هناك سلسلة من الأحداث، تتابعت في غضون أقل من ثلاثة
أشهر، كان لكل منها دوره القوي في توضيح معالم الصراع بين خطين: أحدهما
يريد حفظ الدين، وتثبيت دعائمه، وتوطيد أركانه، وتشييد بنيانه.. والآخر
يريد أن يستفيد من هذا الدين، ويستأثر لنفسه بكل ما يمكنه الحصول عليه،
على قاعدة: «احلب حلباً لك شطره». أو: «لشد ما تشطرا ضرعيها»..
وقد بذل النبي والوصي صلوات الله عليهما وعلى آلهما
أعظم الجهد في حفظ أساس الدين، وإماطة كل أذى عنه، ولا سيما فيما يرتبط
بالإمامة.. التي كانت محور طموح أهل الأطماع الذين يبذلون أقصى الجهد
في جلب المنافع، والإستئثار بالمناصب والمواقع..
وكنا قد أشرنا إجمالاً لهذين المسارين، في الجزء الثامن
عشر من كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله».. وقد
رأينا أن نورده هنا مع بعض التقليم، والتطعيم، فنقول:
لقد بذل النبي «صلى الله عليه وآله» ـ وفقاً للتوجيهات
والأوامر الإلهية ـ جهداً يرمي إلى تحصين أمر الإمامة، بالتأكيد والنص
عليها بمختلف الأساليب البيانية: قولاً، وعملاً، وتصريحاً، وتلميحاً،
وكناية، وإشارة، وسراً، وجهراً، وما إلى ذلك..
وكان الفريق الطامع والطامح ـ وهم قريش ـ يسعون إلى
إحباط هذه المساعي، والتشكيك في تلك البيانات ومحاصرتها، وإبطال
آثارها..
وقد اتجهت الأمور نحو التصعيد في الأشهر الثلاثة
الأخيرة من حياته
«صلى الله
عليه وآله»،
بصورة قوية وحاسمة. ونحن نذكر هنا سبعة مفاصل أساسية وشاخصة، ظهرت في
هذه الفترة بالذات، فنقول:
كان أول مفصل هام وحساس وأساسي، في يوم عرفة، في حجة
الوداع؛ حيث بادر النبي
«صلى الله
عليه وآله»
إلى إبلاغ إمامة علي
«عليه
السلام»
للناس، في موسم الحج هذا، الذي يجتمع فيه الناس من كل الأجناس، والفئات
والمستويات ومن مختلف البلاد، يجتمعون في صعيد واحد، يظهرون التوبة
والندم، ويجأرون بالدعاء لله تعالى بأن يتوب عليهم، ويتقبل منهم..
فأراد
«صلى الله
عليه وآله»
أن يخطبهم، ويبلِّغهم ما أمره الله تعالى بتبليغه، فلما انتهى إلى
الحديث عن الإمامة والأئمة، تصدى له الفريق القرشي الطامح، ليفسد عليه
تدبيره، وليمنعه من القيام بما أمره الله سبحانه به، فصاروا يقومون
ويقعدون، وضجوا إلى حد لم يعد للحاضرين المحيطين به
«صلى الله
عليه وآله»
مجال لسماع كلامه
«صلى الله
عليه وآله».
ولعلهم قد ظنوا أنهم نجحوا فيما أرادوه، كما توحي به
ظواهر الأمور.
ولكن الحقيقة هي العكس من ذلك تماماً.. فإن النبي
«صلى الله
عليه وآله»
كان يعلم: أنهم سوف يغتصبون الخلافة على كل حال.. ولكنه يريد أن يعرِّف
الأجيال إلى يوم القيامة ذلك.. وأن لا يمكِّنهم من التشكيك في أحقية
أمير المؤمنين علي
«عليه
السلام»
بها، وفي النص عليه، ونصبه لهذا الأمر من قبل الله ورسوله..
ولأجل ذلك:
فإن الخطة النبوية كانت ترمي إلى التأكيد على هذا الأمر، وفضح الذين
يريدون أن يتخذوا من التظاهر بالدين والتقوى ذريعة إلى مآربهم..
وقد تحقق ذلك له
«صلى الله
عليه وآله»
في هذا الموقف بالذات، في أقدس البقاع، وهو عرفة وأجل مناسبة عامة وهي
الحج، وأفضل الأزمنة ـ يوم عرفة ـ وهم يؤدون فريضة عظيمة، وركناً من
أركان الشريعة.
وهم
محرمون لله تعالى، يجهرون بتلبية النداء الإلهي:
«لبيك
اللهم لبيك».
ثم يعلنون اعترافهم بوحدانيته
«لبيك
لا شريك لك لبيك»،
وبمالكيته، وسلطانه وبنعمته وفواضله
«إن
الحمد والنعمة لك والملك..»
ويقفون في أحد المشاعر المعظمة، ولا همَّ لهم إلا الدعاء، والإستغفار،
وطلب الحاجات من الله تعالى.. والإجتهاد في الحصول على رضاه لكي يستجيب
لهم، ويكون معهم.
نعم، وفي هذا الموقف بالذات ظهر
للناس جميعاً:
أنه رغم أمر الله تعالى لهم بأن لا يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي
«صلى
الله عليه وآله»،
لكي لا تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون، صاروا يضجون إلى حد أنهم أصموا
الناس، فلا يستطيع أحد أن يسمع شيئاً من كلامه
«صلى الله
عليه وآله»،
وصاروا يقومون ويقعدون الخ..
وحمل الناس، الذين أتوا من كل حي وبلد وقبيلة، في
قلوبهم هذه الذكرى المرة، معهم إلى بلادهم، التي يعودون إليها من سفر
طويل وشاق، وفيه أخطار الامراض والتعديات، ويتلهف من يستقبلهم ليسألهم
عما رأوه أو سمعوه من أفضل البشر، وأكرم الأنبياء
«عليه
السلام»،
وأشرف المخلوقات، الذي لم يره الكثيرون منهم إلا هذه المرة اليتيمة،
وسيموت
«صلى
الله عليه وآله»
بعدها، وتبقى ذكراه في قلوب هؤلاء كأعز شيء عليهم، وأثمنه عندهم.
ولا بد أن ينقلوا ذلك للناس دائماً بحزن، وأسى، ومرارة،
بعد أن اتضح لهم أمر عجيب وغريب، وهو: أن صحابته
«صلى الله
عليه وآله»
لا يوقرون نبيهم الأعظم، والخاتم، ولا يطيعونه.
وربما يمكن لهم أن يعتذروا للناس،
ويقولوا لهم:
لقد حاسبنا أنفسنا، وندمنا على ما بدر منا، فإنها كانت هفوة عابرة، وقد
اعتذرنا، وقبل رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
عذرنا..
ثم يزعمون لهم:
أنه قد استجدت أمور قبل وفاته
«صلى الله
عليه وآله»
أوجبت أن يعدل
«صلى الله
عليه وآله»
عن أمر إمامة الأئمة، فأعاد الأمر شورى بين المسلمين..
وقد يجدون من طلاب اللبانات، ومن عبيد الدنيا، من يرغب
في تصديق مزاعمهم هذه، فجاءت قضية غدير خم لتقول للناس: لا تقبلوا
أمثال هذه الأعذار.
وذلك لأن رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
بمجرد أن انقضت مراسم الحج، ترك مكة ولم يزر البيت!! وخرج مع الحجيج
العائد إلى بلاده قبل أن يتفرقوا في الطرقات إليها.
وكان رؤوس هؤلاء الطامعين والطامحين يرافقونه، ليعودوا
معه إلى المدينة، وبقي في مكة والطائف، وفي كل هذا المحيط أنصار هؤلاء
ومحبوهم.. وها هم يبتعدون شيئاً فشيئاً عن المناطق التي تدين لهم
بالولاء، وأصبحوا غير قادرين على الإقدام على أية إساءة للرسول
«صلى الله
عليه وآله»..
لأنهم يعجزون عن مواجهة عشرات الألوف، وهم بضع عشرات من الأفراد، فإن
جماهيرهم في مكة وما والاها لم يأتوا، ولن يستطيعوا أن يأتوا معهم..
فلما بلغ
«صلى الله
عليه وآله»
غدير خم، نزلت الآيات الآمرة له بلزوم إنجاز المهمة التي كلفه الله
تعالى بها من جديد، ومعها تهديد صريح لأولئك المعاندين: بأن استمرار
اللجاج والعناد سوف يعيد الأمور إلى نقطة الصفر
﴿وَإِن
لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ..﴾([1])،
أي أن ذلك يعني أنه مستعد للدخول معهم في حرب طاحنة، كحرب بدر وأحد، أو
قد ينزل بهم العذاب، كما جرى لبعض الأمم السالفة.. فاضطر هذا الفريق
المناوئ، والطامح، والطامع، إلى السكوت، والانحناء أمام العاصفة، ولو
إلى حين.
وبلَّغ النبي
«صلى الله
عليه وآله»
إمامة علي
«عليه
السلام»
في غدير خم، وتظاهر ذلك الفريق بالطاعة، وقدم البيعة لعلي
«عليه
السلام»،
حتى قال له أحدهم: بخ بخ لك يا علي، لقد أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن..
ولا ندري إن كانت هذه البخبخة أيضاً انحناءً أمام
العاصفة؟! أم أنها جاءت لتعبِّر عن حسرة وألم، وعن أمور أخرى لا نحب
التصريح بها!
ولكن الباب قد بقي مفتوحاً أمام هذا الفريق للخروج من
هذا المأزق، إذ
يمكن أن يقول
هؤلاء للناس:
صحيح أن النبي
«صلى الله
عليه وآله»
نصب علياً
«عليه
السلام»
في غدير خم، وقد بايعناه، وبخبخنا له.. ولكن قد استجدت أمور بعد ذلك
جعلته
«صلى الله عليه وآله»
يعدل عن قراره هذا، والله على ما نقول وكيل، فإننا صحابته المحبون،
المطيعون، المأمونون، على ما يأمرنا به.
أو يقولون:
إن هذه الأمور جعلت علياً
«عليه
السلام»
نفسه يستقيل من هذا الأمر.. (وقد سرت شائعة بهذا المضمون فعلاً، وتركت
لها آثاراً حتى على اجتماع السقيفة نفسه كما تقدم).
فجاءت قضية تجهيز جيش أسامة، لتبين
بالفعل لا بالقول:
أنهم لا يطيعون أمر رسول الله «صلى الله عليه وآله»، حتى مع إصراره
عليهم، والتصريح بغضبه منهم، فهو يأمرهم بالخروج في جيش أسامة، ويلعن
من يتخلف عن ذلك الجيش، ولكنهم يصرون على رفض الخروج معه، ويتعللون
بأنهم يخافون على النبي «صلى الله عليه وآله» من أن يحدث له حدث في
غيبتهم.. وهذا يزيد في يقين الناس بنوايا هؤلاء.
ولكنهم قد يعتذرون عن هذه المخالفة
أيضاً:
بأنها خطأ فرضته محبتهم له
«صلى الله
عليه وآله»،
وشدة خوفهم عليه، ولم تكن ناشئةً عن روح متمردة، أو غير مبالية.
فجاءت قضية:
فقد اغتنموا فرصة مرض رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»،
فاحتلوا مكانه في إمامة الصلاة، ربما ليؤكدوا على أنهم هم المؤهلون
لموقعه
«صلى الله
عليه وآله»
من بعده، وليجعلوا ذلك ذريعة لادعاء أن من يخلف النبي
«صلى الله
عليه وآله»
في إمامة الصلاة هو الذي ينبغي أن يخلفه في سائر الأمور..
وقد يَدَّعي بعضهم، أو يَدَّعي لهم
محبوهم:
أن النبي
«صلى الله
عليه وآله»
هو الذي أمرهم بالصلاة، أو أنهم أخبروه فرضي.
ولكن رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
أبطل تدبيرهم هذا أيضاً، وحوَّله إلى إدانة لهم، وصار سبَّة عليهم،
وذلك بمجيئه ـ رغم مرضه ـ محمولاً على عاتق رجلين، هما: علي
«عليه
السلام»
وشخص آخر. فعزل أبا بكر عن الصلاة، وصلى مكانه.
فهو
«صلى الله
عليه وآله»
لم يكتف بنفي أن يكون قد أمر أحداً بالصلاة مكانه، أو بالتصريح بعدم
الرضا بصلاة من صلَّى، بل قرن عدم رضاه هذا، بالفعل والممارسة، حين جاء
وعزله بنفسه، وفي وسط صلاته، وقطعها عليه، وأبطلها، لأنها كانت صلاة
مفروضة على النبي «صلى
الله عليه وآله»
والناس، ولم يأذن الله ورسوله بها.. ويدلنا على ابطالها نفس تحول
الامامة إلى النبي «صلى
الله عليه وآله»..
من دون مانع يمنع ابا بكر من الاتمام سوى ما ذكرناه من عزل النبي «صلى
الله عليه وآله»
له.. لكي لا يعتذر أحد بأن أبا بكر حين رأى النبي
«صلى الله
عليه وآله»
مقبلاً آثره وقدَّمه..
وبذلك يكون
«صلى الله
عليه وآله»
قد بيَّن أن أبا بكر أقدم على ما لا حقَّ له فيه، إما من حيث فقدانه
لشرائط إمامة الصلاة، أو من حيث إن في الأمر سراً أعظم من ذلك، وهو
الإعلان بأنه ليس له أن يمثل رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
في أي موقع من مواقعه، وأنه لا يحق له التصدي للمقام الذي يرشح نفسه
له، بل لا مجال للسكوت والستر عليه لو تصدى، ولو لمثل إمامة جماعة في
صلاتهم، حتى لو كان ذلك من موجبات لحوق الضرر به، ولو بأن تنطلق
الشائعات والتكهنات في غير صالحه.
وذلك يدل على:
أن هناك أمراً عظيماً أوجب ذلك، وجرَّده من حقوقه، فما هو ذلك الأمر
العظيم يا ترى؟!
وبذلك يظهر:
أنه لم تعد هناك حاجة إلى تفهيم الناس أن شرائط إمام الجماعة ـ وهي
العدالة، وصحة القراءة، ونحو ذلك ـ تختلف عن شرائط الخلافة والإمامة،
إذ لا تحتاج إمامة الجماعة في الصلاة إلى العلم، ولا إلى العصمة، أو
الشجاعة، ولا إلى أن لا يكون بخيلاً أو جافياً. كما أنها لا تحتاج إلى
النصب من المعصوم، ولا غير ذلك من أمور كثيرة ذكرتها الآيات والروايات،
ونصت على أنها لا بد منها في الإمامة والخلافة لرسول الله «صلى الله
عليه وآله»..
وربما يعتذرون عن ذلك أيضاً:
بأن المبادرة إلى الصلاة من أبي بكر قد جاءت عن حسن نية، وسلامة طوية،
وبقصد نيل ثواب الجماعة، ولم يقصد بها الإساءة إلى رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»..
ولعل عدم الإستئذان في ذلك منه
«صلى الله
عليه وآله»
هو الذي أغضبه
«صلى الله
عليه وآله»،
ولم يكن أبو بكر يظن أن الأمور تصل إلى هذا الحد، ولا شك في أنه قد
استغفر الله تعالى من هذا الخطأ غير المقصود.
فجاءت القضية التالية:
لتؤكد عدم صحة أمثال هذه الإعتذارات أيضاً، فقد طلب
النبي «صلى الله عليه وآله» كتفاً ودواة، لكي يكتب لهم كتاباً لن يضلوا
بعده، فقال عمر: إن الرجل ليهجر أو غلبه الوجع([2])..
فجاءت هذه الكلمة لتكون أوضح في الدلالة، وأصرح في التعبير عن جرأة
هؤلاء على رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وعن مدى تصميمهم على تحقيق
طموحاتهم، والوصول إلى أطماعهم، وعن المدى الذي يمكن أن تصل إليه
تصرفاتهم في هذا الإتجاه.. وعن الحرمات التي يمكن أن تنتهك من أجل
ذلك..
حيث إن النبي «صلى الله عليه وآله»
حين طلب في مرض موته:
أن يأتوه بكتف ودواة، إنما أراد أن يحرجهم في اللحظة الأخيرة، ليظهروا
للناس على حقيقتهم..
وبعد ذلك، فإن على الناس أنفسهم أن يعدُّوا للأمر عدته،
وأن لا تغرهم الإدعاءات الباطلة، والإنتفاخات الفارغة.
وبذلك يكون «صلى الله عليه وآله» قد فتح باباً يستطيع
الداخل فيه أن يصل إلى كنه الأمور، ولو بعد مرور الأحقاب والدهور، التي
تنأى بالحدث عن المشاهدة، وتمعن في إبهامه.
ولعلهم يعتذرون حتى عن مثل هذا الأمر العصي عن الإعتذار،
فيقولون: لقد كانت هذه أيضاً هفوة
منا غير مقصودة، في ساعة فوضى مشاعرية غير محمودة، وقد عضنا ناب الندم
لأجل ما صدر، وأكلتنا نيران الحسرة بسبب ما بدر، فبادرنا إلى الله
بالإستغفار، وللنبي «صلى الله عليه وآله» بالإعتذار، فقبل عذرنا، ومات
وهو راض عنا، وحمَّلنا للناس وصاياه، وعرَّفنا نواياه، وأخبرنا: أن
الأمور قد تغيرت، وجاء ما أوجب نقض الهمم، وفسخ العزائم، فيما يرتبط
بالبلاغ الذي كان في يوم الغدير.
فجاءت قضية أخرى أوضح وأصرح، وهي هجومهم على بيت
الزهراء «عليها السلام»، واقتحامه، وما لحقها «عليها السلام» من إهانة
وظلم، واعتداء بالضرب، وإسقاط الجنين، فسقطت كل الأقنعة، بل تلاشت،
واهترأت، وتمزقت، وأصبحت أوهى وأكثر حكاية لما وراءها حتى من بيت
العنكبوت، لو كان ثمة ما هو أوهى منه..
خصوصاً مع تصريح القرآن بطهارة هذه السيدة المظلومة
المعصومة، وبوجوب مودتها، ومع تصريح الرسول
«صلى الله
عليه وآله»
بأن من آذاها فقد آذى الله، وهي ابنته الوحيدة، وسيدة نساء أهل الجنة..
وقد قاموا بهجومهم هذا عليها في ساعة دفنها لأبيها،
وبالتحديد فوق قبره الشريف، وفي مسجده.
ثم منعوها من البكاء على أبيها، وجرعوها الغصص، وساموها
أشد الأذى.
فأعلنت
«عليها
السلام»
غضبها عليهم وهَجَرَتْهم إلى أن ماتت، وأوصت أن تدفن ليلاً، ولم ترض
بحضورهم جنازتها.
وقد يعتذر هؤلاء للناس البسطاء،
فيقولون:
لعن الله الشيطان، إن موت رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
قد أدهش عقولنا، وحير ألبابنا، وأصبحنا نخاف من الذل الشامل، والبلاء
النازل. فاندفعنا بحسن نية، وسلامة طوية لتدبير الأمر، ولدفع الفتنة،
وللإمساك بزمام المبادرة قبل أن ينفرط العقد، ويضيع الجهد، فوقعنا في
الهفوات، وارتكبنا الخطيئات، فها نحن نعترف ونعتذر، وقد سعينا لاسترضاء
الزهراء
«عليها
السلام»،
ورمنا طلب الصفح منها، ولكنها لم تقبل.
غير أن ما صدر منا لا يعني أننا لا نصلح للمقام الذي
اضطلعنا به، بل نحن أهل له وزيادة، وقادرون على القيام بأعباء
المسؤولية فيه..
فجاء غصب فدك، ليكون آخر مسمار يدق في نعش ما يدَّعونه
لأنفسهم من الفلاح والصلاح، لأنه أبدل الشك باليقين، وأسفر الصبح لذي
عينين، وصرح الزبد عن المخض، وظهر: أن هؤلاء يفقدون حتى أبسط السمات
والمواصفات لمن يتولى شؤون الأمة، وليدل دلالة قاطعة على أن مقام خلافة
النبوة قد أخذ عنوة وقهراً.
ولنفترض:
أن هؤلاء الطامحين والطامعين، والمعتدين والغاصبين، أنكروا ذلك كله،
وزعموا: أنهم أكرموا الزهراء «عليها السلام»، ولم يضربوها، ولم يسقطوا
جنينها، وزعموا: أن النبي «صلى الله عليه وآله» لم ينص على علي «عليه
السلام»، ولجأوا إلى التشكيك في سند النص المثبت لإمامة علي «عليه
السلام»، أو التشكيك في دلالته، أو حاولوا التشكيك في كل القرائن
والدلالات والتصريحات، والكنايات، والحقائق والمجازات، في الآيات
والروايات المثبتة لإمامته «عليه السلام».
نعم..
لنفترض ذلك، فإن باب المعرفة يبقى مفتوحاً على مصراعيه لكل الأجيال،
عبر الأحقاب والأزمان، من خلال قضية فدك بالذات.
لقد أراد هؤلاء أن يأخذوا فدكاً،
ليقولوا للناس بالفعل قبل القول:
إنهم هم الذين
يتبوّؤون منصب خلافة الرسول
«صلى الله
عليه وآله»،
وأن ما كان له
«صلى الله
عليه وآله»
قد أصبح لهم أيضاً، بحكم كونهم خلفاءه، فلهم الحق في أن
يتصرفوا فيما كان يتصرف فيه، والذي كان من شؤونه أصبح من شؤونهم..
واختاروا فدكاً لهذا الأمر؛ لأنها هي الأوضح دلالة،
والأعمق أثراً، لأنها في يد بنت الرسول الأعظم
«صلى الله
عليه وآله»
بالذات، وزوجة الرجل الذي يناوئونه، ويواجهونه.
فإن مرت هذه المبادرة بسلام، فإن
الناس سوف يقولون:
إذا كانت سلطة هؤلاء قد طالت علياً
«عليه
السلام»
نفسه، وبنت رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
مباشرة، فماذا عسى يمكن لغيرهم أن يفعل؟!
فاستولوا على فدك، وأخرجوا عمال الزهراء
«عليها
السلام»
منها، بعد سنوات من تملكها لها، والتصرف فيها في حياة رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»..
متذرعين بحجج واهية، لا تسمن ولا تغني من جوع.
ولم تطالبهم الزهراء «عليها السلام» بما كان منهم من
العدوان عليها وضربها، وإسقاط جنينها، لأن غاية ما يمكن أن ينتج عن ذلك
هو إزجاؤهم الكلام المعسول، والمديح والثناء الكلامي، وإظهار الأسف،
واصطناع حالات من التواضع، وهضم النفس والإستعطاف..
ويرى الناس البسطاء:
أنهم بذلك قد أدوا قسطهم للعلى..
وسوف يكون المعتدون سعداء لتحويل القضية برمتها إلى
قضية شخصية، تخضع لأمزجة الأفراد ولأخلاقياتهم.
وربما لا يخطر على بال الكثير من الناس القضية الأساس
التي كانت السبب في اندفاعهم للعدوان.
وقد لا يدور بخلدهم أيضاً أن هذا لا يكفي، بل لا بد من
معاقبة المجرم، وأن من يرتكب هذه الفظائع، لا يصلح لمقام الإمامة
والخلافة، وأن عليه أن يتخلى عن المقام الذي اغتصبه إلى صاحبه الشرعي،
وهو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
«عليه
السلام».
ولأجل ذلك أبقت الزهراء
«عليها
السلام»
على موضوع العدوان عليها بعيداً عن الأخذ والرد، وعن الحجاج والإحتجاج.
ولم تشر إليه في خطبتها في المسجد، كما أنها لم تستجب لاستدراجاتهم لها
فيه، بل أبقت على موقفها الغاضب والرافض، لكل بحث ومساومة إلا بعد
الإعتراف بالحق، وبعد إرجاعه إلى أهله.
وقد حافظت على هذا الموقف إلى أن لحقت بربها، ليبقى ذلك
العدوان ماثلاً في وجدان الناس، بعيداً عن الأيدي العابثة، التي تريد
إسقاط تأثيره، بصورة أو بأخرى.
والذي حصل من خلال قضية فدك:
هو دلالتها على أن الذين اغتصبوها يفقدون إلى آخر لحظة، أبسط الشرائط
التي تؤهلهم لأدنى مسؤولية، ومن هذه الشرائط المفقودة، شرط الأمانة،
فهم غير مأمونين على دماء الناس، كما أظهره فعلهم بالسيدة الزهراء
«عليها
السلام».
وغير مأمونين على أعراضهم، كما أوضحه هتكهم لحرمة
بيتها، وهي التي تقول: خير للمرأة أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل.
وغير مأمونين على أموال الناس، كما أوضحه ما صنعوه في
فدك، وفي ميراثها..
وغير مأمونين على دين الناس لأنهم يخالفون أحكامه على
رغم تذكيرهم بها، وبيانها لهم. وغي مأمونين على أخلاقهم، وفي تربيتهم،
لأن أفعالهم دلّت على ذلك فيهم. ووشت ببالغ قسوتهم.. حين أرادوا إحراق
حتى الأطفال، وأي أطفال!! إنهم الحسنان «عليهما
السلام»
فإذا كانوا لا يحفظون أموال ودماء وعرض رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»،
فهل يحفظون دماء وأعراض وأموال الضعفاء من الناس العاديين؟!
وإذا كانوا يجهلون حكم الإرث؛ فقد علمتهم إياه السيدة
الزهراء
«عليها
السلام».
وبعد التعليم، والتذكير، فإن إصرارهم يدل على فقدانهم
لأدنى درجات الأمانة والعدل.
فهل يمكنهم بعد ذلك كله ادِّعاء:
أنهم يريدون إقامة العدل، وحفظ الدماء، والأعراض، والأموال، وتعليم
الناس دينهم، وتربيتهم، وبث فضائل الأخلاق فيهم، وغير ذلك؟!
ومن جهة أخرى:
فإنهم يفقدون المعرفة بأبده البديهيات في الإسلام، ويكفي للتدليل على
ذلك أن نذكر الفقرة التالية من خطبتها «عليها
السلام»،
حين بلغها اجتماع القوم على منعها فدكاً، فدخلت على أبي بكر، وهو في
حشد من المهاجرين والأنصار، وقالت:
أيها المسلمون، أغلب على إرثي؟!
يا ابن أبي قحافة، أفي كتاب الله ترث أباك ولا أرث
أبي؟! لقد جئت شيئاً فرياً!
أفعلى عمدٍ تركتم كتاب الله، ونبذتموه وراء ظهوركم؟! إذ
يقول: ﴿وَوَرِثَ
سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾([3]).
وقال:
فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا إذ قال:
﴿فَهَبْ
لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾([4]).
وقال:
﴿وَأُوْلُو
الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ﴾([5]).
وقال:
﴿يُوصِيكُمُ
اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ﴾([6]).
وقال:
﴿إِن
تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ
بِالمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى المُتَّقِينَ﴾([7]).
وزعمتم:
أن لا حظوة لي، ولا أرث من أبي، ولا رحم بيننا، أفخصكم الله بآية أخرج
أبي منها؟!
أم هل تقولون:
إن أهل ملتين لا يتوارثان؟!
أولست أنا وأبي من أهل ملة واحدة؟!
أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟!
فدونكها مخطومة مرحولة، تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم
الله، والزعيم محمد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون..
ثم قالت «عليها السلام» لأبي بكر:
سبحان الله، ما كان أبي رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
عن كتاب الله صادفاً، ولا لأحكامه مخالفاً! بل كان يتبع أثره، ويقفو
سوره. أفتجمعون إلى الغدر اعتلالاً عليه بالزور، وهذا بعد وفاته شبيه
بما بغى له من الغوائل في حياته، هذا كتاب الله حكماً عدلاً، وناطقاً
فصلاً، يقول:
﴿يَرِثُنِي
وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾([8]).
ويقول:
﴿وَوَرِثَ
سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾([9]).
وبيَّن عز وجل فيما وزع من الأقساط، وشرع من الفرائض
والميراث، وأباح من حظ الذكران والإناث، ما أزاح به علة المبطلين،
وأزال التظني والشبهات في الغابرين. كلا بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر
جميل، والله المستعان على ما تصفون([10]).
وخلاصة القول:
إن الخلافة عن الرسول «صلى الله
عليه وآله» تعني:
أخذ موقعه، والتصدي لمهماته، التي هي تعليم الأمة دينها، وتربيتها
تربية صحيحة وصالحة، وتدبير أمورها، وقيادتها إلى شاطئ الأمان، وحفظها
من أعدائها، وقيادة جيوشها، والقضاء والحكم فيما اختلفوا فيه، بحكم
الله ورسوله.. وما إلى ذلك..
فإذا كان من يجلسون في موقعه، وينتحلون مقامه، لا
يعرفون هذه الأحكام البديهية، فكيف استحقوا إمامة الأمة.. وكيف
يعلِّمونها أحكام الدين، وشرائع الإسلام، وفيها ما هو دقيق وعميق، ولا
يعرفه إلا الأقلون، وكان مما يقل الإبتلاء به، وهو بعيد عن التداول؟!
وإذا كانوا لا يعرفون هذه الآيات القرآنية، يلهج بها
الكبير والصغير، فكيف يعلِّمون الناس القرآن، ويستخرجون لهم دقائقه
وحقائقه؟!
وإذا كانوا بعد التعليم والبيان من قبل الزهراء
«عليها
السلام»
في خطبتها هذه بالذات، قد عجزوا عن التعلم، فكيف يمكن لهم التصدي لشرح
معاني القرآن، واستكناه أسراره؟!
وإذا كانوا قد عرفوا وأصروا على مخالفة أمر الله تعالى،
فأين هي عدالتهم اللازمة لهم في أبسط الأشياء، والمطلوب توفرها في كل
مسلم ومؤمن، فضلاً عمن يتبوأ منصب خلافة رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»؟!
وأين هي الأمانة على دين الله، وعلى أموال المسلمين،
وعلى مصالحهم وشؤونهم؟!
وإذا كانوا هم الذين يظلمون الناس في أحكامهم القضائية،
فكيف نتوقع منهم أن يحكموا بالعدل في سائر أفراد الأمة؟!
وإذا كانوا هم الطرف في الدعوى، والسبب في المشكلات،
فكيف يكونون هم الحكام والقضاة فيها؟!
وإذا كانوا يضربون طرف الدعوى، ويظلمونه قبل إدلائه
بالحجة، وقبل سماعها منه، فكيف نتوقع أن يجرؤ أحد سواها على الإدلاء
بحجته، ويقدم أدلته؟!
وإذا كان هذا الظلم يجري على أقدس إنسان على وجه الأرض،
وهو بنت رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»،
والتي يرضى الله لرضاها، ويغضب لغضبها، فكيف يكون حال الناس العاديين
الذين لا قداسة ولا موقع لهم، ولم يخبر النبي
«صلى الله
عليه وآله»
عنهم بأن الله يرضى لرضاهم، أو يغضب لغضبهم؟!..
وإذا كانوا قد فعلوا ذلك لجهلهم بأحكام القضاء، فكيف صح
أن يتصدوا لهذا المقام الذي هو للعارف بالقضاء؟!
وإذا كانوا فعلوا ذلك تجاهلاً وتعمداً لترك ما يجب
عليهم، فأين هي العدالة في القاضي؟! أليس اشتراطها فيه من أبده
البديهيات، وأوضح الواضحات؟!
فقضية فدك إذن أوضحت:
أن هؤلاء يفقدون الشرائط الأساسية للإمامة والخلافة، ولا يصلحون لتولي
شؤون أحد من البشر، حتى أولادهم، فكيف يتولون شؤون الأمة بأسرها؟!
وتكون قيمة ذلك هذا العدوان الظاهر والسافر!
واللافت هنا:
أن هذه الشرائط التي يفقدونها ليست شرائط معقدة، ولا يحتاج الإلتفات
إليها، وإدراك صحتها، ولزوم توفرها إلى دراسة وتعمق، ولا إلى أدلة
وبراهين، وثقافة ومعارف.
بل يكفي لإدراك لزومها في الحاكم، وكذلك لمعرفة فعلية
وجودها فيمن يدَّعيها، أدنى التفات من أي إنسان، حتى لو كان غير مسلم،
بل غير موحِّد أيضاً؛ لأن من البديهيات الأولية لدى البشر أن من يتصدى
لإنجاز أمر، لا بد أن يملك القدرة والخبرة الكافية فيه..
وهو ما نسميه هنا بعلم الشريعة. ولا بد أيضاً أن يكون
أميناً على ما اؤتمن عليه، فلا يحيف، ولا يخون، ولا يظلم فيه..
وأخيراً: نقول:
لنفترض:
أن الإنسان قد يسهو عن بعض الأحكام حتى البديهية، وقد يصدر حكماً
جائراً أحياناً بسبب غفلة، أو نزوة هوى عرضت، ولكن حين يعود إلى نفسه،
ويتهيأ له من ينقذه من غفلته، ويجد الواعظ القريب، والمؤدب اللبيب الذي
خالف هواه، وامتثل أوامر مولاه، فإنه يثوب إلى رشده، ويستيقظ من غفلته،
ويتوب إلى ربه..
ولا يضر ذلك في صفة العدالة، إن لم يكن ذلك الذنب من
الكبائر، ولو كان يضر بها، فإن عودته إلى الطريق المستقيم تصلح ما فسد،
وتعيد الأمور إلى نصابها..
ولكن هؤلاء القوم ليس فقط لم يستيقظوا من غفلتهم، ان
كان ثمة غفلة؛ بل هم أصروا على اتباع الهوى بعد البيانات الواضحة،
والحجج اللائحة، والنصيحة والموعظة الصالحة، ولم يراعوا أية حرمة، ولم
يقفوا عند أي حد، حتى حدود المراعاة العرفية، والمجاملات العادية، وهذا
خلل أخلاقي كبير، لا يبقي مجالاً لإغماض النظر عن الخطأ العارض.
بل هو خطأ مفروض ومحمي بشريعة الغاب، وبقانون القوة
الغاشمة، والقهر والظلم..
الأمر الذي
يشير:
إلى أن عنصر
الأخلاق
مفقود
أو
يكاد،
وهو
عنصر هام وضروري للناس جميعاً،
فكيف بمن يكون من جملة وظائفه تطهير النفوس، وتربية الأمة على الأخلاق
الحميدة، وغرس الفضائل في النفوس، وهدايتها نحو كمالاتها؟!..
فإن هؤلاء يدَّعون:
أنهم يستحقون أن يكونوا في موقع رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»،
وأن يقوموا بوظائفه، ويضطلعوا بمهماته.
وقد بين الله سبحانه طرفاً من وظائف النبي
«صلى الله
عليه وآله»،
فقال:
﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ
رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ
لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾([11]).
وبذلك تكون فدك قد حسمت الأمور، وكشفت الحقيقة ـ كل
الحقيقة ـ للبشر جميعاً، وبمختلف فئاتهم وطبقاتهم، ومذاهبهم، وأديانهم.
ويبقى الباب مفتوحاً أمام الناس كلهم، ليعرفوا الظالم
من المظلوم، والمحق من المبطل، والمحسن من المسيء، حتى لو لم تكن هناك
نصوص، أو كانت، وادَّعوا أنهم لا يؤمنون بها، ﴿وَيَأْبَى
اللهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾([12])،
والحاقدون، والحاسدون.
وبعد غصب فدك من الزهراء «عليها السلام». تعاقبت عليها
الأيدي، وتداولتها الفئات المختلفة وأصبحت من المسائل الحساسة عبر
التاريخ، وصارت تمثل ميزان الحرارة، الذي يعطي الإنطباع عن طبيعة
العلاقة بين الحكام وبين أهل البيت
«عليهم السلام»
وشيعتهم، فكانت تارة تؤخذ منهم، وتارة ترد إليهم..
بل صارت من العناوين الكبيرة لقضية الإمامة، كما تظهره
النصوص التالية وغيرها.
قال الزمخشري:
كان هارون الرشيد يقول لموسى بن جعفر «عليهما السلام»:
خذ فدكاً حتى أردها عليك، فيأبى، حتى ألح عليه.
فقال «عليه السلام»:
لا آخذها إلا بحدودها.
قال:
وما حدودها؟!
قال:
يا أمير المؤمنين، إن حددتها لم تردها.
قال:
بحق جدك إلا فعلت.
قال:
أما الحد الأول فعدن.
فتغير وجه الرشيد، وقال:
هيه.
قال:
والحد الثاني سمرقند.
فاربد وجهه.
قال:
والحد الثالث أفريقية.
فاسود وجهه، وقال:
هيه.
قال:
والرابع سيف البحر مما يلي الخزر وأرمينية.
قال الرشيد:
فلم يبق لنا شيء، فتحول في مجلسي.
قال موسى «عليه السلام»:
قد أعلمتك: أنني إن حددتها لم تردها.
فعند ذلك عزم على قتله، واستكفى أمره يحيى بن خالد
الخ..([13]).
وقبل ذلك:
كان الإمام
الكاظم
«عليه
السلام»
قد دخل على المهدي العباسي، فرآه يرد المظالم، فقال: .. ما بال مظلمتنا
لا ترد؟!
فقال المهدي:
وما ذاك يا أبا الحسن؟!..
إلى أن قال:
فقال له المهدي: يا أبا الحسن، حدَّها إلي.
فقال:
حد منها جبل أحد، وحد منها عريش مصر، وحد منها سيف البحر، وحد منها
دومة الجندل.
فقال له:
كل هذا؟!
قال:
نعم، يا أمير المؤمنين، إن هذا كله مما لم يوجِف على أهله رسول الله
«صلى
الله عليه وآله»
بخيل ولا ركاب.
فقال:
كثير. وأنظر فيه([14]).
([1])
الآية 67 من سورة المائدة.
([2])
الإيضاح ص359 وتذكرة الخواص ص62 وسر العالمين ص21 وصحيح
البخاري ج3 ص60 وج4 ص5 و 173 وج1 ص21 و 22 وج2 ص115 والمصنف
للصنعاني ج6 ص57 وج10 ص361 وراجع: ج5 ص438 والإرشاد للمفيد
ص107 وبحار الأنوار ج22 ص498 وراجع: الغيبة للنعماني ص81 و 82
وعمدة القاري ج14 ص298 وفتح الباري ج8 ص101 و 102 والبداية
والنهاية ج5 ص227 والبدء والتاريخ ج5 ص59 والملل والنحل ج1 ص22
والطبقات الكبرى لابن سعد ج2 ص244 وتاريخ الأمم والملوك ج3
ص192 و 193 والكامل في التاريخ ج2 ص320 وأنساب الأشراف ج1 ص562
وشرح النهج للمعتزلي ج6 ص51 وتاريـخ الخميس ج2 ص164 = = وصحيح
مسلم ج5 ص75 ومسند أحمد ج1 ص324 و 325 و 355 والسيرة الحلبية
ج3 ص344 ونهج الحق ص273 والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج2 ق2
ص62 وحق اليقين ج1 ص181 و 182 ودلائل الصدق ج3 ق1 ص63 ـ 70
والصراط المستقيم ج3 ص3 و 6 والمراجعات ص353 والنص والإجتهاد
ص149 و 163.
([3])
الآية 16 من سورة النمل.
([4])
الآيتان 5 و 6 من سورة الأحزاب.
([5])
الآية 75 من سورة الأنفال.
([6])
الآية 11 من سورة النساء.
([7])
الآية 180 من سورة البقرة.
([8])
الآيتان 5 و 6 من سورة الأحزاب.
([9])
الآية 16 من سورة النمل.
([10])
الإحتجاج ص131 ـ 149 وبحار الأنوار ج29 ص220 ـ 235 ومواقف
الشيعة للأحمدي ج1 ص459 ـ 468 وبيت الأحزان ص141 ـ 151
والأنوار العلوية ص293 ـ 301 واللمعة البيضاء ص694 ومجمع
النورين ص127 ـ 134.
([11])
الآية 2 من سورة الجمعة.
([12])
الآية 32 من سورة التوبة.
([13])
مناقب آل أبي طالب ج3 ص435 وبحار الأنوار ج29 ص200 و 201 وج48
ص144 و 145 ومجمع النورين ص124 واللمعة البيضاء ص294.
([14])
الكافي ج1 ص543 وشرح أصول الكافي ج7 ص405 وبحار الأنوار ج48
ص156 و 157 والبرهان ج2 ص414 ومجمع البحرين ج5 ص283 والوسائل
ج9 ص525 ونور الثقلين ج3 ص154 و 155 وج5 ص276 واللمعة البيضاء
ص293.
|