاتفاق!! رغم أن عائشة ، والوليد ، وهشاما يصرون على نسبة الإساءة
إليه، وعلى أنه ممن قذفها، وعلى أنه تولى كبره في ذلك!! نعوذ بالله؟!!
فلماذا عفا
عنه النبي «صلى الله عليه وآله» إذن؟!
وهل للنبي
«صلى الله عليه وآله» أن يعفو عن حد من حدود الله؟! حتى لو كان مستحقه
هو صهره وابن عمه!! وماذا سيقول الناس عنه لو فعل ذلك؟!
وقد لاحظنا:
أن عائشة
كانت في غاية
اللطف مع أسامة ، الذي كانت له مشكلة مع أمير المؤمنين «عليه السلام»،
وكان أبوها تحت أمرته، حين وفاة النبي «صلى الله عليه وآله»، مع أنه لم
يزد على إظهار عدم علمه بشيء من أمرها.
ولكنها كانت في غاية القسوة على علي «عليه السلام»،
الذي حاربته وأبغضته، ولم تكن تستطيع أن تذكره بخير أبداً، كما يقول
ابن عباس
([12]).
هذا مع سعيها
للإيحاء بأن أسامة قد أشار بما يعلم، لكن علياً «عليه السلام» أشار
بغير ما يعلم مع أن الإشارة بطلاقها أو بتقرير بريرة ـ لو فرضنا صحتها
ـ لا تدل على شيء من ذلك..
ولأجل ذلك
استجاز العقاد وابن أبي الحديد أن يخففا من بشاعة ما ارتكبته عائشة
، حين
شنت حرباً قتل فيها المئات والألوف من أهل الإسلام.. من حيث إن السبب
هو هذا الحقد الذي كان علي نفسه هو السبب في نشوئه..
وكأن الحقد
الأعمى وبغير حق يخفف الذنوب!! وهل خفف حقد اليهود والذين أشركوا على
المؤمنين من بشاعة ما ارتكبوه في حق النبي وأهل الإيمان؟! أم أن
المفروض: هو أن يقتلعوا هذا الحقد الذي لا مبرر له من صدورهم، وكان هذا
هو المفروض بكل من يعادي علياً وغيره من أهل الإيمان!!
([1])
الجمل للمفيد (ط مكتبة الداوري ـ قم) ص82 والجمل لابن شدقم
ص25.
([2])
فتح الباري ج7 ص336 وقد تقدم نقله عن البخاري، في أوائل هذا
البحث.
([3])
الدر المنثور ج5 ص32 عن البخاري، وابن المنذر، والطبراني، وابن
مردويه، والبيهقي، وستأتي مصادر أخرى.
([4])
الآية 11 من سورة النور.
([5])
فتح الباري ج7 ص336.
([6])
فتح الباري ج7 ص336 والسيرة الحلبية ج2 ص302 و (ط دار المعرفة)
ج2 ص619 والمعجم الكبير ج23 ص97 ومناقب علي بن أبي طالب لابن
مردويه ص79.
([7])
فتح الباري ج4 ص15 وج7 ص337 والسيرة الحلبية ج2 ص302 و 303
وسير أعلام النبلاء ج5 ص229 والدر المنثور ج5 ص32 وتاريخ مدينة
دمشق ج55 ص371 وتاريخ الإسلام للذهبي ج8 ص245 والوافي بالوفيات
ج5 ص18.
([8])
صحيح البخاري (مطبوع بهامش فتح الباري) ج7 ص336 و (ط دار
الفكر) ج5 ص60، وليراجع إرشاد الساري ج6 ص343 وفتح الباري ج7
ص336 وعمدة القاري ج17 ص209 والدر المنثور ج5 ص32 عن البخاري
وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي والجامع لأحكام
القرآن ج12 ص198 وتاريخ الإسلام للذهبي ج2 ص278.
([9])
راجع: فتح الباري ج7 ص336 وإرشاد الساري ج6 ص343.
([11])
فتح الباري ج7 ص357.
([12])
راجع: مسند أحمد بن حنبل ج6 ص288 و 38 والجمل للمفيد (ط سنة
1413هـ) ص158 والسنن الكبرى للبيهقي ج1 ص3 والإحسان ج8 ص198
والمستـدرك
للحاكـم
ج3 ص56 والطبقات الكبرى لابن سعد (ط
=
=
سنة 1405هـ) ج2 ص231 و 232. وراجع: صحيح
البخاري (ط دار الفكر سنة 1401هـ) ج1 ص162 وصحيح مسلم (بشـرح
النـووي)
ج4 ص138 و 139 والصوارم المهرقـة
ص105 والإرشاد للمفيد ص194 وتاريخ الأمم والملوك (ط ليدن) ج1
ص1801 وسبل الهدى والرشاد ج11 ص175.
|