صفحة : 262-296   

الفصل السادس: هل تنكر الأم ولدها؟!!

بـدايـة:

هناك قصتان تتشابهان في بعض الجهات، فإن الولد عزيز، ولا يمكن التخلي عنه في الظروف العادية: وخصوصاً من قبل الأم.. وفي هاتين القصتين جاءت الأمور على خلاف هذه القاعدة، إذ في إحداهما تنكر الأم ولدها طمعاً في الميراث.. وفي الأخرى تنكره وتتخلى عنه لأجل أن تتبنى ولداً آخر.

والفرق بين الولدين أن هذا أنثى، وهي تريد أن يكون لها الولد الذكر.. فتتخلى عن ابنتها وتنكرها، وتسعى للإستئثار بالولد الآخر لنفسها، وليس هو لها.. بل هو لرفيقتها الأخرى.. وفي هذا الفصل بعض ما يرتبط بهما بين القصتين، فلاحظ ما يلي:

إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً:

قال المعتزلي: «حدثني الحسين بن محمد السيني، قال: قرأت على ظهر كتاب: أن عمر نزلت به نازلة، فقام لها وقعد، وترنح لها وتقطر، وقال لمن عنده: معشر الحاضرين، ما تقولون في هذا الأمر.

فقالوا: يا أميرالمؤمنين، أنت المفزع والمنزع.

فغضب وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً}([1]) أما والله أني وإياكم لنعلم ابن بجدتها، والخبير بها.

قالوا: كأنك أردت ابن أبي طالب؟!

قال: وأنى يعدل بي عنه! وهل طفحت حرة بمثله.

قالوا: فلو دعوت به يا أمير المؤمنين!

قال: هيهات، إن هناك شمخاً من هاشم، وأثرة من علم، ولحمة من رسول الله «صلى الله عليه وآله»، يؤتى ولا يأتي، فامضوا بنا إليه.

فانقصفوا (أي اجتمعوا) نحوه، وأفضوا إليه، فألفوه في حائط له، عليه تبان، وهو يتركل على مسحاته (أي يضرب مسحاته برجله لتغيب في التراب)، ويقرأ: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} إلى آخر السورة([2])، ودموعه تهمي على خديه، فأجهش الناس لبكائه فبكوا، ثم سكت وسكتوا، فسأله عمر عن تلك الواقعة، فأصدر جوابها.

فقال عمر: أما والله، لقد أرادك الحق، ولكن أبى قومك.

فقال: يا أبا حفص، خفض عليك من هنا، ومن هناك، {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً}([3]).

فوضع عمر إحدى يديه على الأخرى، وأطرق إلى الأرض، وخرج، كأنما ينظر في رماد»([4]).

ونقول:

الذي يبدو لنا هو أن هذه الرواية هي نفس الرواية التي وزن فيها «عليه السلام» لبن الرضيعين، وهي الرواية التي نوردها فيما يلي ثم نعلق على الروايتين إن شاء الله بما يقتضيه المقام، مع العلم بأن رواية أخرى تقدمت في هذا الكتاب. وقد المحنا إلى بعض ما فيها.. والرواية التي نريد أن نتحدث عنها هنا هي التالية:

علي يزن لبن الرضيعين:

عن شريح، قال: كنت أقضي لعمر بن الخطاب، فأتاني يوماً رجل، فقال لي:

يا أبا أمية، إن رجلاً أودعني امرأتين: إحداهما حرة مهيرة، والأخرى سرية، فجعلتهما في دار، وأصبحت اليوم، فإذا هما قد ولدتا غلاماً وجارية. وكلتا هما تدعي الغلام لنفسها، وتنتفي من الجارية. وقد جئتك أيها القاضي أطلب قضاءك.

فلم يحضرني شيء فيهما أقضي به، فأتيت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فقصصت عليه القصة، فقال: فما الذي قضيت بينهما؟

قلت: لو كان عندي قضاء فيهما ما أتيتك.

فجمع عمر من حضره من أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ثم أمرني أن أقص عليهم ما جئت به، وجعل عمر يشاور أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وكلهم يرد الرأي إليه.

فقال عمر: لكني أعرف مفزع القضية ومنتزعها.

قالوا: كأنك أردت ابن أبي طالب.

قال: نعم، وأين المذهب عنه.

قالوا: فابعث إليه يأتيك.

قال: إن له شمخة من هاشم، وأثرة من علم تقتضينا أن نسعى إليه، ولا تأذن له أن يسعى هو إلينا، فقوموا بنا إليه.

فلما جئناه وجدناه في حائط له يركل فيه على مسحاة، ويقرأ قول الله تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً}([5]). ثم يبكى بكاء شديداً.

ولم يجد القوم بداً من أن يمهلوه حتى تسكن نفسه، ويرقأ دمعه. ثم استأذنوا عليه، فخرج إليهم([6]) وعليه قميص قدّت أكمامه إلى النصف منها، ثم قال «عليه السلام»: ما الذي جاء بك يا شريح؟!

قلت: أمر عرض جئنا نسأل عنه.

فأمرني فقصصت عليه القصة، فقال: فبم حكمت فيهما؟!

قلت: لم يحضرني حكم فيهما.

فأخذ بيده من الأرض شيئاً، ثم قال: الحكم فيها أهون من هذا. ثم أمر بإحضار المرأتين، وأحضر قدحاً، ثم دفعه إلى إحداهما قائلاً لها: احلبي فيه. فامتثلت المرأة فحلبت..

(فوزنه. ثم حلبت المرأة الأخرى) ثم وزنه أيضاً.

ثم قال لصاحبة اللبن الخفيف: خذي ابنتك. وقال لصاحبة اللبن الثقيل خذي ابنك.

ثم التفت «عليه السلام» إلى عمر قائلاً: اما علمت أن الله تعالى حط المرأة عن الرجل في ميراثها؟! وكذلك كان لبنها دون لبنه.

زاد في نص آخر: وأن عقلها نصف عقله، وشهادتها نصف شهادته، وأن ديتها نصف ديته. وهي على النصف في كل شيء، فأعجب به عمر إعجاباً شديداً.

فقال الإمام: خفض عليك أبا حفص {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً}([7])»([8]).

ونقول:

أشارت هذه الرواية إلى عدة أمور نذكر منها ما يلي:

لماذا يغضب عمر؟!:

ذكرت الرواية: أن عمر بن الخطاب استشار أصحابه في الأمر الذي نزل به، فقالوا له: أنت المفزع والمنزع، فغضب.. وأمرهم بتقوى الله، وبالقول السديد. ثم ذكر لهم من هو المرجع في هذه القضية..

