صفحة : 125-154  

3- الفصل الأول:

         علي في سورة هل أتى..

 - سورة هل أتى:

روى ابن بابويه قال: حدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد عبد العزيز بن يحيى الجلودي، قال: حدثنا محمد بن زكريا، قال: حدثنا شعيب بن واقد، قال: حدثنا القاسم بن بهرام، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس.

وحدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد عبد العزيز بن يحيى الجلودي، قال: حدثنا الحسن بن مهران، قال: حدثنا سلمة بن خالد، عن الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه «عليهما السلام» في قول الله عز وجل: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ([1] قال: «مرض الحسن والحسين «عليهما السلام» وهما صبيان صغيران، فعادهما رسول الله «صلى الله عليه وآله» ومعه رجلان، فقال أحدهما: يا أبا الحسن، لو نذرت في ابنيك نذراً لله إن عافاهما الله.

فقال: أصوم ثلاثة أيام شكراً لله عز وجل، وكذلك قالت فاطمة «عليها السلام».

وقال الصبيان: ونحن أيضاً نصوم ثلاثة أيام، وكذلك قالت جاريتهم فضة.

فألبسهما الله العافية، فأصبحوا صائمين وليس عندهم طعام.

فانطلق علي «عليه السلام» إلى جار له من اليهود، يقال له: شمعون، يعالج الصوف، فقال: هل لك أن تعطيني جزة من صوف تغزلها لك ابنة محمد بثلاثة أصوع من شعير.

قال: نعم.

فأعطاه، فجاء بالصوف والشعير، وأخبر فاطمة «عليها السلام»، فقبلت وأطاعت. ثم عمدت فغزلت ثلث الصوف. ثم أخذت صاعاً من الشعير فطحنته وعجنته، وخبزت منه خمسة أقراص، لكل واحد منهم قرص.

وصلى علي «عليه السلام» مع النبي «صلى الله عليه وآله» المغرب، ثم أتى منزله، فوضع الخوان، وجلسوا خمستهم، فأول لقمة كسرها علي «عليه السلام» إذا مسكين قد وقف بالباب، فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد، أنا مسكين من مساكين المسلمين أطعموني مما تأكلون أطعمكم الله على موائد الجنة.

فوضع اللقمة من يده ثم قال:

فـاطـم ذات الـمـجــد واليـقــين           يـا بـنـت خـير النـاس  أجـمعـين
أمـا تـريـن البـائـس المــســكـين                جـاء إلى الـبــاب لـــه حـنــيــن
يـشـكــو إلى الله ويـســتــكــين          يـشــكــو إلـيـنـا جـائـع حـزين
كـل امــرء بـكـســـبــه رهــين           مـن يـفـعـل الخــيــر غـداً يـدين
مــوعـــده في جــنــة رهــــين           حـرمـهــا الله عـــلى الـضـنـيــن
وصـاحـب البـخل يقف  حزيـن           تـهـوي بــه الـنــار إلى سـجـيـن
شـرابــه الحـمـيــم والغسلــين          يـمـكـث فـيـه الـدهـر والـسـنين

فأقبلت فاطمة «عليها السلام» تقول:

أمـرك سـمـع يـا بن  عم وطاعـة                مــا بــي مـن لـؤم ولا  ضـراعــة
غـذيـت بالـلـــب  وبالـبراعــة           أرجـو إذا أشـبـعـت مـن مجـاعـة
إذن ألحـق الأخـيـار  والجـماعــة               وأدخــل الـجــنـة فـي شـفـاعـة

وعمدت إلى ما كان على الخوان فدفعته إلى المسكين، وباتوا جياعاً، وأصبحوا صياماً لم يذوقوا إلا الماء القراح.

ثم عمدت إلى الثلث الثاني من الصوف فغزلته، ثم أخذت صاعاً من الشعير، فطحنته وعجنته، وخبزت منه خمسة أقراص لكل واحد قرص.

وصلى علي «عليه السلام» المغرب مع النبي «صلى الله عليه وآله» ثم أتى إلى منزله، فلما وضع الخوان بين يديه وجلسوا خمستهم، فأول لقمة كسرها علي «عليه السلام» إذا يتيم من يتامى المسلمين قد وقف بالباب، فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد، أنا يتيم من يتامى المسلمين، أطعموني مما تأكلون أطعمكم الله على موائد الجنة.

فوضع علي «عليه السلام» اللقمة من يده، ثم قال:

فاطـم بـنـت السـيـد  الكــريــم           بـنـت نـبـي لـيــس بـالـزنــيــم
قـد جـائـنــا الله بـذا الـيـتــيــم            مـن يـرحـم الـيـوم فـهـو  رحيـم
مـوعـده فـي جـنــة الـنـعــيـم            حــرمــهــا الله عـلـى الـلـئـيــم
وصـاحـب البخـل يقف ذميــم            تـهـوي بـه الـنـار إلـى الجـحـيـم
شــرابــه الـصـديـــد والـحـمـيـــم

فأقبلت فاطمة «عليها السلام» تقول:

فـسـوف أعـطـيـه ولا  أبــــالي          وأوثـــر الله عــلــى عــيــالــي
أمـسـوا جـيـاعـاً وهـم  أشبـالي         أصـغـرهـمــا يـقـتـل في  القـتال
بـكـربـلاء يـقـتـل  باغـتـيــال             لـقـاتـلـيـه الـويــل مــع  وبــال
تـهـوي بــه الـنــار إلى سفــال          كـبـولـــه زادت عـلى  الأكـبــال

ثم عمدت، فأعطته جميع ما على الخوان، وباتوا جياعاً لم يذوقوا إلا الماء القراح، فأصبحوا صياماً.

وعمدت فاطمة «عليها السلام» فغزلت الثلث الباقي من الصوف، وطحنت الصاع الباقي وعجنته، وخبزت منه خمسة أقراص، لكل واحد منهم قرص، وصلى علي «عليه السلام» المغرب مع النبي «صلى الله عليه وآله» ثم أتى منزله، فقرب إليه الخوان، فجلسوا خمستهم، فأول لقمة كسرها علي «عليه السلام» إذا أسير من أسراء المشركين قد وقف بالباب، فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد، تأسروننا وتشدوننا ولا تطعموننا!!

