صفحة : 267-270   

لا بد من تولية علي عليه السلام:

إن السبب في إبقاء النبي «صلى الله عليه وآله» علياً «عليه السلام» والياً على المدينة هو تخلف طائفة كبيرة من المنافقين كانت تدبر لأمر عظيم.. غير أن اللافت هنا: أن ثمة محاولات حثيثة بذلت لتقليل عدد وشأن هؤلاء، وبادعاء أنهم كانوا قلة قليلة، فادعى بعضهم أنهم كانوا ما بين السبعين إلى الثمانين([1]).

مع أن المنافقين الذين تخلفوا كانوا من الكثرة إلى حد أن بعضهم يقول: «عسكر عبد الله بن أبي معه (أي مع رسول الله صلى الله عليه وآله») على حدة، وكان عسكره أسفل منه نحو ذباب، وكان فيما يزعمون ليس بأقل العسكرين([2]).

فلما سار رسول الله «صلى الله عليه وآله» نحو تبوك رجع ابن أبي في من تخلف معه إلى المدينة([3]).

وواضح: أن أكثر الناس كانوا قد أظهروا الإسلام بعد فتح مكة، أي قبل مدة يسيرة من غزوة تبوك، وكثير منهم لم يكونوا صحيحي الإيمان، فاقتضى ذلك نزول الآيات التي تؤنبهم على نفاقهم، لكي لا يتمادوا في الفساد والإفساد، حين يتأكد لهم أن أمرهم غير خاف على رسول الله «صلى الله عليه وآله» كما يظنون..

وأمكن للنبي «صلى الله عليه وآله» أن يستعيد قسماً منهم، وبقيت طائفة كبيرة أخرى مصرة على التخلف، وكانت بتخلفها تضمر شراً للإسلام وأهله.. ولم يكن يمكن السيطرة عليها إلا للنبي «صلى الله عليه وآله»، أو علي «عليه السلام»، ولذلك خلفه بالمدينة.

وقد حكى الله تعالى ما جرى، فقال: ﴿وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ، رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لـَهُمُ الخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ، أَعَدَّ اللهُ لـَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَجَاءَ المُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَـهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى المَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ([4])»([5]).

ولو كان المخلفون بضعة وثمانين رجلاً، أو نحو ذلك، فلماذا ينزل القرآن بتقريعهم بهذه الحدة والشدة في حين أن الذين تخلفوا في أحد كانوا ثلاث مئة، أي نحو ثلث جيش المسلمين.. ولم تنزل آيات نظيرها في ذلك.. ألا يدلنا ذلك على أن المطلوب هو:

أولاً: إلقاء التهمة على فريق بعينه لعله هو الأضعف سياسياً، من حيث أنه لم يكن فيهم أحد يهمهم أمره، والهدف من اتهام هؤلاء هو حفظ آخرين، وإبعادهم عن موضع التهمة والشبهة..

ثانياً: التقليل من أهمية بقاء علي «عليه السلام» في المدينة، للإيحاء بصحة ما ادعاه المنافقون من أنه «صلى الله عليه وآله» خلفه استثقالاً له، أو لأي سبب آخر يوجب الطعن فيه؟!


 

([1]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص442 و 438 و 474 وج9 ص377 وراجع: السيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج3 ص142.

وراجع: مسند أحمد ج3 ص457 وج6 ص387 وصحيح البخاري (ط دار الفكر) ج5 ص131 وصحيح مسلم (ط دار الفكر) ج8 ص107 وسنن النسائي ج2 ص54 والسنن الكبرى للبيهقي ج9 ص34 وفتح الباري ج8 ص89 وعمدة القاري ج18 ص49 والسنن الكبرى للنسائي ج1 ص266 والدرر لابن عبد البر ص244 والديباج على مسلم ج6 ص111 ورياض الصـالحين للنـووي = = ص68 وجامع البيان ج11 ص5 و 79 و 81 والجامع لأحكام القرآن ج8 ص284 والدر المنثور ج3 ص287 وتفسير القرآن العظيم ج2 ص412 وتفسير ابن أبي حاتم ج6 ص1900 وتفسير البغوي ج2 ص335 وتاريخ مدينة دمشق ج50 ص198 و 202 وسير أعلام النبلاء ج2 ص528 وتاريخ الإسلام للذهبي ج2 ص654 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج5 ص30 والسيرة النبوية لابن هشام (ط مكتبة محمد علي صبيح) ج4 ص959 والسيرة النبوية لابن كثير ج4 ص11 والمصنف للصنعاني ج5 ص399 وصحيح ابن حبان ج8 ص157 والمعجم الكبير للطبراني ج19 ص43 و 48 وإمتاع الأسماع ج2 ص80 وكتاب التوابين لابن قدامة ص96 وعيون الأثر ج2 ص254 وتفسير أبي السعود ج4 ص93 وتفسير الآلوسي ج11 ص43 والثقات لابن حبان ج2 ص100.

([2]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص442 وجامع البيان للطبري ج10 ص190 وتاريخ الأمم والملوك ج2 ص368 وتاريخ الإسلام للذهبي ج2 ص631 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج5 ص10 والسيرة النبوية لابن هشام (ط مكتبة محمد علي صبيح) ج4 ص946 وشـرح إحقـاق الحـق (الملحقات) = = ج22 ص388 وتفسير الثعلبي ج5 ص51 وأسباب نزول الآيات ص166 وتفسير البغوي ج2 ص298 وتفسير البحر المحيط ج5 ص50 والطبقات الكبرى لابن سعد ج2 ص165 وتاريخ مدينة دمشق ج2 ص31 وإمتاع الأسماع ج2 ص50 وعيون الأثر ج2 ص254.

([3]) السيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج3 ص102 وإمتاع الأسماع ج2 ص50 وتاريخ مدينة دمشق ج2 ص36 وسبل الهدى والرشاد ج5 ص442 و443 عن ابن إسحاق والواقدي، وابن سعد، وراجع الهوامش السابقة.

([4]) الآيات 86  ـ 93 من سورة التوبة.

([5]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص440 و 441 عن الواقدي وابن سعد، وإمتاع الأسماع ج2 ص50 وأعيان الشيعة ج1 ص282 وعيون الأثر ج2 ص254.

 
   
 
 

موقع الميزان