وقد جاءت الخطوة النبوية التالية لتفسد عليهم ما دبروه،
وهي المبادرة إلى الخروج من مكة
، فإنه
بعد أن انتهى النبي «صلى الله عليه وآله» من أداء المناسك وبعد نفره من
منى
.. قيل: دخل
مكة
، وطاف
بالبيت، وبقي إلى صباح اليوم التالي، ثم ارتحل([1]).
ولكن هذا غير دقيق ولا صحيح، بل الصحيح المروي عن أهل
البيت «عليهم السلام» هو أنه لم يطف بالبيت ولا زاره، بل نفر حتى انتهى
إلى الأبطح، فطلبت عائشة
العمرة، فأرسلها، فاعتمرت، ثم أتت النبي «صلى الله عليه وآله»، فارتحل
من يومه، ولم يدخل المسجد الحرام
، ولم
يطف بالبيت([2]).
وكان هذا آخر عهد بالبيت والمسجد الحرام.
وقولهم:
إنه صلى الصبح ثم طاف بالبيت سبعاً، ووقف في الملتزم وبين الركن الذي
فيه الحجر الأسود، والزق جسده بجدار الكعبة.. ثم ارتحل.
غير دقيق أيضاً..
فقد روي عن جابر
قال:
خرج رسول الله
«صلى الله عليه وآله» من مكة
عند
غروب الشمس، وصلى المغرب في سرف([3]).
مما يعني:
أن وقوفه في الملتزم، وإلزاق جسده بجدار الكعبة لم يحصل، وإن كان قد
حصل، فلا بد أن يكون إما قبل النفر من منى
، أو
في عمرة القضاء.
ولا بد أن يفاجئ الناس هذا الإجراء النبوي، وهم الذين
يعلمون أنه «صلى الله عليه وآله» أحرص الناس على تعظيم البيت،
والإلتزام بالسنن فيه..
نعم..
إن مبادرته «صلى الله عليه وآله» للخروج من مكة
لا بد
أن تثير الهواجس الكثيرة، وستنهال الأسئلة الغزيرة عن سبب ذلك.. وسيدرك
الجميع أنه لو لم يكن ثمة ما هو أخطر لما فعل «صلى الله عليه وآله»،
وسيراقبون حركته بدقة، وسيتوقعون ما يكون منه، وسيدققون في دلالاته
ومراميه، وسيربطون ذلك بما حصل في عرفة
، ولو
بنحو غائم.. إلى أن تنجلي لهم الأمور بموقفه العظيم في يوم الغدير
.. كما
سنرى.
وأما السبب في هذا كله، فهو أنه
«صلى الله عليه وآله» كان يعلم:
أن أي تأخير سيكون معناه: أن يخرج أشتات من الناس إلى بلادهم، ولا
يتمكن النبي «صلى الله عليه وآله»، من إيصال ما يريد إيصاله إليهم..
أما حين يخرج «صلى الله عليه وآله» معهم، فمن الطبيعي
أن يتقيدوا في مسيرهم بمسيره «صلى الله عليه وآله»، والكون في ركابه،
إما حياءً، أو طلباً لليسر والأمن، والبركة، والكون إلى جانبه أكبر قدر
ممكن من الوقت، والفوز بسماع توجيهاته.
هذا..
وقد قطع «صلى
الله عليه وآله» المسافة ما بين مكة
والجحفة، حيث غدير خم
ـ وهي عشرات الأميال ـ في أربعة أيام فقط، مع أنه كان
يسير في جمع عظيم تبطئ كثرته حركته..
([1])
السيرة النبوية لابن كثير ج4 ص406 و 407 و 410 و 411 والمغازي
للواقدي ج3 ص1114 وراجع: مغني المحتاج ج1 ص472. والسيرة
الحلبية (ط سنة 1391 هـ) ج3 ص307 و (ط دار المعرفة) ج3 ص334
والمجموع ج4 ص363 وج8 ص249 وتحفة الأحوذي ج3 ص90 ومصادر كثيرة
من كتب أهل السنة.
([2])
الكافي ج4 ص248 وبحار الأنوار ج21 ص393 وج96 ص327 وراجع: تهذيب
الأحكام ج5 ص275 و 457 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج11
ص217 و 218 وج14 ص284 و (ط دار الإسلامية) ج8 ص153 وج8 ص154
وج10 ص229 ومستطرفات السرائر لابن إدريس ص553 وجامع أحاديث
الشيعة ج10 ص355 و 455 وج12 ص207 ومنتقى الجمان ج3 ص125
والحدائق الناضرة ج14 ص319.
([3])
راجع: مسند أحمد ج3 ص305 والمعجم الأوسط للطبراني ج2 ص134
والجامع لأحكام القرآن ج10 ص305 والسيرة النبوية لابن كثير ج4
ص412 وكنز العمال (ط مؤسسة الرسالة) ج8 ص247.
|