وفي عهد عمر تنازعت امرأتان في طفل، كل منهما تدعي أنه
ابنها بغير بينة، فغم على عمر ذلك، وفزع إلى علي امير المؤمنين «عليه
السلام»، فاستدعى المرأتين، ووعظهما وخوفهما، فأقامتا على التنازع.
فقال «عليه السلام»:
ائتوني بمنشار.
فقالتا:
ما تصنع به؟
قال:
اقدّه بنصفين، لكل واحدة منكما نصفه.
فسكتت إحداهما.
وقالت الأخرى:
الله، الله يا أبا الحسن، إن كان لا بد من ذلك فقد سمحت لها به.
فقال:
الله أكبر، هذا ابنك دونها. وهذا حكم سليمان في صغره([1]).
ونقول:
إننا لا نرى حاجة إلى التعليق على هذه الحادثة، التي
استند فيها علي «عليه السلام» إلى التأثير النفسي، واعتبر أن ردة الفعل
قادرة على حسم الأمر في المسألة، وأنها قابلة للاعتماد.
أتي عمر بن الخطاب بإمرأة قد تعلقت بشاب من الأنصار،
كانت تهواه، فلمَّا لم يساعدها احتالت عليه، فأخذت بيضة، فألقت صفرتها،
وصبت البياض على ثوبها، وبين فخذيها. ثم جاءت إلى عمر صارخة، فقالت:
هذا الرجل غلبني على نفسي، وفضحني في أهلي، وهذا أثر فعاله.
فسأل عمر النساء، فقلن له:
إن ببدنها وثوبها المني.
فهمَّ بعقوبة الشاب، فجعل يستغيث، ويقول: يا أمير
المؤمنين تثبَّت في أمري. فوالله ما أتيت بفاحشة، ولا هممت بها، فلقد
راودتني عن نفسي، فاعتصمت.
فقال عمر:
يا أبا الحسن، ما ترى في أمرهما؟!
فنظر علي إلى الثوب، ثم دعا بماء حار شديد الغليان، فصب
على الثوب، فجمد ذلك البياض، ثم أخذه واشتم رائحته، وذاقه، فعرف طعم
البيض. وزجر المرأة، فاعترفت([2]).
وفي نص آخر:
أن امرأة صبت بياض البيض على فراش ضرتها،
وقالت:
قد بات عندها رجل.
وفتش ثيابها، فأصاب ذلك البياض. وقص على عمر، فهم أن
يعاقبها الخ..([3]).
ونقول:
أولاً:
ذكرنا في هذا الكتاب رواية مفادها: أن علياً «عليه السلام» ميّز بين أم
الصبي، وأم الصبية بوزن لبنهما، فاعتبر ذات اللبن الثقيل هي أم
الغلام.. والأخرى أم الصبية. وها هو «عليه السلام» هنا يعود إلى
التحاليل المخبرية ليكتشف تزوير تلك المرأة..
وقد قلنا:
إن ذلك التحليل العلمي المخبري حجة ودليل إذا كان من موجبات اليقين،
حيث يكون مورده من شؤون الخلقة ولوازمها غير المنفكة عنها.. ولا شك في
أنه في هذا المورد كذلك، فإن بياض البيض يتفاعل مع الماء المغلي، بما
لا يتفاعل المني معه لو ألقي عليه..
ثانياً:
إنه «عليه السلام» من أجل أن يرى الناس صحة ما توصل إليه، ويقطع شكهم
باليقين، ولكي لا يتأول المتأولون، ولا يشكك المشككون. ويوسوسوا للناس
لاتهام ذلك الرجل بماهو منه بريء.. ـ من أجل ذلك كله ـ زجر تلك المرأة
حتى اعترفت بالحقيقة..
ثالثاً:
صحيح أنه لا يصح انتزاع إقرار تحت وطاة التهديد، والقهر.. ولكن الأمر
فيما نحن فيه ليس كذلك، فقد أصبح كذب المرأة أوضح من الشمس، وأبين من
الأمس، وصدرالحكم في حقها. وهو «عليه السلام» لا يريد أن يقررها توطئة
للحكم لها أو عليها.. بل يريد أن يقررها حفاظاً على حق وكرامة الذي
اتهمته، وإزالةً لآثار عدوانها عليه.
رابعاً:
لقد لفت نظرنا هنا أيضاً تسرع عمر في الأمر، حتى لقد همَّ بعقوبة ذلك
الشاب، قبل أن يسأله عن الأمر، أو قبل أن يظهر له الحق فيما ادعته تلك
المرأة، حتى لقد تحير في أمره بمجرد سماعه استغاثة ذلك الشاب. ولو كان
على بينة من الأمر لم يتحير..
خامساً:
لم تشر الرواية إلى استحقاق تلك المرأة العقوبة لأجل افترائها على ذلك
الشاب..
وأتي إلى عمر بن الخطاب برجل
وامرأة، فقال الرجل لها:
يا زانية.
فقالت:
أنت أزنى مني.
فأمر بأن يجلدا.
فقال علي «عليه السلام»:
لا تعجلوا، على المرأة حدان، وليس على الرجل شيء منها: حد لفريتها، وحد
لإقرارها على نفسها، لأنها قذفته، إلا أنها تضرب ولا تضرب بها الغاية([4]).
ونقول:
1 ـ
إن المرأة حين قالت لزوجها: أنت أزنى مني، تكون قد أقرّت على نفسها
بالزنى، ولكنها تدعي: أن زوجها أكثر زناً منها، وذلك يدلّ على عدم كون
زوجها قاذفاً لها، فسقط الحدّ عنه بذلك.
2 ـ
إن قول المرأة هذا قد تضمن إقراراً بالزنا، وقذفاً للزوج بأمر لم يقرّ
هو به، فاستحقت بذلك حدّين: أحدهما لإقرارها بالزنى، والثاني لقذفها
زوجها.
3 ـ
ولكنه «عليه السلام» أشار إلى التخفيف في ضربها، لأنه إنما أقرت مرة
واحدة، كما أن قذفها لزوجها إنما هو بعد استفزاز منه لها.
4 ـ
ومسارعة عمر لإصدار الحكم، كأنه لاعتقاده وضوح مأخذه، وهو حصول القذف
من الطرفين. وقد سمع القذف منهما بأذنيه، ولكن قد فاته أن معرفته بأن
القاذف يحد لا تجديه نفعاً، إذا لم يكن قادراً على التمييز بين ما هو
قذف، وما هو إقرار، وبين ما يثبت الحد، وبين ما يسقط به..
فيا ليته سأل علياً كما هو عادته، ولكن قبل أن يتكلم...
