صفحة : 48-53   

لا يؤدي عنك إلا علي:

وقد يقال أيضاً:

إذا كان لا يؤدي عن النبي «صلى الله عليه وآله» إلا هو أو علي (أو رجل منه)، فما معنى أن يرسل عشرات الكتب إلى الملوك، وإلى الأشخاص والقبائل، والبلاد والجماعات مع أشخاص من فئات شتى، ليسوا من أهل بيته أصلاً، فإن هذا تبليغ عنه.

ويجاب:

أولاً: لعل المقصود أن أبا بكر لا يؤدي عن النبي «صلى الله عليه وآله» في خصوص هذا المورد الذي يحتاج إلى حزم وصلابة، وإصرار واقتدار، وعزة ومهابة، لا يملكها سوى علي «عليه السلام» حتى كان الطرف الآخر هُم قومه.

ثانياً: المقصود: التبليغ عنه فيما هو من شأنه كمبلغ عن الله، مما يرتبط بالشريعة والكتاب الذي له مساس بالإمامة من بعده، فإن إبرام العهود والمواثيق التي تحدثت الآيات في سورة براءة عنها، وعن تعاهدها بالوفاء، وعقاب ناقضها هي من صلاحيات النبي «صلى الله عليه وآله»، ثم الإمام من بعده، وأين هذا الأمر من بعث الرسل في الحاجات المختلفة إلى هذه الجهة أو تلك؟!

وبعبارة أكثر تفصيلاً: إن حامل الآيات بريد أن يعلن الحرب على من يصر على انتهاك حرمة المسجد الحرام بعد ذلك العام، وإبلاغ قرارات حازمة وحاسمة فيما يرتبط بالشأن العام، بما في ذلك إبطال سنن الجاهلية فيما يرتبط بعرفات .. وإنذار المشركين، وإعطائهم مهلة أربعة أشهر، وأنه لا تجديد لعهد مشرك.

وهي قرارات تمس النبي «صلى الله عليه وآله» والخليفة من بعده مباشرة.. ولا بد من قطع أمل المشركين بالحصول على أي امتياز يقوي موقعهم.

ولعلهم يطمعون بالحصول على بعض التساهل من الخليفة بعد رسول الله إن كان فلان من الناس هو الخليفة، ولا سيما إذا كان قد عاش الشرك ومارسه طيلة عشرات السنين، فإنه لن يكون قادراً على اقناعهم ببراءته الحقيقية مما كان عليه، ولن يكون لكلامه ذلك التأثير فيهم.

أما إن كان الخليفة هو ذلك الذي قصم ظهر الشرك، وأبار أحلامهم، وأبطل كيدهم، فإن الأمر سيكون مختلفاً، لا سيما وأن علياً هو أخو الرسول، وهو منه بمنزلة هارون من موسى، فإرساله بهذه الرسالة إليهم سيقصم ظهورهم، ويميتهم في حسرتهم، ويقطع دابر كل أمل لهم.

ويؤكد هذه الحقيقة الشواهد التالية:

ألف: تقدم: أن بعض الروايات عن علي «عليه السلام» تقول: إنه «صلى الله عليه وآله» كتب الكتاب، وعرض على جميع أصحابه المضي به إلى المشركين، فكلهم يرى التثاقل فيهم، فلما رأى ذلك ندب منهم رجلاً، فوجهه به، فأتاه جبرئيل «عليه السلام»، فقال: يا محمد، لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك، فأنبأني رسول الله «صلى الله عليه وآله» بذلك، ووجهني بكتابه ورسالته إلى مكة الخ..([1]).

ب: صرحت بعض نصوص الرواية بأكثر من ذلك، فعن الإمام الباقر «عليه السلام» قال: لما سرح رسول الله «صلى الله عليه وآله» أبا بكر بأول سورة «براءة» إلى أهل مكة أتاه جبرئيل «عليه السلام»، فقال: يا محمد، إن الله تعالى يأمرك أن لا تبعث هذا، وأن تبعث علي بن أبي طالب «عليه السلام»، وإنه لا يؤديها عنك غيره..

فأمر النبي «صلى الله عليه وآله» علي بن أبي طالب «عليه السلام»، فلحقه، فأخذ منه الصحيفة، وقال: ارجع إلى النبي.

فقال أبو بكر : هل حدث في شيء؟!.

فقال: سيخبرك رسول الله.

فرجع أبو بكر إلى النبي «صلى الله عليه وآله»، فقال: يا رسول الله، ما كنت ترى أني مؤد عنك هذه الرسالة؟!.

فقال له النبي «صلى الله عليه وآله»، أبى الله أن يؤديها إلا علي بن أبي طالب «عليه السلام».

فأكثر أبو بكر عليه من الكلام، فقال له النبي «صلى الله عليه وآله»: كيف تؤديها وأنت صاحبي في الغار؟!([2]).

فإن قوله الأخير: «كيف تؤديها وأنت صاحبي في الغار»، قد جاء على سبيل التقريع والتشنيع والذم، وبيان السبب والمبرر لهذا الإجراء.

ولعل الوجه في ذلك: أن أبا بكر كان في الغار خائفاً فزعاً، إلى حد أن هذا الجزع كان له من الأثر السلبي الخطر وما أوجب نزول قرآن يندد به، ويتلى إلى يوم القيامة.. مع أنه كان يرى الآيات الدالة على حفظ الله تعالى لنبيه «صلى الله عليه وآله»، مثل نسج العنكبوت، ونبات شجرة السدر، ووضع الحمامة الوحشية بيضها، ووقوفها على باب الغار.

ومع وجوده إلى جانب النبي «صلى الله عليه وآله».

