صفحة :163-176   

الفصل الثالث: لماذا قتل مالك؟!

 لهذا قتل مالك بن نويرة؟!:

قال البراء بن عازب: بينا رسول الله «صلى الله عليه وآله» جالس في أصحابه إذا أتاه وفد من بنى تميم، (ومنهم) مالك بن نويرة، فقال: يا رسول الله! علمني الإيمان.

فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني رسول الله، وتصلي الخمس، وتصوم شهر رمضان، وتؤدي الزكاة، وتحج البيت، وتوالي وصيي هذا من بعدي، وأشار إلى علي «عليه السلام» بيده، ولا تسفك دماً، ولا تسرق، ولا تخون، ولا تأكل مال اليتيم، ولا تشرب الخمر، وتوفي بشرائعي، وتحلل حلالي، وتحرم حرامي، وتعطي الحق من نفسك للضعيف والقوى، والكبير والصغير.

حتى عد عليه شرائع الإسلام.

فقال: يا رسول الله «صلى الله عليه وآله»! أعد علي، فإني رجل نسَّاء.

فأعاد عليه، فعقدها بيده، وقام وهو يجر إزاره، وهو يقول: تعلمت الإيمان ورب الكعبة.

فلما بعد من رسول الله «صلى الله عليه وآله»، قال: من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا الرجل.

فقال أبو بكر وعمر: إلى من تشير يا رسول الله.

فأطرق إلى الأرض. فاتخذا في السير([1])، فلحقاه.

فقالا له: البشارة من الله ورسوله بالجنة.

فقال: أحسن الله تعالى بشارتكما، إن كنتما ممن يشهد بما شهدت به، فقد علمتما ما علمني النبي محمد «صلى الله عليه وآله»، (وإن لم تكونا كذلك، فلا أحسن الله بشارتكما.

فقال أبو بكر: لا تقل! فأنا أبو عائشة زوجة النبي «عليه السلام»).

قال: قلت ذلك، فما حاجتكما؟!

قالا: إنك من أصحاب الجنة، فاستغفر لنا.

فقال: لا غفر الله لكما، تتركان رسول الله صاحب الشفاعة، وتسألاني استغفر لكما؟!

فرجعا والكآبة لائحة في وجهيهما، فلما رآهما رسول الله «صلى الله عليه وآله» تبسم، وقال: أفي الحق مغضبة؟!

فلما توفى رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ورجع بنو تميم إلى المدينة ومعهم مالك بن نويرة، فخرج لينظر من قام مقام رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فدخل يوم الجمعة وأبو بكر على المنبر يخطب بالناس، فنظر إليه، وقال: أخو تيم؟!

قالوا: نعم.

قال: فما فعل وصيّ رسول الله «صلى الله عليه وآله» الذي أمرني بموالاته.

قالوا: يا أعرابي! الأمر يحدث بعده الأمر.

قال: تالله! ما حدث شيء، وإنكم لخنتم الله ورسوله «صلى الله عليه وآله».

ثم تقدم إلى أبي بكر، وقال له: (من أرقاك هذ المنبر، ووصي رسول الله «صلى الله عليه وآله» جالس؟!

فقال أبو بكر): أخرجوا الأعرابي البوّال على عقبيه من مسجد رسول الله «صلى الله عليه وآله».

فقام إليه قنفذ بن عمير، وخالد بن الوليد، فلم يزالا يلكزان عنقه حتى أخرجاه.

فركب راحلته، وأنشأ يقول:

أطـعـنـا رسـول الله ما كـان  بيننـا              فيـا قـوم مـا شـأني وشأن أبي بـكر
إذا مـات بكر قـام عمر([2]) مقـامـه               فـتـلـك وبيت الله قـاصمـة الظهر
يـدب ويـغـشـاه العشار([3]) كأنـما                يجـاهـد جمـا أو يـقـوم عـلى قـــبر
فـلـو قـام فينا من قريش  عصابـة               أقـمـنـا ولـكـن الـقـيـام على  جمر

قال: فلما استتمّ الأمر لأبي بكر وجّه خالد بن الوليد وقال له: قد علمت ما قاله مالك على رؤس الأشهاد، ولست آمن أن يفتق علينا فتقاً لا يلتئم، فاقتله.