ونقول:

أولاً: إن جواب القوم لعمر، وأرجاعهم الأمر إليه قد جاء وفق ما هو متوقع من أمثاله، وما هو المفروض في مثله، حيث إن الناس يفترضون في من يتصدى لمقام خلافة النبوة، أن يقوم مقام النبي «صلى الله عليه وآله»، ولا سيما فيما هو أبرز خصائصه وهو بيان الأحكام، وحل معضلات المسائل، فكيف إذا كانت المسألة المعروضة هي من السهولة، بحيث كانت أهون من شيء التقطه علي «عليه السلام» من الأرض، ولعله تبنة، أو عود يابس، أو نحو ذلك؟!

كما أن من يضع نفسه في مقام خلافة النبوة، لابد أن يكون قد استعد لمثل هذه المسائل، ويعتبر نفسه أنه هو المرجع والمنزع لها. إذ لا يصح منه أن يجعل نفسه في هذا الموقع، ثم يقول: لست مسؤلاً عن أمثال هذه الأمور.. ولذلك لم يتنصل عمر من المسؤولية عن ذلك في مختلف المسائل التي واجهته.

ثانياً: لقد دل كلام عمر مع أصحابه على أنه كان يعرف بالمفزع والمنزع، فلماذا سألهم؟! ولماذا لم يبادر هو إلى الرجوع إليه، والطلب منه؟! أم أنه يريد أن يأخذ منهم المبرر لرجوعه إلى علي، لكي لا يعتبر أخذه برأيه مأخذاً عليه، ودليلاً على رضاه به، وموافقته له؟! ليتمكن من أن يتملص ويتخلص من تبعة ذلك، وليكون قادراً على الطعن بصحته، ثم يجعل تبعة الرجوع إليه على عاتق غيره.

فيكون بذلك قد أصاب عصفورين بحجر واحد.. فهو قد حل مشكلته، وخرج منها.. وهو أيضاً قادر على الطعن في صحة الحل، وقادر أيضاً على جعل قبوله مرهوناً بعدم الميل إلى مخالفة رغبة الجماعة. أي أن عمر يريد أن يأخذ من علي، ولا يريد أن يعطيه شيئاً.

بل هو يريد أن يجعل من أخذه هذا وسيلة ابتزاز لما هو أغلى وأعلى قيمة. وهو الطعن بالعلم وبالخلق الرضي لعلي «عليه السلام».. إلا أن موقفهم الغامض قد أغضب الخليفة، لأنه اضطره إلى تحمل مسؤولية الرجوع إلى علي، والخضوع والبخوح له، دون أن تكون لديه فرصة للتخفيف من وقع ذلك..

إن فيه شمخاً من هاشم:

ولكن نفس عمر أبت إلا الانتقاص من شخصية علي باتجاهين:

حيث نسب إليه «عليه السلام»:

ألف: أن فيه شمخة من هاشم.

ب: إن فيه أثرة من علم..

لكننا نقول:

ان عمر نفسه قد قال لبعض ما نسب التيه إلى علي «عليه السلام»: إن من حقه أن يكون فيه هذا التيه لكن كلامه هنا جاء في سياق المعيب له، ونحن لا ندري ما هي الحالات التي ظهرت له فيها هذه الشمخة في علي «عليه السلام»، فعلي «عليه السلام» هو القرآن الناطق، وهو نفس رسول الله «صلى الله عليه وآله» بنص القرآن. فهل يستطيع عمر أن يجد في رسول الله شمخة من هاشم، ما دام أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» هو ابن هاشم أيضاً.

أم أن التهمة بالشمخة لا يعرفها أحد من الناس في بني هاشم سوى عمر، فهي تبقى حكراً عليه، تماماً كما كانت تهمة دعابة علي «عليه السلام» حكراً على عمر أيضاً، حيث صرح المعتزلي: بأن أحداً في الأمة لا يستطيع أن يأتي بخبر واحد ظهرت فيه هذه الدعابة التي ادعاها عمر.. لا قبل عمر ولا بعده.

على أننا قد وجدنا: أن علياً «عليه السلام» كان في بعض الموارد هو الذي يعرض على عمر إذا عرض له أمر أن يرسل إليه لكي يأتيه، ويحل له ما أشكل عليه. فراجع قصة الذين أصابوا بيض نعام، وهم محرمون. فقد قال له علي «عليه السلام»: ألا أرسلت إلي؟!

قال: أنا أحق بإتيانك([9]).

فلماذا أذنت له شمخته، وأثرة العلم التي لديه «عليه السلام» بأن يأتي في مسألة بيض النعام، ولم تأذن له بذلك في مسألة الاختلاف في المولودين هنا؟! أم يعقل أن تكون هذه الشمخة قد ظهرت هنا، وزالت في قصة بيض النعام؟!

فإن قال قائل: إن عمر خاف من ان لا يستجيب علي «عليه السلام» لدعوته حين يرسل إليه من يدعوه، كما جرى له مع أبي بكر في بعض المناسبات..

فجوابه: ان تلك المناسبة كانت في أجواء التحدي، واظهار السلطة، بهدف افهام الناس اموراً باطلة. أما حين يكون الهدف هو حل المشكلات والإستفادة من العلم.. فعلي «عليه السلام» لا يمتنع عن المجيء لو دعوه إليهم، وقد حصل ذلك اكثر من مرة..

وقد قرر عمر أخيراً: أن الحق قد أراد علياً «عليه السلام» خليفة وإماماً، لكن قومه أبوه.

والسؤال هو: هل يريد الحق، وهو الله تعالى أن يكون إمام الرحمة وخليفة رسول الله «صلى الله عليه وآله» في الأمة فيه شمخة، وتكبر، واستعلاء؟!

أليست هذه الصفة من الصفات الذميمة. التي لا يمكن أن تكون لدى الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

كما أن من الصفات المعروفة عن علي «عليه السلام» هو شدة تواضعه، وسجاحة أخلاقه.

وقد قال صعصعة: كان فينا كأحدنا، لين جانب، وشدة تواضع، وسهولة قياد([10]). ومن كان كذلك، هل يقال عنه: إن فيه شمخة؟

وإذا كان علي «عليه السلام» هو نفس الرسول بنص القرآن، وكان خلق الرسول هو القرآن([11]) وهو على خلق عظيم.. فهل تجد في أخلاق القرآن لهذه الشمخة أثراً؟!

ولكن قومك أبوك؟!:

أما قول عمر: أرادك الحق، ولكن قومك أبوك، فلا ندري ما نقول فيه، ونحن نرى أن عمر وأبا بكر هما اللذان منعا علياً «عليه السلام» من الوصول إلى ما جعله الله تعالى له في يوم الغدير. وتهدده عمر بالقتل، وهاجم بيته، وضرب زوجته، إلى آخر ما هو معروف..

