عن خالد بن ربعي قال:
إن أمير المؤمنين «عليه السلام» دخل مكة في بعض حوائجه، فوجد أعرابياً
متعلقاً بأستار الكعبة، وهو يقول: يا صاحب البيت، البيت بيتك، والضيف
ضيفك. ولكل ضيف من ضيفه قرى، فاجعل قراي منك الليلة المغفرة.
فقال أمير المؤمنين «عليه السلام»
لأصحابه:
«أما تسمعون كلام الأعرابي»؟!
قالوا:
نعم.
فقال:
الله أكرم من أن يرد ضيفه.
فلما كانت الليلة الثانية وجده
متعلقاً بذلك الركن وهو يقول:
يا عزيزاً في عزك، فلا أعز منك في عزك، أعزني بعز عزك في عز لا يعلم
أحد كيف هو، أتوجه وأتوسل إليك، بحق محمد وآل محمد عليك، أعطني ما لا
يعطيني أحد غيرك، واصرف عني ما لا يصرفه أحد غيرك.
قال:
فقال أمير المؤمنين «عليه السلام» لأصحابه: هذا والله الاسم الأكبر
بالسريانية، أخبرني به حبيبي رسول الله «صلى الله عليه وآله»، سأله
الجنة فأعطاه، وسأله صرف النار وقد صرفها عنه.
قال:
فلما كانت الليلة الثالثة وجده وهو متعلق بذلك الركن، وهو يقول: يا من
لا يحويه مكان، ولا يخلو منه مكان، بلا كيفية كان، ارزق الأعرابي أربعة
آلاف درهم.
قال:
فتقدم إليه أمير المؤمنين «عليه السلام»، فقال: يا أعرابي سألت ربك
القرى فقراك، وسألته الجنة فأعطاك، وسألته أن يصرف عنك النار وقد صرفها
عنك، وفي هذه الليلة تسأله أربعة آلاف درهم؟!
قال الأعرابي:
من أنت؟!
قال:
أنا علي بن أبي طالب.
قال الأعرابي:
أنت والله بغيتي، وبك أنزلت حاجتي.
قال:
سل يا أعرابي.
قال:
أريد ألف درهم للصداق، وألف درهم أقضي به ديني، وألف درهم أشتري به
داراً، وألف درهم أتعيش منه.
قال:
أنصفت يا أعرابي، فإذا خرجت من مكة فاسأل عن داري بمدينة الرسول.
فأقام الأعرابي بمكة أسبوعاً، وخرج في طلب أمير
المؤمنين «عليه السلام» إلى مدينة الرسول، ونادى: من يدلني على دار
أمير المؤمنين علي؟!
فقال الحسين بن علي من بين الصبيان:
أنا أدلك على دار أمير المؤمنين، وأنا ابنه الحسين بن علي.
فقال الأعرابي:
من أبوك؟!
قال:
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
قال:
من أمك؟!
قال:
فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين.
قال:
من جدك؟!
قال:
رسول الله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب.
قال:
من جدتك؟!
قال:
خديجة بنت خويلد.
قال:
من أخوك.
قال:
أبو محمد الحسن بن علي.
قال:
لقد أخذت الدنيا بطرفيها، امش إلى أمير المؤمنين وقل له: إن الأعرابي
صاحب الضمان بمكة على الباب.
قال:
فدخل الحسين بن علي «عليه السلام»، فقال: يا أبة، أعرابي بالباب، يزعم
أنه صاحب الضمان بمكة.
قال:
فقال: يا فاطمة، عندك شيء يأكله الأعرابي؟!
قالت:
اللهم لا.
قال:
فتلبس أمير المؤمنين «عليه السلام» وخرج، وقال: ادعوا لي أبا عبد الله
سلمان الفارسي.
قال:
فدخل إليه سلمان الفارسي، فقال: يا با عبد الله، أعرض الحديقة التي
غرسها رسول الله «صلى الله عليه وآله» لي على التجار.
قال:
فدخل سلمان إلى السوق وعرض الحديقة، فباعها باثني عشر ألف درهم. وأحضر
المال، وأحضر الأعرابي، فأعطاه أربعة آلاف درهم وأربعين درهماً نفقه.
ووقع الخبر إلى سؤَّال المدينة فاجتمعوا، ومضى رجل من
الأنصار إلى فاطمة «عليها السلام» فأخبرها بذلك، فقالت: آجرك الله في
ممشاك.
فجلس علي «عليه السلام» والدراهم مصبوبة بين يديه حتى
اجتمع إليه أصحابه، فقبض قبضة قبضة، وجعل يعطي رجلاً رجلاً، حتى لم يبق
معه درهم واحد.
فلما أتى المنزل قالت له فاطمة
«عليه السلام»:
يا ابن عم، بعت الحائط الذي غرسه لك والدي؟!
قال:
نعم، بخير منه عاجلاً وآجلاً.
قالت:
فأين الثمن؟!
قال:
دفعته إلى أعين استحييت أن أذلها بذل المسألة قبل أن تسألني.
قالت فاطمة:
أنا جائعة، وابناي جائعان، ولا أشك إلا وأنك مثلنا في الجوع، لم يكن
لنا منه درهم؟!
وأخذت بطرف ثوب علي «عليه السلام»،
فقال علي «عليه السلام»:
يا فاطمة، خليني.
فقالت:
لا والله، أو يحكم بيني وبينك أبي.
فهبط جبرئيل «عليه السلام» على رسول الله «صلى الله
عليه وآله»، فقال: يا محمد، السلام يقرؤك السلام، ويقول: اقرأ علياً
مني السلام، وقل لفاطمة: ليس لك أن تضربي على يديه.
فلما أتى رسول الله «صلى الله عليه وآله» منزل علي وجد
فاطمة ملازمة لعلي «عليه السلام»، فقال لها: يا بنية ما لك ملازمة
لعلي؟!
قالت:
يا أبة، باع الحائط الذي غرسته له باثني عشر ألف درهم، لم يحبس لنا منه
درهماً نشتري به طعاماً.
فقال:
يا بنية، إن جبرئيل يقرؤني من ربي السلام، ويقول: اقرأ علياً من ربه
السلام، وأمرني أن أقول لك: ليس لك أن تضربي على يديه.