فوضع علي «عليه السلام» اللقمة من يده، ثم قال:

فاطـم يا بـنــت الـنـبـي أحـمـد           بـنـت نـبـي ســـيــد مــســـود
قـد جـائـك الأسـير ليـس يهتـد           مـكـبــــلاً فـــي غـلـه مـقـيــد
يشـكـو إلـيـنـا الجـوع قـد تقدد           مـن يـطـعـم الـيـوم يجـده في غـد
عـنـد الـعـلي الـواحـد المـوحـد          مـا يـزرع الـزارع سـوف يحـصـد
فأطـعـمـي مـن غـير مـنٍ أو نـكــد

فأقبلت فاطمة «عليها السلام» وهي تقول:

لـم يـبـق ممـا كـان غـير صـــاع                 قـد دبــرت كـفـي مـع الـــذراع
شـبــلاي والله هـمــا  جـيـــاع           يـا رب لا تـــتركـهــما ضــيــاع
أبـوهــما للخـير ذو اصـطـنــاع          عـبـل الــذراعـين طـويـل  البـاع
ومـا عـلى رأســي مـن قـنـــاع          إلا عـبـــاء نـسـجـهــا  بـصــاع

وعمدوا إلى ما كان على الخوان، فأعطوه، وباتوا جياعاً، وأصبحوا مفطرين وليس عندهم شيء.

قال شعيب في حديثه: وأقبل علي «عليه السلام» بالحسن والحسين «عليهما السلام» نحو رسول الله «صلى الله عليه وآله» وهما يرتعشان كالفراخ من شدة الجوع، فلما بصر بهم رسول الله «صلى الله عليه وآله» قال: يا أبا الحسن، أشد ما يسؤني ما أرى بكم. انطلق إلى ابنتي فاطمة «عليها السلام».

فانطلقوا إليها وهي في محرابها قد لصق بطنها بظهرها من شدة الجوع، وغارت عيناها، فلما رآها رسول الله «صلى الله عليه وآله» ضمها إليه وقال: «وا غوثاه، بالله أنتم منذ ثلاث فيما أرى»!!

فهبط جبرائيل «عليه السلام»، فقال: «يا محمد، خذ ما هيأ لك في أهل بيتك».

فقال: وما آخذ يا جبرائيل؟!

قال: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً حتى بلغ: ﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً([2]).

وقال الحسن بن مهران في حديثه: فوثب النبي «صلى الله عليه وآله» حتى دخل منزل فاطمة «عليها السلام»، فرأى ما بهم، فجمعهم ثم انكب عليهم يبكي، وقال: «أنتم منذ ثلاث فيما أرى، وأنا غافل عنكم».

فهبط جبرائيل بهذه الآيات: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً([3]).

قال: هي عين في دار النبي «صلى الله عليه وآله» تفجر إلى دور الأنبياء والمؤمنين.

﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ([4]).

يعني: علياً، وفاطمة، والحسن، والحسين، وجاريتهما فضة([5]).

ونقول:

إن هذا الحديث قد روي بطرق كثيرة يصعب حصرها وجمعها.. وقد اخترنا منها النص الآنف الذكر، وإن كنا نرى في بعض أبيات الشعر المذكور خللاً من ناحية الوزن. ومن ناحية العربية أيضاً. لكن سائر النصوص خالية من الشعر المذكور.

وعلى كل حال، فإن لنا كتاباً في جزئين في تفسير سورة هل أتى، لا بد لنا من إحالة القارئ الكريم عليه.. فلعله يكون مفيداً في هذا الموضوع. ونحن هنا نعتمد على هذه الإحالة. ولا نذكر هنا إلا لمحات يسيرة جداً، قد لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، فلاحظ ما يلي من عناوين:

5- تشكيكات واهية:

قد يقال: لماذا يبقى الصائمون ثلاثة أيام بلا طعام، مع أنه قد بقي عندهم في اليوم الأول صاعان من شعير، كان يمكنهما طحن صاع منه وخبزه، بعد تصدقهما بالأقراص مباشرة. فإن الوقت إلى طلوع الفجر يسع ذلك؟!.

ويمكن أن يجاب:

أولاً: إن التصريح بالأيام الثلاثة قد ورد في بعض الروايات دون بعضها الآخر، إذ إن بعضها يقول: «فلما تم إنضاجه، أتى مسكين، فأخرجوا إليه الطعام.. ثم عمل الثلث الثاني. فلما تم إنضاجه أتى يتيم، فسأل فأطعموه. ثم عمل الثلث الثالث، فلما تم إنضاجه، أتى أسير الخ..»([6]).

ورواه القمي عن الإمام الصادق «عليه السلام»، وفيه: أنهم جعلوا الشعير عصيدة، فلما أنضجوها ووضعوها بين أيديهم جاء مسكين، فأعطوه ثلثها، فلم يلبث أن جاء يتيم، فأعطوه الثلث الثاني، ثم جاء أسير، فأعطوه الثلث الباقي، وما ذاقوها([7]).

وفي نص آخر: كانت عندهم ثلاثة أرغفة ـ قال ـ: فجلسوا ليأكلوا، فأتاهم سائل، فقال: أطعموني فإني مسكين.

فقام علي فأعطاه رغيفه، ثم جاء سائل فقال: أطعموا اليتيم، فأعطته فاطمة الرغيف.

ثم جاء سائل، فقال: أطعموا الأسير، فقامت الخادمة، فأعطته الرغيف. وباتوا ليلتهم طاوين، فشكر الله لهم، فأنزل فيهم هذه الآيات([8]).

ثانياً: قد يقال: إن اقتراض الشعير مقابل غزل الصوف([9]) لا يعني أنه تسلمها كلها من مقرضه، إذ لعل المطلوب هو أن يأخذ كل يوم صاعاً، مقابل ما ينجزه من الغزل..

