صفحة : 31-37   

قاتل مرحب محمد بن مسلمة:

تقدم: أن هناك من يزعم: أن قاتل مرحب هو محمد بن مسلمة، وليس علي بن أبي طالب «عليه السلام»، فقد روى البيهقي عن عروة، وعن موسى بن عقبة، وعن الزهري، وعن ابن إسحاق، وعن محمد بن عمر عن شيوخه، قالوا: واللفظ لابن إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن سهل بن عبد الرحمن بن سهل، أخو بني حارثة، عن جابر بن عبد الله، قال:

خرج مرحب اليهودي من حصن خيبر، وقد جمع سلاحه يقول: من يبارز؟ ويرتجز:

قـد علمـت خـيـبر أني مـرحـب          شـاكـي الســلاح بـطـل مجــرب

أطـعن أحـيـانـاً وحينـاً أضـرب           إذا الـلـيــوث أقـبـلــت تجــرب

إن حمــاي لـلـحـمـى لا يـقـرب

فأجابه كعب بن مالك:

قـد عـلـمـت خـيـبر أني كـعـب           مـفـرج الـغـمـى جـريء صـلب

إن شـبـت الحـرب تلتهـا الحرب                  مـعـي حسـام كـالـعـقيق عضب

نـطـؤكم حـتـى يـذل الصــعب            نـعـطي الجـزاء أو يـفـيء النـهب

بـكـف مـاضٍ لـيـس فـيـه عـتـب

قال ابن هشام: وأنشدني أبو زيد:

قـد عـلـمـت خـيــبر أني كـعب           وأنـنـي مـتـى تـشــب الحـــرب

مـاض على الهـول جريء صلب                مـعـي حسـام كـالـعقيـق عضب

بكـف مـاضٍ ليـس فيـه عـتـب           نـدكـكم حتى يــذل الـصـــعب

قال: ومرحب: ابن عميرة.

قال جابر: فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «من لهذا»؟

قال محمد بن مسلمة: أنا له يا رسول الله، أنا والله الموتور الثائر، قتل أخي بالأمس.

فأمره بأن يقوم إليه، وقال: «اللهم أعنه عليه».

(وفي بعض المصادر: وأعطاه سيفه، فخرج إليه، ودعاه إلى البراز، فارتجز كل منهما).

قال: فلما دنا أحدهما من صاحبه، دخلت بينهما شجرة عُمْرية (غمرته) من شجر العشر، فجعل أحدهما يلوذ بها من صاحبه، فكلما لاذ منه بها اقتطع صاحبه ما دونه منها، حتى برز كل واحد منهما لصاحبه، وصارت بينهما كالرجل القائم، ما فيها فنن.

ثم حمل مرحب على محمد بن مسلمة فضربه، فاتقاه بالدرقة، فوقع سيفه فيها، فعضت به فأمسكته، وضربه محمد بن مسلمة فقطع فخذيه حتى قتله([1]).

قالوا: ونفَّل رسول الله «صلى الله عليه وآله» محمد بن مسلمة يوم خيبر سلب مرحب: سيفه، ورمحه، ومغفره، وبيضته([2]).

قال الواقدي: «فكان عند آل محمد بن مسلمة سيفه، فيه كتاب لا يدرى ما هو، حتى قرأه يهودي من يهود تيماء، فإذا فيه:

هـذا سـيـف مـرحـب                       مـن يـذقـه يـعـطـب»([3]).

ويقولون أيضاً: إنه بعد تعذيب كنانة بن أبي الحقيق دفعه «صلى الله عليه وآله» لمحمد بن مسلمة، فضرب عنقه بأخيه محمود.

وذكروا في توجيه بشارة النبي «صلى الله عليه وآله» لمحمود بن مسلمة هذا بنزول فرائض البنات: أن محمود كان متمولاً، وكان ماله أكثر من أموال أخيه محمد. فلما سقطت عليه الرحى في حصن ناعم جعل يقول لأخيه: بنات أخيك لا يتبعن الأفياء، يسألن الناس.

فيقول له محمد: لو لم تترك مالاً لكان لي مال. ولم تكن فرائض البنات قد نزلت.

