أبو
بكر وارتداد المكيين:
ويقولون:
لما توفي رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»،
ووصل خبر ذلك إلى أهل مكة، ارتجت مكة، وكاد أهلها يرتدون، واستخفى
عاملها عتاب بن أسيد.
وزعم بعضهم:
أن سبب عودتهم إلى الإيمان هو: أنهم رأوا أن خلافة أبي بكر تمثل
انتصاراً لهم على أهل المدينة، فأرضاهم ذلك.
ونقول:
إن ذلك غير مقبول:
أولاً:
إن خبر خلافة أبي بكر قد جاءهم مع خبر وفاة رسول الله
«صلى الله
عليه وآله».
ثانياً:
إنهم يذكرون: أن سبب عودتهم هو نصيحة سهيل بن عمر لهم.
وأما استخفاء عتاب، فلعله لأجل أنه أراد أن يعرف
موقف أبي سفيان وبني أمية، لكي يتمكن من التناغم معه، ولا يضطر إلى
إعلان موقف، ثم إعلان موقف آخر يناقضه.
أي أنه يريد أن يعرف إن كان الأمويون يؤيدون خلافة أبي
بكر، لكي يعلن هو تأييده لها أيضاً، أم أن لهم سعياً آخر، فعليه في هذه
الحال أن يتدبر الأمور، ويسوقها باتجاه ما يسعى إليه قومه من بني أمية.
وقد ذكرت بعض الروايات عن
الإمام الباقر «عليه السلام»:
أن أبا بكر أرسل كتاباً إلى أسامة بن زيد ليقدم عليه، وأخبره بأن
المسلمين قد اجتمعوا عليه، وولوه أمرهم.. وأن عمر بن الخطاب هو الذي
طلب من أبي بكر أن يكتب لأسامة ليقدم عليه، فإن في قدومه قطع الشنعة
عنهم:
فكتب إليه أسامة بن زيد:
يحذره من أن يعصي الله ورسوله، ويذكره بما كان من النبي «صلى الله عليه
وآله» يوم غدير خم. ويقول له: «استخلفه رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
عليك وعلى
صاحبك. ولم يعزلني حتى قبض رسول الله
«صلى الله
عليه وآله».
وإنك وصاحبك رجعتما وعصيتما، فأقمتما في المدينة بغير إذني».
وأعاد أبو بكر الكتابة إلى أسامة، وطلب أناس من
المنافقين أن يكتبوا إليه أيضاً، ويحذروه من الخلاف، فانصرف أسامة إلى
المدينة.
«فلما رأى اجتماع الناس على أبي بكر انطلق إلى علي
«عليه السلام»، فقال: ما هذا؟!
فقال علي:
هذا ما ترى.
قال له أسامة:
فهل بايعته؟!
فقال:
نعم.
فقال أسامة:
طائعاً أو كارهاً؟!
قال:
لا بل كارهاً.
قال:
فانطلق أسامة فدخل على أبي بكر، فقال: السلام عليك يا خليفة المسلمين.
قال:
فرد أبو بكر، وقال: السلام عليك أيها الأمير([1]).
ونقول:
إن لنا مع هذا النص العديد من الملاحظات
والوقفات. نذكر منها ما يلي:
إن هذا النص يؤكد:
أن أسامة قد غادر المدينة قبل وفاة رسول الله
«صلى الله
عليه وآله».
وأن أبا بكر وعمر، واعوانهما وكذلك سعد بن عمارة، وسائر من حضر السقيفة
قد تخلفوا عن جيش اسامة..
وبذلك يعلم:
أن ما يذكرونه من أن أسامة قد سار في وجهه ذاك بعد وفاة رسول الله
«صلى
الله عليه وآله»..
غير صحيح.
وقد دل هذا الحديث أيضاً على:
أن ما قد يدَّعونه من أن أبا بكر وعمر كانا قد استأذنا أسامة بالبقاء
في المدينة، غير صحيح أيضاً، بل هما قد رجعا عاصيين، وتخلفا في المدينة
بغير إذن أسامة..
كما أنه يدل على عدم صحة ما يزعمونه من أن أبا بكر هو
الذي جهز أسامة، وأرسله في ذلك الوجه..
روي عن رسول الله «صلى الله
عليه وآله»:
أن علياً «عليه السلام» يقضي دينه، وينجز عداته بعد مماته
«صلى الله عليه وآله»([2]).
فلما استشهد رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
أمر علي «عليه السلام» صائحاً يصيح: «من كان له عند رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
عدة أو دين، فليأتني».
فكان يبعث كل عام عند العقبة يوم النحر من يصيح
بذلك، حتى توفي علي «عليه السلام»..
ثم كان الحسن بن علي «عليه السلام» يفعل ذلك حتى
توفي.
ثم كان الحسين «عليه السلام» يفعل ذلك، وانقطع ذلك
بعده «عليه السلام»([3]).
قال ابن أبي عون:
فلا يأتي أحد من خلق الله إلى علي «عليه السلام» بحق ولا باطل إلا
أعطاه([4]).
ولكنهم يذكرون في مقابل ذلك:
عن أبي سعيد الخدري أنه قال:
«سمعت منادي أبي بكر ينادي في المدينة،
حين قدم عليه
مال
البحرين: من كانت له عدة عند رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
فليأت.
فيأتيه رجال فيعطيهم.
فجاء أبو بشير المازني، فقال:
إن رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
قال: يا با بشير إذا جاءنا شيء فأتنا.
فأعطاه أبو بكر حفنتين، أو ثلاثاً. فوجدوها ألفاً
وأربع مئة درهم([5]).
وروى البخاري وغيره:
أنه لما مات رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
جاء مال من قبل علاء بن الحضرمي، فقال أبو بكر: من كان له على النبي
«صلى
الله عليه وآله»
دين، أو كانت له قبله عدة فليأتنا.
قال جابر:
وعدني رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
أن يعطيني هكذا، أو هكذا وهكذا، فبسط يده ثلاث مرات.
قال جابر:
فعد في يدي خمس مئة، ثم خمس مئة، ثم خمس مئة([6]).
ونقول:
هناك أمران لا بد من الالتفات إليهما:
الأول:
إن أبا بكر أراد أن يوحي للناس بفعله هذا: أنه هو الذي يقضي دين الرسول
«صلى الله عليه وآله»، وينجز عداته، ليدل ذلك على: أنه هو خليفته،
والقائم مقامه، وليس علي بن أبي طالب «عليه السلام».