قالت فاطمة «عليها السلام»:
فإني أستغفر الله، ولا أعود أبداً.
قالت فاطمة «عليها السلام»:
فخرج أبي «صلى الله عليه وآله» في ناحية وزوجي في ناحية، فما لبث أن
أتى أبي ومعه سبعة دراهم سود هجرية، فقال: يا فاطمة، أين ابن عمي؟!
فقلت له:
خرج.
فقال رسول الله «صلى الله عليه
وآله»:
هاك هذه الدراهم، فإذا جاء ابن عمي فقولي له يبتاع لكم بها طعاماً.
فما لبثت إلا يسيراً حتى جاء علي
«عليه السلام»، فقال:
رجع ابن عمي، فإني أجد رائحة طيبة؟!
قالت:
نعم، وقد دفع إلي شيئاً تبتاع به لنا طعاماً.
قال
علي «عليه السلام»:
هاتيه، فدفعت إليه سبعة دراهم سوداً هجرية، فقال: بسم الله، والحمد لله
كثيراً طيباً، وهذا من رزق الله عز وجل، ثم قال: يا حسن قم معي، فأتيا
السوق فإذا هما برجل واقف وهو يقول: من يقرض المليِّ الوفي؟!
قال:
يا بني نعطيه؟!
قال:
إي والله يا أبة.
فأعطاه علي «عليه السلام» الدراهم.
فقال الحسن:
يا أبتاه، أعطيته الدراهم كلها؟!
قال:
نعم يا بني، إن الذي يعطي القليل قادر على أن يعطي الكثير.
قال:
فمضى علي بباب رجل يستقرض منه شيئاً، فلقيه أعرابي ومعه ناقة، فقال: يا
علي اشتر مني هذه الناقة.
قال:
ليس معي ثمنها.
قال:
فإني أنظرك به إلى القبض.
قال:
بكم يا أعرابي؟!
قال:
بمائة درهم.
قال علي:
خذها يا حسن.
فأخذها، فمضى علي «عليه السلام»، فلقيه أعرابي آخر،
المثال واحد، والثياب مختلفة، فقال: يا علي تبيع الناقة؟!
قال علي:
وما تصنع بها؟!
قال:
أغزو عليها أول غزوة يغزوها ابن عمك.
قال:
إن قبلتها فهي لك بلا ثمن.
قال:
معي ثمنها، وبالثمن أشتريها، فبكم اشتريتها؟!
قال:
بمائة درهم.
قال الأعرابي:
فلك سبعون ومائة درهم.
قال علي «عليه السلام»:
خذ السبعين والمائة، وسلم الناقة.
والمائة للأعرابي، الذي باعنا الناقة، والسبعين(!!) لنا
نبتاع بها شيئاً.
فأخذ الحسن «عليه السلام» الدراهم وسلم الناقة.
قال علي «عليه السلام»:
فمضيت أطلب الأعرابي الذي ابتعت منه الناقة لأعطيه ثمنها.
فرأيت رسول الله «صلى الله عليه وآله» جالساً في مكان
لم أره فيه قبل ذلك ولا بعده، على قارعة الطريق، فلما نظر النبي «صلى
الله عليه وآله» إليَّ تبسم ضاحكاً حتى بدت نواجذه.
قال علي «عليه السلام»:
أضحك الله سنك، وبشرك بيومك.
فقال «صلى الله عليه وآله»:
يا أبا الحسن، إنك تطلب الأعرابي الذي باعك الناقة لتوفيه الثمن؟!
فقلت:
إي والله فداك أبي وأمي.
فقال:
يا أبا الحسن، الذي باعك الناقة جبرئيل، والذي اشتراها منك ميكائيل،
والناقة من نوق الجنة، والدراهم من عند رب العالمين عز وجل، فأنفقها في
خير، ولا تخف إقتاراً([1]).
ونقول:
تضمنت هذه الرواية أموراً عديدة تحتاج إلى بيان، نذكر
بعضها فيما يلي من عناوين:
تضمنت الرواية المتقدمة تصريحات ودلالات عديدة، على أن
هذا قد جرى في أواخر عهد رسول الله «صلى الله عليه وآله».. وفي حياة
فاطمة الزهراء «عليها السلام». وحيث كان الإمام الحسن «عليه السلام»
قادراً على التصرف. وكذلك الحسين «عليه السلام» الذي ولد في السنة
الرابعة للهجرة، فإنه هو الذي أوصل الأعرابي إلى أبيه أمير المؤمنين
«عليه السلام».
ذكرت الرواية:
أن علياً «عليه السلام» قال: إن ما دعا به الأعرابي هو الاسم الأكبر..
وقد أبهم علينا مراده «عليه السلام» بهذا من جهات:
إحداها:
هل المراد بالاسم الأكبر هو الاسم الأعظم؟! أم هو تعبير عن معنى آخر
غيره؟!
الثانية:
هل أراد بالاسم الأكبر خصوص ما دعا به في الليلة الثانية؟! أم هو
بالإضافة إلى ما دعا به في الليلة الأولى؟!
كلاهما محتمل. وإن كنا نستظهر: أن المقصود هو ما دعا به
في الليلة الثانية.
الثالثة:
هل الاسم الأكبر بالسريانية يختلف عن الذي بالعربية، أو بغيرها من
اللغات أم هو نفسه؟! وإذا كان يختلف عنه، فلماذا اختلف؟! وبماذا؟!
الرابعة:
هل المراد بالاسم الأكبر أو الأعظم اسماً خاصاً تضمنته بعض العبارات
بعينه، أو شخصاً بعينه؟!
أو المراد أنها تحكي عن بعض وجوه معناه، ولو بعبارات
تختلف وتتفاوت في الوضوح والخفاء في التعبير والحكاية عن المراد من لغة
لأخرى ومن مورد لأخر؟! والشاهد على هذا المعنى الأخير أن الدعاء قد
تضمن الاسم الأكبر هنا، وتضمن توسلاً إلى الله سبحانه بحق محمد وآل
محمد..
الخامسة:
لا ندري من أين عرف ذلك الأعرابي الاسم الأكبر؟! فهل هو قد جرى على
لسانه بصورة عفوية، ومن دون معرفة تفصيلية له به؟!