ومع تطمينات نبي الرحمة له.

ومع عدم علم أحد من المشركين بمكانهما. و.. و.. إلى غير ذلك مما يشير إلى أنه في مأمن.. ولكنه بقي مرعوباً وخائفاً إلى هذا الحد، فكيف سيكون حاله إذاً أمام مئات أو ألوف من الناس، ممن يعرفون مكانه، وهو في بلدهم وفي قبضتهم، وجموعهم تحيط به، وليس النبي «صلى الله عليه وآله» إلى جانبه، ليهدئ من روعه، وهو ليس ممن تظهر الآيات والمعجزات المطمئنة له.

مع العلم: بأن أولئك القوم قد أصبحوا موتورين من الإسلام، الذي قتل صناديدهم، وآباءهم، وإخوانهم، وأبناء عشائرهم، وفتح بلادهم، وغنم أموالهم..

ج: لماذا يخاف أبو بكر من أهل مكة ، فإنه لم يكن له أثر في ساحات القتال والنزال، بل كان من الفرارين، أو كان على رأسهم في كل موقع فر فيه أولئك الضعفاء كما جرى في أحد ، وقريظة ، وخيبر ، وحنين ، وذات السلاسل، وفدك و.. و..

وكان هو الساعي لفك أسرى المشركين في بدر .. ثم كان من المتخاذلين يوم عمرو بن عبد ود، ومن المخذلين يوم بدر ، ولم يعرف له قتيل ولا جريح في أي من الحروب التي واجهها المسلمون في حياة الرسول.

على أنهم قد زعموا في مقابل ذلك: أن أبا بكر لم يتعرض للتعذيب في مكة ، لأنه كان محبباً للمشركين، مقرباً إليهم.. وهو أول من بنى مسجداً في بني جمح  ـ على حد زعمهم ـ في الوقت الذي كان المسلمون يعذبون فيه حتى الموت، نساء ورجالاً، كما جرى لياسر وسمية والدي عمار رضوان الله تعالى عليهم..

وهو الآن قد أصبح أكثر قرباً من الكثيرين من أهل مكة  الذين كانوا من قومه، أو من إخوانه وأحبائه في الأيام الخالية، وقد أظهروا الإسلام الآن..

فإن ذلك كله يشير إلى أن احتمال الخطر على أبي بكر يكاد يلحق بالعدم..

د: أما علي «عليه السلام» فهو الذي أبار صناديدهم، وأكذب أحدوثتهم، وكانوا يتربصون به الدوائر، ويبغون له الغوائل، ومراجل حقدهم تغلي عليه أشد الغليان.

وهذا يدلنا على أن موقف علي «عليه السلام» هو الأصعب، وأن الخطر عليه أعظم، ولا سيما إذا واجههم بهذا القرار الحاد المتضمن للتهديد بالقتل، والوعيد بالحرب الضروس، فإن ذلك لا بد أن يستفزهم، ويثير حفيظتهم، فإذا وجدوه وحيداً بينهم، وفي عقر دارهم وموضع قوتهم، ومحل اجتماعهم، فلربما بادروا إلى الإنتقام منه، إن لم يكن بالعلن، فإنهم سوف يغتالونه بالسر ولن يجرؤ أحد من بني هاشم ، أو من غيرهم على إظهار نفسه، في هذه المعمعة الهائلة التي لن يكون حصادها إلا الدمار والبوار.

قد يقال:

أولاً: قد يرى البعض: أن تثاقل أبي بكر عن إجابة طلب الرسةل «صلى الله عليه وآله» قد سهل القرار بعزله عن أدائها، لا سيما إذا كان ظهر: أن استمراره في المهمة قد يساعد بعض الناس على اتخاذ ذلك ذريعة لإضفاء صفات من العظمة والقداسة عليه، ترغِّب الناس بتأييده، أو تجعلهم يتقبلون سعيه لنيل مقام الخلافة الذي صرح الله ورسوله بأنه لغيره.. ويسهل عليهم غض الطرف على ما صدر منه من تصرفات في سياق هذا المقام من صاحه الشرعي..

ثانياً: ويبقى هنا سؤال عن سبب فرض النبي «صلى الله عليه وآله» على أبي بكر القيام بهذه المهمة، ثم عزله عنها، أر يعد ذلك ظلماص له؟! فإن كان ذلك لأجل أنه لا يؤدي عن النبي «صلى الله عليه وآله» إلا هو أو رجل منه، فلماذا ألزمه بالمهمة؟!

إلا إن قيل: أنه «صلى الله عليه وآله» لم يكن يعرف بهذا الحكم، أو لأنه «صلى الله عليه وآله» لم يكن يعرف مؤهلات أبي بكر، وأنه غير قادر على أداء المهمة بالنحو الذي يرضي الرسول «صلى الله عليه وآله»، فهل حمل النبي «صلى الله عليه وآله» أبا بكر فوق طاقته؟! أم أن الأمر خطة إلهية لتعريف الناس بأن ما يدبر له أبي بكر ما هو إلا تعد على الله ورسوله، فاستحق بذلك تعريف الناس بأمره، لكي لا ينساقوا معه، ولينال هو جزاء على سعيه ذاك غير المشروع..


 

([1]) الخصال ج2 ص369 وبحار الأنوار ج35 ص286 وج38 ص171 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج3 ص128 وشرح الأخبار ج1 ص304 والإختصاص للمفيد ص168 وإقبال الأعمال ج2 ص37 وحلية الأبرار ج2 ص365 ونور الثقلين ج2 ص178.

([2]) إقبال الأعمال ج2 ص39 وبحار الأنوار ج35 ص288.

 
   
 
 

موقع الميزان