الثاني:
إن أبا بكر قد أعطى أبا بشير المازني، وجابر بن عبد الله ما ادَّعيا أن
النبي
«صلى الله عليه وآله»
قد وعدهما به، ولم يطلب منهما بيِّنة على ذلك([7])،
مع أنه إنما يعطيهما من مال المسلمين، فلماذا لا يعامل الزهراء «عليها
السلام» بنفس هذه المعاملة، فيعطيها ما تدعيه بلا بينة؟! مع ثبوت
طهارتها بنص الكتاب العزيز..
بل هو لا يعطيها ما تدَّعيه حتى مع إقامتها البينة.
وكانت بينتها من الذين نص القرآن بأن الله أذهب عنهم الرجس وطهرهم
تطهيراً. ومن الذين شهد رسول الله «صلى الله عليه وآله» لهم بالجنة.
يضاف إلى ذلك أن بينتها هي القرآن، فقد شهد القرآن
والنبي
«صلى الله
عليه وآله»
بصدقها..
بل هو يأخذ منها ما كان في يدها عدة سنوات، تتصرف فيه
تصرف المالك.
بيعة علي
مكنت من حرب المرتدين:
روى البلاذري:
أنه حين ارتدت العرب مشى عثمان إلى علي، فقال: يا ابن عم! إنه لا يخرج
أحد إلى قتال هذا العدو، وأنت لم تبايع. فلم يزل حتى مشى إلى أبي بكر
فبايعه. فسرّ المسلمون. وجدّ الناس في القتال، وقطعت البعوث([8]).
ونقول:
إن ما يستوقفنا في هذا النص هو ما يلي:
ألف:
إنه يقول: إن عثمان قد أقنع علياً «عليه السلام» بالبيعة لأبي بكر،
فمشى إليه فيابعه.
مع أن النصوص الأخرى تارة تقول:
إن علياً «عليه السلام» استخرج من بيته بالقوة والقهر، وأخذ ملبباً إلى
أبي بكر لأجل البيعة..
ب:
يضاف إلى ذلك أنهم هم أنفسهم يروون نقيض ما في روايتهم هذه، فيقولون:
إنه بعد استشهاد فاطمة الزهراء «عليه السلام» رأى علي
«عليه السلام» انصراف الناس عنه، فضرع لبيعة أبي بكر، وطلب منه أن
يأتيه لكي يبايع الخ.. فراجع ذلك في مصادره.. فأي ذلك هو الصحيح..
ج:
إنهم يقولون تارة: إنه بايع بعد ستة أشهر.
وأخرى يقولون:
إنه بايع قبل بعث الجيوش لحرب المرتدين.. مع أن الحروب معهم قد بدأت
بعد استشهاد رسول الله «صلى الله عليه وآله» بأيام يسيرة.
د ـ
إن هذا النص يدلنا على مكانة علي «عليه السلام» بين المسلمين. حتى إن
أبا بكر لم يكن قادراً على تحريك المسلمين للقتال، قبل أن يبايع علي.
أو على الأقل قبل أن يشيعوا بين الناس بيعته..
ولكن الناس بعد أن أخذت منهم البيعة بتلك الطريقة التي
ذكرناها.. لم يكونوا يستسيغون التراجع عن بيعتهم..
علي
لا
يطيع أبا بكر:
عندما ظهر المتنبؤن استشار أبو بكر
عمرو بن العاص:
من يرسل إليهم، فقال له: فما ترى في علي؟!
فقال عمرو:
لا يطيعك([9]).
ونقول:
إننا نستفيد من هذا النص:
أولاً:
إن عدم طاعة علي «عليه السلام» لأبي بكر يجب أن ينظر إليه فيما هو أبعد
من مجرد ميل علي إلى عدم التعاون، وإيثاره الإستجابة لنداء العزلة، بل
هو يدخل في دائرة عدم الاعتراف بشرعية الحكم بصورة عملية، وتؤيد ذلك
الأقوال والتصريحات، التي صدرت عن علي «عليه السلام».
وذلك يدلل على عدم صحة ما يدعى من بيعته الطوعية لأبي
بكر، لأن البيعة الطوعية تقضي بلزوم الطاعة والإنقياد، وامتثال
الأوامر. وبدون ذلك، فإن عدم الطاعة لا بد أن يعد نكثاً للعهد،
وإبطالاً للعقد..
وحيث إن ذلك لم يعتبره أبو بكر وحزبه نقضاً ولا نكثاً،
وإبطالاً، فهو يعني: أنهم لا يرون أن لهم في عنقه بيعة تلزمه بالطاعة،
وأن ما أشاعوه من بيعته لهم لم يكن ذا أثر حقيقي، وذي بال..
غير أن من الواضح:
أن البيعة إنما تقضي بلزوم الطاعة في ما يرضي الله، أما في معصية الله
سبحانه كما في حرب مانعي الزكاة في عهد أبي بكر، الذين كانوا يتريثون
في إعطاء زكاتهم لغير صاحب الحق الشرعي، الذي نصبه لهم رسول الله «صلى
الله عليه وآله» يوم الغدير في حجة الوداع.. فإنه لا طاعة لمخلوق في
معصية الخالق.
علي
يرفض
ولاية اليمن:
ومما يؤكد ذلك ما روي عن الباقر
«عليه السلام»:
من أنهما (يعني: أبا بكر وعمر) لما غلبا على الأمر كتبا لعلي «عليه
السلام» عهداً على اليمن، فامتنع امتناعاً شديداً، فشددا ليسيرن..
فخرج من المسجد من عندهما، فاستقبله المغيرة بن شعبة،
فسمعه يقول: لأملأنها عليهم رجالاً.
فدخل المغيرة عليهما، فقال:
أكان بينكما وبين علي شيء؟!
قالا:
كتبنا له عهداً على اليمن، فأبى أن يقبله، فأكرهناه عليه.
فقال:
قد سمعته يقول: لأملأنها عليهما.
فقالا:
يا فلان، اذهب فخذ عهدنا منه.
فما استحليا (لعل الصحيح: استخليا) المدينة بعد ذلك([10]).
ونقول:
1 ـ
قلنا في هذا الكتاب: إن أبا بكر وعمر كانا مهتمين بأن يرى الناس علياً
«عليه السلام» خاضعاً لإرادة الحكم الجديد، منقاداً لأوامر الخليفة،
ساعياً في توطيد دعائم حكمه، لأن ذلك يسقط ما يدَّعيه علي «عليه
السلام»، ويعطي الشرعية لهذا الحاكم الجديد، وربما يزيل أو يخفف عنه
تبعات ما جرى على السيدة الزهراء «عليها السلام»، بعد وفاة رسول الله
«صلى الله عليه وآله» بسبب مهاجمتها في بيتها.
كما أن باستطاعته أن يواجه نظرات الريب والإتهام التي
يرشقه بها علي «عليه السلام» وكثير من أعيان الصحابة، وأبرارهم،
بمقولة: إن صاحب الحق قد تنازل عن حقه، فماذا تريدون بعد هذا؟!
2 ـ
لعل إصرار أبي بكر وعمر على علي «عليه السلام» بأن
يتولى اليمن كان بعد استشهاد السيدة الزهراء «عليها السلام»، وظنهم أن
علياً «عليه السلام» قد اعتاد على الواقع الجديد، وطابت نفسه للتعامل
معه.
ولم يكن يدور بخلدهما أنه لا يحق لعلي «عليه السلام»
التخلي عن الحق، بل لابد له من حفظه، ولو بمستوى حفظ معالمه من
التلاشي، وآثاره من الضياع في ضمير الأمة وفي فكرها، وفي وعيها. فهو
إذا تعامل معهم فإنما يتعامل بهذه الحدود، ولا يتجاوز نطاق هذا المدى.
ولأجل ذلك كان «عليه السلام» في نفس الوقت الذي يسعى
فيه لحفظ الدين من التحريف والتزييف، وحفظ أهل الدين من الضلال
والضياع، ـ كان ـ بإستمرار يستحث ضمير الأمة على اليقظة والتنبه إلى أن
عليهم أن يعرفوا الحق لأهله، وأن ينكروا التعدي على هذا الحق.
كما أنه كان لا يتهاون في بيان كل ما يؤكد عدوانهم على
حقه، ومظلوميته معهم، ويقيم الدلائل القاطعة، والبراهين الواضحة
والساطعة على هذه الحقيقة.
كما أنه لم يتوان عن الإثبات قولاً وعملاً بأنه هو
الجامع لكل صفات الإمامة، ومنها: العلم والعصمة وغير ذلك.. وفقدان غيره
لها..
وهذا ما يفسر لنا كثرة إخباره «عليه السلام» بالغيوب،
وكشفه عن غوامض المسائل، وحل أشكل المشكلات.
هذا كله عدا ما كان يظهره من كرامات، ومن خوارق العادات
في أكثر من اتجاه.
3 ـ
ونرى أنه «عليه السلام» حين أسمع المغيرة كلمته التي خافها أبو بكر
وعمر، قد تعمد أن يسمعه إياها ليذكرها لهم. وهذا أسلوب رائع في الوصول
إلى إسقاط خطة الطرف الآخر من دون تقديم أية تنازلات..
4 ـ
ولست أدري، فلعل كلمة علي «عليه السلام» هنا هي التي نبهت عمر إلى
سياسة إجبار كبار الصحابة على البقاء في المدينة، وعدم توليتهم الأعمال
الجليلة، خوفاً من نشر الحديث، ومن استقلالهم بالأمر([11]).
ومن المفارقات في موضوع بيعة الناس ونكثهم:
1 ـ
إن الناس بايعوا علياً «عليه السلام» يوم الغدير بأمر من الله ورسوله..
ثم نكثوا ونقضوا بيعتهم فور استشهاد رسول الله «صلى الله عليه وآله»
دون أن يجدوا حرجاً في ذلك بل اعتبروه توفيقاً، واصابة للحق..
2 ـ
إنهم بايعوا أبا بكر، ثم اعتذروا عن عدم نصرتهم لصاحب الحق الشرعي بأن
بيعتهم لأبي بكر قد سبقت..
مع أن بيعتهم لعلي يوم الغدير، قد سبقت بيعتهم لأبي
بكر.. فقد جرت باؤهم هنا وعجزت عن أن تجر هناك!!.. مع ان بيعتهم لعلي
كانت بأمر الله ورسوله، وبيعتهم لأبي بكر كانت معصية لأمر الله ورسوله
ـ ونكثاً لبيعتهم السابقة..
مع أن المعيار الديني المروي عن أهل
بيت العصمة هو:
أن الوفاء لأهل الغدر غدر عند الله، والغدر بأهل الغدر وفاء عند الله..
ثانياً:
لقد كان أبو بكر مهتماً بأن يظهر علياً في موقع المنفذ للأوامر الراضي
بالمنقاد له، وأن يكون بمثابة الجندي الملتزم والمنتظر لأوامر قائده.
فإن ذلك يؤكد: شرعيته وهيمنته، ويقرِّب الأمور إلى الحسم في أكثر
المسائل أهمية وحساسية بالنسبة إليه..
ثالثاً:
إن الذي كبح جماح أبي بكر، وألزمه بالرضا بمشورة عمرو، هو أنه لو طلب
من علي ورفض، ولم يستطع أن يحمله على طاعة أمره، فإن ذلك سيكسر هيبته،
وسيضعف موقعه ومركزه.
وإن أراد أن يصر عليه ويحمله على ذلك، ويرتب عليه أحكام
العصيان، فإنه سوف يصطدم بما لا طاقة له به، ولا قدرة له على مواجهته،
وسيفتح الباب أمام بني هاشم وجميع محبي علي، ورافضي خلافة أبي بكر من
الأنصار ومن العرب ـ للتحرك ضده، وسيجدون أبا بكر متعدياً على علي،
ومهيجاً له بلا مبرر، وسيفهمون أن هدفه هو التسلط عليه، والإساءة إليه.
قال اليعقوبي:
أراد أبو بكر أن يغزو الروم فشاور جماعة من أصحاب رسول الله «صلى الله
عليه وآله» فقدموا وأخروا، فاستشار علي بن أبي طالب «عليه السلام»،
فأشار أن يفعل، فقال: إن فعلت ظفرت.
فقال:
بشرت بخير.
فقام أبو بكر في الناس خطيباً، وأمرهم أن يتجهزوا إلى
الروم..
فسكت الناس.
فقام عمر فقال:
{لَوْ كَانَ عَرَضاً
قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً}([12])
لانتدبتموه.
فقام
عمرو بن سعيد، فقال:
لنا تضرب أمثال المنافقين يا ابن الخطاب؟! فما يمنعك أنت ما عبت علينا
فيه.
فتكلم خالد بن سعيد، وأسكت أخاه،
فقال:
ما عندنا إلا الطاعة.
فجزاه أبو بكر خيراً([13]).
ثم نادى في الناس بالخروج، وأميرهم خالد بن سعيد. وكان
خالد من عمال رسول الله «صلى الله عليه وآله» باليمن، فقدم وقد توفي
رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فامتنع عن البيعة، ومال إلى بني هاشم.
فلما عهد أبو بكر لخالد قال عمر:
أتولي خالداً وقد حبس عنك بيعته، وقال لبني هاشم ما قد بلغك؟! فوالله
ما أرى أن توجهه، وحل لواءه.
ودعا يزيد بن أبي سفيان، وأبا عبيدة بن الجراح، وشرحبيل
بن حسنة، وعمرو بن العاص، فعقد لهم، وقال: إذا اجتمعتم فأمير الناس أبو
عبيدة الخ..([14]).
ونقول:
هاهنا عدة أمور ينبغي الإلماح إليها، نذكر منها ما يلي:
علي
الناصح الأمين:
إن أول ما يطالعنا فيما تقدم هو:
أن علياً «عليه السلام» الذي أصيب بجرح عميق، بسبب ما أتوه إليه وإلى
زوجته وإلى رسول الله «صلى الله عليه وآله»، والإسلام والمسلمين، في
سعيهم لاغتصاب مقام الخلافة، لم يتردد في تقديم النصح لأبي بكر في هذه
الحالة. لأن علياً لا يفكر بمصالحه الشخصية، ولا يفسح المجال لأية
انفعالات لتؤثر في مواقفه المبدئية، أو أن تمنعه من العمل لحفظ
الإسلام، والمسلمين.. والتدبير لاطراد مسيرة العزة للدين وأهل الدين..
وعلي
«عليه السلام» يرى:
أن استمرار حالة الإنطواء والتقوقع للمسلمين قد تطمع الأعداء فيهم،
وتشجعهم على غزوهم، وإلحاق الأذى بهم، ربما لتصور أولئك الأعداء أن
غياب النبي «صلى الله عليه وآله» وما حصل بعد وفاته قد ترك آثاره على
التماسك الداخلي، وألحق به ضرراً جسيماً..
فإذا رأوا أن المسلمين ليس فقط لا يعانون من أية مشكلة
في الوضع الداخلي، وأنهم من القوة بحيث أصبحوا يملكون القدرة على
الانطلاق إلى الخارج لفرض هيبتهم وهيمنتهم.. إذا رأوا ذلك فسوف يراجعون
حساباتهم من جديد.. وسيتخذون مواقع للدفاع دون الهجوم.. وهذا أمر مطلوب
لأهل الإسلام..
فنصيحة علي «عليه السلام» لأبي بكر لا تعني المعونة
الشخصية له، بل هي تعني حفظ مصالح الأمة. والدين بالدرجة الأولى.
يضاف إلى ذلك:
أن انصراف السلطة إلى التفكير بالخارج من شأنه أن يخفف من حدتها في
ملاحقة الصفوة من الأخيار في الداخل، ومحاسبتهم على مواقفهم منها..
وقد لاحظنا:
أن خالد بن سعيد رغم مرور شهر أو شهرين على أحداث السقيفة، وموقفه
المؤيدْ لعلي «عليه السلام» في موضوع البيعة والخلافة، فإنهم لم يغفرو
له موقفه ذاك، بل انتقموا لأنفسهم بحدة بالغة، لم يكن له مفر من تحمل
مرارتها، حيث إنه بعد أن عقد له أبو بكر لواء القيادة على تلك الجيوش،
انبرى عمر بن الخطاب ليطلب من أبي بكر عزله، واستبداله بآخرين كانوا
أشد الناس حماسة لبيعة أبي بكر، وتقوية سلطانه.
بل يبدو ان هذا قد جاء ضمن خطة تهدف إلى كسر هيبة هؤلاء
الناس.. وقد جربوا ذلك حتى مع علي نفسه، حيث حاولوا اشراكه في شيء من
أمورهم ربما لكي يتسنى لهم عزله وكسر هيبته، بعد أن يكون نفس قبوله
الولاية منهم قد حسم الامور لصالحهم، لتضمنه الاقرار بشرعيتهم. ولكن
علياً
«عليه السلام» قد فوت عليهم الفرصة برفضه المشاركة في
أي شيء من هذا القبيل.
وبذلك يظهر:
أنه لا مجال لتأييد صحة ما يزعمونه من أنه جعله بتيماء، ثم عزله بعد
خسارته إحدى المعارك مع الروم!!
روى الطبري والشيخ الصدوق بسندهما:
عن فاطمة «عليها السلام»، قالت:
أصاب الناس زلزلة على عهد أبي بكر، ففزع الناس إلى أبي
بكر وعمر.
فوجدوهما قد خرجا فزعين إلى علي بن أبي طالب «عليه
السلام»، فتبعهما الناس حتى انتهوا إلى باب علي «عليه السلام».
فخرج إليهم علي «عليه السلام» غير مكترث لما هم فيه،
فمضى، واتبعه الناس، حتى انتهى إلى تلعة، فقعد عليها، وقعدوا حوله، وهم
ينظرون إلى حيطان المدينة ترتج جائية وذاهبة.
فقال لهم علي «عليه السلام»:
كأنكم قد هالكم ما ترون؟!
قالوا:
وكيف لا يهولنا، ولم نر مثلها قط؟!
قالت «عليها السلام»:
فحرك شفتيه، ثم ضرب الأرض بيده، ثم قال: مالك؟! اسكني.
فسكنت.
فعجبوا من ذلك أكثر من تعجبهم أولا حيث خرج إليهم.
قال (لهم):
وإنكم قد عجبتم من صنيعي؟!
قالوا:
نعم.
قال:
أنا الرجل الذي قال الله عز وجل: {إِذَا
زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا، وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا،
وَقَالَ الإِنْسَانُ مَا لَهَا}،
فأنا الإنسان الذي أقول لها: ما لها {يَوْمَئِذٍ
تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}([15])
إياي تحدث([16]).
ونقول:
لا بد من الإشارة إلى ما يلي:
1 ـ
إن الأمور في حالة الفزع والهلع تظهر على حقيقتها، ويتصرف الإنسان
بالوازع والدافع الداخلي بعيداً عن كل أشكال التصنع والتكلف، ومن دون
أن تتدخل في تصرفه عوامل غير واقعية، يمكن أن تحرفه عن مساره، وتوظف ما
يقوم به في أي سياق آخر..
فهذا الإلتجاء العفوي حتى من أبي بكر وعمر إلى علي
«عليه السلام»، رغم أنهما في حالات الرخاء يسعيان لإبطال أمر علي «عليه
السلام»، وادعاء مقاماته، أو ما هو أزيد منها لأنفسهم دونه، إن هذا
الإلتجاء يدل على أنه قد استقر في وجدان وباطن كل أحد، ومنهم أبو بكر
وعمر:
أن علياً «عليه السلام» هو القادر على تخليصهم، وأنه
واقف على ما لم يقف عليه أحد من الأسرار الإلهية، وأنه وثيق الصلة
بالله.. وأن بيده مفاتيح النجاة والنجاح، والسعادة والفلاح في الدنيا
وفي الآخرة على حد سواء.
2 ـ
إن عدم اكتراث علي «عليه السلام» بهذا الحدث الذي
أزعجهم وأرعبهم إلى هذا الحد، وهذه السكينة التي هو فيها هو بمثابة هزة
وجدانية وضميرية لا بد أن تثير لديهم أسئلة كثيرة، بالإضافة إلى أنها
تؤكد لديهم الكثير من الحقائق التي كانوا يشعرون بها، دون أن يسبق لهم
أن اعترفوا بها، أو أشاروا إلى وجودها..
فان أعادوا ضمائرهم ووجدانهم الى السبات من جديد، فانهم
هم الذين يتحملون مسؤولية ذلك.
3 ـ
إن جلوسهم على الترعة حول علي «عليه السلام»، ورؤيتهم حيطان المدينة
ترتج جاثيةً وذاهبة، من شأنه أن يجعل صورة الخطر الذي يتهددهم أكثر
وضوحاً، في حجمه وفي ملامحه، حيث مكّنهم جلوسهم هناك من استجماع تلك
الملامح، وسهّل من انضمام بعضها إلى بعض.
ولا شك في أن ذلك سوف يزيد من استعجالهم علياً «عليه
السلام» بأن يبادر إلى إخراجهم مما هم فيه.. وسيجعلهم يحبسون أنفاسهم
وهم مستوفزون متوتروا الأعصاب، جياشوا المشاعر، منفعلون إلى أقصى حد،
بانتظار أي حركة ولفتة منه، و أية كلمة تخرج من بين شفتيه.
4 ـ
ثم إنه «عليه السلام» بسؤاله لهم: كأنكم قد هالكم ما ترون.. يكون قد
استفز باطنهم للتجلي والظهور على شكل حركات وخلجات، وكلمات، وما إلى
ذلك.. حيث يدعو هذا السؤال المفاجئ وغير المتوقع في مثل هذه الحالات
إلى أن يرجع كل منهم إلى نفسه، لينظر إلى حجم الهول الذي تختزنه، لأنه
يريد أن يحتويه في تصوره، ليتمكن من إظهاره، كي يجعل منه وسيلة لإقناع
سائله بالمبادرة إلى حسم الأمر، ودفع البلاء..
كما أن سؤاله هذا لا بد أن يشد أنظار الجميع إليه، حيث
سيشعرون أن علياً «عليه السلام» قد بدأ التحرك نحو معالجة الخطر، وحسم
الأمر.
5 ـ
وحيث كانت الأسماع مرهفة، والأبصار مشدودة تتحرك شفتا علي «عليه
السلام» بما لم يسمعه منهم أحد، ولكنهم رأوه يضرب الأرض بعد ذلك بيده،
ويقول لها مستنكراً: ما لكِ؟!
ثم يأمرها زاجراً، فيقول:
اسكني.
وكل ذلك يؤكد لهم:
أولاً:
إن علياً «عليه السلام» يملك أسراراً هائلة، وهذا ما لا يملكه أي كان
من الناس.
ثانياً:
إنه يدلهم دلالة صريحة على بطلان ادعاءات مناوئيه، ويعرفهم: أن الظلم
الذي حاق بعلي «عليه السلام»، لم يكن ظلماً عليه خاصة، بل كان ظلماً
لهم أيضاً، وللأمة بأسرها، لأنه حرم الأمة كلها من خيرات وبركات أسرار،
وعلوم، وقدرات، وتوفيقات علي «عليه السلام»، لأنه كان سيوظفها في
خدمتهم وسيمنع العوادي عنهم. على قاعدة:
{وَلَوْ
أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ
بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا
فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}([17]).
ثالثاً:
إنه أفهمهم: أن لعلي «عليه السلام» سلطة حتى على أمور التكوين وقدرة
على التصرف بها حتى في مستوى منع الزلزال، وايقاف الإجتياحات لهم من أي
نوع كانت.. حتى من خلال التلفظ بكلمات، تحمل معنى الأمر والزجر..
رابعاً:
قد بين لهم بصورة عملية: أن الأرض تفهم قوله، وتعي أوامره وزواجره،
وتستجيب لها..
6 ـ
ثم أخبرهم أنه هو الذي عنته الآية الكريمة بكلمة «الإنسان» في قوله
تعالى: {وَقَالَ
الإِنْسَانُ مَا لَهَا}([18]).
ولكنه لم يكن مجرد خبر، بل هو خبر قد رأوا ما يصدقه في منطبقاته
أمامهم، بصورة حية وفعلية، على قاعدة قد صدّق الخَبر الخُبر.
7 ـ
وقد ورد في الروايات: أن الأرض سوف تخبر هذا الإنسان بكل عَمَلٍ عُمِلَ
على ظهرها([19])،
وهذا من دلائل عرض الأعمال على الأنبياء وأوصيائهم.
وفي نص آخر:
أنه «عليه السلام» قال في مورد آخر: إن سورة الزلزلة إنما تتحدث عن
زلزلة أخرى، فقد قال: «أما إنها لو كانت الزلزلة التي ذكرها الله عز
وجل في كتابه لأجابتني، ولكنها ليست تلك»([20]).
عن الرضا، عن آبائه الطاهرين «عليهم
السلام»:
أن يهودياً جاء إلى أبي بكر في ولايته، وقال [له]: إن أبي قد مات، وقد
خلف كنوزاً. ولم يذكر أين هي، فإن أظهرتها كان لك ثلثها، وللمسلمين ثلث
[آخر]، ولي ثلث، وأدخل في دينك.
فقال أبو بكر:
لا يعلم الغيب إلا الله.
فجاء إلى عمر، فقال له (أي عمر) مقالة أبي بكر، ثم دله
على علي «عليه السلام»، (فجاء) فسأله.
فقال (له):
رُح إلى بلد اليمن، واسأل عن وادي برهوت بحضرموت، فإذا حضرت الوادي،
فاجلس هناك إلى غروب الشمس، فسيأتيك غرابان، سود مناقيرهما، تنعب،
فاهتف باسم أبيك، وقل له: يا فلان، أنا رسول وصي رسول الله إليك..
كلمني.
فإنه يكلمك، فاسأله عن الكنوز، فإنه يدلك على أماكنها.
فمضى اليهودي إلى اليمن، واستدل على الوادي وقعد هناك،
وإذا بالغرابين قد أقبلا فنادى أباه.
فأجابه وقال:
ويحك ما أقدمك على هذا الموطن؟! وهو من مواطن (أهل) النار.
فقال:
جئت أسألك عن الكنوز أين هي؟!
فقال:
في موضع كذا (وكذا)، في حائط كذا.
وقال له:
(يا) ويلك، اتبع دين محمد «صلى الله عليه وآله» تسلم، فهو النجاة.
ثم انصرف الغرابان، ورجع اليهودي فوجد كنزاً من ذهب،
وكنزاً من فضة، فأوقر بعيراً وجاء به إلى أمير المؤمنين «عليه السلام»
وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأنك وصي
رسول الله وأخوه، وأمير المؤمنين حقاً كما سميت، وهذه الهدية فاصرفها
حيث شئت، فأنت وليه في العالمين([21]).
ونقول:
1 ـ
إن طلب هذا اليهودي من أبي بكر: أن يدله على موضع الكنوز يدل على: أن
الناس كانوا يرون أن الأنبياء لهم أوصياء، وأنهم جميعاً لا بد أن
يكونوا قادرين على الإخبار بالغيوب، وعلى أمور كثيرة أخرى، وأن بإمكان
هذا اليهودي أن يجعل ذلك من دلائل صدق النبي في دعواه النبوة، ودليلاً
على صدق من يدعي الوصية وخلافة النبوة أيضاً.
2 ـ
إن جواب أبي بكر وعمر قد جاء في غير محله، فإن اليهودي لم يدع: أن
الوصي يعلم الغيب بصورة ذاتية، كما هوالحال بالنسبة للعزة الإلهية،
ليصح الجواب: بأن ذلك محصور به تبارك وتعالى..
بل هو يقول:
إن علم الوصي بالغيب كعلم رسول الله «صلى الله عليه وآله» به، يكون
بتعليم من الله تبارك وتعالى، عن طريق الوصي الذي سبقه، أو بتعليم من
الرسول «صلى الله عليه وآله» نفسه.
فكأن اليهودي قال لأبي بكر وعمر:
هل علمكما رسول الله «صلى الله عليه وآله» شيئاً، أو اختصكما الله بشيء
من توفيقاته وألطافه؟!. فإذا أجابا بالنفي كان ذلك دليلاً على أنهما
غاصبان لمقام الخلافة من صاحبه الشرعي، فلا بد من البحث عنه والرجوع
إليه..
وإن أجابا بنعم، فهذا هو الإمتحان، الذي يكرم المرء فيه
أو يهان.
3 ـ
قد يقال: لماذا يحمِّل علي «عليه السلام» ذلك اليهودي كل هذه المشقات؟!
ولماذا لا يخبره بموضع الكنز، وينتهي الأمر؟!.
ويجاب:
أولاً:
إن إرجاع علي «عليه السلام» ذلك اليهودي إلى اليمن، إلى وادي برهوت،
وذكره كل تلكم التفاصيل التي تجري له، يشير إلى أمرين:
أولهما:
أنه «عليه السلام» قد جعل اليهودي يتلمس ضلال أسلافه، وبطلان ما ورثه
عنهم. وبذلك يكون قد فصله عنهم بصورة نهائية، وأبطل وأزال من قلبه
ومشاعره أية علاقة له بهم، وبما هم عليه.
الثاني:
إنه يكون قد حسم الأمر بالنسبة للنبوة والإمامة، والتعريف بالإمام
الحق، وتمييزه عن المدعين لمقام الإمامة والخلافة بدون حق. ويكون بذلك
قد وفر عليه مواجهة الكثير من العقبات والصعوبات، وحصنه من الوقوع في
أسر الإدعاءات الباطلة والشبهات، أو التأثر بمظاهر الشوكة والقوة
والسلطان، أو الإنبهار بها.
ويجاب ثانياً:
بأنه قد يكون إخباره بالأمر بهذه الطريقة يهدف إلى صون تلك الكنوز عن
التعرض للإختلاس، لو أمكن لبعض من يسمع ما يجري أن يصل بنفسه أو بوسائط
تحت يده إلى تلك الكنوز ليستخرجها.
أو صونها من التعرض للإستلاب من قبل من يملك نفوذاً أو
يسعى لانتهاج سياسات مزاجية، في أمور الأموال وغيرها.. وربما يكون هناك
أسباب أخرى.
روي بالأسناد:
عن علي بن أبي طالب «عليه السلام» أنه قال: قدم على
رسول الله «صلى الله عليه وآله» حبر من أحبار اليهود، فقال: يا رسول
الله قد أرسلني إليك قومي، وقالوا: إنه عهد إلينا نبينا موسى بن عمران
«عليه السلام» أنه قال: إذا بعث بعدى نبي اسمه محمد، وهو عربي، فامضوا
إليه، واسألوه أن يخرج لكم من جبل هناك سبع نوق حمر الوبر، سود الحدق.
فإن أخرجها لكم فسلموا عليه، وآمنوا به، واتبعوا النور
الذي أنزل معه. فهو سيد الأنبياء، ووصيه سيد الأوصياء، وهو منه كمثل
أخى هارون مني.
فعند ذلك قال:
الله أكبر! قم بنا، يا أخا اليهود!
قال:
فخرج النبي «صلى الله عليه وآله» والمسلمون حوله إلى ظاهر المدينة،
وجاء إلى جبل، فبسط البردة، وصلى ركعتين، وتكلم بكلام خفيّ، وإذا الجبل
يصر صريراً عظيماً، فانشق، وسمع الناس حنين النوق.
فقال اليهودي:
مد يدك، فانا أشهد أن لا إله الا الله، وأنك محمد رسول الله «صلى الله
عليه وآله»، وأن جميع ما جئت به صدق وعدل، يا رسول الله! فأمهلني حتى
امضي إلى قومي، وأخبرهم، ليقضوا عدتهم منك، ويؤمنوا بك.
قال:
فمضى الحبر إلى قومه بذلك، فنفروا بأجمعهم، وتجهزوا للمسير، وساروا
يطلبون المدينة ليقضوا عدتهم، فلما دخلوا المدينة وجدوها مظلمة مسودة
بفقد رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وقد انقطع الوحي من السماء، وقد
قبض «صلى الله عليه وآله»، وجلس مكانه أبو بكر.
فدخلوا عليه وقالوا:
أنت خليفة رسول الله «صلى الله عليه وآله»؟!
قال:
نعم.
قالوا:
اعطنا عدتنا من رسول الله «صلى الله عليه وآله».
قال:
وما عدتكم؟!
قالوا:
أنت أعلم منا بعدتنا إن كنت خليفته حقاً، وإن لم تكن خليفته فكيف جلست
مجلس نبيك بغير حق لك، ولست له أهلاً؟!
قال:
فقام وقعد، وتحير في أمره، ولم يعلم ماذا يصنع، وإذا
برجل من المسلمين قد قام، وقال: اتبعوني حتى أدلكم على خليفة رسول الله
«صلى الله عليه وآله».
قال:
فخرج اليهود من بين يدي أبى بكر، وتبعوا الرجل حتى أتوا إلى منزل فاطمة
الزهراء «عليها السلام» فطرقوا الباب، وإذا الباب قد فتح، وخرج إليهم
علي «عليه السلام»، وهو شديد الحزن على رسول الله «صلى الله عليه
وآله».
فلما رآهم قال:
أيها اليهود تريدون عدتكم من رسول الله «صلى الله عليه وآله».
قالوا:
نعم.
فخرج معهم إلى ظاهر المدينة، إلى الجبل الذي صلى عنده
رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فلما رأى مكانه تنفس الصعداء، وقال:
بأبي وأمي من كان بهذا الموضع منذ هنيئة، ثم صلى ركعتين، وإذا بالجبل
قد انشق وخرجت النوق، وهي سبع نوق.
فلما رأوا ذلك قالوا بلسان واحد:
نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله «صلى الله عليه وآله»،
وأنّ ما جاء به النبي «صلى الله عليه وآله» من عند ربنا هو الحق، وأنك
خليفته حقاً ووصيه، ووارث علمه، فجزاه الله وجزاك عن الإسلام خيراً.
ثم رجعوا إلى بلادهم مسلمين موحدين([22]).
ونقول:
1 ـ
إن السمة الظاهرة لهذا النص، ولنصوص كثيرة أخرى شبيهة به تحتم عده في
سياق المعجزات للنبي «صلى الله عليه وآله»، والكرامات للإمام «عليه
السلام».. وهي وإن كانت تعد من مفردات سيرة النبي والوصي من جهة، إلا
أن أظهرية سمة الإعجاز والكرامة فيها تجعل ذكرها في سياق السيرة، ورصد
كل تفاصيلها أمراً لا ينشط له الكثيرون من الذين يفضلون إفرادها أو
إيرادها في المباحث الإعتقادية، ودلائلها وشواهدها..
ولذلك آثرنا أن نقتصر في كتابنا هذا على بعض النماذج من
ذلك لمجرد بلورة سائر ملامح الصورة التي نريد عرضها.. من دون استقصاء
لمختلف الخصوصيات والتفاصيل.
2 ـ
إن هذه الرواية تضمنت خطاب أمير المؤمنين «عليه السلام» لهؤلاء الناس
بقوله: أيها اليهود إلخ..
مع أن المفروض:
أنهم قد أسلموا على يد رسول الله «صلى الله عليه وآله»، حين أظهر لهم
المعجزة بخروج النوق السبع من الجبل، إذ لا معنى لبقائهم على اليهودية
بعد ما عاينوه، فما معنى أن يخاطبهم علي «عليه السلام» بخطاب لا ينطبق
عليهم، بل هو قد يزعجهم؟!
ويجاب:
بأن الذين جاؤوا في المرة الثانية كانوا لا يزالون على يهوديتهم، والذي
أسلم على يد رسول الله «صلى الله عليه وآله» هو شخص واحد لا أكثر، وهذا
ما صرحت به الرواية نفسها. فلا إشكال.
([1])
راجع: بحار الأنوار ج29 ص91 ـ 93 والإحتجاج ج1 ص224 و 225 و (ط
دار النعمان) ج1 ص114 ـ 115 والدرجات الرفيعة ص443 وراجع:
اليقين في إمرة أمير المؤمنين ص310.
([2])
مصادر الحديث الدال على ذلك كثيرة جداً فراجع: إحقاق الحق
(الملحقات) وراجع: الطبقات الكبرى لابن سعد ج2 ص318 ومناقب
أمير المؤمنين «عليه السلام» ج1 ص335 و 340 و 341 و 387 و 445
و 497 وج2 ص47 وكنز العمال ج11 ص610 والمعجم الكبير للطبراني
ج12 ص321 والعثمانية للجاحظ ص290 ومجمع الزوائد ج9 ص121 وشرح
نهج البلاغة للمعتزلي ج13 ص228 وكشف الغمة للإربلي ج1 ص341
ومناقب آل أبي طالب ج1 ص396 ج3 ص26 وبحار الأنوار ج2 ص226 وج5
ص21 و 69 وج22 ص501 وج28 ص84 وج35 ص184 وج38 ص12 و 19و 74 و
147 و 327 وج39 ص220 وج40 ص76 والمراجعات ص308 و 309 والغدير =
= ج2 ص283 وج5 ص351 وتاريخ مدينة دمشق ج42 ص47 و 48 و 56 و 57
و 331 وينابيع المودة ج2 ص77 و 85 و 97 و 163 و 299 و 402 ونهج
الإيمان لابن جبر ص440 وتفسير القمي ج2 ص109 وعلل الشرائع ج1
ص157 والعمدة لابن البطريق ص180.
([3])
راجع: الطبقات الكبرى (ط دار صادر) ج2 ص319 و (ط ليدن) ج2 ق2
ص89 وراجع: مناقب الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» للكوفي
ج1 ص397.
([4])
الطبقات الكبرى لابن سعد (ط دار صادر) ج2 ص319 و (ط ليدن) ج2
ق2 ص89.
([5])
الطبقات الكبرى لابن سعد ج2 ص319 وكنز العمال ج5 ص626 والإكمال
في أسماء الرجال للتبريزي ص24 وجامع المسانيد والمراسيل (ط دار
الفكر سنة 1994) ج13 ص98 وج17 ص233.
([6])
صحيح البخاري (ط دارالفكر) ج3 ص163 والطبقات الكـبرى لابن سعد
= = ج2 ص317 والسنن الكبرى للبيهقي ج4 ص109 وعمدة القاري ج13
ص259 والتمهيد لابن عبد البر ج3 ص211 ومجمع الزوائد ج6 ص3
والمصنف للصنعاني ج4 ص78 ومسند أبي يعلى ج3 ص459 وشرح معاني
الآثار ج3 ص305 والإستذكار لابن عبد البر ج5 ص159 وأضواء
البيان ج3 ص440 وجامع المسانيد والمراسيل ج13 ص98 وكنز العمال
(ط مؤسسة الرسالة) ج5 ص626.
([7])
الطبقات الكبرى لابن سعد ج2 ص319 وكنز العمال ج5 ص626 والإكمال
في أسماء الرجال للتبريزي ص24 وجامع المسانيد والمراسيل (ط دار
الفكر سنة 1994) ج13 ص98 وج17 ص233.
([8])
أنساب الأشراف ج1 ص587 والمسترشد ص383 عن الواقدي، وعن الشافي
ص397.
([9])
تاريخ اليعقوبي ج2 ص129.
([10])
مكارم أخلاق النبي «صلى الله عليه وآله» وأهل بيته «عليهم
السلام»، منسوب لقطب الدين الراوندي، مخطوط في مكتبة مجلس
الشورى بإيران.
([11])
راجع: تاريخ الأمم والملوك حوادث سنة 35 ج3 ص426 ومروج الذهب
ج2 ص321 و 322 وراجع: المستدرك للحاكم ج3 ص120 وج1 ص110 وكنز
العمال ج10 ص180 وتذكرة الحفاظ ج1 ص7 وشرح نهج البلاغة
للمعتزلي ج20 ص20 وسيرة الأئمة الاثني عشر ج1 ص317 و 343 و 365
وراجع: التاريخ الإسلامي والمذهب المادي في التفسير ص208 و 209
والفتنة الكبرى ص17 و 46 و 77 وشرف أصحاب الحديث ص87 ومجمع
الزوائد ج1 ص149 والطبقات الكبرى لابن سعد ج4 ص135 وج2 ق2 ص100
و 112 وحياة الصحابة ج2 ص40 و 41 وج3 ص272 و 273 عن الطبري = =
ج5 ص134 وعن كنز العمال ج7 ص139 وج5 ص239.
وفي
هذا الأخير عن ابن عساكر:
أنه جمع الصحابة من الآفاق، ووبخهم على إفشائهم الحديث.
([12])
الآية 42 من سورة التوبة.
([13])
تاريخ اليعقوبي (ط النجف الأشرف سنة 1394هـ) ج2 ص122 و (ط دار
صادر) ج2 ص133.
([14])
تاريخ اليعقوبي (ط النجف الأشرف سنة 1394هـ) ج2 ص122 و (ط دار
صادر) ج2 ص133 وراجع: الدرجات الرفيعة ص393 وأعيان الشيعة ج6
ص291.
([15])
الآيات 1 ـ 4 من سورة الزلزلة.
([16])
دلائل الإمامة (ط مؤسسة البعثة) ص66 و 67 ومدينة المعاجز ج2
ص99 و ـ 100 و 256 ـ 257 وعلل الشرائع ج2 ص277 و (ط المكتبة
الحيدرية) ج2 ص556 ونور الثقلين ج5 ص648 وبحار الأنوار ج41
ص254 وج57 ص129 وج88 ص151 والبرهان ج8 ص356 عن العلل، وتأويل
الآيات الظاهرة ج2 ص836 والصافي ج5 ص357 وج7 ص530 وكنز الدقائق
ج14 ص389 و 390 وراجع: مناقب آل أبي طالب ج2 ص324.
([17])
الآية 96 من سورة الأعراف.
([18])
الآية 3 من سورة الزلزلة.
([19])
الدر المنثور ج6 ص380 عن ابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان،
وكنز الدقائق ج14 ص390 و 391 ومجمع البيان المجلد الخامس،
ص562. وراجع: بحار الأنوار ج7 ص97 ومسند ابن المبارك ص50 وصحيح
ابن حبان ج16 ص360 وتخريج الأحاديث والآثار ج4 ص261 وموارد
الظمآن ج8 = = ص282 وكشف الخفاء ج2 ص13 وجوامع الجامع ج3 ص826
وغريب القرآن للطريحي ص237 والميزان ج20 ص344 وتفسير الثعلبي
ج10 ص264 وتفسير السمعاني ج6 ص267 وتفسير البغوي ج4 ص515
والجامع لأحكام القرآن ج20 ص148 و 149 وتفسير االقرآن العظيم
ج4 ص576 وتفسير الثعالبي ج5 ص616 وفتح القدير ج5 ص480 وتفسير
الآلوسي ج30 ص209 ومجمع البحرين ج1 ص619.
([20])
علل الشرايع ج2 ص276 و (ط المكتبة الحيدرية) ج2 ص555 والبرهان
(تفسير) ج8 ص357 ومناقب آل أبي طالب ج2 ص150 وبحار الأنوار ج25
ص379 وج41 ص253 وج57 ص129 وراجع: تأويل الآيات الظاهرة ج2 ص836
وكنز الدقائق ج14 ص391 و 392.
([21])
مدينة المعاجز ج2 ص46 و 47 ومشارق أنوار اليقين ص81 و (ط مؤسسة
الأعلمي 1419هـ) ص122 والخرائج والجرائح ج1 ص192 وبحار الأنوار
ج41 ص196.
([22])
الفضائل لابن شاذان ص366 ـ 368 و (ط المكتبة الحيدرية) ص130
وفي هامش السنخة الأولى عن: مدينة المعاجز ج1 ص521 و 523 و 525
والهداية الكبرى ص153 والخرائج والجرائح ج1 ص175 وإثبات الهداة
ج1 ص179 وج2 ص45 و 475 و 494 وإرشاد القلوب ص278 والثاقب في
المناقب ص127 وخصائص الأئمة للشريف الرضي ص49 ومناقب آل أبي
طالب ج2 ص332 وبحار الأنوار ج41 ص192 و 270 وج42 ص36 وإحقاق
الحق (الملحقات) ج5 ص67 عن در بحر المناقب لابن حسنويه.
|