صفحة : 182-186   

النص الأوضح والأصرح:

ولعل النص الأوضح والأصرح هنا هو التالي:

قالوا: لما عاد رسول الله «صلى الله عليه وآله» من تبوك إلى المدينة قدم إليه عمرو بن معدي كرب، فقال له النبي «صلى الله عليه وآله»: أسلم يا عمرو يؤمنك الله من الفزع الأكبر.

قال: يا محمد، وما الفزع الأكبر؟! فإني لا أفزع.

فقال: يا عمرو، إنه ليس كما تظن وتحسب، إن الناس يصاح بهم صيحة واحدة، فلا يبقى ميت إلا نشر، ولا حي إلا مات، إلا ما شاء الله، ثم يصاح بهم صيحة أخرى، فينشر من مات، ويصفون جميعاً، وتنشق السماء، وتهد الأرض، وتخر الجبال هداً، وترمي النار بمثل الجبال شرراً، فلا يبقى ذو روح إلا انخلع قلبه، وذكر ذنبه، وشغل بنفسه إلا من شاء الله، فأين أنت يا عمرو من هذا؟!

قال: ألا إني أسمع أمراً عظيماً؛ فآمن بالله ورسوله، و آمن معه من قومه ناس، ورجعوا إلى قومهم.

ثم إن عمرو بن معدي كرب نظر إلى أبي بن عثعث الخثعمي، فأخذ برقبته، ثم جاء به إلى النبي «صلى الله عليه وآله»، فقال: أَعْدِني على هذا الفاجر الذي قتل والدي.

فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: أهدر الإسلام ما كان في الجاهلية، فانصرف عمرو مرتداً، فأغار على قوم من بني الحارث بن كعب، ومضى إلى قومه.

فاستدعى رسول الله «صلى الله عليه وآله» علي بن أبي طالب «عليه السلام» وأمره على المهاجرين، وأنفذه إلى بني زبيد، وأرسل خالد بن الوليد في الأعراب وأمَّره أن يعمد لجعفي([1]). فإذا التقيا فأمير الناس أمير المؤمنين «عليه السلام».

فسار أمير المؤمنين «عليه السلام»، واستعمل على مقدمته خالد بن سعيد بن العاص، واستعمل خالد على مقدمته أبا موسى الأشعري.

فأما جعفي فإنها لما سمعت بالجيش افترقت فرقتين: فذهبت فرقة إلى اليمن، وانضمت الفرقة الأخرى إلى بني زبيد.

فبلغ ذلك أمير المؤمنين «عليه السلام»، فكتب إلى خالد بن الوليد: أن قف حيث أدركك رسولي، فلم يقف.

فكتب إلى خالد بن سعيد بن العاص: تعرض له حتى تحبسه.

فاعترض له خالد حتى حبسه، وأدركه أمير المؤمنين «عليه السلام»، فعنفه على خلافه.

ثم سار حتى لقي بني زبيد بواد يقال له: كثير (أو كسير)، فلما رآه بنو زبيد قالوا لعمرو: كيف أنت يا أبا ثور إذا لقيك هذا الغلام القرشي فأخذ منك الإتاوة؟!

قال: سيعلم إن لقيني.

قال: وخرج عمرو فقال: من يبارز؟!

فنهض إليه أمير المؤمنين «عليه السلام»، وقام إليه خالد بن سعيد وقال له: دعني يا أبا الحسن ـ بأبي أنت وأمي ـ أبارزه.

فقال له أمير المؤمنين «عليه السلام»: إن كنت ترى أن لي عليك طاعة فقف مكانك، فوقف.

ثم برز إليه أمير المؤمنين «عليه السلام»، فصاح به صيحة، فانهزم عمرو، وقتل «عليه السلام» أخاه وابن أخيه، وأخذت امرأته ركانة بنت سلامة، وسبي منهم نسوان.

وانصرف أمير المؤمنين «عليه السلام»، وخلف على بني زبيد خالد بن سعيد ليقبض صدقاتهم، و يؤمن من عاد إليه من هرابهم مسلماً.

فرجع عمرو بن معدي كرب، واستأذن على خالد بن سعيد، فأذن له، فعاد إلى الإسلام، فكلمه في امرأته وولده، فوهبهم له.

وقد كان عمرو لما وقف بباب خالد بن سعيد وجد جزوراً قد نحرت، فجمع قوائمها ثم ضربها بسيفه فقطعها جميعاً، وكان يسمى سيفه الصمصامة.

فلما وهب خالد بن سعيد لعمرو امرأته وولده وهب له عمرو الصمصامة.

وكان أمير المؤمنين «عليه السلام» قد اصطفى من السبي جارية، فبعث خالد بن الوليد بريدة الأسلمي إلى النبي «صلى الله عليه وآله» وقال له: تقدم الجيش إليه، فأعلمه بما فعل علي من اصطفائه الجارية من الخمس لنفسه، وقع فيه.