وكان عامة المسلمين من المهاجرين والأنصار لا يشكون في أن علياً «عليه السلام» هو صاحب الأمر بعد رسول الله «صلى الله عليه وآله»([12])، وهتفوا يوم السقيفة باسمه، وقالوا: لا نبايع إلا علياً([13]).

وقال زيد بن أرقم في السقيفة في جوابه لابن عوف: «إنا لنعلم أن من بين من سميت من قريش من لو طلب هذا الأمر، لا ينازعه فيها أحد، وهو علي بن أبي طالب»([14]).

الجواب الحاسم والحازم:

وكان الجواب الحاسم والحازم. والذي يحمل في طياته الإشارات والدلائل، التي كان عمر من أعرف الناس بها هو قول أمير المؤمنين «عليه السلام»: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً}، فقد فهم عمر الرسالة، فلا غرو إذا أطرق إلى الأرض، وخرج، وكأنما ينظر في رماد.

وأثرة من علم:

والأنكى من ذلك كله، والأدهى هو أن عمر يريد أن يشرب من البئر، ثم يلقي فيها حجراً، وذلك حين أراد أن يستفيد من علم علي «عليه السلام» لحل معضلته، ثم يطعن في قيمة نفس هذا العلم، ويعمل على تصغير شأنه، وتوهين أمره، حين زعم أن لدى علي «عليه السلام» أثرة من علم.

في حين أن النبي «صلى الله عليه وآله» يقول: أنا مدينة العلم وعلي بابها.

وعلي «عليه السلام» يقول: علمني رسول الله «صلى الله عليه وآله» ألف باب من العلم يفتح لي من كل باب ألف باب.

وعلي «عليه السلام» هو الذي عنده علم الكتاب([15]).. إلى غير ذلك مما يدل على عظمة وشمولية وسعة علم علي «عليه السلام».

فهل يقال لمن هذا حاله: ان عنده اثرة من علم؟!..

ولماذا هذا الإيحاء بوهن شأن هذا العلم، وبصغره ومحدوديته.

دلالات وزن اللبن:

وقد دل وزن لبن المرأتين على جواز استعمال الوسائل العلمية الصحيحة، والثابتة نتائجها بصورة يقينية، كتلك التي تكون من شؤون الخلقة، أو من حالاتها التي لا تنفك عنها.. مما يعطي: أنه إذا ثبت أن فحص الحمض النووي مثلاً يحدد بصورة يقينية العلاقة النسبية بين شخصين، فإنه يصح الإعتماد عليه في ذلك.. ما دام أن ذلك من شؤون الخلقة الثابتة، التي لا تنفك عنها.

والدليل على ذلك: فعل علي «عليه السلام» في هذا المورد، حيث وزن لبني المرأتين، وحدد العلاقة النسبية بينهما وبين المولودين.

ولهذا الأمر شواهد عديدة في قضاء علي «عليه السلام». وقد ورد، وسيرد في هذا الكتاب بعض من ذلك إن شاء الله تعالى.

تحقيقات المعتزلي غير موفقة:

قال المعتزلي عن هذا الحديث الذي نحن بصدد الحديث عنه: «أَجْدِر بهذا الخبر أن يكون موضوعاً.

وفيه ما يدل على ذلك، من كونه عمر أتى علياً يستفتيه في المسألة، والأخبار كثيرة بأنه ما زال يدعوه إلى منزله، وإلى المسجد.

وأيضاً: فإن علياً لم يخاطب عمر منذ ولي عمر الخلافة بالكنية، وإنما خاطبه بإمرة المؤمنين. هكذا تنطق كتب الحديث، وكتب السير والتواريخ كلها.

وأيضاً: فإن هذا الخبر لم يسند إلى كتاب معين، ولا إلى راو معين. بل ذكر ذلك([16]) أنه قرأه على ظهر كتاب، فيكون مجهولاً، والحديث المجهول غير الصحيح»([17]).

ونقول:

إن جميع ما ذكره المعتزلي هنا غير مقبول.. وذلك لما يلي:

أولاً: إن الحديث المجهول.. وإن كان غير صحيح سنداً، ولكن ذلك لا يعني أنه مكذوب ولا أصل له..

وقد ذكرنا فيما سبق أن هذا الحديث قد روي في مصادر أخرى لا جهالة في سنده، فقد رواه الشيخ الطوسي «رحمه الله» بسنده عن عاصم بن حميدة عن محمد بن قيس، عن أبي جعفر «عليه السلام».

ورواه الشيخ الصدوق بنفس السند الذي عند الشيخ الطوسي.

ورواه ابن شهراشوب «رحمه الله» عن قيس بن الربيع، عن جابر الجعفي، عن تميم بن حزام الأسدي.

ثانياً: إن سائر الاشكالات التي أوردها المعتزلي لا تضر في أصل القضية، ولا تثبت وضعها، بل غاية ما تثبته ـ لو صحت ـ هو احتمال التصرف في الرواية من قبل الراوي.

ثالثاً: بالنسبة لذهاب عمر إلى علي «عليه السلام» نقول:

ألف: إن بعض نصوص الرواية ذكرت: أن علياً «عليه السلام» قد دعي له.

ب: ما ذكره من أن الأخبار كثيرة بأن عمر ما زال يدعو علياً إلى بيته، أو إلى المسجد، وإن كان صحيحاً في نفسه، لكن هناك أخبار كثيرة أيضاً تقول: إن عمر كان يقصد علياً إلى بيته وإلى محل عمله كثير من الأحيان.. وتصرفات عمر لم تكن على وتيرة واحدة في كثير من القضايا..

بل لعل عمر كان يخشى من امتناع علي «عليه السلام» من اجابة دعوته ولو مرة واحدة، فتسقط بذلك هيبته.. فلا يدعوه إلا حين يكون على ثقة من إجابته «عليه السلام».

والمعتزلي لم يقف على جميع كتب الحديث والتاريخ ليصح منه أن يصدر حكمه على هذا النحو. وفي هذا الكتاب طائفة من الروايات التي تذكر أن عمر كان يقصد بيت علي أو محل عمله أحياناً.. كما كان يرسل إليه ليأتي إليه أحياناً أخرى.

رابعاً: قوله: إن جميع كتب السير والتواريخ تنطق بأن علياً كان يخاطب عمر بإمرة المؤمنين غير صحيح، فقد ذكرنا في نفس كتابنا هذا موارد كثيرة كان يخاطبه فيها بـ: «يا عمر» تارة، وبـ: «يا أبا حفص» أخرى.

تنكر ولدها لأجل الميراث:

روى الواقدي، عن جابر، عن سلمان الفارسي «رضي الله عنه» قيل: جاء إلى عمر بن الخطاب غلام يافع، فقال له: إن أمي جحدت حقي من ميراث أبي وأنكرتني، وقالت: لست بولدي.