فحين أتاه خالد ركب جواده، وكان فارساً يعدّ بألف، فخاف خالد منه، فأمَّنه، وأعطاه المواثيق. ثم غدر به بعد أن ألقى سلاحه، فقتله، وأعرس بامرأته في ليلته، وجعل رأسه في (لعل الصحيح: أثفيَّ) قدر فيها لحم جزور لوليمة عرسه، (وبات) ينزو عليها نزو الحمار.

والحديث طويل([4]).

ونقول:

تضمنت هذه الرواية أموراً عديدة، نذكر منها ما يلي:

المفاجأة:

إن مالكاً «رحمه الله» فاجأ أبا بكر وعمر بموقفه منهما حين بشراه بشهادة النبي «صلى الله عليه وآله» له بالجنة، فقد كانا يتوقعان أن يعبر لهما عن امتنانه وشكره وتقديره للجهد الذي بذلاه حتى أبلغاه هذه البشارة..

ولكن مالكاً لم يفعل ذلك، ربما لأنه أحس منهما أنهما يطلبان ثمناً لهذه البشارة قد لا يستحقانه، ولعل هذا الثمن هو ولاء ونصرة، وتأييد في أمر لا يصح منه التأييد له، ولا النصر عليه، ولا الولاء والحب فيه.. وإلا.. فلماذا يهتمان دون كل أحد باللحاق به لإخباره بقول رسول الله «صلى الله عليه وآله» فيه؟!

إذ لو كان سبب هذا الإهتمام هو أنهما أرادا أن يستغفر لهما.. فقد علما أن استغفار رسول الله «صلى الله عليه وآله» هو الأولى والأجدر بالطلب، لأنه هو صاحب الشفاعة.. وهو أقرب إلى الله تعالى من كل أحد..

وإن كانا لا يريان لرسول الله «صلى الله عليه وآله» هذا المقام عند الله، ويفضلان عليه مالكاً أو غيره، فهما لا يستحقان أي رفق بهما، أو شكر أو شعور بالإمتنان لهما.

أنا أبو عائشة:

وأما جواب أبي بكر لمالك بقوله: «لا تقل، فأنا أبو عائشة» فغير سديد، ولا يجدي في تصحيح الصورة في ذهن مالك، ولا يفيد، فإن مجرد أبوته لزوجة رسول الله «صلى الله عليه وآله» لا تثبت له فضيلة، ولا أي شيء آخر، فقد كانت أم حبيبة ـ مثلاً ـ زوجة لرسول الله «صلى الله عليه وآله» وأبوها أبو سفيان مشرك، ومن أشد الناس عداوة لرسول الله «صلى الله عليه وآله». وقد قاد جيوش المشركين ضده مرات ومرات.

ولو ثبت أنه مسلم، فذلك لا يكفي لإثبات صحة نواياه في كثير مما يقدم عليه، بل قد تظهر القرائن والأدلة خلاف ذلك في كثير من الموارد.

ولأجل ذلك لم نر لقول أبي بكر هذا «أنا أبو عائشة» أثراً على موقف مالك، بل هو قد أصر على موقفه قائلاً «قلت ذلك فما حاجتكما»؟!.

تبسم الرضا:

وتقول الرواية: إن أبا بكر وعمر لما طلبا من مالك أن يستغفر لهما قال: «لا غفر الله لكما، تتركان رسول الله «صلى الله عليه وآله» صاحب الشفاعة، وتسألاني استغفر لكما؟! فرجعا والكآبة بادية في وجهيهما، فلما رآهما رسول «صلى الله عليه وآله» تبسم».

ولسنا بحاجة إلى تذكير القارئ الكريم بأن مالكاً قد فهم من طلبهما أن يستغفر لهما أنهما لا يضعان رسول الله «صلى الله عليه وآله» في الموضع اللائق به، ولا يريان استغفاره لهما مجدياً، لا لأجل أن ذنبهما لا يقبل العفو، بل لأنهما يريان أن استغفار مالك وأمثاله أقرب إلى تحقيق الغرض من استغفار سيد الأنبياء والمرسلين.