ويرد هذا الإحتمال: أن الرواية تصرح بأنه «عليه السلام» قد جاء بالأصوع الثلاثة ووضعها في ناحية البيت.

فلعل الأصوب أن يقال: إن علياً «عليه السلام» لم يكن ليتصرف بهذا الشعير إلا بالمقدار الذي أنجز غزلاً في مقابله، ويشير إلى ذلك قول رواية الأمالي: «ثم عمدت فغزلت ثلث الصوف، ثم أخذت صاعاً من الشعير، فطحنته الخ..

إلى أن قال: ثم عمدت إلى الثلث الثاني من الصوف فغزلته، ثم أخذت صاعاً من الشعير فطحنته وعجنته..

إلى أن قال: وعمدت فاطمة «عليها السلام»، فغزلت الثلث الباقي من الصوف، وطحنت الصاع الباقي..»([10]).

فلعل التملك أو التصرف في الشعير مشروط بتسليم أو بإنجاز مقدار معين من الغزل.

ثالثاً: لعل الأسباب لم تكن مهيأة للطحن في الليل، مثل: الإنارة، والحطب، وسائر ما يحتاجه تجهيز الطعام، ومن وسائل؟! ولعل الحركة في تلك الليالي لا تروق لكثير من الناس الساكنين في جوارهم. وتثير فضولهم، وتدفعهم للوقوف على ما لا يحب أهل البيت «عليهم السلام» أن يوقفوهم عليه، من منطلق الإباء والعزة، والشعور بالكرامة.. أو لغير ذلك من أسباب..

6-هل يحتمل هذا الجوع؟!:

وقالوا: كيف يمكن لإنسان أن يبقى ثلاثة أيام بلياليها بلا طعام، ويفطر على الماء؟! ولا سيما إذا كان طفلاً قد لا يتجاوز عمره عد أصابع اليد الواحدة..

وأجيب: بأن وقوع ذلك أدل دليل على إمكانه.. وشاهدنا على ذلك كثرة الذين يضربون عن الطعام أياماً كثيرة، ولا يتناولون غير الماء، احتجاجاً على سياسات بعينها([11]).

ولكن هذا الجواب، إنما يقبل في حق الكبار، أما الأطفال الصغار، فلا يقبل ذلك بالنسبة إليهم.. إلا في حالة الفوز باللطف والمدد الإلهي، حيث استحقاقهم في أعلى وأجل الصور..

7-الآية عامة.. والرافضة يكذبون:

وقال ابن حزم: إن القول بنزول آية ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً في علي «عليه السلام» من أكاذيب الرافضة.

بل هذا لا يصح، لأن الآية على عمومها، وظاهرها لكل من فعل ذلك([12]).

وجوابه واضح:

أولاً: إن عموم معنى الآية لا ينافي نزولها في مورد خاص، بل هذا هو شأن كثير من الآيات، فإن مفهومها يكون عاماً وشاملاً، ولكنها تنزل في مورد بعينه، لتدل على أنه المصداق الأكمل، والأتم، والأظهر..

ثانياً: إن نسبة هذا القول للرافضة لا معنى له، لأن الحديث مروي عند العامة والخاصة، كما أوضحته المصادر التي أشرنا إليها فيما سبق، وقد أفرد العاصمي كتاباً لهذه السورة في مجلدين، باسم زين الفتى في تفسير سورة هل أتى. وليس العاصمي من الرافضة.

8- هل تجوز الصدقة بهذا المقدار؟!:

ذكر المحقق التستري في إحقاق الحق أنهم قالوا: أنكر هذه الرواية كثير من المحدثين وأهل التفسير، وتكلموا في أنه: هل يجوز أن يبالغ الإنسان في الصدقة إلى هذا الحد؟! ويجوِّع نفسه وأهله حتى يشرف على الهلاك؟!

وقد قال الله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ([13])، والعفو ما كان فاضلاً من نفقة العيال.

وقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: خير الصدقة ما يكون صنواً (لعل الصحيح: صفواً) عفواً([14]).

وأجاب المحقق التستري بما يلي:

أولاً: إن أهل التفسير والمحدثين لم ينكروا الحادثة، وإنما هناك طائفة منهم لم يذكروها، بل أبقوا الآية على عمومها، ربما بقصد إخفاء هذه الفضيلة لعلي وأهل بيته «عليهم السلام»، أو لغير ذلك من أسباب.

ثانياً: فسر العفو تارة: بالفاضل من المال عن الحاجة. وفسر أخرى: بأفضل المال وأطيبه([15])، ويؤيده قوله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ([16]).

ثالثاً: إن علياً «عليه السلام» لم ينفق قوت عياله، بل أنفق هو قوته، وهم بادروا إلى إنفاق قوتهم أيضاً([17]).

ويدل على ذلك: ما تقدم عن ابن المغازلي، من أن علياً «عليه السلام» أعطى المسكين رغيفه، فلما جاء اليتيم أعطته فاطمة «عليها السلام» رغيفها، فلما جاء الأسير قامت الخادمة فأعطته الرغيف([18]).

رابعاً: ونضيف إلى ما تقدم: أن الله قد مدح المؤثرين على أنفسهم، فقال عز وجل: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ([19]). فلماذا لا يعدون هذا من الإيثار الممدوح والمحبوب لله تعالى؟! وقد ورد في هذه الرواية: أن علياً «عليه السلام» لما جاءهم الأسير قال: يا فاطمة، إني أحب أن يراك الله وقد آثرت هذا الأسير على نفسك وأشبالك!! ([20]).

لكن في هذه الرواية التي أشرنا إليها فقرات تضمنت ما لا يمكن القبول به. فلا بأس بملاحظتها لمن أراد. وربما يكون الإيثار إلى هذا الحد جائز لهم دون سواهم، أو أنه كان جائزاً للناس كلهم، ثم نسخ.