أم أن الأعرابي لم يكن رجلاً عادياً، بل هو رجل من أهل
الله تبارك وتعالى. أرسله الله تعالى إلى علي «عليه السلام» ليكون
السبب تعريف الناس بالاسم الأكبر، وبأهمية الدعاء في تحقيق أعظم
النتائج. وفي حصول ما حصل؟!
وقد قال الأعرابي وهو يدعو بالاسم
الأكبر:
«أتوجه إليك، وأتوسل إليك، بحق محمد وآل محمد عليك، أعطني إلخ..».
فقد يثير البعض إشكالاً هنا، فيقول:
ليس لأحد حق على الله تعالى، لا محمد ولا غيره، بل الله تعالى له حق
على جميع البشر بما فيهم الأنبياء والأوصياء، ومنهم محمد «صلى الله
عليه وآله»، وأهل بيته الطاهرون «عليهم السلام»..
ونقول:
يبدو أن ثمة اشتباهاً في المراد من
الحق، فتخيل هذا المعترض:
أن المراد به ما يشبه حق الوالد على الولد، والخالق على المخلوق، وليس
للنبي وأهل بيته صفة الخالقية ولا الوالدية..
مع أن هذا ليس هو المراد. بل المراد الحق الذي يكون
للمخلوق على خالقه، وللولد على والده.. فإن من حق الولد على والده
مثلاً: أن يعلمه القرآن، وأن يسميه بالاسم الحسن، وأن يكنيه. وأن يربيه
تربية صالحة، وأن يعوله.. وأن.. وأن..
وحق المخلوق على خالقه هو ما قرره الله سبحانه له من
حقوق عليه، كل بحسبه فلا يظلمه، ولا يحمله وما لا يطيق، وأن يهيئ له
أسباب الهداية والرشاد، وأن يقبل توبته، وأن يستجيب دعاءه الجامع
لشرائط الإستجابة، وغير ذلك.
أما إذا كان هذا العبد نبياً، أو وصياً، باذلاً نفسه في
ذات الله، فإن ما وعده الله به، وما تكفل تعالى به له، وما أخذ على
نفسه أن يستجيب له فيه لا بد أن يتناسب مع واقع ذلك النبي، ومنزلته
عنده تعالى، وقربه منه، ولذلك يكرمه الله تعالى بأن يشفعه في الخلائق،
ويقضي حاجاتهم إكراماً له، ويشفي مرضاهم من أجله.. و.. و.. إلخ..
وفي دعاء أبي حمزة:
«إلهي إن أدخلتني النار ففي ذلك سرور عدوك، وإن أدخلتني الجنة ففي ذلك
سرور نبيك. وأنا والله أعلم أن سرور نبيك أحب إليك من سرور عدوك».
وكمثال على ذلك نذكر:
أنه لو كان لأحدهم عدة بنين، وكان فيهم الصالح والطالح، والمطيع
والعاصي، فإنه يرى أن عليه أن يستجيب للصالح المطيع المرضي عنده بأضعاف
ما يرى أن عليه أن يستجيب فيه للولد العاق والعاصي.
ويتفاوت أولاده عنده في هذا بتفاوت مراتب طاعتهم
وصلاحهم.
ولذلك جاء في الدعاء أيضاً قوله:
«بحقهم عليك، وبحقك العظيم عليهم».
وفي دعاء أبي حمزة:
«لئن طالبتني بذنوبي لأطالبنك بعفوك، ولئن طالبتني بلؤمي لأطالبنك
بكرمك».
علي
×
يقول: استجاب الله للأعرابي:
وقد ذكرت الرواية المتقدمة:
أن علياً «عليه السلام» أخبر الأعرابي: أن الله تعالى غفر ذنوبه،
وأعطاه الجنة، وصرف عنه النار..
مع أنه «عليه السلام» كان في تلك الأيام في ظل رسول
الله «صلى الله عليه وآله»، فدل ذلك على أنه «عليه السلام» قد اطلع إما
من رسول الله «صلى الله عليه وآله»، إن كان «صلى الله عليه وآله» في
مكة آنئذٍ، أو إن كان «صلى الله عليه وآله» قد أخبره بهذه الواقعة قبل
حدوثها. أو أن له طرقاً أخرى للمعرفة بهذه الأمور، وليس في الرواية ما
يمكن أن نستدل به على أي من هذين الأمرين..
وقد وعد علي «عليه السلام» ذلك
الأعرابي:
بأن يلبي مطالبه في المدينة، لأنه لم يكن لديه في مكة ما يمكنه أن
يتصرف فيه ببيع ولا بغيره، ليقضي حاجة ذلك الأعرابي..
أما في المدينة فكانت له حديقة يمكنه أن يبيعها ليستفيد
من ثمنها في هذا السبيل، وهكذا كان..
تقول الرواية:
إن الحسين «عليه السلام» أجاب الأعرابي من بين الصبيان بقوله: أنا أدلك
على دار أمير المؤمنين «عليه السلام»..
فقد يوهم هذا التعبير:
أن الحسين «عليه السلام» كان يلعب مع الصبيان.. وهذا لا يتلاءم مع مقام
الإمامة الذي يدعيه له الشيعة.
ونجيب:
إن حضوره بين الصبيان، لا يعني أنه يجاريهم في لعبهم،
ويفعل كفعلهم. فقد تحضر الأم أو المعلمة أو المعلم، أو حتى طفل آخر بين
الصبيان ليراقب عملهم، أو ليوجه حركتهم في الإتجاه التربوي أو التعليمي
الصحيح، وإن كانوا هم يمارسون حركاتهم تلك، من دون هدف لهم فيها سوى
اللعب.
فهي لعب بنظرهم، ومن حيث هدفهم منها، وهي توجيه، وصلاح
وتعليم بنظر معلمهم، وما يتوخاه من توجيههم إليها.. وهي منشأ للفكرة
والعبرة.. للناظر المراقب لها.
ورغم أن الإمام الحسين «عليه السلام» قد أخبر الأعرابي
بأنه ابن أمير المؤمنين «عليه السلام»، ولكن الأعرابي عاد ليسأله مرة
أخرى: من أبوك؟! ثم سأله: من أمك؟!
