وقد يقال:
إن الإسلام الذي دعا إليه خالد أهل اليمن هو الإسلام الذي دعا إليه علي
«عليه السلام»، فلماذا لم يقبلوا دعوة خالد، وقبلوا دعوة علي؟!.. مع أن
خالداً بقي ستة أشهر يدعوهم.. وعلي «عليه السلام» ذهب إليهم، وصلى
بأصحابه، ثم قرأ عليهم كتاب رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فأسلمت
همدان كلها في ساعة واحدة!
وأجاب البعض:
بأن الناس الذين لا يقبلون دعوة الدعاة إلى الإسلام، يواجهون التجريدات
العسكرية، وبذلك تحمل القوة الحربية رسالة هؤلاء الدعاة السلمية، وحين
ذهب خالد إلى اليمن سنة عشر، ولم تثمر جهوده طيلة ستة أشهر، عززت قوة
خالد بجيش يقوده علي، فأسلمت همدان في يوم واحد([1]).
ونقول:
هذا كلام باطل من عدة جهات.
فأولاً:
إن خالداً أرسل إلى اليمن في سنة ثمان، بعد الفراغ من غزوة الفتح،
وحنين، والطائف. وقد أرسله «صلى الله عليه وآله»، حين كان لا يزال
بالجعرانة..
ثانياً:
إن علياً «عليه السلام» ذهب إلى خالد بعد ستة أشهر لكي يقفله، فأقفله
ومن معه إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله»، لا ليعينه، وبعد أن ذهب
إليهم، وصلى بأصحابه، وقرأ كتاب رسول الله «صلى الله عليه وآله»، أسلمت
همدان في يوم واحد..
ثالثاً:
إن قبائل اليمن لا تنحصر بهمدان، فكانت همدان هي البادئة بالإسلام ثم
تبعها غيرها، أي أن أهل اليمن لم يسلموا دفعة واحدة خوفاً من السيف،
كما زعمه ذلك القائل.
رابعاً:
إن هذا الرجل يريد أن يدعى أن هؤلاء أسلموا تحت وطأة التهديد والجبر
والقهر.. وأن الإسلام كان يفرض على الناس بقوة السيف.. وهو كلام باطل
جزماً، فقد قال تعالى:
﴿لَا
إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾([2]).
وقال:
﴿أَفَأَنْتَ
تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾([3]).
وقال:
﴿فَمَنْ
شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾([4]).
والقتال في الإسلام كان دفاعياً، أو استباقاً لخطر يكون
المشركون قد أعدوا واستعدوا له بالفعل، ويريدون الإنقضاض على المسلمين
على حين غفلة منهم، ولم يكن في أي وقت هجومياً إبتدائياً..
والجواب الأقرب والأصوب هو التالي:
أولاً:
إن الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب([5])،
وقد أسلم خالد أو استسلم في سنة ثمان، أي قبل أشهر يسيرة من إرساله إلى
اليمن، بعد أن بقي يحارب الله ورسوله أكثر من عشرين سنة، رغم ما يراه
من معجزات وكرامات، وما يشاهده من محاسن الإسلام، التي كان يجسدها سلوك
النبي والوصي صلى الله عليهما وعلى آلهما، والأخيار من الصحابة..
ولم يدخل في الإسلام إلا بعد أن أيقن بسطوع نجمه،
وظهوره على الدين كله.. وأفول نجم الشرك، وصيرورته إلى البوار والتلاشي
والسقوط في حمأة الذل والخزي والعار..
فكان خالد ـ كما أظهرته سيرة حياته وممارساته قبل وبعد
سفره إلى اليمن ـ لا يزال يعيش مفاهيم الجاهلية، وعصبياتها،
وانحرافاتها، وتهيمن عليه أهواؤه وشهواته وغرائزه..
أما علي «عليه السلام» فهو الرجل الإلهي الخالص، الذي
وهب كل حياته ووجوده لله تعالى.. ورضاه عنده كان هو الأغلى والأسمى
والأعلى.
فإذا دعا خالد إلى الإسلام، فإن دعوته لن تخرج من قلبه
كي تدخل في قلوب الآخرين، ولن تكون أكثر من حركات يجريها، أو كلمات
يؤديها، تنوء بثقل الشكليات ولا تتجاوز التراقي أو اللهوات..
ثانياً:
لعل خالداً لم يستوف شرائط الدعوة، مع أولئك الناس، أي أنه لم يدع إلى
سبيل الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، ولا جادلهم بالتي هي أحسن..
أو أن الناس لم يروا محاسن الإسلام في تصرفاته، ولا في
أقواله وكلماته، فهو يترك ما يأمرهم به، ويرتكب ما ينهاهم عنه..
ولعله أساء إليهم، أو حاول أن يبتزهم في أموالهم، أو
يتجاوز على أعراضهم.. أو أن يفرض عليهم الإسلام، والخضوع لأوامره
ونواهيه، أي أنه قدم لهم دعوة لسانية مقرونة بكثير من الصوارف
والمنفرات العملية..
وربما يدلنا على ذلك، ما ورد في النصوص المتقدمة من أنه
«صلى الله عليه وآله» أمر علياً «عليه السلام» بأن يقفل خالداً إليه،
أما من كان مع خالد فهم بالخيار بين القفول والبقاء..
أما علي «عليه السلام» فإنه بمجرد وصوله إلى أولئك
القوم أفهمهم بطريقة عفوية، وعملية أنه ملتزم بفروض الطاعة والعبودية
لله تعالى من خلال إلتزامه بالإسلام، الذي يجعل من المتفرقين عشائرياً،
ومناطقياً، وطبقاتياً، أو غير ذلك نموذجاً فذاً في مجتمعاتهم ـ سواء من
الناحية الإقتصادية، أو العرقية، أو الثقافية، أو غير ذلك من خصوصيات
جعلها الله تعالى من أسباب التكامل، والتعاون بين البشر، فجعلت منها
الأهواء أسباباً للتفرق والتشتت والتمزق.
وأفهمهم أيضاً أن هذا الدين سبب للقوة، والتعاون،
والتوحد في الله كأنهم بنيان مرصوص، لهم نهج واحد، وقائد واحد، وهدف
واحد.
([1])
نشأة الدولة الإسلامية (تأليف عون شريف قاسم) ص227 و 240.
([2])
الآية 256 من سورة البقرة.
([3])
الآية 99 من سورة يونس.
([4])
الآية 29 من سورة الكهف.
([5])
راجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج20 ص287 وراجع: جامع بيان
العلم وفضله لابن عبد البر ج2 ص8 وشرح اللمعة للشهيد الثاني ج1
ص661 وإثنا عشر رسالة للمحقق الداماد ج8 ص1 و 3 و 20 و 28
والحديقة الهلالية للشيخ البهائي ص13.
|