9- مسكيناً ويتيماً وأسيراً:

وفي سورة هل أتى التي نزلت في هذه المناسبة دقائق وأسرار عظيمة، ربما نكون قد وفقنا للتنبه إلى نزر يسير منها في كتابنا: «تفسير سورة هل أتى». ولعل من المناسب ذكر فقرات منه. ونختار منه ما حاولنا فيه تسليط الضوء على التسلسل العفوي بين بعض عناصر هذا الحدث من خلال الآية، في خصوص المسكين واليتيم والأسير، فقلنا ما يلي:

10- 1 ـ تنوين التنكير لماذا؟!:

إن أول ما يواجهنا هنا: أنه تعالى أورد هذه الكلمات: ﴿مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً﴾، منونة بتنوين التنكير، ولم يوردها محلاة بالألف واللام..

وربما يكون السبب في ذلك: هو أنه إذا قال: «المسكين، واليتيم، والأسير» فقد يوهم ذلك: إرادة خصوص المعهودين لديهم، والمعروفين عندهم، فيكون إطعامهم لهم ناشئاً عن عدة دواع متمازجة، ومتعاضدة في التأثير، وفي الاندفاع إلى الإطعام.. لأن المعرفة بالشخص قد تدعو لإجابة طلبه، وكذا لو كان ذا قرابة مثلاً، أو من قومه، أو من بلده، أو مرتبطاً بذي قرابة، أو بصديق، أو جاراً، أو ما إلى ذلك..

أما تنوين التنكير فهو صريح في أنهم يطعمون أي مسكين، وأي يتيم، وأي أسير كان، ممن لا لون له، ولا طعم، ولا رائحة.

وذلك يدل على أن اليتم والمسكنة والأسيرية هي المحرك الإنساني، وعلى أن الغاية هي وجه الله. وليس ثمة أية شائبة في هذا الخلوص، وذلك الإخلاص.. فليس في نفوسهم أية آثار لمؤثرات دنيوية أرضية غير إلهية، أو غير إنسانية.

فالدافع إنساني مرتبط بالمشاعر، والهدف إلهي، وقد تناغم هذا الهدف مع ذلك الداعي، فكان هذا الإيثار العظيم..

11- 2 ـ توافق الترتيب البياني مع الواقع الخارجي:

وقد حدثتنا الروايات: عن أن الواقعة التاريخية، قد حدثت وفق الترتيب الذي أورده القرآن، فقد جاء المسكين أولاً، ثم اليتيم، ثم الأسير..

وذلك هو التوفيق والتسديد الإلهي الظاهر.. لكي لا يبقى أي مجال للتفكير في أن ما هو افتراضي، قد لا يكون منسجماً مع حركة الواقع الخارجي، خصوصاً حينما تتوافر الدواعي في الإتجاه المعاكس كما سنبينه..

كما لا يبقى أيضاً مجال للقول: بأن الحديث هنا جارٍ في ما هو مثالي.. وقد لا يتوافق المثالي مع مقتضيات الواقع وشروطه.

بل نقول:

إنه حتى لو لم يكن الترتيب في الآية مطابقاً لما حصل بالفعل، فإن نفس أن يأتي سياقها القرآني على هذا النحو، ستكون له أهدافه وأغراضه التكريمية، أو البيانية لمعانٍ يريد الله لنا أن نتلمسها ونعرفها فيهم «عليهم السلام».. وقد تكون هذه المعاني الغيبية التي يكشفها الله لنا، رحمة بنا، وامتناناً منه تعالى علينا..

وحيث يأتي البيان على سبيل الإخبار عن طبيعة وسجية وديدن هؤلاء الصفوة، فإنه لا بد أن يزيد ارتباطنا بهم، وتعريفنا بحقيقتهم، ليكونوا لنا الأسوة والقدوة والمثل الأعلى.. فكيف، وقد تطابق الواقع الخارجي، مع السجية والطبيعة، فجاء المسكين، ثم اليتيم، ثم الأسير.. ليكون ذلك أدعى في الإقناع، وأوثق في الدلالة..

12- 3 ـ حالتان تصاعديتان تتعاكسان:

وحين نريد أن نبحث الموضوع بعمق، فسنجد أن هناك حالة تصاعدية في جهة السائلين، تقابلها حالة تصاعدية في ناحية الباذلين..

بمعنى أن الإنتقال كان في ناحية السائلين من الأعلى إلى الوسط، ثم إلى الأدنى.

ولكن الإنتقال في ناحية الباذلين كان من الأدنى.. وانتهى بالأعلى..

وهذا هو سر عظمة هذا الحدث، وهو أقوى تعبير عن حقيقة هؤلاء الصفوة الأطهار، حيث إنه يؤسس بصورة حية لفهم سرّ كل هذه الكرامة التي اختصهم الله بها، وهذا التشريف العظيم الذي حباهم سبحانه به..

وتوضيح ذلك يكون على النحو التالي:

13- 4 ـ المسكين.. والباذلون في اليوم الأول:

إننا إذا أردنا أن نوضح ذلك، برسم صورة تطبيقية، فسنجد: أن الذي أتى للصائمين في وقت إفطارهم، في اليوم الأول، هو «مسكين»، فمن هو هذا المسكين، وما هي حالته؟!

إن المسكين هو إنسان بلغ به الفقر أقصى مداه. إلى درجة أنه أسكنه، وجعله عاجزاً.

وقد روى أبو بصير «رحمه الله» عن الإمام الصادق «عليه السلام» أنه قال: «الفقير الذي لا يسأل، والمسكين أجهد منه، والبائس أجهد منهما»([21]).

وصيغة «مسكين»، تفيد التكثير.. أي يكثر سكونه، لأنه كلما أراد أن يتحرك للحصول على شيء أحس بعجزه، فيسكن..

ومعنى ذلك: أنه قد جرب حظه في الحياة أكثر من مرة، وبذل أكثر من محاولة للخروج من المأزق، فلم يفلح.

وواضح: أن الإنسان إذا بلغ هذا الحد، فإن أمله يتضاءل ويذوي.. كما أنه يفقد شيئاً من عنفوانه، ومن قوة شخصيته.

إذن، فحالة هذا الشخص تثير العطف الشديد، وتوجد اندفاعاً قوياً لمساعدته، ممن يرى ذله، وعجزه، وحاجته، وانكساره..

وفي المقابل كان الباذلون للطعام، الذين تتحدث عنهم الآية الشريفة، قد صاموا يوماً كاملاً، واحتاجوا إلى الطعام بصورة حقيقية وفعلية، وضعفت أجسادهم، ولا سيما أجساد الأطفال الذين في جملتهم، وكانوا صائمين أيضاً..

وهؤلاء الأطفال ليسوا كسائر الأطفال، بل هم خيرة الله سبحانه من خلقه، وصفوته من عباده..

وقد كان من الطبيعي أن يتنازع أولئك الباذلين عاملان:

أحدهما: يدفعهم للبذل، وهو حالة المسكين الصعبة للغاية.. وحالة حاجتهم الذاتية للطعام..

وثانيهما: الحاجة العاطفية للإحتفاظ به، لأجل طفلين هما الغاية في الكمال، والنبل، والفضل، والصفاء.. ولا شك في أن أحداً على وجه الأرض، لا يملك مواصفاتهما، وميزاتهما.

فإمكانية الإستجابة للعامل الأول تبقى موجودة، وفيها شيء من القوة.. فإذا استجابوا له، فإنهم ـ ولا شك ـ يكونون قد قاموا بعمل عظيم، ولكنه ليس مستحيلاً، بسبب قوة التحريك للعطاء، من خلال الإنسجام العاطفي والإنساني، مع حالة المسكين.

ومن جهة أخرى: فقد كان بالإمكان أن يعطوا المسكين بعضاً من طعامهم على سبيل المشاركة، والتسوية بالنفس.. ولكنهم لم يفعلوا ذلك، بل اندفعوا بالإيثار إلى أقصى مداه، فأعطوه جميع ما أعدوه لإفطارهم. لأنهم أرادوا له أن يجد الفرصة لمراجعة حساباته، واستئناف تحركاته في سبيل عمل يخرجه مما هو فيه..

أضف إلى ذلك: أن هذا العطاء كان بالنسبة للباذلين، في ساعة حرجة جداً. وبالذات في ساعة الإفطار، حيث تلح النفس بالمطالبة بالطعام، وتدعو للإحتفاظ به، إذ لو طلب منهم بذل الطعام، قبل حلول ساعة الإفطار، فإن التخلي عن الطعام يكون أيسر، لعدم وجود هذا الإلحاح على الإحتفاظ به، بفعل قوة الحاجز، مع الإفساح في الأمل بإمكانية الحصول على البديل فيما تبقى من الوقت..

ولكن الطلب قد جاء في الساعة الحرجة والصعبة، وحيث يشتد تعلق النفس بالطعام، فكيف إذا مازج ذلك عامل الحضور والمشاهدة والعيش بالأجواء، حتى لتكاد الأيدي تمتد إليه، فإن التعلق به سيكون ـ بلا شك ـ أقوى، والتخلي عنه أصعب..

ولكن حالة المسكين وضعفه، وشدة حاجته، فيها أيضاً شيء من قوة الدعوة للبذل، ودرجة من التأثير المعاكس في أحوال كهذه..

14- 5 ـ اليتيم والباذلون في اليوم الثاني:

وفي اليوم الثاني.. حيث لم يذق الصائمون طعاماً طيلة يومين كاملين. بل اكتفوا بشرب الماء في الليلة السابقة. قد أصبح واضحاً: أن الحاجة إلى الطعام قد اشتدت، ودواعي الإحتفاظ به قد ازدادت، والحرص عليه قد تنامى وعظم، لا سيما مع وجود صبيين معهم، هما الحسنان «عليهما السلام» بالذات.. وهما سيدا شباب أهل الجنة، وريحانتا رسول الله «صلى الله عليه وآله».

وكان وقت الإفطار قد حضر أيضاً، وطبيعي أن يزداد التطلع للطعام، والبحث عنه، وبعد حضوره يزيد التعلق بما حضر منه.. فكيف إذا وضع أمامهم، وتكاد الأيدي تتحرك باتجاهه، وتمتد إليه.

وإذا بسائل جديد، هو في هذه المرة «يتيم»، وليتمه تأثيره على النفوس. ولكن الإندفاع إلى مساعدته يكون في العادة أضعف من الإندفاع لمساعدة المسكين، لأن احتمالات الحاجة فيه أقل وأضعف. إذ إن يتمه لا يدل على حاجته المادية..

فإن نفس الحالة الظاهرة للمسكين هي حالة حاجة وفقر، وعجز عن إيجاد ما يتبلَّغ به، وهي فورية، وحادة، وهي بنفس ظهورها فيه تمثل دعوة لمساعدته بلسان الحال، وهي شاهد صدقه في ما يدعيه، بلسان المقال..

أما اليتيم، فإن هناك شفقة عليه، لأجل يتمه، وحاجته للعاطفة والطمأنينة، لا لأجل حاجة ظاهرة له، تستبطن دعوة بلسان الحال لمساعدته.. إذ لعله كاذب في دعواه الفقر..

وحتى لو كان صادقاً، فإن الفقر الذي يخبر عنه لا يصل في حدته إلى درجة ظهور ذلك في حالته. كما كان الحال بالنسبة إلى المسكين..

بل هو لا يزال في مقتبل العمر، والفرص أمامه، ولم يمارس بعد إمكاناته، وقدراته، بل هو لم يكتشفها بعد. ولعل مشكلته ناشئة من فقد التوجه الصحيح له، بعد أن فقد كافله.. ففرص النجاح أمامه متوفرة، وأمله كبير، وطموحه عارم.

وتحرك العاطفة لأجل فقر اليتيم، ليس بدرجة تحركها لأجل ذل ومسكنة المسكين.. ويتمه، لا يحرك الإنسان ليتخلى له عن طعامه، حتى في الحالات العادية. فكيف بعد طي يومين من الصيام المتواصل، واشتداد الحاجة للطعام؟!..