فسار بريدة حتى انتهى إلى باب رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فلقيه عمر بن الخطاب، فسأله عن حال غزوتهم، وعن الذي أقدمه، فأخبره أنه إنما جاء ليقع في علي «عليه السلام» وذكر له اصطفاءه الجارية من الخمس لنفسه.

فقال له عمر: امض لما جئت له، فإنه سيغضب لابنته مما صنع علي «عليه السلام».

فدخل بريدة على النبي «صلى الله عليه وآله» ومعه كتاب من خالد بما أرسل به بريدة، فجعل يقرأه ووجه رسول الله «صلى الله عليه وآله» يتغير، فقال بريدة: يا رسول الله، إنك إن رخصت للناس في مثل هذا ذهب فيئهم.

فقال النبي «صلى الله عليه وآله»: ويحك يا بريدة، أحدثت نفاقاً؟!

إن علي بن أبي طالب «عليه السلام» يحل له من الفيء ما يحل لي، إن علي بن أبي طالب خير الناس لك ولقومك، وخير من أخلف بعدي لكافة أمتي، يا بريدة، احذر أن تبغض علياً، فيبغضك الله.

قال بريدة: فتمنيت أن الأرض انشقت لي، فسخت فيها، وقلت: أعوذ بالله من سخط الله وسخط رسول الله. يا رسول الله، استغفر لي فلن أبغض علياً أبداً، ولا أقول فيه إلا خيراً.

فاستغفر له النبي «صلى الله عليه وآله»([2]).

وفي الديوان المنسوب إلى أمير المؤمنين «عليه السلام» وشرحه: أن عمرو بن معدي كرب خاطب علياً «عليه السلام» حين واجهه:

الآن حـين تـقـلصـت منك الكلى         إذ حـر نـارك في الـوقـيـعة يسطعُ

والخيل لاحـقـة الأياطـل شــزب قـب الـبـطـون ثـنـيـها  والأقـرع

يحملـن فرسـانـاً كـراماً في الـوغا               لا يـنـكـلـون إذا الـرجال تكعكع

إنـي امـرؤ أحـمـي حمـاي بـعـزة                وإذا تـكـون شـديـدة لا  أجـــزع

وأنـا المـظـفـر فـي المـواطن كلها               وأنـا شـهـاب في الحـوادث يلمـع

من يلقـنـي يـلـق المـنية والـردى               وحيـاض مـوت لـيـس عنه  مذيع

فاحذر مصاولتي وجانب موقفي                 إنـي لـدى الهـيـجـا أضـر  وأنـفع

فأجابه «عليه السلام»:

يا عمرو قد حمي الوطيس وأضرمت                نـار عـلـيـك وهـاج أمـر مـفـظع

وتساقـت الأبـطـال  كأس منية           فـيـهـا ذراريــح وســـم مـنـقـع

فـإلـيـك عني لا ينـالك  مخلبي           فتـكـون كالأمـس الذي لا  يرجع

إنـي امـرؤ أحمـي حمـاي  بعـزة                والله يـخـفـض مـن يشـاء  ويرفع

إنـي إلى قصـد الهـدى  وسبيله         وإلـى شـرايـع ديـنـــه أتـســـرع

ورضـيـت بالقرآن وحياً منزلاً           وبـربـنـا ربـــا يــضـــر ويـنـفع

فـيـنـا رسـول الله أيد  بالهدى            فـلـواؤه حـتى الـقـيـامة يلمع([3])

ونقول:

إن المقارنة بين هذه الرواية، والروايات التي ذكرناها فيما سبق تظهر مدى انسجام هذه، وانسيابها ومدى ما نال تلك من تزوير وتحوير، هروباً من الإقرار ببعض الحقائق، وسعياً في طمس ما لا يروق لهم ظهوره، ولا تذوق أعينهم طعم النوم حين يسطع نوره.

ومهما يكن من أمر، فإننا نحب لفت النظر إلى ما يلي:


 

([1]) جعفي بن سعد العشيرة، بطن من سعد العشيرة، من مذحج، من القحطانية.

([2]) بحار الأنوار ج21 ص356 ـ 358 عن إعلام الورى (ط1) ص87 و (ط2) ص134 و (ط مؤسسة آل البيت) ج1 ص252 و 253 والإرشاد للمفيد ج1 ص159 ـ 161 وكشف اليقين ص151 و 152 والمستجاد من كتاب الإرشاد (المجموعة) ص98 و 99 وكشف الغمة ج1 ص229 و 230.

([3]) بحار الأنوار ج21 ص359 عن الديوان المنسوب لأمير المؤمنين «عليه السلام» ص79 و 80.

 
   
 
 

موقع الميزان