فأحضرها، وقال لها: لم جحدت ولدك هذا الغلام وأنكرتيه؟!

فقالت له: إنه كاذب في زعمه، ولي شهود بأني بكر عاتق ما عرفت بعلا.

وكانت قد رشت سبعة نفر كل واحد بعشرة دنانير (وقالت لهم: اشهدوا) بأني بكر لم أتزوج، ولا عرفت بعلا.

فقال لها عمر: أين شهودك؟!

فأحضرتهم بين يديه، فقال: بم تشهدون؟!

فقالوا له: نشهد انها بكر لم يمسها ذكر ولا بعل.

فقال الغلام: بيني وبينها علامة أذكرها لها عسى تعرف ذلك.

فقال له: قل ما بدا لك.

فقال الغلام: فإنه كان والدي شيخ سعد بن مالك. يقال له الحارث المزني. وإني رزقت في عام شديد المحل، وبقيت عامين كاملين أرضع شاة.

ثم انني كبرت، وسافر والدي مع جماعة في تجارة، فعادوا ولم يعد والدي معهم، فسألتهم عنه؛ وذكروا: أنه درج (أي مات).

فلما عرفت والدتي الخبر أنكرتني وأبعدتني وقد أخرتني الحاجة. (الصحيح: أضرت بي الحاجة.. كما في مستدرك الوسائل وغيره).

فقال عمر: هذا مشكل لا ينحل، ولا يحله إلا نبي أو وصي نبي، قوموا بنا إلى أبي الحسن علي «عليه السلام».

فمضى الغلام وهو يقول: أين كاشف الكرب؟! أين خليفة هذه الأمة حقاً؟!

فجاؤوا به إلى منزل علي بن أبي طالب «عليه السلام» كاشف الكروب، ومحل المشكلات، فوقف هناك يقول: يا كاشف الكروب عن هذه الأمة.

فقال له علي بن أبي طالب «عليه السلام»: مالك يا غلام؟!

فقال: يا مولاي!! أُمي جحدتني حقي وأنكرتني، وزعمت أني لم أكن ولدها.

فقال الإمام «عليه السلام»: أين قنبر؟!

فأجابه: لبيك، لبيك يا مولاي.

فقال له: امض واحضر الإمرأة إلى مسجد رسول الله «صلى الله عليه وآله».

فمضى قنبر وأحضرها بين يدي الامام، فقال لها: ويلك لم جحدت ولدك؟!

فقالت: يا أمير المؤمنين، أنا بكر ليس لي بعل، ولم يمسسني بشر.

فقال لها: لا تطيلي الكلام أنا ابن عم بدر التمام، ومصباح الظلام.

(فقال: وإن جبرائيل أخبرني بقصتك).

قالت: يا مولاي احضر قابلة تنظرني، أنا بكر أم عاتق أم لا!!.

فأحضروا قابلة أهل الكوفة، فلما خلت بها أعطتها سوارا كان في عضدها، وقالت لها: اشهدي بأني بكر.

فلما خرجت من عندها قالت له: يا مولاي، إنها بكر.

فقال: كذبت. يا قنبر، عرّينّ العجوز، وخذ منها السوار.

قال قنبر: فأخرجته من كتفها، فعند ذلك ضج الخلائق.

فقال الإمام «عليه السلام»: اسكتوا، فأنا عيبة علم النبوة.

ثم أحضر الجارية وقال لها: يا جارية، أنا زين الدين، أنا قاضي الدين، أنا أبو الحسن والحسين «عليهما السلام»، اني أريد أن أزوجك من هذا الغلام المدعي عليك فتقبليه مني زوجاً؟!

فقالت: لا، يا مولاي، أتبطل شرائع الإسلام؟!

فقال لها: بماذا؟!

فقالت: تزوجني من ولدي؟! كيف يكون ذلك؟!

فقال الامام: {جَاء الحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً}([18])، لم لا يكون هذا منك قبل هذه الفضيحة؟!

فقالت: يا مولاي، خشيت على الميراث.

فقال لها «عليه السلام»: استغفري الله تعالى وتوبي إليه.

ثم إنه «عليه السلام» أصلح بينهما، وألحق الولد بوالدته، وبإرث أبيه، وصلى الله على محمد وآله([19]).

لا تعصوا لعلي أمراً:

وهناك نص آخر لهذه القضية، يختلف في بعض عناصره عن هذا النص، وملخصه: أن غلاماً شكى إلى عمر أمه التي أنكرت أمومتها له.. فسألها عمر عن ذلك، فحلفت أنها لا تعرف ذلك الغلام، وأنها لا تزال بكراً لم تتزوج، وأنه يريد أن يفضحها في عشيرتها، وشهد لها أخوتها الأربعة، وأربعون قسامة على ذلك.

فأمر عمر بالغلام بإقامة الحد عليه.

وفي نص آخر: أمر به إلى السجن حتى يسأل، فلقيهم أمير المؤمنين علي «عليه السلام»، فقص عليه الغلام قصته، فأمرهم برده إلى عمر، فردوه إليه.

فقال لهم عمر: لقد أمرت به إلى السجن، فلماذا رددتموه إلي؟!

فقالوا: لقد سمعناك تقول: لا تعصوا لعلي أمراً. وقد أمرنا أن نرده إليك.

ثم جاء علي «عليه السلام»، فقال: لأقضين اليوم بقضاء يرضي رب العالمين.

وفي بعض نصوص الرواية: أنه «عليه السلام» قال لعمر: أتأذن لي أن أقضي بينهم.

فقال عمر: سبحان الله كيف لا، وقد سمعت رسول الله «صلى الله عليه وآله» يقول: أعلمكم علي بن أبي طالب.

ثم جعل «عليه السلام» يسأل المرأة: ألك شهود؟!

قالت: نعم.

ثم تقدم الشهود فشهدوا بأن المرأة ليست أماً للغلام، وأنه إنما يريد أن يفضحها في عشيرتها، (والشهود: أربعون قسامة، كما في بعض نصوص الرواية).

وفي بعض نصوص الرواية أيضاً: أنه «عليه السلام» سأل أخوتها: أمري فيكم وفي أختكم جائز؟!

قالوا: نعم.

فقال الإمام علي «عليه السلام»: أشهد الله، وأشهد من حضر من المسلمين إني قد زوجت هذا الغلام من هذه الجارية بأربعمائة درهم، أدفعها من مالي الخاص.

ثم نادى قنبراً مولاه أن يحضر الدراهم، فأتاه بها، فصبها في يد الغلام قائلاً له: صب هذا المال في حجر امرأتك، ولا أراك بعد ذلك إلا وبك أثر العرس.