وحتى لو أراد أن يتخلى ذلك الصائم له عن شيء، فإنه سيقنع نفسه بأنه لا حاجة لأن يتخلى له عن جميع ما هيأه.. فضلاً عن أن يعطيه إياه ساعة الإفطار، وبعد أن وُضع أمامه، وبعد مضي يومين على الصيام.

وإذا أعطاه شيئاً، فإنما يعطيه طعام نفسه، ولا يعطيه طعام غيره كزوجته، وولده.. فكيف إذا كانت السيدة الزهراء «عليها السلام» هي الزوجة، وكان الولدان الوحيدان له طفلين صغيرين، ثم كانا هما الحسنان «عليهما السلام» بالذات، في ميزاتهما، وفي موقعهما من الدين، ومن الإسلام كله، وليس لهما على وجه الأرض مثيل، لا من الأيتام، ولا من غيرهم. وهما اللذان تتجلى فيهما ميزات الإمامة وخصائصها، بأجلى وأبهى مظاهرها..

وأبواهما كانا أعرف من كل أحد بهما، وبقيمة مزاياهما، وبكرامتهما على الله سبحانه، فهل يمكن أن يخاطرا بحياتهما، لمجرد احتمال حاجةٍ يدّعيها يتيم، ليس هو مثل الحسنين قطعاً؟! وهي حاجة ـ حتى لو كانت واقعية ـ فليس ثمة ما يدل على أنها تبلغ درجة الإحراج والعسر..

إذن.. فقد ازدادت المثبطات، وتوافرت الموانع عن الإعطاء، سواء فيما يرتبط بالإعتبارات التي تزداد قوة وتنوعاً، في ناحية الباذلين، أم فيما يرتبط بضعف المشجعات في جانب السائلين، حيث تضاءلت وانحسرت وضعفت تلك الخصوصيات التي تثير وتحرك.

ولكن وبرغم ذلك كله، فإن العطاء والبذل، قد بلغ أيضاً أقصى مداه، حيث أعطوا «عليهم السلام» في اليوم الثاني أيضاً جميع ما يملكون، وآثروا اليتيم به على أنفسهم مع شدة الحاجة والخصاصة. وبذلك فقد أصبح هذا الإطعام أعظم قيمة، وأشد أهمية، إذا لوحظت جميع الخصوصيات التي أشرنا إليها..

15- 6 ـ الأسير.. والباذلون: في اليوم الثالث:

ويطوي الصائمون ليلتهم، ولا يقدرون على شيء إلا على شرب الماء، ويصومون يوماً ثالثاً هو الأشد، والأقسى، والأمض، وقد أصبحت الأخطار الجسام تتهدد صفوة الخلق، وصبية هم خيرة الله، وحججه على عباده، بصورة أعظم وأقوى..

ويحين وقت الإفطار، وهو ما يجعل النفوس أيضاً تهفوا وتتطلع إلى الطعام، فكيف إذا كان ذلك بعد ثلاثة أيام من الطوى؟! ثم يوضع الطعام أمامهم، ولا يحول بينهم وبينه شيء..

وقد بلغت خطورة الموقف حداً قاسياً، يدعوهم ليس فقط إلى عدم بذل الطعام، وإنما إلى بذل كل الجهد والتضحية في سبيل الإحتفاظ به..

وإذا بسائل جديد يطرق الباب.. غير أن حالة هذا السائل كانت أخف الحالات وأهونها، فإنها ليست فقط لا تثير شعوراً قوياً بالرغبة في مساعدته، بل ربما تكون المثبطات والموانع عن إعطاء هذا السائل، أكبر وأظهر..

ولا نريد أن نتحدث عن الحالات، ولا عن الخصوصيات التي كانت في جانب الباذلين، فقد ظهر جانب منها في البيانات السابقة، بل نريد فقط أن نُلْمِحَ إلى ما كان منها في ناحية السائل.. فنقول:

إنه عدا عن جميع ما لاحظناه من خصوصيات في جانب اليتيم والمسكين.. فإن الأسير رجل مكتمل قوي البنية، قادر على مواجهة الآخرين، حتى بالقتال، وله قدرة على تحمل الصعاب، ومكابدة المشاق..

والزهراء «عليها السلام» في هذا الجانب امرأة، والحسنان «عليهما السلام» أيضاً لم يكونا قد بلغا سن الأقوياء، فيما يعرفه الناس من ذلك..

ومشكلة الأسير تبقى محصورة في مدة أسره، المانع له من بعض ضروب السعي.. وهي مشكلة لها أمد، ولها مخرج. وسينتهي الأمر به إلى الخروج من هذه الحالة، والعودة إلى أهله، وأملاكه، وإلى الذين لديهم أكثر من دافع لمد يد العون له.. بخلاف المسكين الذي ليس لديه ما ينعش به، وبخلاف اليتيم الذي لن يجد مثل كفيله الذي فقده كفيلاً، وحامياً، وراعياً، وحبيباً..

ثم إنه ليس في الأسير أية جهة أخرى ـ سوى ما يدَّعيه من الحاجة ـ تدعو إلى العطف عليه، كما كان الحال بالنسبة ليتم اليتيم..

بل هناك ما يدعو إلى النفور منه، وإلى حرمانه، فإنه مجرد أسير، والأسير في واقع الأمر محارب للإسلام وللمسلمين.. وربما لا يكون قد تخلى عن عدائه لهم، ولا ذهب حقده عليهم.. بل ربما لا يكون قد تخلى عن كفره، أو شركه، أو انحرافه.

وإذا كان قد أسر في ساحة الحرب، فلعله قد قتل بعض الأحبة، والأصفياء، أو شارك في قتلهم..

ولعل اليتيم الذي جاءهم بالأمس قد فقد كافله، وحاميه في الحرب التي شارك فيها هذا الأسير نفسه، أو شارك هو في قتله، أو في الأجواء التي تمكن القتلة من القيام بجريمتهم..

أضف إلى جميع ذلك: أن نهاية هذا الأسير ستكون هي الرجوع إلى قومه، ولعله يعود معهم إلى حرب الإسلام والمسلمين من جديد..

