صفحة : 199-201   

قبل أن يبدأ النبي صلى الله عليه وآله خطبته:

بعد ما جرى في عرفات ، وإلى أن بلغ النبي «صلى الله عليه وآله» غدير خم ، خطب الناس مرات عديدة وجرت أحداث لها العديد من الإشارات والدلالات، ونذكر من ذلك:

ألف: إن النبي «صلى الله عليه وآله» حين خطب بمنى اسمع الله الناس كلهم صوته، لتكون هذه المعجزة تذكيراً للناس بالهيمنة والتصرف الإلهي، لكي لا يظنوا أن ما جرى في عرفة دليل على قوة أولئك المتجرئين وضعف في النبي «صلى الله عليه وآله».. ولكي يعرفوا أن الله تعالى لم يعاملهم بعدله، وإنما عاملهم بحِلمه..

أي أنه إنما سكت عنهم رحمة بهم، وتكرماً وتفضلاً عليهم، وذلك يزيد في ظهور قبح عملهم، ولا بد أن يؤكد سر النبوة، ونبل وخلق الأصفياء، والأطياب من أهل الله تبارك وتعالى..

ب : ثم كانت مبادرته «صلى الله عليه وآله» للخروج من مكة بمجرد نفره من منى ، فلم يطف بالبيت، ولم يدخل المسجد الحرام أصلاً، ولو لإلقاء نظرة الوداع على أحب الأمكنة إليه..

ج : ثم قطع المسافة بين مكة والجحفة ، ثم غدير خم في مدة أربعة أيام، مع أن عائشة بذلت محاولة لإعاقته «صلى الله عليه وآله» عن مقصده هذا، حيث أصرت عليه أن يعمرها عمرة مفردة، فأخبرها بأن طوافها بالبيت، وبالصفا والمروة قد أجزأ عن حجها وعمرتها، فأبت إلا أن تعتمر، فأرسلها مع أخيها إلى التنعيم لتعتمر منه، وواعدها أن تلقاه في مكان كذا وكذا..([1]).

د: إن حبس النبي «صلى الله عليه وآله» المتقدمين في غدير خم ، وانتظاره المتأخرين قد عرَّف الناس أن ثمة أمراً يريده النبي «صلى الله عليه وآله» منهم، حيث إنه لم يفعل ذلك إلا هذه المرة.. فهو لم يتركهم يجتمعون في بعض المنازل، ثم يقوم فيهم خطيباً، بصورة مفاجئة، لأنهم قد يتلقَّون ذلك على أنه أمر عادي من نبي يريد ان يعظ قومه، وأن ينصحهم، فلا يهتمون بالإصغاء إليه، وقد يخطر على بال بعضهم أن يذهب للإستراحة، أو لأي حاجة أخرى.

كما أن الكثيرين منهم قد لا يبلغهم أن النبي «صلى الله عليه وآله» يريد أن يخطبهم، أو لا يبلغه خبر ذلك إلا بعد أن ينتهي الأمر، ولعل أحداً لا يعرف بما جرى أصلاً.

وخلاصة الأمر: إن هذا التصرف منه «صلى الله عليه وآله» لا بد أن يثير فيهم الرغبة للتدقيق فيما يجري، وسيجعلهم ذلك أشد انتباهاً وتيقظاً، وسعياً لتحليل الحدث وفهم معانيه ومراميه.. وستفقد سائر الصوارف قدرتها على التأثير في درجة اهتمامهم به..

هـ: ومما يضاعف شعورهم بخطورة وأهمية الحدث الذي ينتظرونه: أن هذا الإجراء قد جاء في حر الهاجرة، التي يصفها زيد بن أرقم بقوله: «ما أتى علينا يوم كان أشد حراً منه»([2]) مع أنه «صلى الله عليه وآله» أرأف الناس بالناس، وأشدهم عطفاً عليهم، وقد وصفه الله بقوله: ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ([3])، أي يعز عليه أدنى تعب ينالكم مهما كان قليلاً وضئيلاً..

و: ويتأكد ما ذكرناه: أنه «صلى الله عليه وآله» منعهم من النزول تحت دوحات خمس كانت هناك، وهي دوحات عظام متقاربات، وقد أمر بإزالة الشوك، وتمهيد المكان هناك..

وهذا يدل على أن عليهم أن ينتظروا حدثاً من نوعٍ مّا عند تلك الشجرات، ولا بد أن تبقى تلك الشجرات وما حدث عندها ماثلة في عمق وجدان وذاكرة الناس كل الناس..

حيث إنه في ذلك المكان بالذات نودي بالصلاة، فعمد «صلى الله عليه وآله» إليهن، فصلى بالناس تحتهن، ثم نصب لهم علياً «عليه السلام» ولياً وإماماً([4]).


 

([1]) سبل الهدى والرشاد ج8 ص484 وراجع: نيل الأوطار ج5 ص59 ومسند أحمد ج6 ص122 و 43 وصحيح البخاري (ط دار الفكر) ج2 ص151 و 196 و 201 و 202 وصحيح مسلم (ط دار الفكر) ج4 ص32 و 33 وسنن النسائي ج5 ص178 وعمدة القاري ج9 ص195 وج10 ص98 و 123 و 125 ومسند ابن راهويه ج3 ص862 والسنن الكبرى للنسائي ج2 ص366 و 474 وشرح معاني الآثار ج2 ص202 و 203 وتغليق التعليق ج3 ص114 وصحيح ابن خزيمة ج4 ص339 وسبل السلام ج2 ص187 والسنن الكبرى للبيهقي ج4 ص331 والمصنف لابن أبي شيبة ج4 ص231 والطبقات الكبرى لابن سعد ج2 ص189.

([2]) المستدرك للحاكم ج3 ص533 وخلاصة عبقات الأنوار ج7 ص248 وج9 ص83 والغدير ج1 ص32 والمعجم الكبير ج5 ص171 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج4 ص438 وج18 ص271 ومناقب الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» للكوفي ج2 ص440 وراجع: شرح الأخبار ج1 ص99 .

([3]) الآية 128 من سورة التوبة.

([4]) الفصول المهمة لابن الصباغ ص241 والغدير ج1 ص10 و 26 و 27 عن مصادر كثيرة أخرى، والبداية والنهاية ج5 ص209 وج7 ص348 وتاريخ مدينة دمشق ج12 ص226 والصواعق المحرقة ص43. وراجع: كتاب الأربعين للماحوزي ص139 وخلاصة عبقات الأنوار ج7 ص155 و 156 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج6 ص342 ونظرة إلى الغدير للمروج الخراساني ص53 وغاية المرام ج1 ص299 وكشف المهم في طريق خبر غدير خم ص147.

 
   
 
 

موقع الميزان