علي عليه السلام يقتل أصل الخوارج

   

صفحة : 206   

علي عليه السلام يقتل أصل الخوارج:

ونذكر هنا قضية جرت في حياة رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ولعلها حدثت في هذه السنة أو في غيرها وهي التاية:

رووا: أن أبا بكر قال للنبي «صلى الله عليه وآله»: إني مررت بوادي كذا وكذا، فإذ رجل متخشع، حسن الهيئة، يصلي..

فقال له النبي «صلى الله عليه وآله»: إذهب إليه فاقتله.

فذهب إليه، فلما رآه على تلك الحال كره أن يقتله، فرجع إلى النبي «صلى الله عليه وآله»..

فقال النبي «صلى الله عليه وآله» لعمر: إذهب فاقتله.

فذهب إليه، فرآه على تلك الحال، فكره أن يقتله.

فقال «صلى الله عليه وآله» لعلي «عليه السلام»: اذهب فاقتله.. فذهب إليه فلم يجده.

فقال النبي «صلى الله عليه وآله»: إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم. وذكر حديث الخوارج ومروقهم من الدين، وفي آخره: فاقتلوهم هم شرُّ البرية([1]).

وفي نص آخر: فقال علي «عليه السلام»: أفلا أقتله أنا يا رسول الله؟!

قال: بلى أنت تقتله إن وجدته.. فانطلق علي «عليه السلام» فلم يجده.. أو نحو ذلك([2]).

ونقول:

1 ـ لقد عودنا عمر بن الخطاب أن يطلب من النبي «صلى الله عليه وآله» أن يسمح له بقتل هذا تارة وذاك أخرى، وذلك ثالثة، ورابعة، وخامسة. ولم ينل مبتغاه في جميع مطالبه تلك، بل كان القرار النبوي دائماً على خلاف هواه..

أما هنا.. فإن النبي «صلى الله عليه وآله» هو الذي يطلب من عمر أن يقتل هذا الرجل، ولكن عمر لا يستجيب!!

2 ـ إن أبا بكر لم يكن في مجمل أحواله يتوافق مع عمر على القتل الذي كان عمر يطلب من النبي «صلى الله عليه وآله» أن يسمح له به، فلم يطلب ما كان يطلبه عمر من ذلك، ولو مرة واحدة، بل هما قد اختلفا في العديد من الموارد، فقد اختلفا في الموقف من خالد حين قتل مالك بن نويرة، وزنى بامرأته.. واختلفا في الموقف من أسارى بدر.

3 ـ إن أبا بكر كان قرين عمر، وحبيبه، وصفيه، ونجيه، وكانا معاً يداً واحدة على الدوام.. غير أنهم يزعمون: أن أبا بكر يميل إلى السلم، وعمر يميل إلى القتل والحرب. حتى أصبح ذلك بمثابة القاعدة.

ولكن هذه القاعدة قد انخرمت مرتين:

إحداهما: في قتال مانعي الزكاة، حيث كان عمر يرى مسالمتهم، وأبو بكر يرى حربهم، وذلك على خلاف ما عهدناه منهما من ميل أبي بكر للسلم، وميل عمر للحرب.. فما هو السبب في ذلك؟!

ويزيد هذا الأمر غرابة حين نرى أن الأمور عادت بينهما إلى التوافق، ولكن لا برجوع أبي بكر إلى رأي عمر، بل برجوع عمر إلى رأي أبي بكر!

الثانية: في قتل أصل الخوارج، فإن عمر قد مال إلى طبع أبي بكر، ورأيه، فآثرا معاً عصيان رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ولم ينفذا أمره بقتله..

4 ـ إن الرجل الذي طلب النبي «صلى الله عليه وآله» قتله من أبي بكر وعمر، كان يتظاهر بالتخشع والعبادة والصلاح. ولكن ذلك لم يمنع النبي «صلى الله عليه وآله» من الأمر بقتله، فإن العبرة عنده بالجوهر لا بالمظهر.. وأفهمنا أن على المؤمن أن لا ينخدع بالمظاهر.

وقد جاءت هذه الحادثة لتكون التطبيق العملي لنهيه «صلى الله عليه وآله» الناس عن النظر إلى صلاة الرجل وصومه، وطنطنته بالليل، بل عليهم أن ينظروا إلى صدقه في الحديث، وأدائه الأمانة([3]).

5 ـ إن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يرسل أبا بكر إلا بعد أن أخبره أبو بكر نفسه عنه بأنه رآه بمكان كذا متخشعاً، حسن الهيئة يصلي، أي أن النبي أمره بقتله بناء على ما سمعه من أوصاف أغدقها عليه، وحالات نسبها إليه، فما معنى أن يذهب أبو بكر إليه، ثم يرجع فيقول: إنه رآه يصلي فترك قتله؟! فإنه لم يأت للنبي «صلى الله عليه وآله» بشيء جديد يبرر إحجامه عن تنفيذ أمره.

6 ـ إنه «صلى الله عليه وآله» حين أمر أبا بكر وعمر وعلياً بقتل ذلك الرجل، لم يذكر لهم سبب إصداره لهذا الأمر ـ رغم إخبارهم إياه بصلاة ذلك الرجل وتخشعه ـ وهذا يدل على ضرورة أن يكون التعامل مع المعصوم بمنطق الطاعة والإنقياد المطلق والتسليم، تطبيقاً لقوله تعالى: ﴿ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً([4]).

تماماً كما سلم إسماعيل نفسه لأبيه إبراهيم ليذبحه قائلاً: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ([5]).