وهذا يتجاوز حد القصور في الفهم، والتقصير في التعلم، فإنه لا يبدو عليهما أنهما يعانيان من أي خلل في الإدراك، ولأنهما في محضر ينبوع العلوم، ومصدر المعارف كلها، وهي علوم ومعارف مأخوذة من الله تبارك وتعالى، فليس فيها أي غلط، أو لبس، أو أشتباه، أو قصور أو ما إلى ذلك. فيمكنهما الحضور والسؤال، والإستفادة والتعلم..

ولأجل ذلك قال لهما مالك: «لا غفر الله لكما إلخ»..

ولأجل أنهما قد تلقيا من مالك درساً لا ينسى في العقيدة، وفي الموقف الصريح والمتزن، المستند إلى التدبر والوعي، وإلى الدليل الواضح، والبرهان اللائح، تبسم رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وهو يرى الكآبة لائحة في وجهيهما، فقد كان هذا الدرس ضرورياً لهما، ولغيرهما ممن له نفس حالتهما.

أفي الحق مغضبة:

وجاء قول «صلى الله عليه وآله»: «أفي الحق مغضبه» ليدل على أنهما كانا مخطئين حتى في كآبتهما هذه، إذ كان اللازم هو أن يكونا منشرحين راضيين، فرحين بالدرس الذي تلقياه منه، فقد أنار لهما طريق الحق، الذي لا بد لكل طالب حق من سلوكه، وبين لهما الخطأ الذي لا بد لهما من التراجع عنه بكل رضا ورغبة وامتنان.

فكان غضبهما هذا في غير محله، لأن الحق لا يحمل على الغضب، بل هو يدعو إلى ضده كما قلنا.

يضاف إلى ذلك: أن النبي قال لهما ذلك قبل أن يخبراه بما جرى لهما، لكي يعلمهما بأنه عارف بما جرى من طريق الغيب. وهذا يعزز صحة موقف مالك منهما، ويزيده وضوحاً وتألقاً..

الأمر يحدث بعده الأمر:

وقد ظن أبو بكر: أن أمثال هذه التعابير الغائمة والمطاطة حول جلوسه في مجلس ليس له.. تكفي لإعطاء العقل إجازة، ولتمكين الخيال من أن يسرح ويمرح.

ولكنه نسي تجربته مع مالك في عهد رسول الله «صلى الله عليه وآله»، حيث أفهمه مالك آنئذٍ أنه ملتزم بالضوابط والمعايير الإيمانية والعقلية في مواقفه.

لقد رفض مالك هذا التعبير الذي هو أشبه بالبالون الفارغ، لأنه يعلم: أن الأنبياء لا يمكن أن يقرروا أمراً ثم يتراجعون عنه، لأن ما يقرره الأنبياء ليس من عند أنفسهم، بل هو بوحي من الله تبارك وتعالى، وإن كان الناس لا يطيعون النبي «صلى الله عليه وآله» فيما يقرره، ويعصون الله فيما يأمرهم به من إطاعة رسله.

وشاهدنا على ذلك: أن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يتراجع عن الخروج من المدينة في حرب أحد، بعد أن تهيأ لذلك ولبس لامته..

فإذا أصدر النبي «صلى الله عليه وآله» أمراً، فلا شيء يلغي أمره إلا إن كان هو عصيان الناس له، وبالتالي عصيان الأمر الإلهي.

وهذا هو ما قصده مالك بن نويرة بقوله: «تالله ما حدث شيء، وإنكم لخنتم الله ورسوله».

هذا بالإضافة إلى أنه «صلى الله عليه وآله» كان يحذر الناس من أمور تدبر ضد وصيه وأهل بيته «عليهم السلام» من بعده..

وقد أشار الله تعالى إلى ذلك أيضاً في قوله تعالى: {..أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ..}([5]).

بالإضافة إلى الآيات التي تتحدث عن المنافقين.

ولا تفوتنا هنا الإشارة إلى أن قول أبي بكر: «الأمر يحدث بعده الأمر» اعتراف منه لمالك بن نويرة: بأن النبي «صلى الله عليه وآله» قد جعل علياً «عليه السلام» وصيه وخليفته، ولكنه ادعى حدوث ما نقض هذا القرار، وقد قلنا: إن هذه دعوى باطلة في حق الأنبياء..

