تقدم:
أن النبي «صلى
الله عليه وآله»، قال لعلي «عليه السلام»: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله
إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله..
ولكن نصاً آخر
ذكر تفصيلاً لهذه الوصية يحتاج إلى الكثير من التأمل، وهو أنه
«صلى
الله عليه وآله»
حين دفع إليه الراية قال له:
«سر
في المسلمين إلى باب الحصن، وادعهم إلى إحدى ثلاث خصال: إما أن يدخلوا
في الإسلام، ولهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم، وأموالهم لهم..
وإما أن
يذعنوا للجزية والصلح، ولهم الذمة، وأموالهم لهم.
وإما الحرب.
فإن اختاروا
الحرب فحاربهم.
فأخذها وسار
بها والمسلمون خلفه، حتى وافى باب الحصن، فاستقبله حماة اليهود، وفي
أولهم مرحب يهدر كما يهدر البعير.
فدعاهم إلى
الإسلام فأبوا، ثم دعاهم إلى الذمة فأبوا، فحمل عليهم أمير المؤمنين
«عليه
السلام»،
فانهزموا بين يديه، ودخلوا الحصن، وردوا بابه، وكان الباب حجراً
منقوراً في صخر، والباب من الحجر في ذلك الصخر المنقور كأنه حجر رحى،
وفي وسطه ثقب لطيف.
فرمى أمير المؤمنين
«عليه
السلام»
بقوسه من يده اليسرى، وجعل يده اليسرى في ذلك الثقب الذي في وسط الحجر
دون اليمنى، لأن السيف كان في يده اليمنى، ثم جذبه إليه، فانهار الصخر
المنقور، وصار الباب في يده اليسرى.
فحملت عليه
اليهود، فجعل ذلك ترساً له، وحمل عليهم فضرب مرحباً فقتله، وانهزم
اليهود من بين يديه؛ فرمى عند ذلك الحجر بيده اليسرى إلى خلفه، فمر
الحجر الذي هو الباب على رؤوس الناس من المسلمين إلى أن وقع في آخر
العسكر.
قال
المسلمون:
فذرعنا
المسافة التي مضى فيها الباب فكانت أربعين ذراعاً، ثم اجتمعنا على
الباب لنرفعه من الأرض، وكنا أربعين رجلاً حتى تهيأ لنا أن نرفعه
قليلاً من الأرض»([1]).
ونقول:
يلاحظ هنا ما
يلي:
1 ـ
أن الناس يعاملون من ينقض العهود، ويخون المواثيق بحزم وصرامة، ويجرون
عليه أحكامهم وقراراتهم، ولا يعطونه بعدها أي خيار، ولا يمنحونه أية
فرصة للإختيار. ومع تكرار الخيانات، وظهور تصميم العدو على العدوان،
فإنهم يبادرون إلى ضربه ضربة قاضية، وسحق كل مظاهر القدرة لديه،
واقتلاعه من جذوره.
ولكن نبينا
الأعظم «صلى الله عليه وآله» لم يعامل اليهود بهذه الروحية، بل بالعفو
والتسامح، وفتح مجال الخيار والاختيار أمامهم، لمجرد إبطال كيدهم، ودفع
شرهم، رغم تكرر خياناتهم، وتآمرهم المتواصل عليه، وإصرارهم على نقض
العهود والمواثيق.
وقد أظهر النص
المتقدم هذه الحقيقة، فإنه عرض عليهم خيارات تمنحهم الحياة، وتعفيهم من
العقوبة. وبعضها يجعل لهم حصانةً وحقوقاً تساويهم مع سائر المسلمين،
فهو لم يضعهم أمام خيار الموت والفناء، والعقاب والجزاء، بل عرض عليهم
أولاً أن يسلموا، فإن فعلوا ذلك حقنوا دماءهم، وأحرزوا أموالهم، ولهم
ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم..
فإن أبوا ذلك،
فإنه أيضاً لم يسد عليهم باب النجاة، بل فتحه لهم على مصراعيه أيضاً،
ومنحهم فرصة أخرى للعيش بأمن وسلام،
وتكون أموالهم لهم، ولهم ذمة المسلمين، وحظر عليهم الإحتفاظ بالسلاح،
بل يتولى المسلمون حمايتهم، والدفع عنهم، مقابل بدل مالي يعطونه (يسمى
جزية).
فإن أبوا
ذلك.. وأصروا على العداوة والبغي، فإنهم يكونون هم الذين عرضوا أنفسهم
لما لا يحب لهم أن يتعرضوا
له.. ورضوا
بأن يعاملهم معاملة الأعداء، وبأن يكسر شوكتهم، ويقوض هيمنتهم..
2 ـ
لقد كان اقتلاع باب خيبر بيد رجل واحد كافياً لإقناع اليهود بالكف عن
عدوانهم، وإفهامهم أن هذا الدين مؤيد ومنصور من الله، وأن الإيمان بهذا
النبي هو الخيار الصائب، وما عداه هلاك وبوار في الدنيا والآخرة.
ولكن ذلك ليس
فقط لم يحصل.. وإنما حصل عكسه، حيث ظهر حرصهم على البغي والعدوان، حين
حملوا على علي «عليه السلام» مرة ثانية، فحمل عليهم وهزمهم، كما تقدم
بيانه.
3 ـ
كما أن رميه «عليه السلام» باب الحصن إلى مسافات بعيدة، دليل آخر على
ذلك التأييد الإلهي، وقد كان يفترض
أن يكون كافياً لصحوة
ضميرهم، واستجابة وجدانهم، وعطف قلوبهم إلى الحق، وإعلان إيمانهم.. لكن
ذلك لم يحصل أيضاً..
4 ـ
قول الرواية: إنه «عليه السلام» رمى الباب، فوقع خلف المسلمين.. وكانت
المسافة بين موقع علي «عليه السلام»، وموضع سقوط الباب أربعين ذراعاً..
موضع ريب، فإن من غير المعقول أن يكون المسلمون محصورين في هذه المسافة
الضيقة جداً، لأنهم كانوا يعدون بالألوف.. حتى لو فرضنا أن قسماً من
الجيش كان يقوم بمهمات أخرى.
ولعله لم يكن
خلفه سوى طائفة من المسلمين، ممن كان في ضمن الأربعين ذراعاً، أما
الآخرون، فكانوا قد قصروا في اللحاق به..
ويؤيد ذلك:
ما سيأتي من أن علياً «عليه السلام» قد فتح الحصن وحده.
5 ـ
والأهم من كل ذلك: أن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يغير طريقة تعامله
مع اليهود، بل بقي يعتمد سياسة الصفح، والرفق، والتخفيف، فهو بعد كل
هذا العناد والتحدي، والإصرار
على مواصلة الحرب، لم ينتقم منهم، ولم يعاقبهم على ما فعلوه، بل قبل
منهم أن يعملوا في الأرض، وأن يعطوه نصف حاصلها..
وكان يمكنه أن
لا يعطيهم شيئاً سوى ما يقيم أودهم، ويحفظ حياتهم..
بل لو أراد أن
يجازيهم بأعمالهم لما كانوا يستحقون البقاء على قيد
الحياة.
([1])
بحار الأنوار ج21 ص29 والخرائج والجرائح ج1 ص161 وراجع: إحقاق
الحق (الملحقات) ج5 ص368.
|