7 ـ إن امتناع أبي بكر وعمر عن تنفيذ الأمر يدلنا على أنهما لم يتعاملا مع النبي «صلى الله عليه وآله» على أساس أنه مسدد بالوحي الإلهي، ولا ينطق عن الهوى.. ولا على أساس أنه عالم علم اليقين، بالمبررات الشرعية لحكمه عليه بالقتل.. أي أنهما رأيا أن النبي لم يكن مستجمعاً للشرائط المسوغة لحكمه على الرجل، ومعنى ذلك أنه مخطئ في قراره هذا، وأن ذلك الرجل مظلوم..

وهذا ما لا يمكن قبوله، لا من أبي بكر وعمر، ولا من غيرهما.

8 ـ إن قوله «صلى الله عليه وآله» لعلي «عليه السلام»: «بلى أنت تقتله إن وجدته» يدل على أنه كان يعرف علياً حق المعرفة، حتى لقد أخبر عن فعل علي «عليه السلام» ـ الذي كان سيحصل ـ لو وجد ذلك الرجل.

9 ـ إن هذا الإختبار العملي، قد أظهر فضل ذي الفضل.. وبيّن ميزته «عليه السلام» على من سواه، وسجل معياراً ومقياساً تسقط به الكثير من الدعاوى التي يسوقها محبوا مناوئي علي «عليه السلام»..

10 ـ إن قول النبي «صلى الله عليه وآله» عن الذين هم على شاكلة ذلك الرجل الذي أمر «صلى الله عليه وآله» بقتله: «فاقتلوهم هم شر البرية» قد أسقط الحصانة عن هذه الفئة من الناس، بإعطائه الأمر بقتلهم، لأنهم تجسيد للشر الذي يصيب البشرية، وتستُّرهم بالمظاهر الخادعة وإظهارهم التخشع، وممارسة العبادات إن كان يراد به حفظ الجحود والطغيان، لا ينفع في دفع العقوبة التي يستحقونها.

11 ـ وإنما كان هؤلاء شر البرية، لأنهم يتسترون بالدين للقضاء على الدين، وإشاعة رذيلة الظلم والطغيان، والعمل بالهوى، وأحكام الجاهلية..

12 ـ وقد أخبر «صلى الله عليه وآله»: أن علياً «عليه السلام» لن يجد ذلك الرجل، ولو وجده لقتله، وأخبر أيضاً عن المارقين، مع بيان بعض حالاتهم، وما يكون منهم.. مبيناً التكليف الإلهي للأمة تجاههم.

13 ـ ويكون صدق ما أخبر به «صلى الله عليه وآله» عن أن علياً «عليه السلام» لن يجد ذلك الرجل بمثابة شاهد حسي على أنه «صلى الله عليه وآله» يخبر عن الله تعالى، وعلى أن ما يخبر به عن ظهور المارقين لا بد أن يتحقق أيضاً.

14 ـ إن النبي «صلى الله عليه وآله» لا يقدم على قتل رجل إلا إذا توفرت الأدلة له على استحقاقه للقتل..

ومن الذي قال: إن البينة لم تقم لدى رسول الله «صلى الله عليه وآله» على استحقاق ذلك الرجل للقتل..

أو من الذي قال: إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» لم يطلع على حال ذلك الرجل بصورة مباشرة، وبنحو يجيز له قتله.. فرأى أن إظهاره التخشع، واعتصامه بالتظاهر بالدين لا يجديه، فقد قلنا: إن العبرة إنما هي بالجوهر لا بالمظهر..

 


 

([1]) مسند أحمد ج3 ص15 والمصنف للصنعاني ج10 ص155 و 156 ومجمع الزوائد ج6 ص225 و 226 و 227 والبداية والنهاية ج7 ص299 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص266 و 267 والكامل في الأدب ج3 ص220 و221 ونيل الأوطار للشوكاني ج7 ص351 والمراجعات للسيد شرف الدين ص376 و 378 والنص والإجتهاد للسيد شرف الدين ص96 والغديرج7 ص216 وأهمية الحديث عند الشيعة للشيخ آقا مجتبي العراقى ص217 وفتح الباري ج12 ص266 والفصول المهمة للسيد شرف الدين ص121.

([2]) كشف الأستار عن مسند البزار ج2 ص360 و 361 والعقد الفريد ج2 ص404 وراجع المصنف للصنعاني ج10 ص155 و 156 ومجمع الزوائد ج6 ص226 و 227 ومناقب آل أبي طالب ج3 ص187 و 188 عن مسند أبي يعلى، والإعانة لابن بطة، والعكبري. وزينة أبي حاتم الرازي، وكتاب أبي بكر الشيرازي وغيرهم والطرائف ج2 ص429 والبداية والنهاية ج7 ص298 والغدير ج7 ص216 وحلية الأولياء ج2 ص317 و ج3 ص227 والإصابة ج1 ص484 والنص والإجتهاد ص93 و 94 عن بعض ما تقدم.

([3]) راجع: الأمـالي للصدوق ص379 وعيون أخبـار الرضـا ج1 ص55 و 56 وروضة الواعظين ص373 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج19 ص69 و (ط دار الإسلامية) ج13 ص220 ومستدرك الوسائل ج14 ص6 والإختصاص ص229 ومشكاة الأنوار ص109 و 164 وبحار الأنوار ج68 ص9 وج72 ص114 و 115 وشجرة طوبى ج2 ص443 وجامع أحاديث الشيعة ج18 ص526 ومستدرك سفينة البحار ج1 ص223 ومسند الإمام الرضا للعطاردي ج1 ص274 وموسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي ج6 ص56 والرسائل الرجالية للكلباسي ج1 ص229.

([4]) الآية 65 من سورة النساء.

([5]) الآية 102 من سورة الصافات.

 
   
 
 

موقع الميزان