فلما كان يوم موته، وهو اليوم الذي قتل فيه مرحب، أرسل النبي «صلى الله عليه وآله» جعيل بن سراقة الغفاري، ليبشر محموداً بأن الله قد أنزل فرائض البنات، وأن محمد بن مسلمة قد قتل قاتله.

فسر بذلك، ومات في اليوم الذي قتل فيه مرحب، بعد ثلاث من سقوط الرحى عليه من حصن ناعم([4]).

ونقول:

إن ذلك مكذوب جملة وتفصيلاً، وذلك لما يلي:

أولاً: هناك فاصل زمني كبير بين قتل محمود بن مسلمة وبين قتل مرحب، يصل إلى عشرات الأيام وقد قتل محمود في حصن ناعم لا في حصن القموص.

ثانياً: لا ربط بين البشارة بنزول فرائض البنات، وبين البشارة بقتل مرحب..

ثالثاً: إن الآيات المرتبطة بفرائض البنات كانت قد نزلت قبل ذلك، بسنوات، فراجع..

رابعاً: لم يثبت أن قاتل محمود بن مسلمة هو مرحب، إذ يقال: إن قاتله هو ذلك الذي أخذه علي حين فتح الحصن وسلّمه لمحمد بن مسلمة ليقتله بأخيه، فقتله به..

ولعله هو كنانة بن أبي الحقيق الذي دفعه النبي «صلى الله عليه وآله» لمحمد بن مسلمة ليقتله بأخيه([5])، فإن علياً «عليه السلام» هو الذي أخذ كنانة أيضاً وهو فاتح الحصن، فيصح نسبة تسليمه لابن مسلمة إلى النبي «صلى الله عليه وآله» تارة، وإلى علي «عليه السلام» أخرى.

خامساً: دعوى تعذيب كنانة على يد هذا تارة، وذاك أخرى، دليل آخر على وهن هذه الرواية، فإن التعذيب لا يمكن أن يقبله النبي، ولا الوصي، ولا أي من الذين يأتمرون بأمرهما، وقد قدمنا عن قريب وصايا علي «عليه السلام» بقاتله، وعلي هو تلميذ النبي «صلى الله عليه وآله».

سادساً: قال الحاكم النيسابوري والذهبي: الأخبار متواترة بأسناد كثيرة أن قاتل مرحب هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام»([6]).

وقال الصالحي الشامي:

قلت: جزم جماعة من أصحاب المغازي: بأن محمد بن مسلمة هو الذي قتل مرحباً.

ولكن ثبت في صحيح مسلم ـ كما تقدم ـ عن سلمة بن الأكوع: أن علياً «عليه السلام» هو الذي قتل مرحباً.

وورد ذلك: في حديث بريدة بن الحصيب، وأبي رافع مولى رسول الله «صلى الله عليه وآله».

وعلى تقدير صحة ما ذكره جابر، وجزم به جماعة، فما في صحيح مسلم مقدم عليه من وجهين:

أحدهما: أنه أصح إسناداً.

الثاني: أن جابراً لم يشهد خيبر، كما ذكره ابن إسحاق، ومحمد بن عمر، وغيرهما، وقد شهدها سلمة، وبريدة، وأبو رافع. وهم أعلم ممن لم يشهدها.

وما قيل: من أن محمد بن مسلمة ضرب ساقي مرحب فقطعهما، ولم يجهز عليه، ومرَّ به علي «عليه السلام» فأجهز عليه، يأباه حديث سلمة، وأبي رافع، والله أعلم.

وصحح أبو عمر: أن علياً «عليه السلام» هو الذي قتل مرحباً.

وقال ابن الأثير: إنه الصحيح([7]).

وقال أيضاً: «وقيل: إن الذي قتل مرحباً، وأخذ الحصن علي بن أبي طالب، وهو الأشهر والأصح»([8]).

وقال: «الصحيح الذي عليه أهل السير والحديث: أن علياً كرم الله وجهه قاتله»([9]).

وقال الحلبي: «وقيل: القاتل له علي «عليه السلام»، وبه جزم مسلم  في صحيحه.

