صفحة : 20-25   

دلالات باهرة في فعل علي عليه السلام :

وما نريد أن نقوله هنا هو: أن مجموع هذه النصوص يشير إلى أمور عديدة، كلها على جانب كبير من الأهمية، فلاحظ ما يلي:

ألف: إن ذلك يدل على: أن الذين قتلوا لم يكونوا جميعاً من الكبار والبالغين، بل كان فيهم أجنة أيضاً، ولذلك أعطى علي «عليه السلام» لكل جنين غرة.

ب : الغُرَّة ـ بالضم ـ عبد أو أمة.

ومنه: قضى رسول الله «صلى الله عليه وآله» في الجنين بغرة.

وقال الفقهاء: الغرة من العبد الذي ثمنه عشر الدية([1]).

وزعم بعضهم: أن الغرة من العبيد الذي يكون ثمنه نصف عشر الدية([2]).

ج ـ في قوله: «لكل جنين غرة» ـ: إشارة ضمنية إلى تعدد، أو كثرة القتلى من الأجنة، حتى ذكرهم أمير المؤمنين «عليه السلام» بصيغة الجمع إلى جانب ديات البالغين..

ثم إنه لم يتضح إن كان هناك قتلى من النساء، أو لم يكن..

د: إن علياً «عليه السلام» قد أعطى مالاً لروعات النساء، وعوضاً عما أصابهن من الحزن، وصرح: بأن المطلوب هو: أن يفرحوا بقدر ما حزنوا.

وهذا تأصيل لمعنى جديد لا بد من مراعاته في مجالات التعامل مع الناس، ولم يكن هذا المعنى معروفاً، ولا مألوفاً قبل هذه الحادثة.. كما أننا لم نجد أحداً قد راعى هذا المعنى في معالجته لآثار العدوان على الآخرين.

ولعل قول النبي «صلى الله عليه وآله» لعلي «عليه السلام»: «يا علي، اجعل قضاء أهل الجاهلية تحت قدميك».

يشير إلى هذا المعنى، ولا يختص ذلك بموضوع مقادير الديات، أو ما يرتبط بالثأر من غير القاتل الحقيقي.

بل إن الفقهاء وعلى مدى كل هذا التاريخ الطويل لم يشيروا في فتاواهم، ولو إلى رجحان التعرض لمعالجة هذا النوع من الآثار، ولا رسموا له حدوداً، ولا بينوا له أحكاماً، ولا حددواً له شروطاً!

فهل هذه غفلة كانت منهم؟!

أم أنهم فهموا: أن ذلك يختص بالمعصوم، من نبي وإمام؟! أم ماذا؟!

هـ: يلاحظ: أن علياً «عليه السلام»، قد بذل لبني جذيمة أموالاً من أجل أن يفرحوا بقدر ما حزنوا.

أي أنه «عليه السلام» قد لاحظ مقدار الحزن، ومقدار الفرح، وأراد أن يكون هذا بقدر ذاك، ولذلك لم يقل : «ليفرحوا بعد ما حزنوا». بل قال: «ليفرحوا بقدر ما حزنوا ».

و: إن سرد ما اعطاه علي «عليه السلام» لبني جذيمة يصلح أن يكون هو الوصف الدقيق لحقيقة ما جرى على هؤلاء الناس من قتل وسلب وخوف. فهم قد سلبوهم كل شيء. حتى حبلة الرعاة، وميلغة الكلب، ولم يتركوا لهم حتى كسوة العيال والخدم.. وأخذوا منهم ما يعلمون، وما لا يعلمون.

بالإضافة إلى قتل الرجال، وإسقاط الأجنة، وروعة النساء، وفزع الصبيان، وحزن العيال والخدم.

ز: واللافت هنا: أنه «عليه السلام» لم يهمل حتى الخدم، فقد أعطى مالاً أيضاً لحزن هؤلاء، مما يعني: أن كونهم خدماً لا تسقط الحقوق التي تترتب على روعاتهم، وحزنهم. ولا يصيرهم بمثابة الآلة التي لا مشاعر لها.

قد صرحت الكلمات الواردة في الروايات: بأن علياً «عليه السلام» يريد أن يقضي عن ذمة الله ورسوله. أي أن الذين قتلهم خالد، قد كانوا في ضمان ذمة الله، وذمة الرسول «صلى الله عليه وآله».

ولعل هذا يؤيد صحة القول: بأنه كان لديهم كتاب من رسول الله «صلى الله عليه وآله»، يضمن لهم سلامتهم، وأمنهم، ويعتبرهم في ذمة الله ورسوله.

وعدوان خالد عليهم يعتبر إخلالاً بهذه الذمة، وهذا يحتم الوفاء بها، وإعادة الأمور إلى نصابها.

بل قد يقال: إن هذا التعبير يدل على: أنه لو أن أحداً من غير المسلمين اعتدى على بني جذيمة لوجب نصرهم، وتحمل مسؤولية تعويض كل نقص يعرض لهم عليهم، في الأموال والأنفس على حد سواء..

ح: ذكرت النصوص المتقدمة: أنه «عليه السلام» أعطاهم مقداراً من المال، ليرضوا عن رسول الله «صلى الله عليه وآله»، مع العلم: بأن السخط على الرسول «صلى الله عليه وآله» من موجبات الكفر، والخروج من الدين.

فكيف  يمكن الجمع بين الحكم بإسلامهم، وبين عدم رضاهم عن رسول الله «صلى الله عليه وآله»؟!

ومن المعلوم: أن السخط والرضا لا يشترى ولا يعطى بالمال، فكيف نفهم هذا الإجراء منه «عليه السلام»؟!

ونجيب:

إن المراد بالرضا هنا ليس ما يقابل السخط، بل المراد به: الشعور بالرضا، بعد الشعور بالحاجة إلى الإنصاف، وبضرورة إيصال حقهم إليهم..

فإذا رأوا علياً «عليه السلام» قد اعطاهم فوق ما لهم من حق، فلابد أن يتكون لديهم شعور باستعادة كامل حقوقهم، وبما فوق مستوى الإنصاف والعدل الذي يتوقعونه أو ينتظرونه..

وهذا معناه: أنه «عليه السلام» لم يشتر رضاهم بالمال.. بل هو قد وفاهم حقهم، حتى تكوَّن لديهم الشعور بالرضا بهذا الوفاء.

ط: إن تخصيص جزء من المال لما يعلمون، وما لا يعلمون. قد يكون من أهم الأمور التي تبلِّغهم درجات ذلك الرضا بأكمل وجوهه، وأتمها، فإن هناك أموراً قد يفقدها الإنسان، ولكنها تكون من التفاهة إلى حد يرى أن مطالبته بها تنقص من قدره، وتحط من مقامه، فيعرض عنها.

ولكنه حتى حين يغض النظر عنها قد يبقى لديه شعور بالانتقاص من حقه، أو فقل بعدم بلوغه درجة الإشباع.

فإذا رضخ علي «عليه السلام» له مالاً في مقابل تلك الأمور أيضاً، فإنه لا يبقى مجال لأي خاطر يعكر صفو الشعور بالإرتواء التام..

فإذا زاد على ذلك: بأن أعطاه أموالاً في مقابل ما ربما يكون قد عجز عن استحضاره في ذهنه، فإنه سينتقل إلى مرحلة الشعور بالامتنان. والإحساس بمزيد من اللطف به، والتفضل عليه، والنظر إليه، والشعور معه..


 

([1]) راجع: مجمع البحرين ج3 ص422 و (ط مكتب نشر الثقافة الإسلامية) ج3 ص302.

([2]) أقرب الموارد ج2 ص867 وراجع: عمدة القاري ج24 ص67 وتحفة الأحوذي ج4 ص554 ومرقاة المفاتيح ج7 ص40 والنهاية في غريب الأثر ج3 ص353 وكتاب الكليات ج1 ص670 والتعريفات للجرجاني ج1 ص208.

 
   
 
 

موقع الميزان