فقام الغلام، فصب الدراهم في حجر المرأة، فقال لها: قومي معي إلى بيت الزوجية.

فصاحت المرأة: النار، النار يا ابن عم رسول الله، أتريد أن تزوجني من ولدي؟!

هذا ـ والله ولدي ـ وقد زوجني أخي هجيناً، فولدت منه هذا الغلام، فلما كبر أمروني أن أنتفي منه، وأطرده، مع أنه ولدي. وفؤادي يحترق أسفاً على ولدي، ثم أخذت بيد الغلام فانطلقت به.

فنادى عمر بأعلى صوته: وا عمراه، لولا علي لهلك عمر([20]).

ونقول:

ويستوقفنا هنا الأمور التالية:

اختلافات بين الروايتين:

ان المقارنة بين الروايتين تعطي وجود اختلافات هامة فيما بينهما، لعل ابرزها ما ذكر فيهما عن سبب انكار تلك المرأة لولدها، ففي أحداهما أن السبب هو إصرار اخوتها.. وفي الأخرى إن السبب هو الرغبة في حيازة الميراث.. وربما تكون قد ذكرت كلا الأمرين، بأن ادعت أولاً أن إخوتها هم السبب ثم لما واجهت بعض المشكلات معهم، أو خافت منهم، ادعت أن السبب هو الميراث نفسه.

اختلاف الدواعي وتكرر الحدث:

بل قد يقال: لا مانع من تكرر مثل هذه الأمور لدوافع مختلفة، فيكون الداعي لإنكار بنوة الإبن تارة هو التعرض لضغوطات من قبل الإخوة أو غيرهم، لأجل إبعاد ما يرونه عاراً عن ساحتهم، ثم يكون الداعي للإنكار مرة أخرى هو الطمع في الدنيا، وحيازة ميراث أو غيره..

هل هذا معقول:

قد تمر على الانسان أمور كثيرة يشعر بصعوبتها أو بغرابتها.. لكن من الصعب على الإنسان أن يتصور أماً تنكر ولدها طمعاً بالميراث، فإن ما نعهده من شدة تعلق الأم بولدها يمنع من تقبُّل واستساغة حدوث مثل هذا الأمر ببساطة.

قوموا بنا إلى أبي الحسن:

وقول عمر للناس هنا أيضاً: قوموا بنا إلى أبي الحسن «عليه السلام»، شاهد آخر على عدم صحة ما زعمه ابن أبي الحديد من أن عمر لم يأت بنفسه إلى علي «عليه السلام» قط، بل كان علي «عليه السلام» هو الذي يأتي إلى المسجد ليحل لهم المشكلات، ومعضلات المسائل.

ويدل أيضاً على ما ألمحنا إليه أكثر من مرة، من أنه كان قد استقر في وجدان الناس أن علياً «عليه السلام» هو الملجأ لهم في كل أمر ينوبهم، وأنه «عليه السلام» قد صاغ العلاقة معهم بحيث يصبح تعاملهم معه في كل ما يرتبط بالدين وأحكامه أمراً سهلاً، لا يشكل لهم حرجاً.

ودل ذلك أيضاً على أنه «عليه السلام» قد فرض مرجعيته في قضايا العلم والمعرفة والدين عليهم وعلى كل أحد..

بل أصبح اعترافهم له بأنه وصي نبي لا يشكل لهم مشكلة، بعد أن خيل لهم: أنه قد تم لهم الفصل بين الحاكمية والسلطة، وبين الشريعة والدين، وقضايا الإيمان والإسلام.

ولأجل ذلك نرى: أن ما كان ذلك الغلام يردده: أين منزل كاشف الكروب؟! أين خليفة هذه الأمة حقاً؟! إلخ.. لم يواجه بأية ردة فعلٍ، لا من عمر، ولا من غيره، تجعل منه مشكلة لذلك الغلام، وتعقد عليه الأمور.

جبرئيل أخبرني بقصتك!:

وذكرت الرواية المتقدمة: أنه «عليه السلام» أخبر تلك المرأة بأن جبرئيل قد أخبره بقصتها، مما يعني أنه يريد أن يتعامل معها على هذا الأساس..

ومن الواضح: أن ذلك يضيق عليها مجال المناورة، إلا إن كانت تتهم علياً في صدقه، أو تتهم جبرئيل في صحة معرفته.. وكلاهما يتضمن جرأة ومجازفة كبيرة تمس جوهر عقيدتها بالقرآن الذي طهر علياً وشهد له بالصدق، وتخدش عقيدتها بالنبي والنبوة، التي تستند إلى جبرئيل في حقيقة النبوة وصدقيتها.

وبذلك يكون «عليه السلام» قد حمّل تلك المرأة مسؤولية أي تصرف يجعل الأمور تسير في الإتجاه الذي يضر بحالها.. فقد اعذر من أنذر.

قابلة أهل الكوفة:

وقد صرحت الرواية أيضاً بأنهم أحضروا قابلة أهل الكوفة.

ولكننا لا نرى ذلك صحيحاً، فإن عمر لم يكن بالكوفة، وكان الحكم والقضاء في أمر هذه المرأة في مسجد رسول الله «صلى الله عليه وآله» كما صرحت به الرواية، فالمناسب هو الإتيان بقابلة المدينة، لا قابلة الكوفة، فلا بد من الحكم على هذه الفقرة بالخطأ والوهم.

إلا أن تكون قابلة أهل الكوفة كانت في زيارة لها إلى المدينة، وكانت قابلة أهل المدينة غائبة أو لم ترض بالحضور في ذلك الوقت. وهو إحتمال لا يعول عليه، ولا يلتفت إليه، إلا إذا صرحت الرواية نفسها به..

جبرئيل هو الذي أخبر علياً :

تقول الرواية المتقدمة: إن علياً «عليه السلام» حين قال للمرأة: لم جحدت ولدك، لم يكن يريد أن يوقعها في فخ الغفلة والإسترسال، بأن تجيب بما يدل على اعترافها بوالديتها له، ليلزمها به.

ولكنه كان يتعامل معها على أساس أنه عالم بتفاصيل هذه القضية بعينها، بإخبار جبرئيل الذي لا يحتمل في حقه الكذب أو الغلط.

ولا بد لنا هنا من الإشارة إلى الأمور التالية:

1 ـ إن هذا لا يعني ادعاء النبوة لعلي «عليه السلام»، فلعل جبرئيل كان يحدث علياً «عليه السلام»، بما عرفه بطرقه الخاصة به مما قرأه في لوح المحو والإثبات، أو رؤيته المباشرة لبعض الأحداث، أو سماعه ممن رأى وعاين، سواء أكان من الملائكة، أو البشر أو غير ذلك..

وهذا النوع من الحديث لا يكون من الوحي، بل هو من حديث الملائكة للناس، تماماً كما كان سلمان محدثاً، وكما كانت الزهراء «عليها السلام» محدثة، يحدثها الملك بما عرفه مما يجري على ذريتها..

أما إذا كان يخبره عن الله تعالى، فتلك هي النبوة، وحيث قد دل الدليل على أنه لا نبوة لأحد بعد رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فلا بد من أن يكون جبرئيل قد حدث علياً «عليه السلام» بها من عند نفسه، على النحو الأول.. أو أن يكون جبرئيل قد أخبر النبي «صلى الله عليه وآله»، ثم أخبر النبي «صلى الله عليه وآله» علياً بما أخبره به جبرئيل.

2 ـ إنه «عليه السلام» بالرغم من علمه بصحة ما علمه من أمر هذه المرأة. ورغم تصريحه لها بذلك، لم يحكم عليها  هذا، بل استمر في العمل على كشف الخفايا بالوسائل العادية الميسورة للناس.

ولعل مبرر ذلك: أنه «عليه السلام» كان يملك من المعرفة بأحابيل ومماراسات تلك المرأة ما يجعله يظن بوقوع ذلك الشاب بخديعة منها. ولعله كان يعرف تلك القابلة العجوز، وأنها ليست أهلاً للثقة، وأنها لا مانع من أن ترتشي، وتشهد بغير الحق.

3 ـ صحيح أنه «عليه السلام» لم يقض  هنا لأجل أنه علم بعلم وصل إليه من طريق غير عادي، لا يقع تحت اختيار المكلفين، ولكن ذلك لا يدل على أن القاضي لا يحق له القضاء، لأن المقصود بالعلم الذي يحكم به القاضي: هو العلم الواصل إليه بالوسائل العادية، مثل رؤيته أو سماعه بنفسه، أو بالإقرار، أو شهادة الشهود، أو غير ذلك من الوسائل العادية الموجبة للعلم.

أما العلوم غير العادية التي لا يقدر عليها البشر عادة كعلم الشاهدية للنبي أو الإمام، أو علم النبي «صلى الله عليه وآله» بواسطة الوحي، أو ما إلى ذلك.. فليست هي المقصودة في قولهم: القاضي يقضي بعلمه أولاً.

الإصرار على تفتيش القابلة:

وقد أصر «عليه السلام» على تفتيش القابلة، وإظهار كذبها، لأنه يريد أن يعرِّف الناس بصدق الخبر الذي حدثه جبرئيل، ليكون ذلك من دلائل إمامته، واعلاماً منه لهم بشدة يقينه بما حباه الله تعالى به، ولكي يحصن الناس من الوقوع في الشبهة في أمر عقائدي، لو شكوا فيه لتعرضوا لأعظم خسارة في دينهم ودنياهم.

ويشبه حاله «عليه السلام» في مضيه على يقينه هنا ما جرى له في أمر المرأة التي أرسلها حاطب بن أبي بلتعة بكتاب إلى المشركين، يخبرهم فيه بمسير رسول الله «صلى الله عليه وآله» إليهم، ليستعدوا له.. فقد أخبرهم النبي «صلى الله عليه وآله» بأمر تلك المرأة وأرسله هو والزبير بن العوام ليأخذ الكتاب منها، ففتشاها، فلم يجدا معها شيئاً، فقال الزبير: ما نرى معها شيئاً..

ولكن علياً «عليه السلام» أصر على صحة ما أخبره به رسول الله «صلى الله عليه وآله» فتهددها، فأخرجت الكتاب لهما من قرونها.

الهجين:

الولد عند العرب إن كان من أب عربي، وأم عربية فهو الصريح أو من أب عربي وأم أعجمية، وهو الهجين المحتقر عند العرب.

أو من أم عربية وأب أعجمي، فهو المقرف.

وهذه المرأة تزوجت من شاب أبوه عربي، وأمه أعجمية. فهو هجين محتقر، فولده مثله.

مرة أخرى لا تعصوا لعلي أمراً:

إن هذا الأمر الذي أصدره عمر بأن لا يعصوا لعلي أمراً.. يشير إلى أن طريقة تعامل علي «عليه السلام» مع الخليفة قد طمأنته إلى أنه «عليه السلام» لا يريد إلا إجراء أحكام الشريعة، وبيان حقائقها ودقائها، وأنه لم يكن ليجعل من ذلك ذريعة لإثارة أجواء احتقان، أو تشهير غير مسؤول، يستبطن التشفي، والإنتقام.. فإنه «عليه السلام» لا يتعامل بهذه الطريقة غير المسؤولة.

ورأى عمر أيضاً: أنه «عليه السلام» يحل مشكلات ربما لو لم يجد له حلها لوقع في المحذور، من حيث أنه قد يؤدي إلى إضعاف موقعه، وذهاب هيبته، وتحريك الناس ضده حين يظهر أنه قد خالف النصوص الصريحة، والصحيحة في كثير من الأحيان.

ثم إنه كان يعلم: أن علياً «عليه السلام» إن اعترض على شيء أو أمر بأمر، فإنه يستند فيه إلى حجة بالغة وقاطعة، وهو قادر ولديه الجرأة الكافية على الإعلان بالاعتراض فيه، وعلى الإقناع بحيثياته، وموجباته.. ولا يستطيع أحد أن يواجهه بما يبطلها أو يضعفها.

فلماذا يعرض نفسه لاعتراضات علي «عليه السلام» التي سوف تترك آثارها البالغة على نفوذ كلمته، وربما تؤدي ـ لو ازدادت ـ إلى يقظة وجدان وضمير، لربما تطيح بالبقية الباقية من حيوية النظام القائم، وتستنزف قدراته حتى النهاية.

فكان لا بد من تلافي ذلك كله، بإظهار شيء من المرونة مع علي «عليه السلام»، إلى الحد الذي لا يؤدي إلى تمييع السلطة، وسقوط هيبتها.

علي يزوج المرأة بالغلام:

وقد استعمل علي «عليه السلام» هنا ولايته، من حيث هو إمام، حين زوج تلك المرأة بدون رضا منها لذلك الغلام. من دون أن يستأذن في ذلك أحداً..

وقد يقول قائل: لعله استأذن أخوة المرأة في ذلك.

ونجيب: بأن أخوتها لا ولاية لهم عليها في ذلك..

وقد يقول البعض: إن عمر بإرجاعه القضية إلى علي، يكون قد أذن له في إجراء هذا التزويج.

ونجيب:

أولاً: إن الإذن بالقضاء إنما هو لأجل فصل الخصومة.. وقد كان يكفي أن ياخذ «عليه السلام» بشهادة الشهود، وبغير ذلك من وسائل الاثبات في القضاء..

وأما التعدي عن ذلك إلى التزويج للعاقل البالغ من غير إذنه. فلا دليل على الإذن به.

ثانياً: إن فاقد الشيء لا يعطيه، إذ لا دليل على ثبوت هذا الحق لعمر، حتى لو كان خليفة وحاكماً. ما دام أن حاكميته لم تأت من خلال اختيار إلهي، جسده رسول الله «صلى الله عليه وآله» في تنصيب عملي، وبيعة عامة من الناس له على رؤوس الأشهاد، كما جرى يوم الغدير، فإن ذلك لو حصل بالنسبة لعمر بن الخطاب، فمن الطبيعي اعتباره ولياً ومتصرفاً، ويستطيع أن ينصب غيره للتصرف أيضاً..

لكن ذلك لم يكن، فمن أين تأتيه الولاية ليمكن أن ينقلها لغيره..

ثالثاً: إن عمر لم يأذن لعلي «عليه السلام» بالقضاء، بل كان علي «عليه السلام» هو الذي بادر لنقض قضاء عمر، وإلغائه، ثم كان عمر أحد الذين شهدوا قضاء علي، بعد أن بادر هو «عليه السلام» إلى الإعلان بأنه سوف يقضي فيه بقضاء يرضي رب العالمين.

المؤثرات النفسية:

ويلاحظ هنا: أنه «عليه السلام» قد سلم المهر أولاً للغلام، ثم أمره بأن يصبه في حجر المرأة، ثم طلب منه أثر العرس، ثم دعا الغلام المرأة إلى بيت الزوجية.

وبذلك يكون قد حاصر المرأة بنحو لا يبقي لها مجالاً لأي تعلل او تأجيل في اتخاذ القرار، فجعلها أمام نارين. نار التمرد على إخوتها في أمر ليس لهم فيه حق، بل هم يمارسون ضغوطهم عليها بصورة عدوانية وظالمة، ونار الغضب الالهي، التي لا يمكن لعاقل أن يرجح الدخول فيها، تجنباً لنار موهومة، تقوم على أساس تعدي الأخوة على من لا حق لهم بالتعدي عليه.

الإصرار على المهر الحاضر:

وقد رأينا: أنه «عليه السلام» قد ضمن المهر في ماله، ربما لكي لا يتعلل الغلام بالفقر، وعدم وجود المال، او عدم القدرة على الوفاء به، لو كان ديناً عليه..

ولو أنه جعله مؤجلاً فقد يمكن أن تمتنع تلك المرأة عن التمكين من نفسها قبل استلامها المهر، لأن ذلك من حقها.. فإذا استطاعت أن تجد الفرصة للتأجيل، فقد تبادر إلى ذلك أملاً بالخلاص من هذه الورطة آنياً، ثم تدبر لعدم الوقوع في مثل هذا الفخ مرة أخرى.


([1]) الآية 70 من سورة الأحزاب.

([2]) الآية 36 ـ 40 من سورة القيامة.

([3]) الآية 17 من سورة النبأ.

([4]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج12 ص79 و80 وراجع: المناقب لابن شهرآشوب ج2 ص31 وحياة الإمام الحسين «عليه السلام» للقرشي ج1 ص299 وغاية المرام ج5 ص267 وراجع: كنز العمال ج5 ص830 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج31 ص494 والروضة في فضائل أمير المؤمنين ص127. وراجع: الفضائل لابن شاذان ص380 و 381 و (ط المطبعة الحيدرية ـ النجف) ص136 عن كتاب أعلام النبوة، وفي هامشه عن: الروضة، وبحار الأنوار ج40 ص122 وج3 ص112 وعدة الداعي ص111 ومنار الهدى للبحراني ص510.

([5]) الآية 36 من سورة القيامة.

([6]) أي أنهم استأذنوه في أن يكلموه في حاجتهم، فترك مسحاته، وخرج من الموضع الذي هو فيه إليهم، واقترب منهم.

([7]) الآية 17 من سورة النبأ.

([8]) راجع: الملاحم والفتن لابن طاووس ص356 وعلي إمام الأئمة للشيخ أحمد حسن الباقوري ص216 و 217 وكنز العمال ج5 ص830 ومصباح الظلام للجرداني ج2 ص136 ومستدرك سفينة البحار ج8 ص544 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج32 ص161 وراجع: وسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج27 ص286 و (ط دار الإسلامية) ج18 ص210 وتهذيب الكمال (ط سنة 1412 هـ) ج6 ص267 و (ط دار الكتب الإسلامية) ج6 ص315 الحديث رقم 873 ومن لا يحضره الفقيه (ط مركز النشر الإسلامي) ج3 ص19 وبحار الأنوار ج40 ص317 وجامع أحاديث الشيعة ج25 ص135 والإمام علي بن أبي طالب «عليه السلام» للهمداني ص681 وعجائب أحكام أمير المؤمنين «عليه السلام» ص12 ومستدرك الوسائل ج17 ص392 ومناقب آل أبي طالب ج2 ص367 و (ط المكتبة الحيدرية) ج2 ص188 وقال: وقد أشار الغزالي إلى ذلك في الإحياء عند قوله: ووجوب الغرم على الإمام إلخ..

([9]) راجع: ذخائر العقبى ص82 والغدير ج6 ص103 عنه، وعن الرياض النضرة ج2 ص50 و 194 وعن كفاية الشنقيطي ص57 ومناقب آل أبي طالب ج2 ص364 و 365 و (ط المكتبة الحيدرية) ج2 ص186 ونظم درر السمطين ص130 وتاريخ مدينة دمشق ج53 ص34 وغاية المرام ج5 ص265 ومستدرك الوسائل ج9 ص265 وشرح الأخبار ج2 ص304 وبحار الأنوار ج40 ص231 وج96 ص159 وجامع أحاديث الشيعة ج11 ص241  وجواهر المطالب لابن الدمشقي ج1 ص195 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج8 ص207 وج17 ص441.

([10]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص25 والصراط المستقيم ج1 ص162 وكتاب الأربعين للشيرازي ص420 وبحار الأنوار ج41 ص147 والإمام علي بن أبي طالب «عليه السلام» للهمداني ص555 وينابيع المودة ج1 ص452 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج18 ص152.

([11]) راجع: مسند أحمد ج6 ص91 و 163 و 216 وفتح الباري ج6 ص419 وعمدة القاري ج16 ص112 والأدب المفرد للبخاري ص74 وخلق أفعال العباد ص73 والمعجم الأوسط للطبراني ج1 ص30 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص340 وتخريج الأحاديث والآثار ج4 ص75 وكنز العمال ج7 ص137 و 222 والفتح السماوي ج3 ص1053 وفيض القدير ج2 ص152 وجامع البيان ج29 ص24 وتفسير الثعلبي ج10 ص9 وتفسير السمعاني ج6 ص18 وتفسير البغوي ج4 ص375 وتفسير النسفي ج4 ص268 والمحرر الوجيز ج5 ص346 وزاد المسير ج8 ص66 والتفسير الكبير للرازي ج30 ص81 وتفسير ابن عربي ج1 ص115 و 406 وتفسير البيضاوي ج5 ص369 و تفسير القرآن العظيم ج4 ص429 وتفسير الثعالبي ج3 ص333 وج5 ص464 والدر المنثور ج5 ص2 وج6 ص250 و 251 وتفسير أبي السعود ج9 ص12 وفتح القديـر ج3 ص475 وج5 ص267 و 270 وتفسير الآلوسـي ج1 ص333 = = وج5 ص155 وج29 ص25 وأضواء البيان ج3 ص49 و 248 و 560 وأبو هريرة للسيد شرف الدين ص93 والطبقات الكبرى لابن سعد ج1 ص364 والتعديل والتجريح للباجي ج1 ص16 وتاريخ مدينة دمشق ج3 ص382 وتهذيب الكمال ج1 ص232 وميزان الإعتدال ج4 ص420 والوافي بالوفيات ج1 ص71.

([12]) راجع: الموفقيات للزبير بن بكار ص580 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص21 وبحار الأنوار ج28 ص352 وكتاب الأربعين للشيرازي ص186 والدرجات الرفيعة ص143 وغاية المرام ج5 ص304 والغدير ج7 ص93.

([13]) راجع: تاريخ الأمم والملوك (ط دار المعارف) ج3 ص202 و (ط الإستقامة) ج2 ص443 وبحار الأنوار ج28 ص311 و 338 والكامل في التاريخ ج2 = = ص325 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص22 والإكمال في أسماء الرجال ص82 ومناقب أهل البيت «عليهم السلام» للشيرواني ص401 والسقيفة للمظفر ص73 و 98 و 142 والغدير ج5 ص370 وج7 ص78 وغاية المرام ج5 ص322 وج6 ص20.

([14]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص20 وتاريخ اليعقوبي ج2 ص123 الموفقيات ص579 وغاية المرام ج5 ص306 وج6 ص130.

([15]) الأمالي للصدوق ص659 وبصائر الدرجات ص232 و 233 و 234 و 235 و 236 والكافي ج1 ص229 ودعائم الإسلام ج1 ص22 وروضة الواعظين ص105 و 111 ومختصر بصائر الدرجات ص40 و 109 وشرح أصول الكافي ج5 ص315 و 316 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج27 ص181 و 188 و 200 و (ط دار الإسلامية) ج18 ص134 و 139 و 147 و 334 وكتاب سليم بن قيس (تحقيق الأنصاري) ص130 و 422 ومناقب الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» للكوفي ج1 ص191 وشرح الأخبار ج2 ص311 ونوادر المعجزات ص47 وعيون المعجزات ص31 والإحتجاج ج1 ص231 و 232 والخرائج والجرائح ج2 ص799 ومناقب آل أبي طالب (ط المكتبة الحيدرية) ج1 ص309 و 310 وج3 ص38 والعمدة لابن البطريق  ص124 و 290 و 291 والطرائف لابن طاووس ص49 و 99 ووصول الأخيار إلى أصول الأخبار ص57 وكتاب الأربعين للشيرازي ص443 ومدينة المعاجز ج1 ص477 وينابيع المعاجز ص13 و 14 و 15 و 16 و 17 و 18 = = و 19 و 20 وبحار الأنوار ج9 ص111 وج23 ص191 وج26 ص160 و 170 و 172 و 199 وج35 ص199 و 391 و 429 و 430 و 431 و 432 و 433 و 434 و 435 وج37 ص171 وج39 ص49 و 91 وج40 ص1و 146 و 212 وتفسير أبي حمزة الثمالي ص220 وتفسير العياشي ج2 ص220 و 221 وتفسير القمي ج1 ص367 وتفسير فرات ص124 وخصائص الوحي المبين ص213 و 214 والتفسير الأصفى ج1 ص610 والصافي ج3 ص77 ونور الثقلين ج1 ص723 وج2 ص521 و 522 و 523 و 524 وج4 ص87 و 458 وتنبيه الغافلين لابن كرامة ص97 وبشارة المصطفى ص299 وكشف الغمة ج1 ص319 و 331 ونهج الإيمان ص139 وتفسير الثعلبي ج5 ص303 وشواهد التنزيل ج1 ص400 و 401 و 402 و 404 و 405 وأحكام القرآن لابن العربي ج3 ص86 وزاد المسير ج4 ص252 والجامع لأحكام القرآن ج9 ص336 والبحر المحيط ج5 ص390.

([16]) حق العبارة أن تكون هكذا: ذكر ذلك (الرجل) أنه قرأه الخ..

([17]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج12 ص80.

([18]) الآية 81 من سورة الإسراء.

([19]) الفضائل لابن شاذان ص289 ـ 292 و (ط المكتبة الحيدرية) ص106 ومدينة المعاجز ج2 ص452 وبحار الأنوار ج40 ص268 والروضة في فضائل أمير المؤمنين ص45 وجامع أحاديث الشيعة ج25 ص141 ونفس الرحمن في فضائل سلمان ص416 وإحقاق الحق (الملحقات) ج8 ص77 عن در بحر المناقب لابن حسنويه، والصواعق المحرقة، ومستدرك الوسائل ج17 ص392.

([20]) راجع: تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي (ط سنة 1412 هـ) ج6 ص259 و 260 و (ط دار الكتب الإسلامية) ص304 والروضة لابن شاذان ص45 والكافي ج7 ص423 ومستدرك الوسائل ج17 ص388 و 390 وراجع ص392 ـ 394 والفضائل شاذان ص105 وبحار الأنوار ج40 ص268 و304 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج27 ص282 و (ط دار الإسلامية) ج18 ص207 ومدينة المعاجز ج2 ص452 وخصائص الأئمة للشريف الرضي ص83 وجامع أحاديث الشيعة ج20 ص125 وج25 ص138 و 141 وعجائب أحكام أمير المؤمنين «عليه السلام» ص68 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج8 ص77 وج31 ص480 ونفس الرحمن في فضائل سلمان ص416 والطرق الحكمية ص45 والمناقب لابن شهرآشوب ج2 ص361 و 362 عن حدائق أبي تراب الخطيب، وكافي الكليني، وتهذيب أبي جعفر.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان