صفحة : 271-282   

الفصل الثالث: دفاع عن التاريخ الهجري.. 

علي ووضع التاريخ الهجري:

ويقول المؤرخون: إن أول من أرخ بالهجرة النبوية، هو الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، وأكثرهم يذكر: أن اختياره الهجرة مبدأ للتاريخ كان بإشارة علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه([1]).

وبعض منهم يقول: إن المشير عليه بذلك ليس علياً فقط، بل معه بعض الصحابة أيضاً([2]).

وربما تكون إضافة بعض الصحابة تهدف إلى التخفيف من وهج الحدث.. وإلا فلماذا لا يذكر معظمهم سوى مشورة علي «عليه السلام»؟!

قال ابن كثير: «قال الواقدي: وفي ربيع الأول من هذه السنة ـ أعني سنة ست عشرة، أو سبع عشرة، أو ثماني عشرة([3]) ـ كتب عمر بن الخطاب التاريخ، وهو أول من كتبه.

قلت: قد ذكرنا سببه في سيرة عمر، وذلك: أنه رفع إلى عمر صك مكتوب لرجل على آخر بدين، يحل عليه في شعبان.

فقال: أي شعبان؟! أمن هذه السنة، أم التي قبلها، أم التي بعدها؟!

ثم جمع الناس (أي أصحاب النبي «صلى الله عليه وآله») فقال: ضعوا للناس شيئاً يعرفون به حلول ديونهم.

فيقال: إنهم أراد بعضهم (وهو الهرمزان)([4]): أن يؤرخوا كما تؤرخ الفرس بملوكهم، كلما هلك ملك أرخوا من تاريخ ولاية الذي بعده، فكرهوا ذلك.

ومنهم من قال (وهم بعض مسلمي اليهود)([5]): أرخوا بتاريخ الروم، من زمان إسكندر، فكرهوا ذلك لطوله أيضاً.

وقال قائلون: أرخوا من مولد رسول الله «صلى الله عليه وآله».

وقال آخرون: من مبعثه.

وأشار علي بن أبي طالب «عليه السلام» وآخرون:

«أن يؤرخ من هجرته إلى المدينة، لظهوره لكل أحد، فإنه أظهر من المولد، والمبعث، فاستحسن عمر ذلك والصحابة.

فأمر عمر: أن يؤرخ من هجرة رسول الله «صلى الله عليه وآله»([6]).

وعن سعيد بن المسيب قال: «جمع عمر الناس فسألهم: من أي يوم يكتب التاريخ؟!

فقال علي بن أبي طالب «عليه السلام»: من يوم هاجر رسول الله «صلى الله عليه وآله» وترك أرض الشرك، ففعله عمر رضي الله عنه.

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الأسناد، ولم يخرجاه»([7]).

وقال اليعقوبي في حوادث سنة 16 هـ‍: «وفيها أرخ الكتب، وأراد أن يكتب التاريخ منذ مولد رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ثم قال: من المبعث، فأشار عليه علي بن أبي طالب «عليه السلام»: أن يكتبه من الهجرة»([8]).

إلى غير ذلك من النصوص، التي تقول: إن عمر هو أول من وضع التاريخ الهجري الإسلامي.

الرأي الأمثل:

ولكننا بدورنا نشك كثيراً في صحة هذا القول، ونعتقد: أن التاريخ الهجري وضع من زمن النبي «صلى الله عليه وآله»، وقد أرخ به النبي «صلى الله عليه وآله» نفسه أكثر من مرة، وفي أكثر من مناسبة([9]).

وما حدث في زمن عمر هو فقط: جعل مبدأ السنة شهر محرم بدلاً من ربيع الأول، كما أشار إليه الصاحب بن عباد([10]).

من المشير بمحرم؟!:

أما من الذي أشار بمحرم بدلاً من ربيع الأول، فقد اختلفت الروايات فيه أيضاً، فيقال: إن ذلك كان بإشارة عثمان بن عفان([11]).

وقيل: بل هو رأي عمر نفسه([12]). لتكون الأشهر الحرام في سنة واحدة([13]).

مع أن الأشهر الحرم ستبقى في سنة واحدة حتى لو كان مبد السنة ربيع الأول أيضاً..

وبعضهم قال: إن عبد الرحمن بن عوف أشار بشهر رجب، فأشار علي «عليه السلام» في مقابل ذلك بشهر محرم، فقبل منه([14]).