والجدير بالذكر هنا:
أن عمر قد واجه مثل هذا الفشل في العديد من الموارد، التي سارع فيها
إلى إصدار الحكم، ظناً منه بأن الأمر فيها واضح، وإذ به يفاجأ بعلي يرد
حكمه، ويبين له وجه الخطأ فيه، ويكتشف بداهة هذا الخطأ، وأن لا محيص
عما حكم به علي..
فلماذا هذه العجلة؟!
ولماذا لا يتعلم من المرات الكثيرة التي مرت به؟!
هل لأنه يريد أن يظهر حاكميته وسلطته؟!
أم لأنه يريد أن يثبت أن لديه قدراً من المعرفة بالفقه
والقضاء؟!
أم ماذا؟!.
وجاءت امرأة إلى عمر، فقالت:
مــا تــــرى أصـلـحـك اللـــــ
ـــــه وأثــرى لـــــــك أهـــلاً
في فـــتـــــــاة ذات بــعــــــل أصـبــحـــت تـطـلـب
بـعـــلاً
بـــعـــد إذن مـــن أبــيـــهـــا أتـــــرى ذلـــــك
حــــــلاً؟!
فأنكر ذلك السامعون.
فقال أمير المؤمنين «عليه السلام»:
احضريني بعلك.
فأحضرته، فأمره بطلاقها، ففعل، ولم يحتج لنفسه بشيء.
فقال «عليه السلام»:
إنه عنين.
فأقر الرجل بذلك، فأنكحها رجلاً آخر من غير أن تقضي عدة([5]).
ونقول:
إنما أنكحها رجلاً آخر من غيرأن تقضي عدة، لأنه كان
عنيناً ولم يدخل بها، والطلاق قبل الدخول لا يحتاج إلى عدة، وقد أقر
الرجل بالعنن..
ولو كان العنن قد حصل بعد الدخول لاحتاجت إلى العدة،
وذلك ظاهر لا يخفى.
أتي عمر بن الخطاب برجل أسود،
وامرأة سوداء، فقال الرجل:
إني أغرس غرساً أسود. وهذه سوداء على ما ترى، فقد أتتني بولد أحمر.
فقالت المرأة:
والله يا أمير المؤمنين ما خنته، وإنه لولده.
فبقي عمر لا يدري ما يقول.
فسئل عن ذلك علي «عليه السلام»،
فقال للأسود:
إن سألتك عن شيء أتصدقني؟!
قال:
أجل والله.
قال:
هل واقعت امرأتك وهي حائض؟!
قال:
قد كان ذلك.
قال علي:
الله أكبر، إن النطفة إذا اختلطت بالدم، فخلق الله منها خلقاً كان
أحمر، فلا تنكر ولدك، فأنت جنيت على نفسك([6]).
ونقول:
إننا لا نريد التوسع في تسجيل الملاحظات حول هذه
الحادثة بل نكتفي بالإشارة إلى ما يلي:
ألف:
يستفاد من هذه الرواية: أن الوطء في الحيض قد ينشأ عنه حمل، وإن كانوا
يقولون: إن ذلك غير ممكن في العادة، لأن البويضة إنما تتكون بعد الحيض
بعدة أيام.
لكن ذلك لا يمنع من حصول الإخصاب أيام الحيض أيضاً في
حالات نادرة جداً، ربما تكون واحدة من بين مئات الألوف أو الملايين.
وعلى هذا تحمل الروايات التي تقول:
لا يبغض علياً إلا ابن حيضة([7])
حيث لا داعي لرد الرواية، إذا كان الحمل في حال الحيض قد يحصل.. وإن
كان نادراً جداً.
ب:
قول علي «عليه السلام» لذلك الأسود: انت جنيت على نفسك إنما هو لأنه
فعل حراماً، فابتلي بما يثير الشبهة في أعز شيء عنده، وهو ولده طول
حياته..
وأتي إلى عمر بامرأة تزوج بها شيخ، فلما أن واقعها مات
على بطنها، فجاءت بولد. فأذاعوا بنوه: أنها فجرت، فأمر برجمها.
فرآها أمير المؤمنين «عليه السلام»
فقال:
هل تعلمون أي يوم تزوجها، وفي أي يوم واقعها، وكيف كان جماعه لها؟!
قالوا:
لا.
قال:
ردوا المرأة، فلما أن كان من الغد بعث إليها، فجاءت ومعها ولدها. ثم
دعا أمير المؤمنين «عليه السلام» بصبيان أتراب، فقال لهم: العبوا، حتى
إذا ألهاهم اللعب صاح بهم أمير المؤمنين.
فقام الصبيان، وقام الغلام، فاتكأ على راحتيه. فدعا به
أمير المؤمنين، وورَّثه من أبيه، وجلد إخوته المفترين حداً حداً.
وقال:
عرفت ضعف الشيخ باتكاء الغلام على راحتيه حين أراد القيام([8]).
ونقول:
نلاحظ هنا ما يلي:
1 ـ
أن علياً «عليه السلام» عاد ليؤكد في فعله هذا: أن على الحاكم أن يكون
خبيراً في الشريعة، بحيث يحفظ الناس في أنفسهم، وفي أموالهم وأعراضهم.
وأن مجرد المعرفة الظاهرية لبعض الأحكام لا تكفي للجلوس في مجلس الحاكم
القاضي المتصرف في مستقبل الناس.
2 ـ
إنه «عليه السلام» قد ردّ المرأة التي كانت تساق لكي ترجم، لكي يؤدي
واجبه، ويحفظ للناس كرامتهم وحياتهم.
3 ـ
وقد علم «عليه السلام» أن عمر بن الخطاب قد استند إلى ما لا يصح
الإستناد إليه في مثل هذا الأمر.. فإنها كانت ذات بعل، ولم يشهد أولئك
الناس عليها بالزنا، استناداً إلى الرؤية المباشرة، بل إلى الحدس،
والتخمين طمعاً بالإرث ولغير ذلك من أسباب، ولكنه «عليه السلام» تجاهل
شهادتهم، واتجه نحو اسلوب آخر.
4 ـ
استخرج «عليه السلام» الحكم من عملية اختبار أجراها على قوى ذلك
الغلام، لكي يعطي الضابطة التي ينبغي الإستناد إليها في أمثال هذه
الأمور. ليقول لنا: إن الشهادة حين تبقى في دائرة الظن والتهمة للشهود
احيانا كثيرة لأكثر من سبب فان الاختبارات اليقينية تكون هي الحكم الذي
لا بد من اللجوء إليها في هذا الحال.
5 ـ
إن الإختبار الذي أجراه كان واضح النتائج إلى حد اعتبره كافياً ليس
لمجرد درء الحد عنها، بل هو قد تجاوز حد الشبهة حتى صار حقيقة ثابتة
تكفي للحكم بجلد المفترين على المرأة أيضاً..
وقالوا:
رفع إلى عمر: أن عبدا قتل مولاه، فأمر بقتله.
فدعاه علي «عليه السلام»، فقال له:
أقتلت مولاك؟!
قال:
نعم.
قال:
فلم قتلته؟!
قال:
غلبني على نفسي، واتاني في ذاتي.
فقال لأولياء المقتول:
أدفنتم وليكم؟!
قالوا:
نعم.
قال:
ومتى دفنتموه؟!
قالوا:
الساعة.
قال لعمر:
احبس هذا الغلام، فلا تحدث فيه حدثاً، حتى تمر ثلاثة أيام.
ثم قال لأولياء المقتول:
إذا مضت ثلاثة أيام، فاحضرونا.
فلما مضت ثلاثة أيام حضروا، فأخذ علي «عليه السلام» بيد
عمر، وخرجوا، ثم وقف على قبر الرجل المقتول، فقال علي لأوليائه: هذا
قبر صاحبكم؟!
قالوا:
نعم.
قال:
احفروا، فحفروا حتى انتهوا إلى اللحد.
فقال:
أخرجوا ميتكم.
فنظروا إلى أكفانه في اللحد، ولم يجدوه، فأخبروه بذلك.
فقال علي:
الله أكبر، الله أكبر، والله ما كذبت ولا كذبت: سمعت رسول الله «صلى
الله عليه وآله» يقول: من يعمل من أمتي عمل قوم لوط، ثم يموت على ذلك،
فهو مؤجل إلى أن يوضع في لحده، فإذا وضع فيه لم يمكث أكثر من ثلاث حتى
تقذفه الأرض إلى جملة قوم لوط المهلكين، فيحشر معهم([9]).
ونقول:
1 ـ
لعل عمر أخذ بإقرار العبد، ولم يلتفت إلى ما ادعاه في حق سيده، بتخيل
أنه مجرد دعوى ليس لها ما يثبتها.. أو لعله أمر بقتله بعد إقراره
بالقتل من دون أن يسأله عن سبب قتله مولاه.
2 ـ
إنه «عليه السلام» قد نبش القبر، وأرى أولياء المقتول أن صاحبهم غير
موجود فيه، لسببين:
أولهما:
انه يريد أن يقدم الدليل الحي على صدق الغلام فيما ادعاه على المقتول،
فإذا أطلق سراحه عرف أولياء المقتول أنهم لا سبيل لهم عليه..
الثاني:
أنه أراد أن يظهر لهم صحة ما ينقله لهم عن رسول الله «صلى الله عليه
وآله».. حتى لا يبقى مجال للوسوسة ولا للتأويل، أو إثارة الشبهات.
وليرى الجميع بما فيهم عمر بن الخطاب بصورة حسية أنه هو الذي يملك
العلم الخاص، الذي هو علم الإمامة، الذي هو هبة من الله لمن يشاء من
عباده.
هذا كله عدا ما يتضمن ذلك من عبرة لكل من يعرف جزاء من
يفعل ذلك الأمر الشنيع.
3 ـ
إن الحديث قد تضمن اشتراط أن يموت اللائط مصراً على ذنبه، ولا يتوب
منه، فإذا كان ذلك، فإنه ينقل خلال ثلاث ليال، ليكون في جملة قوم لوط.
ويبدو: أن العبد قتل سيده وهو يمارس عمله القبيح، ولم يكن قد فكر في
التوبة بعد.
4 ـ
ربما يسأل البعض عن حال من عرف عنهم ذلك من المسلمين وغيرهم، فلعلنا
نجد: أن أكثرهم في قبورهم.
فيجاب:
بأن من تاب منهم يبقى في قبره.. وإلا فلا بد من أن يكون قد نقل منه.
وأما من يفعل ذلك من غير المسلمين، فلعلهم يبقون في
حفرهم لأن كفرهم أعظم من ذنبهم هذا، وقبورهم هي من حفر النيران، ومن
حفر قوم لوط؛ وهو يحشر مع قوم لوط، وإن كان في بلاد أخرى، فإنها جميعها
من بلاد من يفعل هذا الفعل الشنيع، فيلحقه العذاب الذي أعده الله تعالى
لهؤلاء الناس.. وهو يحشرمعهم، وهم يكونون معه.
زد على ذلك: ان النبي «صلى الله عليه وآله» خص هذا
الأمر بمن يفعل ذلك من أمته..
5 ـ
إننا نلاحظ أن علياً «عليه السلام» يخبرالناس عن سر ما فعله بعد أن
يفعله، ولم نجده أخبرهم بشيء قبل ذلك.
وقد لوحظ:
أنه يسلم الغلام لعمر، ويأمره أن لا يحدث به حدثاً (أي لا يقتله) حتى
تمضي الأيام الثلاثة.. ليبقى هو الوثيقة التي تفرض اتمام عملية إظهار
الحق، وعدم التواني والتساهل فيه، ولكي يبقى الناس بانتظار ما يجري
لذلك الغلام بعد الأيام الثلاثة.
وهنا قصتان تتشابهان في عمق وقسوة المعاناة لبريئتين
تشابهت قصتيهما في الآلام، وشدة المعاناة. ثم اختلفتا في سياق الأحداث،
ثم عادتا إلى التوافق في البراءة وفي فرحتها ولذتها.. واحدى القصتين
تحكي مشكلة تعرضت لها بريئة، والأخرى مشكلة عانى منها برئ، ونذكر
القصتين فيما يلي من مطالب:
علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن معاوية
بن وهب، عن أبي عبد الله «عليه السلام» قال:
أتي عمر بن الخطاب بجارية قد شهدوا عليها أنها بغت،
وكان من قصتها أنها كانت يتيمة عند رجل، وكان الرجل كثيرا ما يغيب عن
أهله، فشبت اليتيمة، فتخوفت المرأة أن يتزوجها زوجها، فدعت بنسوة حتى
أمسكنها، فأخذت عذرتها بإصبعها.
فلما قدم زوجها من غيبته رمت المرأة اليتيمة بالفاحشة،
فأقامت البينة من جاراتها اللاتي ساعدنها على ذلك، فرفع ذلك إلى عمر
فلم يدر كيف يقضي فيها.
ثم قال للرجل:
ائت علي بن أبي طالب، واذهب بنا إليه، فأتوا عليا «عليه السلام»، وقصوا
عليه القصة.
فقال لامرأة الرجل:
ألك بينة أو برهان؟!
قالت:
لي شهود، هؤلاء جاراتي يشهدن عليها بما أقول، وأحضرتهن.
فأخرج علي «عليه السلام» السيف من غمده، فطرحه بين
يديه، وأمر بكل واحدة منهن فأدخلت بيتاً.
ثم دعا امرأة الرجل فأدارها بكل وجه، فأبت أن تزول عن
قولها، فردها إلى البيت الذي كانت فيه.
ودعا إحدى الشهود، وجثا على ركبتيه،
ثم قال:
تعرفيني؟! أنا علي بن أبي طالب، وهذا سيفي، وقد قالت امرأة الرجل ما
قالت، ورجعت إلى الحق، فأعطيتها الأمان، وإن لم تصدقيني لأمكنن (لأملأن
خ. ل) السيف منك.
فالتفتت إلى عمر فقالت:
يا أمير المؤمنين، الأمان على الصدق.
فقال لها علي «عليه السلام»:
فاصدقي.
فقالت:
لا والله، إنها رأت جمالا وهيئة، فخافت فساد زوجها، فسقتها المسكر،
ودعتنا فأمسكناها، فافتضتها بإصبعها.
فقال علي «عليه السلام»:
الله أكبر، أنا أول من فرق بين الشهود إلا دانيال النبي «عليه السلام»،
وألزمهن علي «عليه السلام» بحد القاذف. وألزمهن جميعا العقر، وجعل
عقرها أربع مائة درهم، وأمر المرأة أن تنفى من الرجل، ويطلقها زوجها،
وزوجه الجارية، وساق عنه علي «عليه السلام» مهرها.
فقال عمر:
يا أبا الحسن فحدثنا بحديث دانيال «عليه السلام».
قال:
إن دانيال كان يتيماً لا أم له ولا أب، وإن امرأة من بني إسرائيل
عجوزاً كبيرة ضمته فربته، وإن ملكاً من ملوك بني إسرائيل كان له
قاضيان، وكان لهما صديق، وكان رجلاً صالحاً، وكانت له امرأة ذات هيئة
جميلة، وكان يأتي الملك فيحدثه، فاحتاج الملك إلى رجل يبعثه في بعض
أموره، فقال للقاضيين: اختارا رجلاً أرسله في بعض أموري.
فقالا:
فلان، فوجهه الملك.
فقال الرجل للقاضيين:
أوصيكما بامرأتي خيراً.
فقالا:
نعم.
فخرج الرجل، فكان القاضيان يأتيان باب الصديق، فعشقا
امرأته، فراوداها عن نفسها، فأبت.
فقالا لها:
والله لئن لم تفعلي لنشهدن عليك عند الملك بالزنا، ثم ليرجمنك.
فقالت:
افعلا ما أحببتما، فأتيا الملك، فأخبراه، وشهدا عنده أنها بغت.
فدخل الملك من ذلك أمر عظيم، واشتد بها غمه، وكان بها
معجبا.
فقال لهما:
إن قولكما مقبول، ولكن ارجموها بعد ثلاثة أيام، ونادى في البلد الذي هو
فيه: احضروا قتل فلانة العابدة، فإنها قد بغت. وإن القاضيين قد شهدا
عليها بذلك، وأكثر الناس في ذلك.
وقال الملك لوزيره:
ما عندك في هذا من حيلة؟!
فقال:
ما عندي في ذلك من شيء.
فخرج الوزير يوم الثالث، وهو آخر أيامها، فإذا هو
بغلمان عراة يلعبون، وفيهم دانيال وهو لا يعرفه.
فقال دانيال:
يا معشر الصبيان، تعالوا حتى أكون أنا الملك، وتكون أنت يا فلان
العابدة، ويكون فلان وفلان القاضيين الشاهدين عليها، ثم جمع تراباً
وجعل سيفاً من قصب.
وقال للصبيان:
خذوا بيد هذا فنحوه إلى مكان كذا وكذا، وخذوا بيد هذا، فنحوه إلى مكان
كذا وكذا.
ثم دعا بأحدهما فقال له:
قل حقاً، فإنك إن لم تقل حقاً قتلتك، بم تشهد؟! ـ والوزير قائم يسمع
وينظرـ.
فقال:
أشهد أنها بغت، قال متى؟!
قال:
يوم كذا وكذا.
[قال:
مع من؟!
قال:
مع فلان ابن فلان.
قال:
وأين؟!
قال:
موضع كذا وكذا].
قال:
ردوه إلى مكانه، وهاتوا الآخر، فردوه إلى مكانه وجاؤوا بالآخر، فقال
له: بم تشهد؟!
قال:
أشهد أنها بغت.
قال:
متى؟!
قال:
يوم كذا وكذا.
قال:
مع من؟!
قال:
مع فلان ابن فلان.
قال:
وأين؟!
قال:
موضع كذا وكذا.
فخالف صاحبه، فقال دانيال:
الله أكبر، شهدا بزور، يا فلان ناد في الناس إنما شهدا على فلانة بزور،
فاحضروا قتلهما.
فذهب الوزير إلى الملك مبادراً فأخبره الخبر، فبعث
الملك إلى القاضيين، فاختلفا كما اختلف الغلامان، فنادى الملك في
الناس، وأمر بقتلهما([10]).
ونقول:
1 ـ
إن علياً «عليه السلام» لم يتهدد الشهود، ولا انتزع منهم الإقرار
بالقوة.. بل اكتفى بأن جرد سيفه، ووضعه بين يديه.. وهذا أمر يفعله كل
أحد، ولا مجال للاعتراض على من يفعل ذلك، بأنك تهددني.. ولو توهم أحد
ذلك، فإن صاحب السيف يبادر إلى نفي هذه التهمة، ويقبل الناس منه هذا
النفي.
2 ـ
إنه يكره للحاكم أن يعنِّت الشهود، مثل أن يفرق بينهم، وأن يعظهم، وأن
يحذرهم من شهادة الزور، لأن في ذلك نوع امتهان لهم، وغض من مقامهم.
لكن يستحب ذلك كله في موضع الريبة.. ولأن المورد هنا
يستبطن ريبة؛ بل ما هو اكثر من ذلك فرق «عليه السلام» بين الشهود،
وحذرهم من شهادة الزور، فقد ذكرت الرواية المتقدمة: أنه «عليه السلام»
لم يشر مع المرأة الأولى، التي هي امرأة الرجل إلى السيف الذي بين
يديه، لا من قريب، ولا من بعيد. بل حاول إقناعها بكل طريقة لتتخلى عن
تهمتها، فأصرت..
