أصحاب
علي في حكومة مناوئيه:
وبعد..
فلسنا بحاجة إلى التدليل على أن أعظم الصحابة منزلة عند الله تعالى
ورسوله «صلى الله عليه وآله» كانوا إلى جانب أمير المؤمنين «عليه
السلام». ثم رجع إليه خيار من تبقى من الصحابة تدريجاً، وحاربوا معه
أعداءه، واستشهد كثير منهم بين يديه في حروبه، في الجمل، وصفين
والنهروان..
وعلى رأس هؤلاء سلمان وعمار، والمقداد، وأبو ذر، ومنهم
حذيفة بن اليمان، وأبو الهيثم بن التيهان، وكثير آخرون.
ومن أصحابه «عليه السلام» الأشتر الذي كان «عليه
السلام» يقول عنه: كان لي الأشتر كما كنت لرسول الله([1])،
وقيس بن سعد بن عبادة، ومحمد بن أبي بكر، وابن عباس، وحجر بن عدي،
وغيرهم..
والملاحظ:
هو أن هؤلاء المعروفين بمخالفتهم لتوجهات الهيئة الحاكمة، والذين
أعلنوا رفضهم لتعدي أركانها على حق أمير المؤمنين «عليه السلام» في
الخلافة ـ إن هؤلاء قد ـ شاركوا في النشاطات السياسية، وتولوا مناصب
هامة فيها، فقد تولى عمار بن ياسر الكوفة، وتولى سلمان المدائن..
وسلمان هو الذي كلف باختيار موقع الكوفة، ليبنى فيه
معسكر المسلمين في العراق، فصلى فيه ركعتين، ودعا بدعاء([2]).
وشارك بعضهم في الفتوحات، مثل حذيفة الذي كان على رأس
الجيش في فتح الفتوح في نهاوند([3]).
ومثل الأشتر الذي شترت عينه في اليرموك([4]).
ومثل هاشم المرقال، وغيرهم ممن كان لهم دور أساسي فيها.. حسبما أوضحناه
في هذا الكتاب.
والسؤال هنا هو:
إذا كان هؤلاء قد اعترضوا على أركان الحكم، ورفضوا
تأييدهم فيما أقدموا عليه. ولم يروا لهم شرعية في المواقع التي استولوا
عليها.
فكيف عادوا وقبلوا بالمشاركة في الحروب التي خاضوها في
فتوحاتهم أو في غيرها، فكانوا فيها قادة ومقاتلين، وفيهم خالد بن سعيد
بن العاص، والأشتر، وحذيفة؟!
وكيف قبلوا المناصب والولايات منهم؟ وفيهم مثل سلمان
وعمار؟!
وكيف رضي أركان الحكم أنفسهم بإشراك هؤلاء في حكومتهم،
وفي شؤونهم؟! وقد حاولوا أن يشركوا علياً «عليه السلام» أيضاً في
حروبهم وفتوحاتهم، ولكنه «عليه السلام» رفض قبول ذلك..
ونستطيع أن نجيب عن ذلك باختصار شديد، بما يلي:
أما بالنسبة لقبول الحكام بإشراك علي «عليه السلام»
وأصحابه في الحروب، وفي الولايات والقيادات، فوجهه ظاهر. فإنهم يعتبرون
أن هذا بمثابة حجر واحد يصيبون به عدة عصافير بضربة واحدة.
فهم يعلمون أن هذا الفريق هم صفوة وخيار أصحاب رسول
الله «صلى الله عليه وآله». ولديهم من الرصيد المعنوي ما يجعل لكلماتهم
ومواقفهم تأثيراً قوياً في الناس.. فإذا أدخلوهم في بوتقة الحكم
والسلطان، وأصبحوا يشاركون في الأنشطة على اختلافها، فإنهم لا بد أن
يكفوا ألسنتهم عن تناول الحكم بما يضره ويضعفه، ولو فعلوا ذلك فلن
يجدوا الآذان صاغية لهم، بالحد الذي كانت سوف تصغي لهم لو كانوا في
خارج السلطة.
ثم إن نفس دخولهم في الحكم يمثل إقراراً بمشروعيته، أو
هو على الأقل إعلان أن بالإمكان التعايش معه، وأن من المصلحة إقرار هذا
التعايش. وأنه ليس من المصلحة إثارة الأجواء المسمومة ضده، حتى لو كان
يفتقر إلى الشرعية..
ولعل الحكم يفكر أيضاً بأن هؤلاء الناس إذا دخلوا في
الحكم، واستفادوا منه، وحصلوا على بعض الإنتفاعات، فإنهم سوف يسكتون،
بل ربما ينقلبون على آرائهم السابقة وينقضونها.
على أن دخولهم في الحكم ربما يهيء الفرصة لإضعاف موقعهم
وتأثيرهم، من خلال وضعهم أمام معادلة صعبة، وهي أنهم إما أن ينقادوا
لإرادات الحكم، ويصبحون في خدمته وخدمة أهدافه، كسائر أدواته وأقماره.
وإما أن يواجهوا خطر التعرض للعزل من مناصبهم بألف حجة
وحجة، من شأنها أن تحط من قدرهم، ولو باتهامهم بإساءة التصرف، أو
بالضعف في الإدارة، وعدم القدرة على حل مشكلات الناس، بل قد يتهمونهم
بأنهم كانوا هم السبب في نشوء كثير منها.
فقد قال ابن شهراشوب:
«كان عمر وجّه سلمان أميراً إلى المدائن، وإنما أراد له الختلة، فلم
يفعل إلا بعد أن استأذن أمير المؤمنين، فمضى فأقام بها إلى أن توفي،
وكان يحطب في عباءة يفترش نصفها إلخ..»([5]).
وأما بالنسبة للسؤال عن السبب في قبول أصحاب علي «عليه
السلام» بالمشاركة، فنقول:
إن الإجابة تتضح بملاحظة النقاط التالية:
1 ـ
إن هؤلاء الصفوة لا ينطلقون في مواقفهم من حسابات للمنافع الشخصية أو
الفئوية، وإنما هم ـ كسيدهم علي أمير المؤمنين «عليه السلام» ـ يؤثرون
رضا الله سبحانه وظهور دينه، وفلج الحق، ولا يغضبون إلا لله، ولا
يرضيهم إلا ما فيه رضاه، مهما كان مؤلماً ومراً بالنسبة إليهم..
واسوتهم في ذلك علي «عليه السلام»، الذي تحمل الأذى
بضرب زوجته سيدة نساء العالمين، وإسقاط جنينها، بل واستشهادها،
بالإضافة إلى الهجوم على بيته، والسعي لإحراقه على من فيه. وفيه صفوة
الخلق، إلى غير ذلك من أنواع المكر والأذى الذي حاق به.
ولم يكن صبره هذا ناشئاً عن ضعف في عزيمته، أو وهن في
إرادته، أو خور أو جبن.. وإنما لأن الله تعالى يريد منه أن يسكت، وأن
يداري نفس هؤلاء الذين تورطوا في هذه المهالك والمزالق..
ويدل
على ذلك:
أنه بعد خمس وعشرين سنة من السكوت والمداراة، وتحمل الظلم والهضم، عاد
فامتشق سيفه، وخاض أعنف الحروب الطاحنة، حين رأى أن الله تعالى يريد
منه أن يحارب، وأن يكسر شوكة أهل الباطل.
2 ـ
إن سياسات الخلفاء اتجهت بعد رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى تجهيل
الناس، وحرمانهم من العلم النافع، بالمنع من كتابة حديث رسول الله «صلى
الله عليه وآله»([6])،
ومن روايته([7])،
ومن السؤال عن معاني القرآن([8])..
والإكتفاء بفتاوى الأمراء([9]).
وبأحاديث القصاصين عن بني إسرائيل([10]).
بل لقد أحرق عمر بن الخطاب ما جمعه خلال شهر كامل من
كتب الصحابة([11])،
وتشدد في ذلك أيما تشدّد.
وقد أرسل بأوامره القاضية بإقلال الحديث عن رسول الله
«صلى الله عليه وآله»، وبأن لا يكون هذا الحديث ظاهراً،
وبتجريد القرآن عن الحديث في كل اتجاه، وكان يوصي بذلك ولاته، وبعوثه
وجيوشه. ولم يزل يشيعهم بهذه الوصايا([12]).
والقرار الأهم هو منع الفتوى إلا للأمراء، فقد ولي
قارها من ولي حارها على حد تعبير عمر بن الخطاب.
وقد أوضحنا هذا الموضوع في الجزء
الأول من كتابنا:
الصحيح من سيرة النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله»..
وقد أفسحت هذه السياسة المجال لشيوع فتاوى خاطئة كثيرة،
كما أنها شرعت لهم باب الفتوى بالرأي، والإستحسان، وبالقياسات الظنية،
والاستنسابات الموهومة.. بل ظهرت في العديد من الموارد: افتراءات على
الله، وبدع وضلالات..
وكانت أيضاً سبباً في شيوع الكثير من الترهات،
والأضاليل، والأباطيل، والإعتقادات الفاسدة، من خلال دسائس القصاصين من
أهل الكتاب، أو المتأثرين بهم من تلامذتهم. ومن خلال الخيالات والأوهام
التي اخترعها أولئك القصاصون لإلهاء العامة، أو لإغوائهم..
وغابت المعايير الصحيحة التي تصون من الزلل والخطل، في
الفكر، وفي القول وفي العمل، لتحل محلها معايير لحفظ الترهات
والإنحرافات المحمية بسيف السلطة وسوطها..
3 ـ
ومن المعلوم أن الناس بعد رسول الله «صلى الله عليه وآله»، كانوا
ينظرون إلى صحابته الذين كانوا بقربه، وعاشوا معه، على أنهم هم المرجع
والطريق الذي يوصلهم إلى أقوال رسول الله «صلى الله عليه وآله» وسنته
وسيرته. وكل ما كان منه، أو صدر عنه.
فالكل يتطلع إلى المدينة، وما يصل إليه منها وعنها..
وأكثر الناس لا يفرقون بين هذا الصحابي وذاك، ولا يعرفون إلا أقل
القليل عن أحوال بعضهم، وأفعاله، ومواقفه..
والناس عادة ينظرون بالدرجة الأولى إلى حكامهم
وأمرائهم، ويرجعون إليهم إنقياداً وطاعة للسلطان، وانبهاراً بما يحيط
به من مظاهر التعظيم والتبجيل، والإحترام والتجليل.
فكل ما يقوله لهم الصحابة، وخصوصاً الحكام سيكون هو
الشرع المتبع، وسيتداولونه فيما بينهم، ثم ينقلونه للأجيال الآتية على
أنه دين وإيمان وحق وصدق، لا يخامر أكثر الناس أدنى شك في ذلك.
4 ـ
وكان لا بد لعلي وشيعته ومحبيه، وهم خيار الصحابة وفضلاؤهم، وهم
الأمناء على شرع الله، وحفظة دين الله، من الإسهام في حفظ الدين، وفي
إيصاله للناس كما هو عليه، ومن دون أدنى تغيير ولم يكن ذلك ميسوراً لهم
من دون المشاركة في الحكومات والولايات، بصورة فاعلة ومؤثرة، ليتمكنوا
من طرح ما لديهم من شرع ودين، وإيمان، وحقائق، وسياسات إسلامية في
مختلف الشؤون..
وبدون ذلك فستشملهم إجراءات السلطة القاضية بمنع
الرواية والفتوى، ومنع السؤال عن معاني القرآن، وحصرها بالمتصدين
للولايات في البلاد..
5 ـ
علينا أن لا ننسى: أن الذين حكموا الناس قد منعوا كبار الصحابة من سكنى
الأمصار، وأبقوهم في المدينة ليكونوا ـ باستمرار ـ في دائرة السيطرة،
وفي حدود الإشراف والرقابة([13]).
وولوا البلاد والعباد لأولئك الطامحين والطامعين، الذين
لم يكن لديهم الكثير من المعرفة بالدين وأحكامه. وليس لهم سابقة فيه،
بل اكثرهم ممن تأخر إسلامه، وكانوا قد نابذوه وحاربوه سنوات طويلة.. بل
كان كثير منهم معروفاً بمخالفاته الصريحة، وبتاريخه غير المجيد في
الإلتزام بالأحكام، وفي مراعاة حدود الله في الحلال والحرام، بل كان
بعضهم يسعى لإطفاء نور الله، والكيد للنبي وآله «صلوات الله عليهم »،
وللدين و.. ولم يكن ذلك منهم إلا حسداً وحقداً وعتواً على الله تبارك
وتعالى.
وإذا أصبحت الفتوى والشريعة بيد أمثال هؤلاء حصرياً، ثم
انضم إليهم مسلمة أهل الكتاب، ومن لف لفهم، ممن صار يتولى إشاعة ترهات
بني إسرائيل وأضاليلهم، فعلى الإسلام السلام.. وعلينا أن نتخيل أي نوع
من أنواع المعارف الدينية سينتشر وسينتقل إلى الأجيال الآتية!!
6 ـ
وكل ما ذكرناه وقررناه، وكثير سواه قد حتّم على الصفوة الأخيار من
الصحابة أن يكون لهم دور إيجابي فاعل في هذا المجال.
وكان لديهم رصيد معنوي يكفي لمنع التيار المناوئ لهم من
تجاهلهم. كما أن لهم من أقوال رسول الله «صلى الله عليه وآله» في حقهم،
وبيان فضلهم، ومن تميزهم الظاهر في العلم والدين، أثر كبير في توجه
الناس لهم، وقبولهم منهم، والرغبة في الأخذ عنهم، وإن كان تيار السلطة
المناوئ لهم قد جهد في أن يزيل ذلك كله، وأن يجعل الناس ينسونهم،
ويبتعدون عنهم، ويسعى بجد إلى إحلال آخرين محلهم من خلال التطبيل
والتزمير لهم، فعظموا مناوئيهم وأطروهم بما لا مزيد عليه، حتى ليخيل
للناظر أن أولئك العلماء المزيفين هم رجال الإسلام، وعظماء الأمة، وذلك
ضمن منظومة من السياسات الذكية لسنا الآن بصدد بيانها.
7 ـ
وهذه السياسات وإن كانت قد نجحت بالنسبة للأشخاص، ولكن جهود علي،
والأخيار من صحبه قد أفشلوها في الإتجاه الآخر، أي فيما يرتبط ببيان
حقائق الإسلام.
وتوضيح ذلك:
أن الحكام، وإن حاولوا أن يصنعوا بزعمهم بدائل لأهل البيت «عليهم
السلام». وتمكنوا من اجتذاب أنظار الناس لبعض هؤلاء، والتسويق لهم على
أنهم أهل لأن يؤخذ منهم وعنهم، مثل سمرة بن جندب، وابن عمر، وكعب
الأحبار، وابن سلام، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وغيرهم.
ولكن ظهور كثير من الهنات في سلوك هؤلاء الصنائع، وتلمس
الناس ضعف معرفتهم في كثير من الأمور، حجب عنهم الكثير من الإكبار
والإجلال، ولم يتمكنوا من الفوز إلا بالقليل من ثقة بعض الناس العاديين
بعلمهم، وباستقامتهم. ولا سيما حين يقارنون بين ما سمعوه من هؤلاء، وما
يسمعونه من أهل البيت «عليهم السلام»، ومن الأبرار الأخيار من أصحابهم،
أمثال سلمان، وأبي ذر، وعمار، والمقداد، الذين احتفظوا بنظرة الإكبار
والإجلال التي تصل إلى حد التقديس الذي وجد الحكام انفسهم مضطرين
للإعتراف به.
ويكفي ان نذكر:
ان سلمان الفارسي لما زار دمشق صلى الإمام الظهر، ثم خرج، وخرج الناس
يتلقون سلمان كما يُتلقى الخليفة.
قال الراوي:
فلقيناه وقد صلى بأصحابه العصر، وهو يمشي، فوقفنا نسلم عليه، فلم يبق
فينا شريف إلا عرض عليه أن ينزل به([14]).
ثم لما قدم إلى المدينة قال عمر
للناس:
اخرجوا بنا نتلقى سلمان. فخرجوا معه إلى مشارف المدينة، ولم نعرف أن
عمر صنع مثل هذا مع عامل من عماله، أو مع أحد من أصحاب رسول الله «صلى
الله عليه وآله»([15]).
ولكن الحكام لم يفسحوا المجال إلا للقليل من هؤلاء
الكبار لأن يكونوا في المواقع الدنيوية، التي لأجلها يتهافت الناس
عليهم، ويجدون الدواعي قوية للإرتباط بهم، وإنشاء علاقات معهم، فإن
الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم.
8 ـ
لقد كان هؤلاء الأخيار يدركون بعمق أن الإسلام يرفض السلبية التي تعني
الإنهزام والعجز، والتخلي عن المسؤولية، والهروب من مواجهة الواقع،
لأنها سلبية هدامة، وممقوتة..
فإن كان لا بد من موقف سلبي، فلا بد أن ينتج الإيجابية
البناءه، وأن يثمر الإصلاح والتغيير.. والإقتراب من الأهداف السامية،
والعمل بالواجب الشرعي. وتحقيق رضا الله تعالى، لتكون الإيجابية هي
أساس الحياة، ورائد السعي والعمل، وطريق الخلاص.
9 ـ
وذلك كله يفسر لنا تعامل أمير المؤمنين «عليه السلام» مع الحكام الذين
أخذوا حقه، وضربوا زوجته، وقتلوا جنينها، وحاولوا إحراق خير خلق الله
بعد رسول الله «صلى الله عليه وآله». فإنه اعتكف في بيته بالمقدار الذي
أفهم كل أحد حقيقة ما جرى وما يجري عليه، وعرف الناس كلهم مظلوميته،
وأنه لا مبرر لهذه العدوانية من الآخرين سوى أنهم كانوا يسعون لقهره،
وسلب حقه.
فلما عرف كل أحد ذلك لم يبق «عليه السلام» مصراً على
مقاطعتهم، بل كان هو الحاضر والناظر، وكان حضوره مؤثراً وفاعلاً.. إلى
حد جعل مناوئيه أنفسهم يشعرون أنهم بحاجة إليه لحل مشكلاتهم، وكشف
المبهمات التي تواجههم، فكانوا في أحيان كثيرة هم الذين يسعون إليه
ملتمسين منه حل المعضلات، والإجابة على المسائل الصعبة، وبيان الأحكام
الشرعية، والفصل في الدعاوى المستعصية.
ولم يكن «عليه السلام» يتمنّع أو يتضايق، أو يتبرم من
ذلك، بل كان يستقبلهم بصدر رحب، وبمسؤولية، وترفع واعتزاز.
10 ـ
ولكن مشاركة علي «عليه السلام» وكذلك مشاركة أصحابه لم يصاحبها أي
تراجع في مستوى الجهر منه «عليه السلام» بمظلوميته، والتذكير المستمر
باغتصابهم حقه، والشكوى من ابتعادهم في ممارساتهم عن جادة الحق
والصواب، ومخالفتهم للنبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» فيما عقد وأكد،
وفيما شرّع وَبيَّن.
فبقي «عليه السلام» صوتَ الحق الهادر، وضميرَ الإسلام
الحي، وحجته القاطعة، وبرهانَه الساطع..
وهكذا كان حال صحبه الأخيار الأبرار، الذين شاركوا في
الحكومة، وفي الجيوش وقيادتها.
إذن، فلم تكن مشاركتهم إمضاءً لممارسات الحكم غير
المشروعة، ولا سكوتاً عن مخالفاته وتجاوزاته على الحقوق، ولم يتحول
المشاركون من أصحابه إلى دمى بأيدي غيرهم، ولا إلى أدوات لتمرير أو
لتبرير الأخطاء، ولم يستطع أحد أن يتخذ منهم واجهة لأي نوع من أنواع
التعدي أوالإبتزاز، أو الخيانة، وما إلى ذلك.
11 ـ
إن الأئمة الطاهرين، وشيعتهم الأبرار الميامين المؤيدين، لم يشاركوا في
حكومة الأمويين ولا العباسيين، لأنهم كانوا يعتبرون مشاركتهم معونة
لأولئك الحكام على ظلمهم، حتى إن صفوان الجمال يكرى جماله للرشيد ليحج
عليها، فيواجه الإعتراض واللوم من الإمام الكاظم «عليه السلام»،
باعتبار أن هذا العمل يجعل صفوان يرغب في استمرار حياة ذلك الظالم إلى
حين انتهاء مدة الإجارة، وعودة جماله إليه([16]).
12 ـ
إن الخمسين سنة الأولى من تاريخ الإسلام، والتي تبدأ من وفاة رسول الله
«صلى الله عليه وآله» هي الفترة التي عاش فيها الصحابة حياتهم العادية،
حيث ماتت أكثريتهم الساحقة قبل سنة ستين، ولم يبق منهم إلا أفراد
قليلون.
ونقصد بالصحابة هنا:
خصوص من حمل العلم عنه «صلى الله عليه وآله»، وعاش مع النبي فترة تؤهله
للفهم عنه، والذين يرى الناس أن بإمكانهم أن يرجعوا إليهم، وأن يأخذوا
عنهم. ولا نقصد من ولد في عهده «صلى الله عليه وآله»، ولا الذين لم
يهتموا بالتعلم منه والحفظ عنه، أو الذين رأوه بصورة عابرة.
إن الناس سوف يرجعون إلى هؤلاء الصحابة، ويأخذون عنهم،
ويتأدبون بأدبهم، ويعيشون في ظلال المفاهيم والقيم والمثل التي ترشح
عنهم في القول، وفي الفعل، وفي السمت والسلوك.
وهذا يعطينا:
الإيحاء بمدى أهمية هذه الفترة في تأسيس الدين، وتأصيل الأصول، وبلورة
العقائد، والقيم، والمفاهيم، لتجد سبيلها إلى القلوب والعقول، وإلى
الضمير والوجدان الإنساني.
فلا بد من تقديم ذلك كله للناس، والحفاظ عليه ورعايته،
وطرد كل ماهو غريب ودخيل.. أو على الأقل أن لا يطرح الباطل وحده أمام
الناس ليكون هو الشرع والدين، بل يطرح الحق أيضاً للناس.. وعلى الناس
أن يختاروا وفق المعايير الصحيحة والمشروعة..
13 ـ
فاتضح: أن أي تقصير، أو تساهل في طرح حقائق الدين في تلك الفترة سوف
يفسح المجال لطرح الباطل وحده، وسيترك ذلك آثاره السلبية على مسيرة
الدين، وعلى نقائه وبقائه، وعلى معانيه ومبانيه.. وسيسري هذا الداء
الذي ليس منه شفاء، ما دام في هذه الدنيا أموات وأحياء.
فإذا أمكن إبلاغ الناس بالحق، فإنه يصبح بالإمكان
الوصول إليه والحصول عليه، بعد ارتفاع الموانع وتبدل الأوضاع، وبعد
نشوء أجيال لا تعيش تلك العقد التي عاشها أسلافهم، تطمح لمعرفة ما هو
حق، وتجد الفرصة للبحث والتمحيص.
14 ـ
ومن الواضح أن السبل المتبعة لبيان الحق يجب أن تكون في حدتها
واندفاعها، قادرة على إيجاد تيار قوي وعارم، يعطيها مكاناً مرموقاً في
سوق العرض والطلب.. لا أن يكون ضعيفاً وهزيلاً، تقتحمه العيون، وتستهين
به النفوس، وتتجاوزه إلى ما عداه.
ولا بد أن لا يبلغ في حدته وشدته حداً يجعل منه مأزقاً
للحكام، يحتم عليهم استنفار كل طاقاتهم لحربه، والإجهاز عليه، بل عليه
أن يستغل غفلة الحكام، ويطرح حقائق الدين بأساليب مرنة وحكيمة، بعيداً
عن التلويح بإقصاء أولئك المستولين عن مواقعهم، والإستيلاء على ما في
أيديهم.
وبعبارة أخرى:
يكون تيار أهل الحق قادراً على أن يختزل تيار الباطل، ويحتويه، أو على
الأقل أن يقدم نفسه كخيار منافس قوي، لا بد من الإهتمام به، وأخذه
بجدية.. وهكذا كان..
([1])
راجع: ينابيع المودة لذوي القربى للقندوزي ج 2 ص 28.
([2])
نور القبس ص232 وتاريخ الأمم والملوك ج4 ص41 و 42 و (ط مؤسسة
الأعلمي) ج3 ص145 وتاريخ الكوفة للسيد البراقي ص142 و 148
والكامل في التاريخ ج2 ص527 والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج2
ق2 ص110.
([3])
راجع: الإستيعاب ج4 ص1506 وأسد الغابة ج5 ص31 وتهذيب الكمال
ج29 ص460 وج5 ص506 والأعلام للزركلي ج2 ص171 وتاريخ الأمم
والملوك ج3 ص187 والأمالي للطوسي ص715 وبحار الأنوار ج32 ص69
وفتح الباري ج6 ص189 وتاريخ خليفة بن خياط ص105 و 107 والتاريخ
الصغير للبخاري ج1 ص80 والأخبار الطوال للدينوري ص137 وطبقات
المحدثين بأصبهان ج1 ص180 وتاريخ مدينة دمشق ج12 ص287 وج44
ص395 ومعجم البلدان ج1 ص83 وج5 ص49 و 313 وفتوح البلدان ج2
ص375 و 394.
([4])
تاريخ الإسـلام للذهبـي ج3 ص593 وتاريـخ مدينـة دمشـق ج2 ص158
= = وج56 ص373 وج56 ص379 و 380 وسير أعلام النبلاء ج4 ص34
والمعارف لابن قتيبة ص586 وكتاب المحبر للبغدادي ص261 و 303.
([5])
الدرجات الرفيعة ص215. وراجع: خلاصة تذهيب تهذيب الكمال ص147
والطبقات الكبرى لابن سعد ج4 ص87 وتاريخ مدينة دمشق ج21 ص434
وتهذيب الكمال ج11 ص252 والمنتخب من ذيل المذيل ص33 و 50
وتاريخ الاسلام للذهبي ج3 ص518 والوافي بالوفيات ج15 ص193.
([6])
كنز العمال ج10 ص292 و 291 وكتاب العلم لأبي خيثمة ص11 والنص
والإجتهاد ص140 و141 وأضواء على السنة المحمدية ص46 و 47
وتقييد العلم ص53 وعن حجية السنة ص395 وراجع: تنوير الحوالك ص4
وجامع أحاديث الشيعة ج1 ص3 والمصنف للصنعاني ج11 ص257 والغدير
ج6 ص297 وجامع بيان العلم وفضله ج1 ص64 و 63 و 65 والخلاف
للطوسي ج1 ص29 ومستدرك الوسائل ج1 ص9 وتذكرة الحفاظ للذهبي ج1
ص3 ومسند أحمد ج5 ص182 والمصنف لابن أبي شيبة ج6 ص231.
([7])
الغدير ج6 ص294 و 295 والمصنـف للصنعـاني ج11 ص262 والبـدايـة
= = والنهاية ج8 ص115 وتاريخ مدينة دمشق ج47 ص142 وج66 ص191
وج67 ص344 وج26 ص382 وتذكرة الحفاظ ج1 ص7 والإيضاح لابن شاذان
ص536 ومستدرك سفينة البحار ج10 ص529 وسير أعلام النبلاء ج2
ص345 و 602 والكنى والألقاب ج1 ص180 والمصنف لابن أبي شيبة ج6
ص201 والطبقات الكبرى لابن سعد ج2 ص336 وكتاب المجروحين لابن
حبان ج1 ص35 و 36 والمستدرك للحاكم ج1 ص110 وخلاصة عبقات
الأنوار ج3 ص246 و 79 و 275 وجامع بيان العلم وفضله ج2 ص120
و121 وراجع: المعجم الأوسط للطبراني ج2 ص326 ومسند الشاميين ج3
ص251 وكنز العمال ج10 ص291 والبرهان للزركشي ج1 ص296 والفصول
في الأصول للجصاص ج3 ص132 و 133 وأصول السرخسي ج1 ص350 وعن
تدوين السنة 414.
([8])
راجع: تاريخ بغداد ج11 ص465 والدر المنثور ج6 ص317 وفتح القدير
ج5 ص387 وفتح الباري ج13 ص229 وتفسير الآلوسي ج30 ص47 والميزان
ج20 ص211 وميزان الإعتدال ج3 ص139 وتهذيب الكمال ج21 ص26 وج16
ص532 وسير أعلام النبلاء ج11 ص55 وج5 ص11 وتهذيب التهذيب ج7
ص309 وكنز العمال ج2 ص328 وكشاف القناع للبهوتي ج1 ص60 وصحيح
البخاري ج8 ص143 وبحار الأنوار ج30 ص692 والغدير ج6 ص99 و 101
و 292 و 294 و 332 وعمـدة الـقـاري ج25 ص35 = = وكنز العمال
ج2 ص328 وذم الكلام وأهله للهروي ج3 ص178 وراجع: المصنف لابن
أبي شيبة ج2 ص381 وج7 ص199 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج12 ص93
وتاريخ مدينة دمشق ج34 ص230 وتاريخ الإسلام للذهبي ج6 ص412.
([9])
راجع: جامع بيان العلم ج2 ص175 و 203 و 194 و 174 و (ط دار
الكتب العلمية) ج2 ص143 ومنتخب كنز العمال (مطبوع بهامش مسند
أحمد) ج4 ص62 وسنن الدارمي ج1 ص61 والطبقات الكبرى لابن سعد ج6
ص179 و 258 وراجع ص174 والمصنف للصنعاني ج8 ص301 وج11 ص328
و329 وراجع ص231 وأخبار القضاة لوكيع ج1 ص83 وتاريخ مدينة دمشق
ج40 ص521 وتاريخ الإسلام للذهبي ج3 ص658 وسير أعلام النبلاء ج4
ص612 وتهذيب تاريخ دمشق ج1 ص54 وحياة الصحابة ج3 ص286 وكنز
العمال ج1 ص185 وراجع ص189 و (ط مؤسسة الرسالة) ج10 ص299 عن
عبد الرزاق، وابن عساكر، وابن عبد البر، والدينوري في المجالسة
وخلاصة عبقات الأنوار ج3 ص78 وسنن الدارمي ج1 ص61 والتراتيب
الإدارية ج2 ص367 وبحوث مع أهل السنة والسلفية ص238.
([10])
القصاص والمذكرين ص90 وتاريخ بغداد ج3 ص366 وعيون الأخبار ج1
ص297 والسنة قبل التدوين ص211 عن تمييز المرفوع عن الموضوع
ص16 ب.
([11])
الطبقات الكبرى (ط
دار
صادر)
ج5 ص188 وسير أعلام النبلاء ج5 ص59 و (ط دار الفكر) ج5 ص534
وتاريخ الإسلام للذهبي ج7 ص221 والخلاف للطوسي ج1 ص29 ومستدرك
الوسائل ج1 ص10 والنص والإجتهاد ص141.
([12])
راجع: البرهان في علوم القرآن للزركشي ج1 ص480 وغريب الحديث
لابن سلام ج4 ص49 وحياة الشعر في الكوفة ص253 والغدير ج6 ص294
و 263 والأم ج7 ص308 وفيه قال قرظة: لا أحدِّث حديثاً عن رسول
الله «صلى الله عليه وآله» أبداً. وراجع: سنن الدارمي ج1 ص85
وسنن ابن ماجة ج1 ص16 ومستدرك الحاكم ج1 ص102 وجامع بيان العلم
ج2 ص120 وتذكرة الحفاظ ج1 ص3 وشرح النهج للمعتزلي ج3 ص120 وكنز
العمال ج2 ص83 والحياة السياسية للإمام الحسن «عليه السلام»
للمؤلف ص78 و 79 وشرف أصحاب الحديث ص90 و 91 و 88 وحياة
الصحابة ج3 ص257 و 258 والطبقات الكبرى لابن سعد ج6 ص7.
([13])
راجع: الطبقات الكبرى لابن سعد ج2 ص336 وكنز العمال ج13 ص250
وخلاصة عبقات الأنوار ج3 ص79 والغدير ج6 ص294 وتذكرة الحفاظ ج1
ص7 والأحكام لابن حزم ج2 ص249 و 250 ومنهاج الكرامة للعلامة
الحلي ص19.
([14])
سير أعلام النبلاء ج1 ص505 وج3 ص513 وتاريخ الإسلام للذهبي ج3
ص513 وتهذيب تاريخ دمشق ج1 ص190 وأنساب الأشراف ج1 ص487 و 488
وتاريخ مدينة دمشق ج10 ص294 وج21 ص374 والوافي بالوفيات ج15
ص193.
([15])
راجع: ذكر أخبار أصبهان ج1 ص56 وتهذيب تاريخ دمشق ج6 ص205.
وراجع: كنز العمال ج13 ص422 وتاريخ مدينة دمشق ج21 ص426.
([16])
إختيار معرفة الرجال (المعروف برجال الكشي) ص441 و (ط مؤسسة آل
البيت) ج2 ص740 وسائل الشيعة (ط
مؤسسة
آل البيت) ج16 ص259 وج17 ص182 و (ط
دار
الإسلامية) ج11 ص502 وج12 ص31 وخاتمة المستدرك للنوري ج2 ص377
وموسوعة أحاديث أهل البيت «عليهم السلام» للنجفي ج4 ص261 وبحار
الأنوار ج72 ص376 وجامع أحاديث الشيعة ج14 ص430 وج17 ص282
ومستدرك سفينة البحار ج7 ص22 وقاموس الرجال ج5 ص127 ونقد
الرجال للتفرشي ج2 ص421 والكنى والألقاب ج2 ص420.
|