موقف بريدة مثل موقف مالك:

ونذكر هنا ـ على سبيل الاستطراد ـ قصة تشبه قصة مالك، فقد ورد في بعض الروايات عن بريدة الأسلمي: أن النبي «صلى الله عليه وآله» قال لي ولأخي: قم يا بريدة أنت وأخوك فسلما على علي بإمرة المؤمنين، فقمنا وسلمنا، ثم عدنا إلى مواضعنا.

قال: ثم أقبل رسول الله «صلى الله عليه وآله» عليهم جميعاً، فقال: اسمعوا وعوا، إني أمرتكم أن تسلموا على علي بإمرة المؤمنين، وإن رجالاً سألوني «أذالك عن أمر الله وأمر رسوله»؟! ما كان لمحمد أن يأتي أمراً من تلقاء نفسه، بل بوحي ربه، وأمره..

إلى أن تقول الرواية: ومضى بريدة إلى بعض طرق الشام ورجع، وقد قبض رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وبايع الناس أبا بكر.

فأقبل بريدة وقد دخل المسجد، وأبو بكر على المنبر، وعمر دونه بمرقاة، فناداهما من ناحية المسجد: يا أبا بكر ويا عمر!

قالا: وما لك يا بريده أجننت؟!

فقال لهما: والله ما جننت، ولكن أين سلامكما بالأمس على علي «عليه السلام» بإمرة المؤمنين؟!

فقال له أبو بكر: يا بريدة، الأمر يحدث بعده الأمر، وإنك غبت وشهدنا، والشاهد يرى ما لا يرى الغايب.

فقال لهما: رأيتما ما لم يره الله ورسوله، ووفى لك صاحبك بقوله: «لو فقدنا محمداً لكان قوله هذا تحت أقدامنا». ألا إن المدينة حرام علي أن أسكنها أبداً حتى أموت..([6]).

أخرجوا الأعرابي:

وبالعودة إلى حديثنا عن مالك نقول:

لم يجد أبو بكر ما يجيب به مالك بن نويرة إلا الشتم، والأمر بالإبعاد.. حتى لا يفيض في بياناته التي ستؤدي إلى المزيد من وضوح الأمور في أذهان الناس، فكان أن اتخذ قرار القمع، لكي يرهب به ضعفاء النفوس.. وحتى لا يتسع الخرق على راتقه الذي لا يميز الإبرة من خيطها.

فأمر رجاله بإخراج هذا الإعرابي.. والمراد به مالك بن نويرة.

أبو بكر يأمر بقتل مالك:

وقد أوضحت هذه الرواية أيضاً: أن أبا بكر هو الذي أمر خالداً بقتل مالك، لا لأجل ارتداده، وإنما لأجل موقفه هذا من خلافته.

ونحن لا نظن أن عمر كان لا يعرف ذلك بكل تفاصيله، فكيف نفسر موقفه المستنكر لقتل مالك بن نويرة على يد خالد بن الوليد؟!.

ويمكن أن يجاب: بأن القضية كانت متفقاً عليها بين أبي بكر وعمر، لأجل امتصاص نقمة المسلمين، وتبريد الأجواء، بإلقاء الشبهات، والتأكيد على تحميل خالد مسؤولية ما حدث، على أساس أنه اجتهد فأخطأ، فهو معذور، بل مأجور، إذ يجب أن لا تحوم الشبهات حول غيره من المدبرين الحقيقيين، من قريب ولا من بعيد.


([1]) في بعض النسخ: فجدّا في السير، وهو الأظهر.

([2]) لعل الصحيح: عمرو.

([3]) الصحيح: العثار.

([4]) الفضائل لشاذان ص192 ـ 195 والبحار ج30 ص343 والصراط المستقيم ج2 ص280 عن الشيخ العمي في كتاب الواحدة، ولا بأس بمراجعة كتاب الجمل للشيخ المفيد ص118 وهوامشه.

([5]) الآية 14 من سورة آل عمران.

([6]) بحار الأنوار ج28 ص92 و 93 والدرجات الرفيعة ص292 و 293 و 402.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان