صفحة : 287-311   

لماذا قدم آية الإكمال؟!:

قد يقال: إن المصلحة في هذا التقديم هي حفظ الإمامة، وحفظ إيمان الناس، وتيسير سبل الهداية لهم، ثم حفظ القرآن عن أن تمتد إليه يد التحريف.

وتوضيح ذلك باختصار شديد: أن الدعوة لا بد أن تواجه بالشدة والعنف من قبل الطغاة والجبارين، ولا بد من قتالهم لمنع بغيهم، ودفع شرهم، وهذا يضع الرسول أمام عدة خيارات هي:

الخيار الأول: أن يباشر النبي القتال بنفسه، فيقتل المعتدين، ومن يعاونهم في عدوانهم..

وهذا يعني: أن لا تصفو نفوس ذويهم له، وأن لا يتمكن حبه «صلى الله عليه وآله» من قلوبهم، فضلاً عن أن يكون أحب إليهم من كل شيء حتى من أنفسهم!!.. كما يفرضه الإلتزام بالإسلام، والدخول في دائرة الإيمان..

وسوف تتهيأ الفرصة أمام شياطين الإنس والجن لدعوة هؤلاء الموتورين إلى خيانته، والكيد له، والتآمر عليه، ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً..

كما أنهم إذا ما اتخذوا ذلك ذريعة للعزوف عن إعلان إسلامهم واستسلامهم.. فإنهم سوف يمنعون الكثيرين ممن له اتصال بهم، من أبناء وأرحام، وأقوام، وحلفاء وأصدقاء، من التعاطي بحرية وبعفوية مع أهل الإيمان، ثم حرمانهم وحرمان من يلوذ بهم من الدخول الجدي في المجتمع الإسلامي، والتفاعل معه، والذوبان فيه.

وإذا لم تصف نفوس بعض الناس، ولم يتمكن حب النبي «صلى الله عليه وآله» من قلوبهم بل اتسع النفاق، وارتد بعضهم واضطهدوا آل رسول الله «صلى الله عليه وآله» بسبب ذلك. فإن ذلك لا ينقض ما قلناه لأن ذلك إنما نشأ عن العناد والاستكبار عن قبول الحق، ولأجل مطامع دنيوية وأمراض قلبية. ويدل على ذلك: أن كثيرين غير هؤلاء قد استجابوا للحق، ولم يحملوا غلاً في صدورهم، وأصبحوا من خيرة الناس، قد أحبوا الله ورسوله حسب ما تيسر لكل منهم.

الخيار الثاني: أن يتولى ذلك الآخرون من رجال القبائل المختلفة، مع احتفاظه «صلى الله عليه وآله» بأهل بيته وذوي قرابته.

وهذا سوف يثير لدى الناس أكثر من سؤال، ويضعف عامل الثقة، وقد يؤثر سلباً على اعتقاد الناس بالنبوة، وعلى درجة الإنقياد لها.. ولا أقل من عروض الكدورة على صفاء النوايا، وانحسار الرغبة في التضحية حين يقتضي الأمر ذلك..

مع ملاحظة: أن الناس لا يزالون قريبي عهد بجاهليتهم، ولم يتم اقتلاع مفاهيمها بعد بصورة كاملة، ولم يقطع الناس أشواطاً كبيرة في مسيرة السمو الروحي، والإخلاص لله فيما يحجمون عنه، أو يقدمون عليه..

بل قد يؤسس ذلك لأحقاد بين الفئات والقبائل المختلفة، تنتهي إلى عمليات ثأرية متبادلة.. وسينتهي الأمر بالتمزق والتشرذم، والسقوط في مستنقع الجريمة، ثم في أحضان الرذيلة بأبشع الصور، وأخبثها..

ولذلك نجد أمير المؤمنين «عليه السلام» يعمل على أن يقابل كل قبيلة بأختها من نفس القبيلة، فيقابل تميم الشام بتميم العراق  ، وربيعة الشام بربيعة العراق ([1])، وهكذا سائر القبائل، لا لأجل أنه يتعامل بمنطق العشيرة والقبيلة.. فإن سيرته خير شاهد على خلاف ذلك، بل لأنه يريد:

أولاً: أن لا يمعن الناس في قتل بعضهم بعضاً، لأن المهم عنده هو وأد الفتنة بأقل قدر من الخسائر..

الثاني: يريد أن لا تكون هناك ثارات يطلبها أهل القبائل من بعضهم البعض، فإن حصر الأمور بين أفراد القبيلة الواحدة يصعِّب الأخذ بالثأر، ويهيء لصرف النظر عن ذلك بالكلية.

الخيار الثالث: أن يدفع «صلى الله عليه وآله» بأهل بيته الأطهار ليكونوا هم حماة هذا الدين، من دون حرمان غيرهم من العمل بتكليفهم الشرعي، فكان علي «عليه السلام» هو القائد والرائد، والمضحي، والناصر والمحامي عن نبيه، والقاتل لأعداء هذا الدين وأهله، وكان أهل البيت «عليهم السلام» هم شهداء هذه الأمة، وقوام وحدتها، وحفظة عزتها وكرامتها.

وإذا ما سعى الموتورون للإنتقام من علي «عليه السلام» وذريته، وتآمروا عليهم، ومكروا بهم، فلن يجدوا عندهم سوى الرفق والصبر، وقد جرت الأمور على هذا المنوال بالفعل، ولذلك لم يجد الناس أي رغبة بالجحود، والعناد الظاهر للدين، وإعلان الخروج منه، أو إبطان الحقد على رسول الله «صلى الله عليه وآله»، أو السعي لتحريف كتاب الله.

فالأخذ بهذا الخيار يجسد رحمة الله للناس، والرفق بهم، وتيسير الإيمان لهم، ولذرياتهم، ومن يلوذ بهم..

ولعل هذا هو السبب في أن إسم علي «عليه السلام» لم يذكر في القرآن، مع كثرة ذكره للأمور التي تؤكد فضله «عليه السلام»، وتبين عظيم منزلته، كآية النجوى، والتصدق بالخاتم وهو راكع، وآية إكمال الدين، وغير ذلك من آيات ترتبط بالإمامة..

وقد قيل للإمام الصادق «عليه السلام»: إن الناس يقولون: فما له لم يسمّ علياً وأهل بيته «عليهم السلام» في كتاب الله عز وجل؟!

فقال: قولوا لهم: إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» نزلت عليه الصلاة، ولم يسم الله لهم ثلاثاً، ولا أربعاً، حتى كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» هو الذي فسر ذلك لهم.

ونزلت عليه الزكاة ولم يسم لهم من كل أربعين درهماً درهم، حتى كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» هو الذي فسر ذلك لهم..

ونزلت: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأولِي الأمْرِ مِنْكُمْ([2]).. ونزلت في علي والحسن والحسين «عليهم السلام» ـ فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» في علي «عليه السلام»: من كنت مولاه فعلي مولاه..

وقال «صلى الله عليه وآله»: أوصيكم بكتاب الله، وأهل بيتي، فإني سألت الله عز وجل أن لا يفرق بينهما، حتى يوردهما علي الحوض، فأعطاني ذلك..

وقال: لا تعلّموهم فهم أعلم منكم.

وقال: إنهم لن يخرجوكم من باب هدى، ولن يدخلوكم في باب ضلالة..

فلو سكت رسول الله «صلى الله عليه وآله» فلم يبين مَنْ أهل بيته «عليهم السلام»، لادّعاها آل فلان، وآل فلان. لكن الله عز وجل، أنزله في كتابه تصديقاً لنبيه «صلى الله عليه وآله»: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً([3]).. فكان علي والحسن والحسين ، وفاطمة «عليهم السلام»، فأدخلهم رسول الله «صلى الله عليه وآله» تحت الكساء في بيت أم سلمة الخ([4])..


 

([1]) وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص229 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج5 ص186 وراجع: أنساب الأشراف ج2 ص305 والفتوح لابن أعثم ج3 ص141 وراجع ج2 ص299 وتاريخ الأمم والملوك ج4 ص9 وفيه: أن علياً >عليه السلام< سأل أولاً عن قبائل الشام، فلما أخبروه اتخذ قراره ذاك.

([2]) الآية 59 من سورة النساء.

([3]) الآية 33 من سورة الأحزاب.

([4]) راجع: الكافي ج1 ص287 و 288 والتفسير الصافي ج1 ص462 وج4 ص188 وج6 ص43 عنه، وعن العياشي، وراجع: نور الثقلين ج1 ص502 وج4 ص274 وتفسير فرات ص111 وكنز الدقائق ج3 ص441 و442 و (مؤسسة النشر الإسلامي) ج2 ص497 وشرح أصول الكافي ج6 ص109 وبحار الأنوار ج35 ص211 وجامع أحاديث الشيعة XE "الشيعة:جماعات"  ج1 ص187 وتفسير الميزان ج4 ص411 وغاية المرام ج2 ص352 وج3 ص110 و 193.

 
   
 
 

موقع الميزان