ولعل سبب ذلك:
أن قول الإمام الحسين «عليه السلام»: أنا ابنه، ليس صريحاً فيما يريد
الأعرابي أن يتوصل إليه، فإنه قد يكون على سبيل التوسع في الإطلاق. حيث
يراد منه الابن المباشر تارة، والابن الذي هو من جملة الذرية أخرى.
وربما يطلق على الابن بالتربية والرعاية، وما إلى ذلك.
فأراد الأعرابي أن يتوثق من المراد، وأنه ابنه المباشر.
فكرر السؤال عليه، وشفعه بأسئلة أخرى تزيد من تأكيده، وتضيف إليه
خصوصيات أخرى له غرض بالتعرف عليها، والتأكد منها، كما أوضحته كلمة
الأعرابي أخيراً: «لقد أخذت الدنيا بطرفيها».
أما سؤال الأعرابي للإمام الحسين «عليه السلام» عن أمه،
فربما كان الهدف منه هو التأكد من اتصاله بالرسول عن طريق الأم، وليزيل
ـ من ثم ـ احتمال أن يكون قد ولد لعلي «عليه السلام» من أم أخرى غير
فاطمة «عليها السلام».
وذكرت الرواية المتقدمة:
أن الزهراء «عليها السلام» قد أخذت بطرف ثوب أمير المؤمنين، لكي ترفع
الأمر إلى أبيها «صلى الله عليه وآله» ليحكم بينهما..
ونقول:
قال العلامة المجلسي «رحمه الله»:
«لعل منازعتها صلوات الله عليها إنما كانت ظاهراً لظهور فضله «صلوات
الله عليه» على الناس، أو لظهور الحكمة فيما صدر عنه، أو لوجه من
الوجوه لا نعرفه»([2]).
أي أنها «عليها السلام» لم تنازعه على الحقيقة، بل هي
منازعة ظاهرية أرادت بها إظهار فضل علي «عليه السلام»، أو أرادت تعريف
الناس بالحكمة التي توخاها مما أقدم عليه..
ونضيف إلى ذلك:
أننا نعلم أن من تتصدق على المسكين واليتيم، والأسير بطعام أبنائها
الصائمين، وترضى بأن لا يذوقوا شيئاً طيلة ثلاثة أيام لا يمكن تلوم
علياً «عليه السلام» حين يتصدق بالدراهم على الفقراء، فإن الدرهم الذي
طالبته بالإحتفاظ به لإطعامها.. لا يزيد عن أقراص الشعير التي تصدقت
بها في قصة نزول سورة هل أتى، ولا يزيد أيضاً في أهميته على الطعام
الذي حرمت منه ولديها، وأطعمته للضيف، وباتت هي وعلي «عليه السلام»
يمضغان بألسنتهما..
فلو أبقى لها علي «عليه السلام» دهماً، وجاءها يتيم أو
مسكين أو أسير، هل تردهما خاليي الوفاض. وتحتفظ هي بدرهمها، لتأكل هي
وتشبع؟!
إن تاريخ الزهراء «عليها السلام» في الفداء والتضحية
والإيثار لا يسمح لنا بأن نتصور حصول شيء من ذلك على الإطلاق.
لذلك نقول:
لا بد لنا من تأييد كلام العلامة المجلسي «رحمه الله»،
ورفع مقامه.
وقد لاحظنا:
أن علياً «عليه السلام» حين أعطى الدراهم السبع لذلك الرجل. إنما
أعطاها بموافقة ولده الإمام الحسن «عليه السلام»، ليظهر أن ولده على
مثل نهجه، وأنه «عليه السلام» لا يفرض قرار الجوع على أبنائه من عند
نفسه، بل تلك هي رغبتهم، وبها لذتهم وسعادتهم..
وقد أظهر الإمام الحسن وعلي «عليهما السلام» بذلك أنهما
يؤثران صاحب الحاجة، ولو كان ملياً على أنفسهما، لمجرد قضاء حاجته
والتوسعة عليه، حتى لو كانا هما في أشد الخصاصة..
ولا مجال لقبول ادعاء:
أن يكون علي «عليه السلام» لم يلاحظ التشابه الظاهر فيما بين صاحب
الناقة، الذي باعه إياها.. والرجل الآخر الذي اشتراها منه، حيث كان
المثال واحداً، والثياب مختلفة..
والسؤال هو:
كيف فسَّر «عليه السلام» هذا التوافق والإختلاف بين الرجلين؟!
أم أنه أجرى الأمور وفق سياقها الطبيعي على اعتبار أن
الخلق قد يتشابهون إلى هذا الحد، كما هو الحال في التوأمين؟!
أو أنه عرف سرَّ القضية، ولكنه تغافل عنه، حتى يكون
رسول الله «صلى الله عليه وآله» هو الذي يفصح عنه، فإن المصلحة تكمن في
هذا؟!
وتقدم:
أنه «عليه السلام» سأل الأعرابي عن غرضه من شراء الناقة، ولا يسأل
البائع المشتري عادة عن سبب شرائه للسلعة منه، فهل أراد «عليه السلام»
أن يطمئن إلى أن الناقة سوف لا تكون في خدمة أغراض غير مشروعة، بل
سيستفاد منها في طاعة الله؟! أو أنه عرف أن المشتري من الملائكة، وليس
من البشر. فسأله عن ذلك، لأنه رأى الملائكة غير معنيين بالإستفادة من
الوسائل المادية في حياتهم.. وربما يكون السبب في هذا السؤال شيئاً
آخر، والله هو العالم بحقيقة الحال.
عن عروة بن الزبير، قال:
كنا جلوساً في مجلس في مسجد رسول الله «صلى الله عليه
وآله»، فتذاكرنا أعمال أهل بدر وبيعة الرضوان، فقال أبو الدرداء: يا
قوم، ألا أخبركم بأقل القوم مالاً، وأكثرهم ورعاً، وأشدهم اجتهاداً في
العبادة؟!
قالوا:
من؟!
قال:
علي بن أبي طالب «عليه السلام».
قال:
فوالله، إن كان في جماعة أهل المجلس إلا معرض عنه بوجهه.
ثم انتدب له رجل من الأنصار، فقال
له:
يا عويمر، لقد تكلمت بكلمة ما وافقك عليها أحد منذ أتيت بها.