وكل هذا الذي ذكرناه، قد يكوّن معذراً مقبولاً أمام الوجدان، وتبريراً معقولاً لرد طلبه عند العرف والعقلاء..

ثم إنه لم يظهر من حال هذا الأسير ما يشي بصدقه فيما يدَّعيه من الحاجة.. وحتى لو كان صادقاً، فإن حاجته ليست بمستوى حاجة من طوى ثلاثة أيام بدون طعام، فكيف إذا كان هذا الطاوي هو طفلان صغيران. ثم كانا هما الحسن والحسين، ومعهما الزهراء، وعلي أمير المؤمنين «عليهم السلام».

ثم إنه قد كان يمكنهم «عليهم السلام» أن يعطوه بعضاً من ذلك الطعام، ويحتفظوا لأنفسهم بالباقي، أو يحتفظوا بطعام الحسنين «عليهما السلام» على الأقل..

فكل هذه العوامل التي ذكرناها تدعو إلى الإحتفاظ بالطعام.. تضاف إليها العوامل المضادة والمانعة من العطاء، ومن بينها ما هو قوي، ومتناغم مع العواطف والمشاعر الإنسانية، ومع كثير من النقاط التي سجلناها من ابتداء الحديث إلى هنا..

وبعد هذا كله.. فقد جاءت المفاجأة وأعطى هؤلاء الصفوة ذلك الأسير كل ما لديهم، وعرَّضوا أنفسهم للأخطار الجسام. مع أنه قد كان يكفيه بعض ما أعطوه، غير أنهم أرادوا له أن يجد لنفسه قوتاً في أطول زمن يمكنهم أن يمدوه بالقوت فيه..

والبذل في مثل هذه الحالات، وبملاحظة كل تلكم الخصوصيات، هو منتهى الكمال الإنساني، والإيماني، والروحي، وهو الحد الذي لا يصل إليه بشر. إلا إذا كان ذلك البشر هو الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» رغم أن عطاءهم في ظاهر الأمر، كان بضعة أقراصٍ من شعير.. لكن الحقيقة هي أن في هذه الأقراص، كل حياتهم، وكل وجودهم، وكل الطهر، والإيمان والإخلاص..

16- 7 ـ السائلون.. هل هم مسلمون؟!:

وقد يحاول البعض أن يدعي: أن المسكين، واليتيم، والأسير، كانوا من المسلمين.

ونقول:

إنه لا مبرر لهذا التخصيص، ولا دليل يثبته، بل إن الأمور التي ركزت الآيات عليها ترجع إلى شعور إنساني فياض، ونبيل، لا يفرق بين مسلم وغيره، فإن لكل كبد حرّى أجر، ومن خلال هذا الشعور الإنساني يتحرك الإنسان في الإتجاه الصحيح، يرفده بالدفقات الروحية وبالمشاعر الإنسانية حتى يبلغ به إلى الهدف الأقصى، وهو أن يصبح عمله كله لله سبحانه..

هذا كله فضلاً عن أن بعض الروايات قد أشارت إلى أن الأسير الذي سأل هؤلاء الصفوة فأعطوه.. قد أسره المسلمون أنفسهم، ولم نجد في تاريخ الإسلام أن أحد المسلمين قد أسره الرسول «صلى الله عليه وآله» مع المشركين حتى احتاج إلى زيارة بيوت الناس للإستجداء..

17- 8 ـ الترتيب هنا عكسه في آيات أخرى:

وبعد.. فإن هذه الآية قد ذكرت المسكين أولاً، ثم اليتيم، ثم الأسير.. ولكننا نجد أنه تعالى حين يعدد أصناف المستحقين للزكاة والخمس.. رتبهم بطريقة مختلفة، فهو يقدم الفقراء، أو اليتامى مثلاً على المساكين.. فما هو السبب يا ترى؟!

وقد يمكن الجواب عن هذا: بأن النظر في تلك الآيات المباركة يحتاج إلى إثبات أن هذا الصنف مستحق لهذا القسط من الخمس.. أو الزكاة، أو الصدقات. وليس ثمة أي اختلاف في ناحية المقدار فيما بين جميع الأصناف. وقد جيء بالعناوين لمجرد أن تكون مشيرة إلى موضوعاتها، ليتعلق الحكم بها.

ولكن الأمر هنا ليس كذلك، إذ إن لنفس هذه العناوين دوراً في إفهام الخصوصيات المطلوبة في المعنى الذي هو بصدد بيانه والتأكيد عليه، وهو ذلك المعنى الإنساني الإلهي العظيم، الذي ألمحنا إلى بعض جوانبه..

18- 9 ـ الإكرام أم الإطعام؟!:

وقد ركزت هذه الآيات على إطعام اليتيم، ولكنه تعالى في آيات أخرى قد تحدث عن إكرامه..

ثم إنه تعالى حين تحدث عن إطعامه أخَّره بالذكر عن المسكين. ولكنه حين تحدث عن إكرامه قدمه بالذكر على المسكين، فقال: ﴿كَلاَ بَل لاَ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ([22]).

وقال تعالى: ﴿فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ([23]).

فالدعُّ هو الدفع.. وعدم التقبُّل.. وهذا يعتبر عدواناً على من يفترض في الإنسان المتوازن أن يبادر إلى الترحيب به وإكرامه..

وعدم الحض على طعام المسكين يأتي في المرتبة التالية.. لأن الحالة الظاهرة في المسكين هي حاجته لما يزيل حالة السكون الناشئة عن شدة حاجته..

أما اليتيم فإنه بحاجة إلى المعالجة الروحية، وإلى أن يخرج من دائرة الصدمة، والخوف من المستقبل، وأن يشعر بأنه ليس وحده في هذه الحياة، بل الجميع معه، وإلى جانبه..

فلا بد من ذكره أولاً، لأن سلامة الحالة النفسية، هي الأهم.. وبها يكون قوام وسلامة شخصيته.. فكيف إذا كان هناك دعٌّ له، وممارسة درجة من العدوان عليه.

أما حين تكون القضية مجرد قضية الحاجة إلى المال.. فإن الأولوية إنما تكون لمن تشتد حاجته للمال.. والمسكين هو الحالة الأصعب بالنسبة لليتيم، والأسير..

19-10 ـ قصة الإطعام.. وهدف السورة:

هذه السورة تتحدث عن النشأة الإنسانية، ومسيرتها إلى غاياتها في ظل الهداية الإلهية، لتتجلى من ثم أنوار أشرف المخلوقات، من سماء الكرامة والمجد، لتضيء هذه الحياة بأنواع الهدايات إلى صراط الله العزيز الحميد..

وقد ذكر الله سبحانه ذلك، تارة بطريقة البيان لمنازل كرامتهم، وتارة أخرى بأسلوب التجسيد الحي، الذي تتجلى فيه كمالاتهم، وإنسانيتهم، موقفاً وسلوكاً، وطريقة حياة..

فجاءت قصة إطعامهم اليتيم والمسكين والأسير، لتجسد أمام عين الإنسان تلك المضامين. لكي يحس بها، ويتلمسها، ويتمازج لديه المحسوس بالمعقول، ليكون ذلك أوقع في النفس، وأشد في الإقناع، وأرسخ في اليقين([24]).


([1]) الآية 7 من سورة الإنسان.

([2]) الآيات 1 ـ 22 من سورة الإنسان.

([3]) الآيتان 5 و 6 من سورة الإنسان.

([4]) الآية 7 من سورة الإنسان.

([5]) راجع: البرهان (تفسير) ج8 ص179 ـ 182 و(ط مؤسسة إسماعيليان ـ الطبعة الثالثة) ج4 ص412 ـ 413 وغاية المرام ج4 ص100 والأمالي للصدوق ص329 وروضة الواعظين ص160 وبحار الأنوار ج35 ص237 وشجرة طوبى ج2 ص263 وتفسير نور الثقلين ج5 ص471 و 474 وشواهد التنزيل ج2 ص398 وتفسـير الثعلبي ج10 ص101 ونهج الإيمان ص174 وبنـاء = = المقالة الفاطمية ص235 والعمدة لابن البطريق ص348 وخصائص الوحي المبين ص179.

([6]) مجمع البيان ج10 ص404 و 405 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج10 ص209 و 210 وتفسير القمي ج2 ص398 وراجع: ذخائر العقبى ص103 وتفسير نور الثقلين ج5 ص470 وأسباب نزول الآيات ص296 وشواهد التنزيل ج2 ص405 وتفسير البغوي ج4 ص428 ومطالب السؤول ص174 وجواهر المطالب لابن الدمشقي ج1 ص270 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج14 ص451 وج20 ص153 و 155 و 160 وج30 ص45.

([7]) تفسير البرهان ج8 ص177 وتفسير القمي ج2 ص390 و (ط مطبعة النجف) ج2 ص398 ومستدرك الوسائل ج7 ص269 وبحار الأنوار ج35 ص243 وجامع أحاديث الشيعة ج8 ص375 وتفسير مجمع البيان ج10 ص210 وتفسير نور الثقلين ج5 ص470 وغاية المرام ج4 ص100.

([8]) المناقب لابن المغازلي ص272 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج14 ص446 وشواهد التنزيل ج2 هامش ص410.

([9]) مجمع البيان ج10 ص404 وتفسير البرهان ج8 ص179 والأمالي للصدوق ص212 و (ط مؤسسة البعثة) ص329 وروضة الواعظين ص160 ومناقب آل أبي طالب (ط المكتبة الحيدرية) ج3 ص147 وبحار الأنوار ج35 ص237 وشجرة طوبى ج2 ص263 وجامع أحاديث الشيعة ج17 ص375 وتفسير نور الثقلين ج5 ص471 و 474 وغاية المرام ج4 ص101 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج9 ص118 وج18 ص339.

([10]) الأمالي للصدوق ص212 فما بعدها و (ط مؤسسة البعثة) ص329 ـ 333 والبرهان ج8 ص179 و 180 و 181 وراجع: روضة الواعظين ص160 ـ 162 ومناقب الإمام أمير المؤمنين للكوفي ج1 ص178 ـ 182 ومناقب آل أبي طالب ج3 ص147 ـ 149 وبحار الأنوار ج35 ص237 وتفسير نور الثقلين ج5 ص471.

([11]) الفصول المئة ج2 ص222.

([12]) الغدير ج3 ص106 عن ابن حزم، ونظرة في كتاب الفصل في الملل ص48.

([13]) الآية 19 من سورة التوبة.

([14]) إحقاق الحق (الملحقات) ج3 ص170.

([15]) إحقاق الحق (الملحقات) ج3 ص176 وتفسير القرآن العظيم ج1 ص256.

([16]) الآية 92 من سورة آل عمران.

([17]) إحقاق الحق (الملحقات) ج3 ص177.

([18]) المناقب لابن المغازلي ص272 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج14 ص446 وشواهد التنزيل ج2 هامش ص410.

([19]) الآية 9 من سورة الحشر.

([20]) البرهان (تفسير) ج8 ص183 وتأويل الآيات الظاهرة ج2 ص750 ونهج السعادة ج1 ص32 وغاية المرام ج4 ص104.

([21]) بحار الأنوار ج93 ص57 و 70 وتهذيب الأحكام ج4 ص104 وتفسير نور الثقلين ج3 ص491 ووسائل الشيعة (ط دار الإسلامية) ج6 ص144 ومستدرك الوسائل ج7 ص103 وعوالي اللآلي ج2 ص71 وج3 ص120 وجامع أحاديث الشيعة ج8 ص174 وتفسير نور الثقلين ج2 ص229 ودعائم الإسلام ج1 ص260 وراجع: الكافي ج3 ص502 والمعتبر ج2 ص565 ومختلف الشيعة ج3 ص199 .

([22]) الآية 18 من سورة الفجر.

([23]) الآية 2 من سورة الماعون.

([24]) تفسير سورة هل أتى 214 ـ 226.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان