تقول رواية لخصناها:
إن علياً «عليه السلام» انصرف إلى المدينة يَقْصِد في
السير، وأبطأ الوحي عن النبي «صلى الله عليه وآله» في أمر علي «عليه
السلام»، وما كان منه، فاغتم لذلك غماً شديداً..
وكان من عادته «صلى الله عليه وآله» أنه إذا صلى الغداة
استقبل القبلة، واستقبل علي «عليه السلام» الناس خلف النبي «صلى الله
عليه وآله»، فيستأذنون في حوائجهم، وبذلك أمرهم «صلى الله عليه وآله».
فلما غاب علي «عليه السلام» إلى مكة لم يجعل أحداً مكان
علي «عليه السلام»، بل كان هو نفسه «صلى الله عليه وآله» يستقبل الناس.
فأذن للناس.. فاستأذنه أبو ذر، فأذن له. فخرج يستقبل
علياً «عليه السلام»، فلقيه ببعض الطريق، فالتزمه وقبله، وسبقه إلى
رسول الله «صلى الله عليه وآله» وبشره بقدومه، فقال النبي «صلى الله
عليه وآله» لأبي ذر: «لك بذلك الجنة»([1]).
ثم ركب النبي «صلى الله عليه وآله» وركب معه الناس،
فلما رآه أناخ ناقته، ونزل رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فتلقاه،
والتزمه وعانقه، ووضع خده على منكب علي «عليه السلام».
وبكى النبي «صلى الله عليه وآله» فرحاً بقدومه. وبكى
علي «عليه السلام» معه..
ثم سأله عما صنع، فأخبره، فقال «صلى
الله عليه وآله»:
«كان الله عز وجل أعلم بك مني حين أمرني بإرسالك»([2])..
ونقول:
لفت نظرنا في هذا النص أمور عديدة، فلاحظ منها ما يلي:
1 ـ
إن النظام الذي تحدثت الرواية أنه كان قائماً بالنسبة لاستئذان الناس
نبيهم ليذهبوا في حوائجهم، يشير إلى شدة الضبط والإنضباط الذي يهيء
للقائد الإشراف المباشر والدقيق على حركة الناس معه، ويعطيه القدرة على
التصرف ووضع الأمور في مواضعها، وفق معطيات دقيقة، ومعرفة تفصيلية،
وإشراف على النتائج، وسيكون قراره متوافقاً مع الظروف الموضوعية
القائمة، ومترافقاً مع معطيات النجاح والفلاح.
2 ـ
إن هذا الإجراء من شأنه أن يبلور بصورة عفوية شعوراً لدى كل فرد
بارتباطه الفعلي والمستمر بقائده ورائده، ويعطيه المزيد من الشعور
بالقيمة والأهمية لحضوره ولوجوده، ولحركتهم معه.. وتأثيره في المنظومة
العامة. كما أنه يبعث فيه حيوية، تدفعه للتأثير الإيجابي والفاعل..
3 ـ
وقد أظهر النبي «صلى الله عليه وآله» إهتماماً بالغاً بسلامة علي «عليه
السلام»، حتى صار همّ أبي ذر منصرفاً إلى التعجيل باستجلاء خبر علي
«عليه السلام»، ليدخل السرور على قلب الرسول، معتبراً ذلك من أعظم
القربات.
وقد ظهر مصداق ذلك بالمكافأة التي تلقاها من النبي «صلى
الله عليه وآله» على بشارته بقدومه «عليه السلام»، وهي قوله له: «لك
بذلك الجنة».
وهي مكافأة لم يكن يتوقعها أبو ذر، ولا أحد ممن حضر
وسمع، لأنهم لم يعرفوا علياً «عليه السلام»، ليعرفوا قيمته عند الله
وعند رسوله «صلى الله عليه وآله».. وهو ما أشار إليه «صلى الله عليه
وآله» بقوله: «يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت، وما عرفني إلا الله
وأنت، وما عرفك إلا الله وأنا»([3]).
والمراد المعرفة التامة، أو فقل:
معرفته حق معرفته..
4 ـ
إن استقبال النبي «صلى الله عليه وآله» لعلي «عليه السلام» كان فريداً
لم ير منه مثله، حتى حين قدم عليه جعفر من الحبشة، حيث استقبله «صلى
الله عليه وآله» بخطوات.
ولكنه بالنسبة لعلي «عليه السلام» خرج من المدينة، وركب
راحلته، وسار ما شاء الله أن يسير لاستقباله، ثم هو يضع خده على منكب
على «عليه السلام»، ويبكي علي «عليه السلام»، ويبكي النبي «صلى الله
عليه وآله» فرحاً بقدومه
.
([1])
إقبال الأعمال لابن طاووس ج2 ص40 وبحار الأنوار ج35 ص289.
([2])
بحار الأنوار ج35 ص288 ـ 290 وإقبال الأعمال ج2 ص40.
([3])
راجع: مختصر بصائر الدرجات ص125 والمحتضر للحلي ص78 و 285
ومدينة المعاجز ج2 ص439 ومستدرك سفينة البحار ج7 ص182 وتأويل
الآيات ج1 ص139 و 221 ومشارق أنوار اليقين ص172 ومكيال المكارم
ج1 ص369 وراجع: مناقب آل أبي طالب ج3 ص60 وبحار الأنوار ج39
ص84.
|