ولكنه حين جاء بالشاهدة الأولى اتخذ عدة إجراءات
وأوضاع، مثل:
ألف ـ
إنه «عليه السلام» غيَّر جلسته من حالة إلى حالة. فجثا على ركبتيه،
وهذا لا يعدُّ تهديداً لأحد. فللإنسان أن يجلس كيف شاء، وله أن يغير
جلسته بالنحو الذي يحب، فلعل هذه الجلسة تريحه أكثر من تلك.. ولو فهم
بعض الناس هذه الجلسة بنحو معين فذلك شأنه، ولا يجب على الجالس أن ينفي
ذلك أو ان يثبته له..
ب ـ
ثم قال «عليه السلام» لها: تعرفيني؟!. أنا علي بن أبي طالب.. وللقاضي
أن يعرف الشاهد بنفسه، ولا يعد هذا من التهديد في شيء أيضاً، إلا
بقرينة حالية أو مقالية، ولو اتهم بذلك، فإنه يدفع التهمة عن نفسه، لأن
إخبار شخص لآخر باسمه يكون لأكثر من سبب.
ج ـ
ثم أخبرها «عليه السلام» بأن السيف المطروح أمامه يعود إليه، وهو
المالك له. ولم يقل لها: إنني سأضربك به.. وللانسان أن يخبر غيره بما
شاء.
د ـ
ثم أخبرها بأن امرأة الرجل قالت شيئاً، ولم يخبرها بما قالت، هل هو
إقرار؟! أو إصرار؟! فهو لم يخبرها بغير الحق، ولم يخدعها، بل ذكر لها
كلمة مبهمة، تنطبق على أي قول صدر من تلك المرأة، ولو كان كلاماً عن
الطعام، أو عن الشجر، أو الحجر.
هـ ـ
ثم قال لها: إن تلك المرأة رجعت إلى الحق.. وهذه العبارة أيضاً لا تدل
على أنها قد اعترفت، لاحتمال أن يكون المراد أنها رجعت إلى القاضي الذي
يحكم بالحق، أو أنها جعلت الشرع هو الحكم. والشرع هو الحق الذي يرجع
إليه الناس في أمورهم، خصوصاً حينما يختلفون.
و ـ
ثم أخبرها «عليه السلام»: بأنه قد أعطى الأمان لتلك المرأة، وهذا صحيح،
فإنها كانت في أمانه إلى تلك اللحظة.
ز ـ
ثم أخبرها «عليه السلام»: بأنها إن كذبت وظهر كذبها في شهادتها، فسوف
يمكن السيف منها، وهذا صحيح أيضاً في حد نفسه، فإنه إذا ظهر تعمدها
الكذب في شهادتها، وكان قد أدى ذلك الكذب إلى رجم المتهم بالزنا وهو
بريء، وجلدت الجارية فإنها تقتل، وهذا هو حكم شاهد الزور إذا أدت
شهادته إلى قتل المشهود عليه([11]).
وأما بالنسبة للحكم الذي أصدره «عليه السلام» بعد ظهور
كذب النسوة، فقد تضمن ما يلي:
1 ـ
إنه «عليه السلام» قد ألزم أولئك النسوة بحد القاذف، وهو ثمانون جلدة،
ولم يجر عليهم حد شاهد الزور، لأن شهادتهم لم تؤد إلى شيء بالنسبة
للمشهود عليهما..
2 ـ
إنه «عليه السلام» ألزم أولئك النسوة بضمان ما جرى على تلك الفتاة من
افتضاض، وهو ما يعبر عنه بالعقر أي الجرح الذي أوردوه عليها.
3 ـ
أما تحديده ذلك العقر بأربع مئة درهم، فلعله هو مهر المثل لتلك الجارية
التي كانت حرة.
4 ـ
ثم جازى تلك المرأة بحرمانها من نفس الأمر الذي سعت للحصول عليه،
وارتكبت هذا الجرم من أجله. وهو الإحتفاظ بزوجها. فأمر أن تنفى من
زوجها، ويطلقها.
5 ـ
ثم إنه منح الجارية ما كانت قد سعت تلك المرأة لحرمانها منه، فزوجها من
زوج تلك المرأة بالذات..
6 ـ
ثم إنه «عليه السلام» ساق مهرها عوضاً عن ذلك الرجل، لأنه لم يرد لذلك
الرجل الذي لا ناقه له ولا جمل فيما جرى، أن يتضرر بماله، ولو بمهر هذه
الجارية. وليدل بذلك على أنه يتعمد إكرام تلك الجارية. ويهتم لاصلاح
أمرها.
ولا تفوتنا الإشارة هنا إلى أن في حديثه «عليه السلام»
عن قصة دانيال، إشارة لطيفة إلى أنه لو كان ثمة معرفة بأحوال الماضين
من قبل من عرضت عليه المشكلة، لأمكن توقع التفاته إلى طريقة الحل.. بأن
يجرب نفس الطريقة التي يعرفها عن دانيال «عليه السلام».
ولكن العوامل كلها قد تضافرت على إبقاء أولئك المتصدين
لمقام ليس لهم في ابهامات الحيرة، وعدم المعرفة بالكثير من الأحكام
الشرعية، ولم يكونوا يتدبرون في آيات القرآن، ولا يعرفون سير الأنبياء
والأوصياء، فمن أين تأتيهم المعرفة بحلول ما يواجهونه من مشاكل.. إلا
بالآراء والإستحسانات التي لا يرضاها الله تبارك وتعالى.
وقالوا:
إنه كان رجل من أهل بيت المقدس ورد إلى مدينة رسول الله «صلى الله عليه
وآله»، وهو حسن الشباب، حسن الصورة، فزار حجرة النبي «صلى الله عليه
وآله»، وقصد المسجد، ولم يزل ملازماً له، مشتغلاً بالعبادة، صائم
النهار وقائم الليل في زمن خلافة عمر بن الخطاب، حتى كان أعبد الخلق،
والخلق تتمنى أن تكون مثله([12]).
وكان عمر يأتي إليه، ويسأله أن
يكلفه حاجة، فيقول له المقدسي:
الحاجة إلى الله تعالى، ولم يزل على ذلك إلى أن عزم
الناس الحج.
فجاء المقدسي إلى عمر بن الخطاب
وقال:
يا أبا حفص، قد عزمت على الحج، ومعي وديعة أحب أن تستودعها مني إلى حين
عودي من الحج.
فقال عمر:
هات الوديعة.
فأحضر الشاب حُقاً من عاج، عليه قفل من حديد، مختوم
بختام الشاب، فتسلمه منه، وخرج الشاب مع الوفد.
فخرج عمر إلى مقدم الوفد، وقال:
أوصيك بهذا الغلام، وجعل عمر يودع الشاب، وقال للمقدّم على الوفد:
استوص به خيراً.
وكان في الوفد امرأة من الأنصار، فما زالت تلاحظ
المقدسي، وتنزل بقربه حيث نزل، فلما كان في بعض الأيام دنت منه، وقالت:
يا شاب إني أرق لهذا الجسم الناعم المترف كيف يلبس الصوف؟!
فقال لها:
يا هذه، جسم يأكله الدود ومصيره التراب هذا له كثير.
فقالت:
إني أغار على هذا الوجه المضيئ تشعثه الشمس.
فقال لها:
يا هذه، اتقي الله وكفي، فقد شغلني كلامك عن عبادة ربي.
فقالت له:
لي إليك حاجة، فإن قضيتها فلا كلام، وإن لم تقضها فما أنا بتاركتك حتى
تقضيها لي.
فقال لها:
وما حاجتك؟!
قالت:
حاجتي أن تواقعني!! فزجرها وخوفها من الله تعالى، فلم يردعها ذلك.
فقالت:
والله لئن لم تفعل ما آمرك لأرمينك بداهية من دواهي النساء ومكرهم لا
تنجو منها.
فلم يلتفت إليها ولم يعبأ بها.
فلما كان في بعض الليالي، وقد سهر أكثر ليله بالعبادة،
فرقد في آخر الليل، وغلب عليه النوم، فأتته و تحت رأسه مزادة فيها
زاده. فانتزعتها من تحت رأسه، وطرحت فيها كيساً فيه خمسمائة دينار، ثم
أعادت المزادة تحت رأسه.
فلما ثور الوفد قامت الملعونة من
نومها وقالت:
يا لله، ويا للوفد.. يا وفد، أنا امرأة مسكينة، وقد سرقت نفقتي وما لي،
وأنا بالله وبكم.
فجلس المقدم على الوفد، وأمر رجلا من المهاجرين
والأنصار أن يفتشوا الوفد، ففتشوا الوفد فلم يجدوا شيئاً، ولم يبق في
الوفد إلا من فتش رحله، فلم يبق إلا المقدسي، فأخبروا مقدم الوفد بذلك.
فقالت المرأة:
يا قوم ما ضركم لو فتشتموا رحله، فله أسوة بالمهاجرين والأنصار، وما
يدريكم أن ظاهره مليح، وباطنه قبيح، ولم تزل المرأة حتى حملتهم على
تفتيش رحله.
فقصده جماعة من الوفد وهو قائم يصلي، فلما رآهم أقبل
عليهم، وقال لهم: ما حاجتكم؟!
فقالوا له:
هذه المرأة الأنصارية ذكرت أنها سرقت لها نفقة كانت معها، وقد فتشنا
رحال الوفد بأسرها ولم يبق منها غيرك، و نحن لا نتقدم إلى رحلك إلا
بإذنك، لما سبق من وصية عمر بن الخطاب فيما يعود إليك.
فقال:
يا قوم ما يضرني ذلك، ففتشوا ما أحببتم، وهو واثق من نفسه، فلما نفضوا
المزادة التي فيها زاده وقع منها الهميان.
فصاحت الملعونة:
الله أكبر، هذا والله كيسي ومالي، وهو كذا وكذا ديناراً، وفيه عقد
لؤلؤ، ووزنه كذا وكذا مثقالاً.
فأحضروه فوجدوه كما قالت الملعونة، فمالوا عليه بالضرب
الموجع، والسب والشتم، وهو لا يرد جواباً، فسلسلوه وقادوه راجلاً إلى
مكة.
فقال
لهم:
يا وفد بحق الله وبحق هذا البيت إلا تصدقتم علي وتركتموني أقضي الحج،
واشهد الله تعالى ورسوله علي بأني إذا قضيت الحج عدت إليكم، وتركت يدي
في أيديكم، فأوقع الله تعالى الرحمة في قلوبهم له فاطلقوه.
فلما قضى مناسكه وما وجب عليه من الفرائض عاد إلى القوم
وقال لهم: أما إني قد عدت إليكم، فافعلوا بي ما تريدون.
فقال بعضهم لبعض:
لو أراد المفارقة لما عاد إليكم.
فتركوه، ورجع الوفد طالبا مدينة الرسول «صلى الله عليه
وآله»، فأعوزت تلك المرأة الملعونة الزاد في بعض الطريق، فوجدت راعياً
فسألته الزاد.
فقال لها:
عندي ما تريدين، غير أني لا أبيعه، فإن آثرت أن تمكنيني من نفسك
أعطيتك.
ففعلت ما طلب، وأخذت منه زاداً، فلما انحرفت عنه، اعترض
لها إبليس لعنه الله فقال لها: أنت حامل.
قالت:
ممن؟!
قال:
من الراعي.
فصاحت:
وا فضيحتاه.
فقال:
لا تخافي، إذا رجعت إلى الوفد قولي لهم: إني سمعت قراءة المقدسي فقربت
منه، فلما غلب علي النوم دنا مني وواقعني، ولم أتمكن من الدفاع عن نفسي
بعد القراءة، وقد حملت منه، وأنا امرأة من الأنصار، وخلفي جماعة من
الأهل.
ففعلت الملعونة ما أشار به عليها إبليس لعنه الله، فلم
يشكوا في قولها لما عاينوا أولا من وجود المال في رحله.
فعكفوا على الشاب المقدسي وقالوا:
يا هذا ما كفاك السرقة حتى فسقت؟! فأوجعوه شتماً وضرباً وسباً.
وأعادوه إلى السلسلة وهو لا يرد جواباً.
فلما قربوا من المدينة ـ على ساكنها أفضل الصلاة
والسلام ـ خرج عمر بن الخطاب، ومعه جماعة من المسلمين للقاء الوفد،
فلما قربوا منه لم يكن له همة إلا السؤال عن المقدسي، فقالوا: يا أبا
حفص، ما أغفلك عن المقدسي! فقد سرق وفسق، وقصوا عليه القصة.
فأمر بإحضاره بين يديه فقال له:
يا ويلك يا مقدسي تظهر بخلاف ما تبطن حتى فضحك الله تعالى؟! لأنكلن بك
أشد النكال، وهو لا يرد جواباً.
فاجتمع الخلق، وازدحم الناس، لينظروا ماذا يفعل به؟!
وإذا بنور قد سطع، وشعاع قد لمع، فتأملوه وإذا به عيبة
علم النبوة علي بن أبي طالب «عليه السلام»، فقال: ما هذا الرهج في مسجد
رسول الله؟!
فقالوا:
يا أمير المؤمنين، إن الشاب المقدسي الزاهد قد سرق وفسق.
فقال «عليه السلام»:
والله ما سرق، ولا فسق، ولا حج أحد غيره.
فلما سمع عمر كلامه قام قائماً على قدميه، وأجلسه
موضعه، فنظر إلى الشاب المقدسي، وهو مسلسل، وهو مطرق إلى الأرض،
والمرأة جالسة.