ويقول آخرون: إن عمر ابتدأ من المحرم، بعد إشارة علي «عليه السلام» وعثمان بذلك([15]).

وفريق آخر يقول: فاستفدنا من مجموع هذه الآثار: أن الذي أشار بالمحرم عمر، وعثمان، وعلي «عليه السلام»([16]).

ولكننا نستبعد كثيراً: أن يكون علي «عليه السلام» قد أشار بترك ربيع الأول، والأخذ بشهر محرم، الذي كان أول السنة عند العرب في الجاهلية([17])، بل نكاد نجزم بخلافه، وأنه «عليه السلام» كان مصراً على شهر ربيع الأول مدة حياته صلوات الله وسلامه عليه.

ولم يكن ذلك رأيه وحده، بل كان هذا هو رأي جمع كبير من المسلمين الأبرار، والصحابة الأخيار، وقد ذكرنا بعضهم في كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» فليراجع..

غير أننا نشير هنا إلى ما يلي:

1 ـ تقدم: أنه «عليه السلام» أشار عليهم بأن يكتبوا التاريخ من «يوم هاجر»، أو من «يوم ترك النبي «صلى الله عليه وآله» أرض الشرك» كما هو صريح رواية ابن المسيب المتقدمة.

وهذا يدل على أنه «عليه السلام» يريد أن يكون مبدأ التاريخ هو شهر ربيع الأول لا شهر محرم، لأن يوم هجرته «صلى الله عليه وآله» كان أول يوم من شهر ربيع الأول.

2 ـ جاء فيما كتبه علي «عليه السلام» على عهد أهل نجران العبارة التالية: «وكتب عبد الله([18]) بن أبي رافع، لعشر خلون من جمادى الآخرة، سنة سبع وثلاثين، منذ ولج رسول الله «صلى الله عليه وآله» المدينة»([19]).

وإنما ولجها رسول الله «صلى الله عليه وآله» في شهر ربيع الأول كما هو واضح، وهذا يدل على ما قلناه أيضاً..

ما فعله عمر:

أما ما فعله عمر فهو: أنه أراد أن يلغي التاريخ الذي وضعه رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فتصدى له علي «عليه السلام» بطريقة محرجة، واضطره إلى القبول ببقاء التاريخ الهجري..

ولكن عمر أبى إلا أن يترك بصماته على هذا الأمر، فجعل ابتداء حساب السنة من المحرم، وألغى شهر ربيع الأول، إما بقرار مباشر منه، أو باقتراح من عثمان بن عفان..

وقدظهر لمسلمة اليهود آراء في ذلك الإجتماع، وآراء لغيرهم، كانت كلها تسعى لالغاء التاريخ الهجري، واستبداله بعام الفيل، أو ببعض تواريخ الأعاجم، أو بتاريخ الاسكندر «وكثر القول، وطال الخطب في تواريخ الأعاجم وغيرها» على حد تعبير المسعودي([20]).

ولكن علياً «عليه السلام» أرجعهم إلى الحق.. وأصر على أن تبقى هجرة النبي «صلى الله عليه وآله» من دار الشرك، هي المحور والأساس.. فقد أعز الله تعالى بها هذا الدين، وانتشر الإسلام في طول البلاد وعرضها. ونشرت اعلامه، وظهرت دلائله في البلاد والعباد..

وأما التاريخ المتداول في هذه الأيام، والذي يبدأ بميلاد المسيح «عليه السلام»، فهو قد حدث في وقت متأخر.

وكان علماء النصارى يؤرخون بتاريخ الإسكندر إلى وقت قريب.. وتاريخ مختصر الدول لابن العبري الملطي شاهد صدق على ذلك، فإنه يعتمد تاريخ الإسكندر، كما يظهر لكل من رجع إليه ولاحظه..

كما أن ادعاء أن ميلاد السيد المسيح «عليه السلام» كان في الخامس والعشرين من شهر كانون الأول غير دقيق، فقد روي عن الإمام الصادق «عليه السلام» تكذيب هذه الدعوى، وأنه ولد في النصف من حزيران، ويستوى الليل والنهار في النصف من آذار([21]).