فقال أبو الدرداء:
يا قوم، إني قائل ما رأيت، وليقل كل قوم منكم ما رأوا، شهدت علي بن أبي
طالب «عليه السلام»: بشويحطات النجار، وقد اعتزل عن مواليه، واختفى ممن
يليه، واستتر بمغيلات النخل، فافتقدته وبعد علي مكانه، فقلت: لحق
بمنزله، فإذا أنا بصوت حزين، ونغمة شجي، وهو يقول:
إلهي، كم من موبقة حلمت عن مقابلتها بنقمتك. (أو حلمت
عني، فقابلتها بنعمتك)، وكم من جريرة تكرمت عن كشفها بكرمك، إلهي إن
طال في عصيانك عمري، وعظم في الصحف ذنبي، فما أنا مؤمل غير غفرانك، ولا
أنا براج غير رضوانك.
فشغلني الصوت، واقتفيت الأثر، فإذا هو علي بن أبي طالب
«عليه السلام» بعينه، فاستترت له، وأخملت الحركة، فركع ركعات في جوف
الليل الغابر، ثم فزع إلى الدعاء، والبكاء، والبث والشكوى، فكان مما
ناجى به الله أن قال:
إلهي، أفكر في عفوك، فتهون علي خطيئتي، ثم أذكر العظيم
من أخذك، فتعظم علي بليتي.
ثم قال:
آه، إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها، وأنت محصيها، فتقول: خذوه،
فيا له من مأخوذ لا تنجيه عشيرته، ولا تنفعه قبيلته، يرحمه الملأ إذا
أذن فيه بالنداء.
ثم قال:
آه، من نار تنضج الأكباد والكلى، آه من نار نزاعة للشوى، آه من غمرة من
ملهبات لظى.
قال:
ثم أنعم (أمعن. ظ) في البكاء، فلم أسمع له حساً ولا حركة، فقلت: غلب
عليه النوم لطول السهر، أوقظه لصلاة الفجر.
قال أبو الدرداء:
فأتيته، فإذا هو كالخشبة الملقاة، فحركته فلم يتحرك، وزويته فلم ينزو،
فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، مات والله علي بن أبي طالب.
قال:
فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم.
فقالت فاطمة «عليه السلام»:
يا أبا الدرداء، ما كان من شأنه ومن قصته؟!
فأخبرتها الخبر، فقالت:
هي والله ـ يا أبا الدرداء ـ الغشية التي تأخذه من خشية الله.
ثم أتوه بماء فنضحوه على وجهه، فأفاق. ونظر إليَّ وأنا
أبكي، فقال: مم بكاؤك، يا أبا الدرداء؟!
فقلت:
مما أراه تنزله بنفسك.
فقال:
يا أبا الدرداء، فكيف لو رأيتني ودعي بي إلى الحساب، وأيقن أهل الجرائم
بالعذاب، واحتوشتني ملائكة غلاظ، وزبانية فظاظ، فوقفت بين يدي الملك
الجبار، قد أسلمني الأحباء، ورحمني (كذا) أهل الدنيا، لكنت أشد رحمة لي
بين يدي من لا تخفى عليه خافية.
فقال أبو الدرداء:
فوالله ما رأيت ذلك لأحد من أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله»([3]).
ونقول:
هنا أمور نحب لفت النظر إليها:
صرحت الرواية:
بأن أبا الدرداء هو الذي حدث بهذا الحديث. وهذا يؤكد لنا صحته، فإن أبا
الدرداء لم يكن من محبي علي «عليه السلام»، بل كان ليس فقط متعاطفاً مع
بني أمية، وإنما هو ـ كأبي هريرة ـ من المتحمسين لهم.
ويكفي أن نذكر:
أن معاوية ولاه قضاء دمشق([4]).
وكان يثني عليه، ويقول: «إلا أبا الدرداء أحد الحكماء»([5]).
ويقول عنه مرة أخرى ـ حسب رواية
ولده يزيد عنه ـ:
«إن أبا الدرداء من الفقهاء، العلماء الذين يشفون من كل داء»([6]).
وقد اعتزل علياً «عليه السلام» في حرب صفين([7]).
وقد بينت الرواية المتقدمة مدى إصرار أولئك المجتمعين
على إنكار فضائل علي «عليه السلام». فقد أعرض جميع من كان في ذلك
المجلس بوجهه.. حتى انتدب رجل أنصاري لأبي الدرداء: ليعلن له موقف تلك
الجماعة، وكأنه يطالبه بالشاهد على ما يدعيه..
فإذا كان هذا حال السلف الذين شاهدوا فضائل علي «عليه
السلام» بأم أعينهم، وسمعوا أقوال رسول الله «صلى الله عليه وآله» فيه،
ومواقفه منه، ووعوها.. ورأوا آيات القرآن تنزل فيه، ثم هم يصرون على
تجاهلها وإنكارها إلى هذا الحد، فما بالك بمن لم يسمع ولم ير، وكتمت
عنه الحقائق، وربي على البغض والشنآن لعلي، وأهل بيته «عليهم السلام».
هل تراه سيحبه، وسينقل شيئاً فضائله؟!
وألا يثير العجب الذي لا ينقضي من وصول هذا الكم الهائل
من فضائله «عليه السلام» إلينا، بواسطة نفس هؤلاء الشانئين له،
والمنحرفين عنه؟! أليس هذا من صنع الله تعالى له «عليه السلام»؟!
تضمنت هذه الرواية الإشارة إلى أدعية علي «عليه السلام»
التي يذكر فيها الذنوب التي يصفها في دعاء كميل: بأنها تقطع الرجاء،
وتنزل النقم، وتهتك العصم، وتحبس الدعاء.. ثم يطلب من الله تعالى أن
يغفرها له.. مع أن المفروض هو طهارته وعصمته منها بنص آية التطهير،
وبغيرها. فكيف نفسر ذلك؟!
ونجيب:
أولاً:
إن الله سبحانه حين شرّع أحكامه، قد شرعها على البشر
كلهم، على النبي والوصي المعصوم، وعلى الإنسان العادي غير المعصوم،
وعلى العالم والجاهل، وعلى الكبير الطاعن في السن والشاب في مقتبل
العمر، وعلى المرأة والرجل، وعلى العربي والأعجمي، وعلى العادل
والفاسق.
فيجب على الجميع الصلاة والزكاة والحج، والصدق
والأمانة، و.. الخ.. وقد رتبت على كثير من التشريعات مثوبات، وعلى
مخالفتها عقوبات.. ينالها الجميع، وتنال الجميع بدون استثناء أيضاً.
حتى لو لم يفهموا معاني ألفاظها، ولم يدركوا عمق مراميها، كما لو كانوا
لا يعرفون لغة العرب، أو كانوا أميين لم يستضيئوا بنور العلم.
فالثواب المرسوم لمن سبّح تسبيحة الزهراء «عليها
السلام» هو كذا حسنة.. لكل من قام بهذا العمل استحق هذه الحسنات.
كما أن لهذه العبادات آثاراً خاصة تترتب على مجرد
قراءتها، حتى لو لم يفهم قارؤها معاني كلماتها، فمن قرأ آخر سورة الكهف
مثلاً، وأضمر الإستيقاظ لصلاة الصبح في الساعة الفلانية، فإن الإستيقاظ
سيتحقق، كما أن من كتب نصاً بعينه يشفي من الحالة الكذائية، فإن الشفاء
يتحقق.
كما أن المعراجية للمؤمن المترتبة على الصلاة في قوله
«عليه السلام»: الصلاة معراج المؤمن. أو القربانية في قوله «عليه
السلام»: الصلاة قربان كل تقي. سوف تتحقق بالصلاة حتى لو لم يفهم
المصلي معاني كلماتها تفصيلاً، ومرامي حركاتها فإن نفس هذا الاتصال
بالله سبحانه بطريقة معينة ومحدودة على شكل صلاة أو زيارة، أو تسبيح
وغير ذلك مما شرعه الله سبحانه، مع توفر الإخلاص وقصد القربة والفهم
الإجمالي يحقق هذه الآثار، ويقود إليها، إذا كان مع نية القربة وظهور
الإنقياد والتعبد لله سبحانه وفق تلك الكيفيات المرسومة من قبله تعالى،
وذلك يحقق غرضاً تربوياً، وإيحائياً تلقينياً يريد الله سبحانه له أن
يتحقق.
ولأجل ذلك نجد:
أن النبي «صلى الله عليه وآله» يقول: السلام عليك أيها
النبي ورحمة الله وبركاته، ويقول في الأذان والإقامة:
أشهد أن محمداً رسول الله..
ويقول ذلك غيره.. ولا يصح منه الأذان ولا الإقامة، ولا
يحصل على ثوابهما، ولا على ثواب الصلاة، ولا على آثارها بدون الإتيان
بكل ما هو مرسوم فيها.
والرجل والمرأة يقرآن في دعاء واحد:
ومن الحور العين برحمتك فزوّجنا.. ولا يعني ذلك: أن تقصد المرأة مضمون
هذه الفقرة بالذات وبصورة تفصيلية، بل هي تقصد الإتيان بالمرسوم
والمقرر.
وإذا
سألت:
هل يعقل أن تكون صلاة النبي «صلى الله عليه وآله» والولي «عليه السلام»
كصلاة أي إنسان عادي آخر من حيث ثوابها، وتأثيراتها؟!
فإن
الجواب هو:
إن التفاوت إنما يكون فيما ينضم لذلك المرسوم من حالات الإخلاص
والإقبال أو ما يصاحبه من تعب وجهد، فالثواب إنما هو بإزاء خصوصية
إضافية «كالخشية» الخشوع والرهبة والخضوع التي أنتجتها عوامل أخرى
كمعرفة الله سبحانه، وكمال العقل، والسيطرة على الشهوات والميول وعلى
الحواس الظاهرة والباطنة.. أو أي جهد آخر إضافي قد بذل ووعد الله عليه
بالمثوبة المناسبة له على اعتبار: أن أفضل الأعمال أحمزها..
فاتضح مما تقدم:
أن إتيان المعصوم بالعبادات المرسومة، ومنها الأدعية لا
يستلزم أن يكون قد أصبح موضعاً لكل ما فيها من دلالات، فلا يكون
استغفاره دليلاً على وقوع الذنب منه.
ثانياً:
يقول بعض المهتمين بقضايا العلم: إن أجهزة جسم الإنسان
تقوم بوظائف لو أردنا نحن أن نوجدها بوسائلنا البشرية لاحتجنا ربما إلى
رصف الكرة الأرضية بأسرها بالأجهزة: هذا على الرغم من أنه إنما يتحدث
عن وظائف الجسد وخلاياه التي اكتشفت، مع أنه لم يتم اكتشاف الكثير
الكثير منها حتى الآن فضلاً عن سائر جهات وجود هذا الإنسان.
فالله سبحانه يفيض الوجود والطاقة والحيوية على كل
أجهزة هذا الجسد وخلاياه لحظة فلحظة، وهذه الفيوضات وطبيعة المهام التي
تنتج عنها، وكل هذا التنوع وهذه التفاصيل المحيرة تشير إلى عظمة مبدعها
في علمه وفي إحاطته، وفي حكمته، وفي تدبيره، وفي غناه، وفي قدرته و..
و.. و..
فإذا كان النبي والولي المعصومان يدركان هذه النعم التي
لولا الله سبحانه لاحتجنا لإنجازها إلى أجهزة تغلف الأرض بكثرتها.
ويعرف أيضاً:
بعمق أنه المحل الأعظم لتلك النعم ويعرف عظمتها وتنوعها
في مختلف جهات وجوده ويجد ويحس بآثارها في جسده، وفي روحه ونفسه، وكيف
أن كل ذرّة في الكون مسخرة لأجله، ولأجل البشر كلهم حسبما صرّح به
القرآن الكريم، ويعرف الكثير من أسرار ملكوت الله سبحانه..
وخلاصته:
أن النبي والولي يحس أكثر من كل أحد بقيمة وعظمة واتساع
النعم التي يفيضها الله عليه.
فلا غرو إذن إذا كان يرى نفسه ـ مهما فعل ـ مذنباً،
ومقصراً لعدم قيامه بواجب الشكر لذلك المنعم العظيم.. بل هو يبكي..
ويبكي من أجل ذلك، ولا يكف عن بذل الجهد.. وحين يقال: يا رسول الله، ما
يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك، وما تأخر؟!
نجده يقول:
أفلا أكون عبداً شكوراً.
ونوضح ذلك بالمثال، فنقول:
إن من يريد تقديم هدية لسلطان أو ملك، فإنه قد لا يجد
فيما يقدمه ما يناسب جلال السلطان وأبهة الملك، فيرى نفسه مقصراً فيما
قدّمه إليه.. بل ومذنباً في حقه.. تماماً كما كان لسان القبّرة التي
أهدت لسليمان جرادة كانت في فيها، وذلك لأن الهدايا على مقدار مهديها.
وواضح
أن حال المعصوم مع الله تختلف عن حالنا، فهو يعرف الله
حق معرفته، ولأجل ذلك فإن عبادته له ليست خوفاً من ناره ولا طمعاً في
جنته، بل لأنه يراه أهلاً للعبادة، فهو يعبده عبادة العارفين،
والعالمين.. كما أنه يعرف أيضاً: أن موقعه يجب أن يكون موقع العبودية
التامة، والخالصة، لأنه واقف على حقيقة ذاته في ضعفه، وفي واقع قدراته،
وحقيقة قصوره وحاجته إليه في كل آن، كما هو واضح لا يحتاج إلى مزيد
بيان.. ويرى نفسه مذنباً في هذا التقصير.. وقد يجر عليه ذلك فقدان لطف
الله به، وهتك العصم التي يكون بها قوته وثباته، ثم قطع الرجاء، وحبس
الدعاء.. الخ..
ثالثاً:
وبتقريب آخر نقول:
إن نسيج الأدعية والأذكار حين يراد له أن يكون دعاءً أو
ذكراً مرسوماً للبشر كلهم بجميع فئاتهم، ومختلف طبقاتهم ويلائم جميع
حالاتهم، وتوجهاتهم، فإنه يكون ـ بما له من المعنى ـ بحيث يتسع
لتطبيقات عامة ومتنوعة، ويجمعها نظام المعنى العام.
ويساعد على اتساع نطاق تلك التطبيقات، ويزيد في تنوعها
مدى المعرفة بمقام الألوهية، ومعرفة أياديه ونعمه وأسرار خلقه وخليقته
تبارك وتعالى وما إلى ذلك.. من جهة.. ثم معرفة الإنسان بنفسه، وبموقعه،
وحالاته.. و.. من جهة أخرى.
فبملاحظة هذا وذاك يجد المعصوم نفسه ـ نبياً كان أو
إماماً ـ في موقع التقصير، ويستشعر من ثم المزيد من الذل والخشية،
والخشوع له تعالى.
فالقاتل والسارق والكذاب حين يستغفر الله ويتوب إليه،
فإنما يستغفر ويتوب من هذه الذنوب التي يشعر بلزوم التخلص من تبعاتها،
ويرى أنها هي التي تحبس الدعاء وتنزل عليه البلاء، وتهتك العصم التي
تعصمه، ويعتصم بها، وتوجب حلول النقم به.
أما من ارتكب بعض الذنوب الصغائر، كالنظر إلى الأجنبية،
أو أنه سلب نملة جلب شعيرة، أو لم يهتم بمؤمن بحسب ما يليق بشأنه.. وما
إلى ذلك..
فإنه يستغفر ويتوب من مثل هذه الذنوب أيضاً، ويرى أنها
هي التي تحبس دعاءه، وتهتك العصم التي تعصمه ويعتصم بها، وتحل النقم به
من أجلها.
وهناك نوع آخر من الناس لم يقترف ذنباً صغيراً ولا
كبيراً، فإنه حين يقصّر في الخشوع والتذلل أمام الله سبحانه، ولا يجد
في نفسه التوجه الكافي إلى الله في دعائه وابتهاله، بل يذهب ذهنه
يميناً وشمالاً.. فإنه يجد نفسه في موقع المذنب مع ربه، والعاقّ لسيده،
والمستهتر بمولاه. وهذه ذنوب كبيرة بنظره، لا بد له من التوبة
والإستغفار منها.. وهي قد توجب عنده هتك العصم التي اعتصم بها، وحلول
النقم، وحبس الدعاء، وقطع الرجاء، وما إلى ذلك.
أما حين يبلغ في معرفته بالله سبحانه مقامات سامية، كما
هو الحال بالنسبة لأمير المؤمنين «عليه السلام»، أو بالنسبة لرسول رب
العالمين، فإنه لا يجد في شيء مما يقوم به من عبادة ودعاء وابتهال: أنه
يليق بمقام العزة الإلهية.
بل هو يعد الإلتفات إلى أصل المأكل والمشرب والإقتصار
على مثل هذه الطاعات تقصيراً خطيراً يحتاج إلى الخروج عنه إلى ما هو
أسمى وأسنى، وأوفق بجلال وعظمة الله سبحانه، وبنعمه وبفضله وإحسانه
وكرمه..
وهذا التقصير ـ بنظره ـ لا بد أن ينتهي إلى الحرمان من
النعم الجلّى، التي يترصّدها، حينما لا يصل إلى درجات تؤهله لتقبلها،
وكذلك الحال بالنسبة إلى نفوذ دعائه وحجبه عن أن يستنزل العطايا
الإلهية الكبرى، أو يرتفع به إلى مقامات سامية يطمع بها، ويطمح إليها..
كما أن النبي والوصي قد يجد نفسه غير متمكن من العصم التي يريد لها أن
تكون منطلقاً قوياً يدفع به إلى ما هو أعلى وأسمى، وأجل.
وبعبارة أخرى:
إنهم يرون: أن عملهم هو من القلّة والقصور بحيث يوجب
حجب الدعاء، ووقوعهم بالبلاء، ومن حيث أنه غير قادر على النهوض بهم
بصورة أسرع وأتم ليفتح لهم تلك الآفاق التي يطمحون لارتيادها، ما دام
أن شوقهم إلى لقاء الله يدعوهم إلى الطموح إلى طي تلك المنازل بأسرع
مما يمكن تصوره.
فما يستغفر منه الأنبياء والأوصياء، وما يعتبرونه ذنباً
وجرماً.. إنما هو في دائرة مراتب القرب والرضا وتجليات الألطاف
الإلهية.. وكل مرتبة تالية تكون كمالاً بالنسبة لما سبقها، وفي هذه
الدائرة بالذات يكون تغيير النعم، ونزول النقم، وهتك العصم الخ.. بحسب
ما يتناسب مع الغايات التي هي محطّ نظرهم «عليه السلام».
والخلاصة:
إن كل فئة من هؤلاء إنما تقصد الإستغفار والتوبة
تطبيقاً للمعنى الذي يناسب حالها، وموقعها وفهمها ووعيها، وطموحاتها
وخصوصيات شخصيتها، وحياتها وفكرها وواقعها الذي تعيشه، أي أنهم يقرؤون
الأدعية ويفهمونها، ويقصدون من تطبيقات معانيها ما يناسب حال كل منهم،
وينسجم مع معارفهم، وطموحاتهم.. ولكنها على كل حال أدعية مرسومة على
البشر كلهم، وللبشر كلهم.
وأخيراً..
فإننا نلفت القارئ الكريم إلى الأمور التالية:
أولاً:
إن إنكار البعض أن يكون دعاء النبي «صلى الله عليه
وآله» أو الإمام «عليه السلام» تعليمياً، ليس في محله، إذ لا ريب في أن
ثمة أدعية قد جاءت على سبيل التعليم للناس، وبالأخص بعض الأدعية التي
تعالج حالات معينة كالأدعية التي لبعض الأمراض أو لدفع الوسوسة أو لبعض
الحاجات، وما إلى ذلك.. أو تريد بيان التشريع الإلهي للدعاء في مورد
معين وقد لا يكون النبي «صلى الله عليه وآله» أو الإمام «عليه السلام»
مورداً لذلك التشريع لسبب أو لآخر..
ثانياً:
قوله: إن الإمام إنما يدعو الله من حيث هو إنسان، لا
يحل المشكلة، فإنه إذا كان هذا الإنسان لم يرتكب ذنباً، ولا اقترف
جريمة، فلماذا يطلب المغفرة الإلهية؟! ولماذا يبكي ويخشع؟! فإن
الإنسانية من حيث هي لا تلازم كونه عاصياً.
وإن كان قد أذنب وأجرم بالفعل، فأين هي العصمة؟! وأين
هو الجبر الإلهي ـ المزعوم من قبل هذا البعض ـ في عصمة الأنبياء
والأئمة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؟!.
ثالثاً:
إن من الواضح: أن الذنوب المشار إليها في الأدعية لم
يرتكبها الداعي جميعاً، فكيف إذا كان هذا الداعي هو المعصوم كما اعترف
به هذا البعض.. وذلك يشير إلى صحة ما ذكرناه في الوجوه التي أشرنا
إليها آنفاً وخصوصاً الأخيرة منها .
رابعاً:
إن المراد بالمغفرة في بعض نصوص الأدعية خصوصاً بالنسبة
الى المعصوم، هو مرحلة دفع المعصية عنه، لا رفع آثارها بعد وقوعها..
كما أن الطلب والدعاء في موارد كثيرة قد يكون وارداً
على طريقة الفرض والتقدير، بمعنى أنه يعلن أن لطف الله سبحانه هو
الحافظ، والعاصم.. ولكن المعصوم يفرض ذلك واقعاً منه لا محالة لو لم
يكن الله يكفي بلطف منه، فهو على حد قول أمير المؤمنين «عليه السلام»..
«لست بفوق أن أخطئ ولا آمن ذلك من فعلي، إلا أن يكفي
الله من نفسي ما هو أملك به مني»([8]).
وقد شرحنا هذه الكلمة في بحث مستقل (كُتَيِّب)، بعنوان:
«لست بفوق أن أخطئ» فليراجعه من أراد..
([1])
بحار الأنوار ج41 ص44 ـ 47 والأمالي للصدوق المجلس 77 و (ط
مؤسسة البعثة) ص553 ـ 557 وروضة الواعظين ص124 ـ 126 وحلية
الأبرار ج2 ص273 ـ 277 ومدينة المعاجز ج1 ص113 ـ 119 وشجرة
طوبى ج2 ص267 ـ 270.
([2])
بحار الأنوار ج41 ص47.
([3])
بحار الأنوار ج41 ص11 و 12 وج84 ص194 والأمالي للصدوق ص137
وروضة الواعظين ص112 والدر النظيم ص242 ص111 ومدينة المعاجز ج2
ص79 ومنازل الآخرة ص258 وراجع: مناقب آل أبي طالب 2 ص124 وغاية
المرام ج7 ص19.
([4])
راجع: الإصابة في تمييز الصحابة ج3 ص460 و (ط دار الكتب
العلمية) ج4 = = ص621 وأسد الغابة ج4 ص160 وج5 ص186 والإستيعاب
(بهامش الإصابة) ج3 ص17 و 18 وج4 ص60 و (ط دار الجيل) ج3 ص1229
والثقات لابن حبان ج3 ص285 وتهذيب التهذيب ج8 ص157 والأعلام
للزركلي ج5 ص98 وفتوح البلدان للبلاذري ج1 ص167وسير أعلام
النبلاء ج3 ص115 والوافي بالوفيات ج24 ص13.
([5])
الإصابة ج3 ص316 و (ط دار الكتب العلمية) ج5 ص483 والطبقات
الكبرى لابن سعد (ط ليدن) ج2 ق2 ص115 و (ط دار صادر) ج2 ص358
وتاريخ مدينة دمشق ج50 ص169 وتهذيب الكمال ج24 ص192 وتهذيب
التهذيب ج8 ص394.
([6])
الإستيعاب (مطبوع بهامش الإصابة) ج4 ص60 والتاريخ الكبير
للبخاري ج7 ص77 وتاريخ بغداد ج4 ص317 وتاريخ مدينة دمشق ج47
ص120 و 131.
([7])
الأخبار الطوال للدينوري ص170 والبداية والنهاية (ط دار إحياء
التراث العربي) ج7 ص288 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج4 ص18
وصفين للمنقري ص190 وبحار الأنوار ج32 ص451 ومستدرك سفينة
البحار ج3 ص268 والكنى والألقاب ج1 ص66 وأعيان الشيعة ج1 ص482.
([8])
الكافي ج8 ص293 وبحار الأنوار ج27 ص253 وج41 ص154 وج74 ص358 و
359 ونهج البلاغة (ط دار التعارف بيروت) ص245 وتفسير الآلوسي
ج22 ص18.
|