فقال لها أمير المؤمنين «عليه
السلام»:
ويلك قصي قصتك.
قالت:
يا أمير المؤمنين، إن هذا الشاب قد سرق مالي. وقد شاهد الوفد مالي في
مزادته. وما كفاه ذلك حتى كانت ليلة من الليالي حيث قربت منه،
فاستغرقني بقراءته واستنامني، فوثب إلي وواقعني، وما تمكنت من المدافعة
عن نفسي خوفاً من الفضيحة، وقد حملت منه.
فقال لها أمير المؤمنين «عليه
السلام»:
كذبت يا ملعونة فيما ادعيت عليه. يا أبا حفص، إن هذا الشاب مجبوب ليس
معه إحليل، وإحليله في حُقٍّ من عاج، ثم قال: يا مقدسي أين الحُق؟!
فرفع رأسه وقال:
يا مولاي من علم بذلك يعلم أين الحق.
فالتفت إلى عمر، وقال له:
يا أبا حفص، قم فأحضر وديعة الشاب.
فأرسل عمر فأحضر الحق بين يدي أمير المؤمنين «عليه
السلام»، ففتحوه وإذا فيه خرقة من حرير وفيها إحليله.
فعند ذلك قال الإمام «عليه السلام»:
قم يا مقدسي.
فقام (فقال:)
فجردوه من ثيابه لينظروه، وليحقق من اتهمه بالفسق، فجردوه من ثيابه
فإذا هو مجبوب.
فعند ذلك ضج العالم فقال لهم أمير
المؤمنين «عليه السلام»:
اسكتوا واسمعوا مني حكومة أخبرني بها رسول الله «صلى الله عليه وآله».
ثم قال:
يا ملعونة لقد تجرأت على الله تعالى، ويلك أما أتيت إليه وقلت له: كيت
وكيت، فلم يجبك إلى ذلك؟!
فقلت له:
والله لأرمينك بحيلة من حيل النساء لا تنجو منها؟!
فقالت:
بلى يا أمير المؤمنين كان ذلك.
فقال «عليه السلام»:
ثم إنك استنمتيه، وتركت الكيس في مزادته، أقري؟!
فقالت:
نعم يا أمير المؤمنين.
فقال:
اشهدوا عليها.
ثم قال لها:
حملك هذا من الراعي الذي طلبت منه الزاد فقال لك: لا أبيع الزاد ولكن
مكنيني من نفسك وخذي لحاجتك، ففعلت ذلك، وأخذت الزاد، وهو كذا وكذا.
قالت:
صدقت يا أمير المؤمنين.
قال:
فضج العالم، فسكتهم علي «عليه السلام».
وقال لها: فلما خرجت
عن الراعي عرض لك شيخ صفته كذا وكذا، وقال لك: يا
فلانة، فإنك حامل من الراعي. فصرخت، وقلتي: وا فضيحتاه!!
فقال:
لا بأس عليك قولي للوفد: استنامني وواقعني وقد حملت منه، فصدقوك لما
ظهر من سرقته، ففعلت ما قال الشيخ.
فقالت:
نعم.
فقال الإمام «عليه السلام»:
أتعرفين ذلك الشيخ؟!
قالت:
لا.
قال:
هو إبليس لعنه الله، فتعجب القوم من ذلك.
فقال عمر:
يا أبا الحسن ما تريد أن تفعل بها؟!
قال:
[اصبروا حتى تضع حملها، وتجدوا من ترضعه] يحفر لها في مقابر اليهود
وتدفن إلى نصفها وترجم بالحجارة.
ففعل بها ما قال مولانا أمير المؤمنين «عليه السلام».
وأما المقدسي فلم يزل ملازماً مسجد رسول الله «صلى الله
عليه وآله» إلى أن توفي «رحمه الله».
فعند ذلك قام عمر بن الخطاب وهو
يقول:
«لولا علي لهلك عمر» ـ قالها: ثلاثاً ـ.
ثم انصرف الناس وقد تعجبوا من حكومة علي بن أبي طالب([13]).
ونقول:
في هذه الرواية العديد من النقاط التي تحتاج إلى التأمل
والتدبر، فلاحظ ما يلي:
1 ـ
إذا كانت هذه المرأة مسلمة، فلماذا أمر أن يحفروا لها في مقابر اليهود،
وترجم، فإن المسلم مهما فعل، فحكمه أن يقام عليه الحد، ويدفن في مقابر
المسلمين، ولا يجوز دفنه في مقابر الكفار..
إلا أن يكون «عليه السلام» أراد أن يجري رجمها في مقابر
اليهود، ثم تدفن في مقابر المسلمين.
2 ـ
قد تكرر وصف أمير المؤمنين «عليه السلام» لتلك المرأة وخطابه لها
بكلمة: «ملعونة» أو نحو ذلك، مع أنه لا مبرر لوصف العاصي بذلك، ولا
لخطابه بمثل هذه التعابير..
إلا أن يقال:
إنه «عليه السلام» كان واقفاً على استحقاق هذه المرأة لهذه اللعنه، من
خلال علم الإمامة..
مما يعطي:
أنها وقفة خاصة اقتضت أن يظهر «عليه السلام» علم الإمامة، على النحو
الذي ذكرته الرواية.
3 ـ
لماذا يحتفظ ذلك الشاب بإحليله المقطوع؟! وهل من يقطع إحليله يحتفظ به؟!
ومن الذي قطعه، فإن كان هو الشاب نفسه. فكيف استساغ ذلك؟! وإن كان
غيره، فلماذا فعل به ذلك؟! ومن الذي سلطه عليه؟!
وان كان يمكن غض النظر عن ذلك، والقول بأن من الممكن أن
يكون هناك ظالم تعدى عليه وقطع احليله.. فاحتفظ الشاب به لسبب أو
لآخر..
4 ـ
لماذا اختار ذلك الشاب عمر بن الخطاب ليودع عنده احليله؟!. بل لماذا
يحتاج إلى ايداعه، ألم يكن يمكنه أن يجعله في أي مكان آخر؟! مثل بيته
الذي يسكنه، أو أن يدفنه في بعض المواضع التي يختارها، حتى إذا عاد من
سفره استخرجه منه إن أحب..
5 ـ
لماذا لم يسارع الشاب إلى دفع المرأة عن نفسه بإخبارها بحاله؟! ومع غض
النظر عن ذلك، إذ قد يرغب الانسان بالتستر على مثل هذا الأمر، لماذا
حين اتهمته تلك المرأة بمواقعتها وبحملها منه، لم يدفع التهمة عن نفسه
أمام الناس الذين أوجعوه شتماً وضرباً وسباً بإخبارهم بحاله.. قبل أن
يواجه هذا الذل والهوان؟! ولماذا لم يدافع عن نفسه حين تهدده عمر بن
الخطاب؟!.
وربما يقال:
إنه اراد أن يصبر ويحتسب ليكون الله هو الذي يدافع عنه.
6 ـ
تقول الرواية: إن المرأة حين اعوزت من الزاد، وجدت راعياً، فطلبت منه
الزاد، فراودها عن نفسها، وكان ما كان.. ولكن ذلك خلاف ما هو المتوقع
من مسار الأحداث، فإنها في طريقها إلى المدينة كانت مع وفد فيه الكثير
من الناس. فالمفروض: أن تطلب المساعدة منهم، لا أن تنفرد عن الوفد،
وتطلب راعياً من خارجه. وكانت تستطيع أن تشتري الزاد من بعض اهل
القافلة ببعض المال الذي معها..
7 ـ
ما معنى أن تخبر الوفد بأنها قد حملت من ذلك الشاب؟! فإن الرواية تدعي:
أن هذه المرافعة قد حصلت في طريق العودة من مكة إلى المدينة، ثم جرت
المحاكمة فور وصولهم إليها، فكيف يصدق الناس انها قد حملت، وكيف يقبلون
منها ذلك.. والحال أن المسافة كلها من أولها إلى آخرها لا تحتاج إلى
أكثر من عشرة أيام لقطعها؟!. ولماذا تقترب من الشاب المقدسي، وتستمع
لقراءته، والحال أنها تتهمه بسرقة أموالها؟!..
([1])
مناقب آل أبي طالب ج2 ص367 و (ط المكتبة الحيدرية) ج2 ص188
والفضائل لابن شاذن ص153 والإرشاد للمفيد (ط دار المفيد) ج1
ص205 و 206 ووسائل الشيعة (ط
مؤسسة
آل البيت) ج27 ص288 و (ط
دار
الإسلامية) ج18 ص212 وبحار الأنـوار ج40 ص252 وشجرة طـوبـى = =
للحائري ج2 ص418 وجامع أحاديث الشيعة ج25 ص138 ومستدرك سفينة
البحار ج9 ص361 والدر النظيم ص391 ومنهاج الكرامة ص105 وعجائب
أحكام أمير المؤمنين «عليه السلام» ص58.
([2])
الطرق الحكمية ص57 والغدير ج6 ص126 والكافي ج7 ص422 والوافي ج2
ص160 والإرشاد للمفيد، وتهذيب الأحكام ج6 ص304 والنص والإجتهاد
ص379 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج17 ص446 وج32 ص136 و144
وخصائص الأئمة للشريف الرضي ص82 ووسائل الشيعة (ط
مؤسسة
آل البيت) ج27 ص281 و (ط
دار
الإسلامية) ج18 ص206 ومستدرك الوسائل ج17 ص387 وبحار الأنوار
ج40 ص303 وعجائب أحكام أمير المؤمنين «عليه السلام» ص67 وجامع
أحاديث الشيعة ج25 ص126.
([3])
مناقب آل أبي طالب ج2 ص367 و (ط المكتبة الحيدرية) ج2 ص189.
([4])
مناقب آل أبي طالب ج2 ص359 و 360 و (ط المكتبة الحيدرية) ج2
ص182 وبحار الأنوار ج76 ص121 وعجائب أحكام أمير المؤمنين «عليه
السلام» ص62.
([5])
مناقب آل أبي طالب ج2 ص360 و (ط المكتبة الحيدرية) ج2 ص182
ومستدرك الوسائل ج15 ص57 وبحار الأنوار ج40 ص226 وجامع أحاديث
الشيعة ج21 ص177 وعجائب أحكام أمير المؤمنين «عليه السلام»
ص63.
([6])
الطرق الحكمية لابن قيم الجوزية ص47 والغدير ج6 ص120 وشرح
إحقاق الحق (الملحقات) ج17 ص447 وج32 ص136 وراجع: مناقب آل أبي
طالب ج2 ص363.
([7])
بحار الأنوار ج39 ص287 ومستدرك سفينة البحار ج4 ص330 والإمام
علي بن أبي طالب «عليه السلام» للهمداني ص162 والنص والإجتهاد
ص100 وكشف اليقين ص482 و 483.
([8])
مناقب آل أبي طالب ج2 ص369 و (ط المكتبة الحيدرية) ج2 ص190
ووسائل الشيعة (ط
مؤسسة
آل البيت) ج27 ص283 و (ط
دار
الإسلامية) ج18 ص207 والكافي ج7 ص424 وتهذيب الأحكام ج6 ص306
ومن لا يحضره الفقيه ج3 ص24 وبحار الأنوار ج40 ص307 وجامع
أحاديث الشيعة ج25 ص128 وعجائب أحكام أمير المؤمنين «عليه
السلام» ص74.
([9])
مناقب آل أبي طالب ج2 ص364 و (ط المكتبة الحيدرية) ج2 ص186 عن
أبي القاسم الكوفي، والقاضي النعمان في كتابيهما، ومستدرك
الوسائل ج14 ص345 وشرح الأخبار ج2 ص320 والصراط المستقيم ج2
ص17 وبحار الأنـوار = = ج40 ص230 وج76 ص71 وجامع أحاديث الشيعة
ج20 ص363 ومستدرك سفينة البحار ج9 ص285 وعجائب أحكام أمير
المؤمنين «عليه السلام» ص85.
([10])
البحار ج40 ص309 ـ 311 عن التهذيب للطوسي ج6 ص308 والكافي ج7
ص426 و 427 وعن مناقب آل أبي طالب ج1 ص501 و 502 والوسائل ج27
ص277 ومن لا يحضره الفقيه ج3 ص15.
([11])
راجع: وسائل الشيعة ج27 ص328 و 333 و (ط
دار
الإسلامية) ج18 ص240 و 243 والكافي ج7 ص366 وتهذيب الأحكام ج6
ص260 و ج10 ص311 وجامع أحاديث الشيعة ج25 ص167 والجامع لأحكام
القرآن ج12 ص177 وأضواء البيان ج5 ص442.
([12])
أعبد الخلق: هم الأئمة «عليهم السلام»، والخلّص من أصحابهم.
([13])
بحار الأنوار ج40 ص270 ـ 274 والكافي ج8 ص6 و 7 والفضائل لابن
شاذان ص297 ـ 304 و (ط المكتبة الحيدرية) ص107 ـ 111 والروضة
في فضائل أمير المؤمنين ص49 ـ 55 ومدينة المعاجز ج2 ص454 ـ 460
عن مشارق أنوار اليقين وإحقاق الحق ج8 ص189 عن در بحر المناقب
لابن حسنويه.
|