وقال بعضهم: والأخبار متواترة به»([10]).

وقال أيضاً: «وقد يجمع بين القولين: بأن محمد بن مسلمة أثبته، أي بعد أن شق علي كرم الله وجهه هامته، لجواز أن يكون قد شق هامته، ولم يثبته، فأثبته محمد بن مسلمة. ثم إن علياً كرم الله وجهه وقف عليه»([11]).

ثم استدل الحلبي على ذلك بما في بعض السير عن الواقدي، قال: «لما قطع محمد بن مسلمة ساقي مرحب، قال له مرحب: أجهز عليَّ.

فقال: لا، ذق الموت كما ذاقه أخي.

ومرّ به علي فضرب عنقه، وأخذ سلبه، فاختصما إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» في سلبه.

فقال محمد: يا رسول الله، ما قطعت رجليه وتركته إلا ليذوق الموت، وكنت قادراً أن أجهز عليه.

فقال علي «عليه السلام»: صدق.

فأعطى سلبه لمحمد بن مسلمة»([12]).

وقالوا: لعل هذا كان بعد مبارزة عامر بن الأكوع لمرحب، فلا ينافي ما مر عن فتح الباري([13]).

وفي الإستيعاب: «والصحيح الذي عليه أكثر أهل السير والحديث أن علياً قاتله»([14]).


 

([1]) سبل الهـدى والرشـاد ج5 ص127 و 128 والسـيرة الحلبيـة ج3 ص37 و 38 = = والمغازي للواقدي ج2 ص655 و 656 وتاريخ الخميس ج2 ص50 و 51 عن الإكتفاء وعن مسند أحمد ج3 ص385 ومجمع الزوائد ج6 ص150 وبغية الباحث ص217 وتاريخ مدينة دمشق ج55 ص268 وتاريخ الأمم والملوك ج2 ص299 عن السيرة النبوية لابن هشام ج3 ص797 والبداية والنهاية ج4 ص215.

([2]) مختصر المزني ص270 والسيرة الحلبية ج3 ص38 و (ط دار المعرفة) ج2 ص738 عنه، وراجع: المغازي للواقدي ج2 ص656.

([3]) المغازي للواقدي ج2 ص656 وتاريخ الإسلام للذهبي ج2 ص417 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج4 ص215 والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص358 والسنن الكبرى للبيهقي ج6 ص309 وشرح السير الكبير ج2 ص606.

([4]) إمتاع الأسماع ص316 و(ط أخرى) ج1 ص311 والمغازي للواقدي ج2 ص658.

([5]) السيرة الحلبية ج3 ص34 و (ط دار المعرفة) ج2 ص740 وشرح السير الكبير للسرخسي ج1 ص281 وراجع: السير الكبير للشيباني ج1 ص218 والكامل في التاريخ ج2 ص221.

([6]) المستدرك للحاكم ج3 ص437 وأعيان الشيعة ج1 ص272 و 404.

([7]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص127 و 128 وأسد الغابة ج4 ص331 وراجع: نيل الأوطار ج8 ص87 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج4 ص214 والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص357.

([8]) الكامل في التاريخ ج2 ص219.

([9]) أسد الغابة ج4 ص331 وشرح مسلم للنووي ج12 ص186 وأعيان الشيعة ج1 ص272 والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج2 ص738.

([10]) السيرة الحلبية ج3 ص38 و (ط دار المعرفة) ج2 ص738.

([11]) السيرة الحلبية ج3 ص38 و (ط دار المعرفة) ج2 ص739.

([12]) السيرة الحلبية ج3 ص38 و (ط دار المعرفة) ج2 ص739. وأشار إلى ذلك في الإمتاع ص315 والمغازي للواقدي ج2 ص656 وراجع: السير الكبير ج2 ص606 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج4 ص215 والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص358.

([13]) السيرة الحلبية ج3 ص38 و (ط دار المعرفة) ج2 ص739.

([14]) الإستيعاب (ط دار الجيل) ج3 ص1377 والسيرة الحلبية ج3 ص38 و (ط دار المعرفة) ج2 ص738.

 
   
 
 

موقع الميزان