 

([1]) راجع: تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص76 والكامل لابن الأثير (ط دار صادر) ج2 ص526 وتاريخ الأمم والملوك (ط مؤسسة الأعلمي) ج2 ص112 وج3 ص144 وسبل الهدى والرشاد ج12 ص38 وتاريخ اليعقوبي (ط صادر) ج2 ص145 والتنبيه والإشراف ص252 ومحاضرة الأوائل ص28 وتهذيب تاريخ ابن عساكر ج1 ص23 وفتح الباري ج7 ص209 والثقات لابن حبان ج2 ص206 وتاريخ الخلفاء ص132 و 136 و 23 و 138 عن البخاري في تاريخه، وبحار الأنوار ج40 ص218 وج58 ص350 ـ 351 بعد تصحيح أرقام صفحاته وج40 ص218 وسفينة البحار ج2 ص641 ومناقب آل أبي طالب ج2 ص144 و (ط المكتبة الحيدرية) ج1 ص406 عن الطبري، ومجاهد في تاريخيهما، والإعلان بالتوبيخ ص80 و 81 وإقبال الأعمال لابن طاووس ج3 ص22 وأعيان الشيعة ج1 ص349 وعلي والخلفاء ص139 ـ= = 141 وكنز العمال ج10 ص310 وقاموس الرجال للتستري ج12 ص372  والتاريخ الصغير للبخاري ج1 ص41 والتاريخ الكبير للبخاري ج1 ص9 وتاريخ مدينة دمشق ج1 ص44 والمستدرك للحاكم ج3 ص14 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج8 ص220 عن الوسائل للسيوطي ص129 وسيأتي جانب من المصادر لذلك فيما يأتي.

([2]) البداية والنهاية ج7 ص74 والوزراء والكتاب ص20 ومآثر الإنافة ج3 ص336.

([3]) الوزراء والكتاب ص20 والبداية والنهاية ج3 ص206 و 207 و (ط دار إحياء التراث العربي) ج7 ص85 و (ط مكتبة المعارف) ج4 ص73.

([4]) صرح باسم (الهرمزان) في صبح الأعشى ج6 ص241 عن تاريخ أبي الفداء، وقد ذكر: أن عمر أرسل إليه فاستشاره، وليراجع أيضاً: البحار ج58 ص349 و 350 بعد تصحيح أرقام صفحاته، وسفينة البحار ج2 ص641 وتاريخ ابن الوردي ج1 ص145 والأنس الجليل في أخبار القدس والخليل ج1 ص187 والخطط للمقريزي ج1 ص284 وفيه: أن عمر استدعاه.

([5]) هذه الفقرة في الإعلان بالتوبيخ ص81 وبحار الأنوار ج58 ص350 وفي نزهة الجليس ج1 ص22 عن تاريخ ابن عساكر: أن النصارى كانوا يؤرخون بتاريخ الإسكندر.. كما أن كتاب تاريخ مختصر الدول لابن العبري النصراني: قد جرى على تاريخ الأسكندر..

([6]) راجع جميع ما تقدم في: البداية والنهاية ج7 ص73 و 74 وليراجع أيضاً ج3 ص306 و (ط دار إحياء التراث) ج3 ص251 وج7 ص85 وتاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص75 و 76 وتهذيب تاريخ ابن عساكر ج1 ص22 و 23 وشرح النهج للمعتزلي ج12 ص74 وعجائب الآثار ج1 ص6 والسيرة النبوية لابن كثير ج2 ص287 وسبل الهدى والرشاد ج12 ص38 وغاية المرام ج5 ص268 ونفس الرحمن في فضائل سلمان ص182 وعلي والخلفاء ص240 عنه ملخصاً.

وراجع: الإعلان بالتوبيخ ص79 و 80 و 81 ومنتخب كنز العمال (هامش مسند أحمد) ج4 ص67 والكامل لابن الأثير (ط صادر) ج1 ص10 وكنز العمال ج10 ص195 و (ط مؤسسة الرسالة) ج10 ص313 عن المستدرك، وعن البخاري في الأدب، وراجع ص193 عن ابن أبي خيثمة، وتفسير الآلوسـي ج10 ص90 وتاريخ مدينة دمشق ج1 ص40 و 41 وبحار الأنـوار ج55 ص349 وعمدة القاري ج17 ص66 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج12 ص74 وجواهر العقود ج2 ص479 ونزهة الجليس ج1 ص21 وتاريـخ الأمم والملوك (ط دار المعارف بمصر) ج2 ص388 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج2 ص111 والوزراء والكتاب ص20 وفتح الباري ج7 ص209 وصبح الأعشى ج6 ص241 عن ابن حاجب النعمان في ذخيرة الكتاب: أن أبا موسى= = كتب إلى عمر أنـه يأتينا من قبلك كتب لا نعرف نعمل فيها قد قرأنا صكاً محله شعبان فما ندري أي الشعبانين هو: الماضي؟ أو الآتي؟ فجمع الصحابة الخ ما في المتن. وليراجع أيضاً: الأوائل لأبي هلال العسكري ج1 ص223.

([7]) مستدرك الحاكم ج3 ص14 وتلخيص المستدرك للذهبي هامش الصفحة ذاتها وصححه أيضاً، والإعلان بالتوبيخ ص80 وفتح الباري ج7 ص209 والطبري (ط دار المعارف) ج2 ص391 وج3 ص144 وتاريخ عمر بن الخطاب ص76 وتهذيب تاريخ ابن عساكر ج1 ص23 ومنتخب كنز العمال (بهامش مسند أحمد) ج4 ص67 وعلي والخلفاء ص239 و 240 وكنز العمال ج10 ص193 و 192 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج8 ص219 عن ابن عساكر، والمقريزي في كتاب الخطط والآثار ج1 ص284 والشماريخ للسيوطي (ط ليدن) ص4 والتاريخ الكبير للبخاري ج1 ص9 والكامل (ط دار صادر) ج1 ص10.

([8]) تاريخ اليعقوبي (ط صادر) ج2 ص145.

([9]) تحدثنا عن ذلك في كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله».

([10]) عنوان المعارف وذكر الخلائف ص11. وراجع: تفسير الآلوسي ج2 ص60 وتاريخ مدينة دمشق ج1 ص45 والبداية والنهاية ج3 ص252 والسيرة النبوية لابن كثير ج2 ص289 وسبل الهدى والرشاد ج12 ص37 و 38 وفيض القدير ج1 ص133 وتاريخ الأمم والملوك ج2 ص111 والكامل في التاريخ ج1 ص11 والمجموع للنووي ج17 ص208.

([11]) نزهة الجليس ج1 ص21 وفتح الباري ج7 ص209 والإعلان بالتوبيخ ص80 ومنتخب كنز العمال (بهامش مسند أحمد) ج4 ص67 والشماريخ (ط سنة1971م) ص10 وكنز العمال ج17 ص145 عن ابن عساكر وج10 ص193 و (ط مؤسسة الرسالة) ج10 ص311 عن أبي خيثمة في تاريخه، وتاريخ مدينة دمشق ج1 ص45 وسبل الهدى والرشاد ج12 ص38.

([12]) الإعلان بالتوبيخ ص79، وليراجع الوزراء والكتاب ص20 وفتح الباري ج7 ص209 ومآثر الانافة ج3 ص337 والأوائل ج1 ص223 وراجع الهامش التالي.

([13]) الأوائل ج1 ص223 وراجع: السيرة النبوية لإبن كثير ج3 ص180 والبداية والنهاية ج4 ص107.

([14]) الإعلان بالتوبيخ (ط القاهرة) ص81 وقال ص82: إن الديلمي في الفردوس، وولده رويا ذلك عن علي، وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج8 ص220 عن الإعلان.

([15]) تاريخ الخميس ج1 ص338 ووفاء الوفاء ج1 ص248.

([16]) الإعلان بالتوبيخ لمن يذم التاريخ ص80 وإرشاد الساري ج6 ص234 وفتح الباري ج7 ص209 ـ 210.

([17]) البداية والنهاية ج3 ص207 و 208 و (ط دار إحياء التراث) ج3 ص253 وبحار الأنوار ج55 ص368 و 376 وج56 ص123 والسيرة النبوية لابن كثير ج2 ص288 و 289 والميزان ج3 ص232.

([18]) الظاهر أنه: عبيد الله.

([19]) الخراج لأبي يوسف ص81 وجمهرة رسائل العرب ج1 ص82 رقم53 عنه.

([20]) التنبيه والإشراف ص252.

([21]) راجع: بحار الأنوار ج75 ص260 وتحف العقول ص375 ومستدرك سفينة البحار ج9 ص298 ومختصر التاريخ لابن الكازروني ص67 ومروج الذهب ج2 ص179 و 180.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان