صفحة :283-308   

 

بـدايـة:

كان عمر بن الخطاب هو الذي بدأ سياسات التمييز العنصري في المجتمع الإسلامي، وعمل على تكريس ذلك بصورة قوية وشاملة.. وكان لعلي «عليه السلام» موقف من هذه السياسة بل سياسة أخرى تناقضها، فلا بد من عرض ـ ولو موجز ـ للسياسات والمواقف.. ونقتصر على ما كان لعلي فيه أثر ظاهر، فنقول:

سياسة عمر تجاه غير العرب:

قد ذكرنا طائفة من هذه السياسات في كتابنا: «سلمان الفارسي في مواجهة التحدي»، ونقتصر هنا على اقتباس بعض النماذج منها، ونحيل القارئ الكريم إلى ذلك الكتاب، فنقول:

روى شريك وغيره: أن عمر أراد بيع أهل السواد، فقال له علي «عليه السلام»: إن هذا مال أصبتم، ولن تصيبوا مثله، وإن بعتهم فبقي (كذا) من يدخل في الإسلام لا شيء له.

قال: فما أصنع؟!

قال: دعهم شوكة للمسلمين.

فتركهم على أنهم عبيد.

ثم قال علي «عليه السلام»: فمن أسلم منهم فنصيبي منه حر([1]).

ونقول:

المراد بأهل السواد: خصوص غير العرب منهم.

ومن أقوال عمر المشهورة قوله: «من كان جاره نبطياً، واحتاج إلى ثمنه فليبعه»([2]).

كما أن عمر بن الخطاب لم يُقِدِ النَبَطي من عبادة بن الصامت، حين ضربه فشجه، لأن عبادة طلب منه أن يمسك له دابته فرفض، واكتفى بإعطائه دية الضربة([3]).

وقد اعترض على أمير مكة نافع بن علقمة، لأنه ولى على مكة ومن بها من قريش رجلاً من الموالي، وهو عبد الرحمان بن أبزى([4]).

وحين الكلام عن تدوين الدوواين قلنا: إنه فضل العرب على العجم حتى بالنسبة لنساء رسول الله «صلى الله عليه وآله» فراجع.

ونهى عمر أيضاً أن يتزوج العجم من العرب، وقال: لأمنعن فرجوهن (فروج ذوات الأنساب) إلا من الأكفاء. أو قال: لأمنعن فروج العربيات إلا من الأكفاء([5]).

ويقصد بالعجم: كل من ليس بعربي.

وقال الجاحظ: (وكان أشد منه (أي من أبي بكر) في أمر المناكح)([6]).

وقد أبى عمر أن يورث أحداً من الأعاجم إلا أحداً ولد في العرب([7]).

زاد رزين قوله: أو امرأة جاءت حاملاً فولدت في العرب([8]).

ودخل عمر بن الخطاب السوق، فلم ير فيه في الغالب إلا النبط، فاغتم لذلك([9]).

وقال: لا يدخل الأعاجم سوقنا حتى يتفقهوا في الدين([10]).

ولكنه لم يمنع العرب من السوق حتى يتفقهوا في الدين، كما صنع مع الأعاجم؟!

وقال عمر بن الخطاب: عليكم بالتجارة، ولا تفتنكم هذه الحمراء على دنياكم.

قال أشهب: كانت قريش تتجر، وكانت العرب تحقر التجارة([11]).

وكان عمر لا يترك أحداً من العجم يدخل المدينة([12]).

والحمراء: هم الموالي([13]).

سليم بن قيس يتحدث:

وقد جمع سليم بن قيس سياسات عمر هذه بصورة أوضح وأتم، فهو يقول: وإخراجه من المدينة كل أعجمي.

وإرساله إلى عماله بالبصرة بحبل طوله خمسة أشبار، وقوله: «من أخذتموه من الأعاجم فبلغ طول هذا الحبل، فاضربوا عنقه»([14]).

وجاء في رسالة معاوية لزياد ما يلي:

«وانظر إلى الموالي ومن أسلم من الأعاجم، فخذهم بسنة عمر بن الخطاب، فإن في ذلك خزيهم وذلهم.

أن تنكح العرب فيهم، ولا ينكحوهم.

وأن ترثهم العرب ولا يرثوهم.

وأن تقصر بهم في عطائهم وارزاقهم.

وأن يُقدموا في المغازي، يصلحون الطريق، ويقطعون الشجر.

ولا يؤم أحد منهم العرب في صلاة.

ولا يتقدم أحد منهم في الصف الأول، إذا حضرت العرب، إلا أن يتموا الصف.

ولا تولِّي أحداً منهم ثغراً من ثغور المسلمين، ولا مصراً من أمصارهم.

ولا يلي أحد منهم قضاء المسلمين، ولا أحكامهم.

فإن هذه سنة عمر فيهم وسيرته»..

إلى أن يقول:

«لولا أن عمر سن دية الموالي على النصف من دية العرب ـ وذلك أقرب للتقوى ـ لما كان للعرب فضل على العجم».

إلى أن قال: «وبحسبك ما سنه عمر فيهم فهو خزي لهم وذل».

إلى أن قال: «وحدثني ابن أبي معيط أنك أخبرته: أنك قرأت كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري، وبعث إليه بحبل طوله خمسة أشبار. وقال له: اعرض من قِبَلَكَ من أهل البصرة، فمن وجدته من الموالي، ومن أسلم من الأعاجم قد بلغ خمسة أشبار، فقدمه فاضرب عنقه.

فشاورك أبو موسى في ذلك فنهيته، وأمرته أن يراجع عمر فراجعه، وذهبت أنت بالكتاب إلى عمر.

وإنما صنعت ما صنعت تعصباً للموالي، وأنت يومئذٍ تحسب أنك منهم، وأنك ابن عبيد، فلم تزل بعمر حتى رددته عن رأيه، وخوفته فرقة الناس، فرجع.

وقلت له: ما يؤمنك ـ وقد عاديت أهل هذا البيت ـ أن يثوروا إلى علي، فينهض بهم، فيزيل ملكك؟» فكف عن ذلك.

وما أعلم يا أخي: «أنه ولد مولود في آل أبي سفيان أعظم شؤماً عليهم منك، حين رددت عمر عن رأيه، ونهيته عنه».

إلى أن قال: «فلو كنت يا أخي لم ترد عمر عن رأيه لجرت سنة، ولا استأصلهم الله، وقطع أصلهم. وإذن لاستنت به الخلفاء من بعده، حتى لا يبقى منهم شعر، ولا ظفر، ولا نافخ نار، فإنهم آفة الدين»([15]).

الحبل الذي طوله خمسة أشبار:

وللحبل الذي طوله خمسة أشبار نظير آخر في سياسات عمر للناس وهو الحبل الذي أرسله في صبيان سرقوا بالبصرة، وقال: من بلغ طول هذا الحبل فاقطعوه([16]).

وروى ابن أبي مليكة: أن عمر كتب في غلام عراقي سرق: أن اشبروه، فإن وجدتموه ستة أشبار فاقطعوه، فشبر، فوجد ستة أشبار تنقص منه أنملة، فترك([17]).

ثم جاء بعد ذلك من استفاد من حبل عمر ذي الأشبار الخمسة، فيأمر بقتل كل من يتهمه إذا بلغ خمسة أشبار، فإن إبراهيم الإمام أرسل إلى أبي مسلم يأمره «بقتل كل من شك فيه، أو وقع في نفسه شيء منه. وإن استطاع أن لا يدع بخراسان من يتكلم العربية إلا قتله فليفعل. وأي غلام بلغ خمسة أشبار يتهمه فليقتله الخ..»([18]).

سياسات عمر تجاه العرب:

ثم كانت لعمر بن الخطاب سياسات تكريس الإمتيازات، وتأكيد تفوق العرب على كل من عداهم، وتتجلى هذه السياسات، في أقواله ومواقفه وتصرفاته التالية:

تقدم: أنه لم يقتص للنبطي من عبادة بن الصامت، بل اكتفى بإعطائه الدية..

وتحدثنا عن تمييزه للعرب على غيرهم في العطاء وفي الأرزاق..

وأشرنا إلى منعه من زواج غير العربي بالعربية..

وقلنا: إنه منع غير العرب من الإرث.. إلخ....

ونضيف إلى ما تقدم: أنه لما ولي قال: إنه لقبيح بالعرب أن يملك بعضهم بعضاً. وقد وسع الله عز وجل وفتح الأعاجم.

واستشار في فداء سبايا العرب في الجاهلية والإسلام إلا امرأة ولدت لسيدها([19]).

قوله: ليس على عربي ملك([20]).

 

وقال: إني كرهت أن يصير السبي سنّة على العرب([21]).

وأعتق سبي اليمن وهن حبالى. وفرق بينهن وبين من اشتراهن([22]).

وأعتق كل مصل من سبي العرب، وشرط عليهم أن يخدموا الخليفة بعده ثلاث سنين([23]).

وكان في وصيته: «أن يعتق كل عربي في مال الله. وللأمير من بعده عليهم ثلاث سنوات، مثلما كان يليهم عمر»([24]).

وحدد فداء العربي بعدد من الإبل، واختلفت فتاويه في مقداره: خمسة أبعرة، أو ستة، أو نحو ذلك([25]).

ورد سبي الجاهلية، وأولاد الإماء منهم أحراراً إلى عشائرهم، على فدية يؤدونها إلى الذين أسلموا وهم في أيديهم.

قال: وهذا مشهور من رأيه([26]).

وأمر برد سبي مناذر وكل ما أصابوه منهم، على اعتبار أنها من قرى السواد([27]).

ورد سبي ميسان، على الرغم من أن بعضهم قد وطأ جاريته زماناً. فردها، وهو لا يعلم إن كانت حاملاً منه أم لا([28]).

كما أنه أخذ من نصارى تغلب العشر، ومن نصارى العرب نصف العشر([29]).

وكان إذا بعث عماله شرط عليهم شروطاً منها:

لا تضربوا العرب فتذلوها.

ولا تجمروها فتفتنوها.

ولا تعتلوا عليها فتحرموها([30]).

خدمة الخليفة بعده: لماذا؟!

ويستوقفنا ما تقدم من أن عمر اعتق سبي العرب المسلمين، مشترطاً عليهم خدمة الخليفة بعده. وأثبت ذلك في وصيته حتى بالنسبة لمن يعتقون بعده..

ولعل هذا يؤيد، بل يؤكد: أنه كان يخطط لاستخلاف رجل بعينه وأنه كان على يقين من وصوله إلى مقام الخلافة، وأنه كان يسعى لجمع المؤيدين له ليعتضد به على ما ناوأه..

العرب لن تقتل عمر بن الخطاب:

وقد كان عمر مطمئناً إلى نتائج سياساته.. وأنها ستؤدي إلى حب جارف للخليفة لدى العرب، ومن هذه السياسات تفضيلهم وتقديمهم في كل ما ذكرناه آنفاً. ولأجل ذلك أمن عمر جانبهم، كما يدل عليه قوله حين طعنه أبو لؤلؤة: «قد كنت أظن أن العرب لن تقتلني»([31]).

وفي لفظ آخر: «ما كانت العرب لتقتلني»([32]).

الرافد الأول والأساس:

وأخيراً.. فإن من الواضح: أن سياسات التمييز العنصري غريبة عن الاسلام، وبعيدة كل البعد عن تعاليمه، ومناقضة لتشريعاته.

فهل تأثر روّاد هذه السياسة وحماتها بغيرهم، ممن حرصوا عليها، حرصهم على أنفسهم، واعتبروها نهج حياة، وأساس تعامل؟!

قد يجيب البعض بنعم، ويستدل على ذلك بأن كعب الأحبار، وابن سلام وغيرهم من مسلمة أهل الكتاب كان لهم تأثير في المحيط الذي يعيشون فيه. وأهل الكتاب هم رواد هذا النهج، ولديهم نصوص دينية وتاريخية كثيرة تؤكد هذا الإتجاه فيهم، وقد قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ}([33]).

وهذه العقيدة وإن كانت في النصارى أيضاً كما هي في اليهود. ولكنها برزت في اليهود في نصوص أكثر صراحة ووضوحاً، فلاحظ ما يلي:

يقول اليهودي:

«قريب اليهود هو اليهودي فقط، وباقي الناس حيوانات في صورة إنسان. هم حمير، كلاب، وخنازير».

«إذا ضرب أميّ إسرائيلياً، فكأنما ضرب العزة الإلهية»، «فالأمي يستحق الموت»([34]).

أما إعتبار اليهود أنفسهم شعب الله المختار، فلأن الله قد تزوج اسرائيل، وسجل عقد الزواج بينهما، وكانت السموات والارض شهوداً على هذا العقد([35]).

«ولليهودي في الأعياد أن يطعم الكلب، وليس له أن يطعم غير اليهود، والشعب المختار هم اليهود فقط، أما باقي الشعوب، فهم حيوانات.

ويروى: أنه لما قدَّم بخت نصّر ابنته إلى زعيم اليهود ليتزوجها، قال له هذا الزعيم: إنّي يهودي، ولست من الحيوانات إلخ..»([36]).

وجاء في تلمود أورشليم (ص94): إن النطفة المخلوق منها باقي الشعوب الخارجين عن الديانة اليهودية هي نطفة حصان([37]).

ويلزم المرأة أن تعيد غسلها إذا رأت عند خروجها من الحمام شيئاﹰ نجساﹰ، ككلب، أو حمار، أو مجنون، أو أمي، أو جمل، أو خنزير الخ..»([38]).

وقالوا: «خلق الله الأجنبي على هيئة الانسان، ليكون لائقاً لخدمة اليهود»([39]).

وقالوا أيضاً: إن اليهود يعتبرون أنفسهم جزءاﹰ من الله([40]). بل يعتبرون أنفسهم مساوين للعزة الإلهية([41]).

ويقولون:

«نحن شعب الله في الأرض، وقد أوجب علينا أن يفرقنا لمنفعتنا، ذلك أنه لأجل رحمته ورضاه سخر لنا الحيوان الإنساني، وهم كل الأمم والأجناس، سخرهم لنا، لأنه يعلم: أننا نحتاج إلى نوعين من الحيوان: نوع أخرس ـ كالدواب، والأنعام، والطير ـ ونوع ناطق، كالمسيحيين والمسلمين، والبوذيين، وسائر الأمم من أهل الشرق والغرب، فسخرهم، ليكونوا مسخرين لخدمتنا، وفرقنا في الأرض، لنمتطي ظهورهم، ونمسك بعنانهم إلخ..»([42]).

وفي بروتوكولات حكماء صهيون، البروتوكول الخامس عشر، والحادي عشر نصوص أخرى، فلتراجع.. هذا عدا عما سوى ذلك، مما ورد في الموارد المختلفة.

وأخيراً..

فقد قال آدم متز: «كان أغلب تجار الرقيق في أوروبا من اليهود.

وكان الرقيق يجلب كله ـ تقريباً ـ من المشرق الأدنى»([43]).

هناك سبب آخر:

ونحن وإن كنا لسنا نرى أن لأهل الكتاب أثراً قوياً في سياسة التمييز العنصري هذه. غير أننا نرى أن علينا أن نضيف إلى ذلك ما يلي:

إن العرب في الجاهلية كانوا مجتمعاً عشائرياً قبلياً. وحين مجيء الإسلام تضاءل صوت القبلية والعشائرية إلى حد الخفوت، بصورة عامة. ولكنه بقي حياً وكامناً في أعماق الكثيرين، وبإمكان كل أحد أن يرى إطلالاته المتكررة، كلما سنحت له الفرصة، وواتاه الظرف..

2 ـ إن الإنسان العربي قبل الإسلام لم يكن لديه ـ باستثناء البيت الهاشمي وما سبقهم من أنبياء عرب كما يقال في هود وصالح ـ لم يكن لديه ـ إلا الشاذ النادر، من الشخصيات الكبار، الذين يستطيع أن يباهي بهم، لم يكن لديه حضارة ولا تاريخ متميز، يمكنه أن يجد فيه ما يرضي غروره، وأن يبعث فيه الزهو والإعتزاز.

بل كان هذا المجتمع عبارة عن مجموعات بشرية، تعيش جاهليتها، وتجتر ضعفها، وترضى بانسحاقها، وبتقوقعها في داخل محيطها الضيق، والخانق والقاتل.

وكانوا يتعاملون مع كل الأمم التي تحيط بهم، من موقع الحاجة، والضعف، والإستكانة، والفقر، فيقيسون ما هم فيه من ذل إلى ملك كسروي، وجبروت قيصري، فيرون البون الشاسع والفرق الكبير، فأين الثريا من الثرى. وأين الحضيض من السها. ثم هم ما بين ليلة وضحاها إنقلبت بهم الأمور، وأصبحوا هم الملوك على الناس، وصار مال الدنيا والملك بأيديهم. وقد وصف لنا قتادة حالهم قبل وبعد الإسلام فقال:

«كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلاً، وأشقاه عيشاً، وأبينه ضلالة، وأعراه جلوداً، وأجوعه بطوناً، معكومين على رأس حجر بين أسدين: فارس، والروم. لا والله، ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقياً، ومن مات ردّي في النار، يؤكلون ولا يأكلون.

والله، ما نعلم قبيلاً يومئذٍ، من حاضر الأرض، كانوا فيها أصغر حظاً، وأدق فيها شأناً منهم، حتى جاء الله عزّ وجلّ بالإسلام، فورثكم به الكتاب وأحل لكم به دار الجهاد، ووضع لكم به من الرزق، وجعلكم به ملوكاً على رقاب الناس»([44]).

وهناك كلمات أمير المؤمنين «عليه السلام» المعبرة عن حالة العرب قبل الإسلام، وأنهم كانوا على: «شر دين، وفي شر دار، بين حجارة خشن، وحيات صم، تشربون الكدر، وتأكلون الجشب إلخ..»([45]).

وله «عليه السلام» كلمات أخرى تعبر عن حالة العرب.. فليراجعها من أرادها.. وليراجع أيضاً كلام المغيرة بن شعبة في هذا المجال([46]). ولعمرو بن العاص أيضاً كلام يشير إلى هذا الواقع، فمن أراده فليراجعه([47]).

فجاء الإسلام فأيقظ هذه الأمة من سباتها، وبعث فيها الحياة رغم أنها قد رفضته وحاربته خلال سنين طويلة.

ولكنها حين وجدت في الإسلام كل هذا العطاء، وكل هذا الخير أسلمت وأسلست إليه طرفاً من قيادها، ولكن ضمن الحدود التي تحفظ لها الكثير من مكوناتها الموروثة التي نشأت عليها في جاهليتها، وانقلبت الأمور، وأصبح العرب هم الحكام على الناس، وصار الملك والمال في أيديهم.. فأقبلوا على الدنيا، واستولوا عليها، واختصوا أنفسهم بكل مصادر الرزق والخير، والفضل والتقدم فيها..

ولكن ذلك لم يكن كافياً لإزالة عقدة التخلف والحقارة، والمهانة من نفوسهم بصورة حقيقية ونهائية. فكان من الطبيعي أن يكون استيلاؤهم على البلاد والعباد، ولا سيما على الإمبراطورية الكسروية، فضلاً عن غيرها، وصيرورتهم بين ليلة وضحاها أسياد العالم وحكامه، والمسيطرين على كل القدرات والإمكانات فيه، والمتصرفين بها كما يحلو لهم ـ كان من الطبيعي ـ أن يترك هذا الأمر أثراً في نفوسهم وعلى سلوكهم. لا سيما وأن أكثريتهم الساحقة لم تكن قد تخلصت من مفاهيمها ورواسبها، وعصبياتها الجاهلية، ولم تكن قد تربت بعدُ على مفاهيم الحق والإيمان والإسلام، وإنما هي عاشت الإسلام بمستوى الشعار، والتوهج العاطفي، ولم يتجاوز ذلك إلى حد التأصل في وعيها، والتجذر في فكرها، والتمازج مع فطرتها، وملامسة ضميرها ووجدانها.

3 ـ ومما زاد الطين بلة: أن الأمة قد تعرضت بعد وفاة نبيها لمسحٍ إعلامي، ومسخ تربوي وتثقيفي، عمل على إيجاد حالة جديدة، تستهدف تحويل الإتجاه في مرامي الطموح إلى مسار آخر، ينسجم مع المصالح الضيقة، والتغيرات العارضة، التي جاءت كنتيجة للتغيير غير الطبيعي الذي نال مركز القيادة بعد الرسول الأعظم «صلّى الله عليه وآله»، فتسلّمت القيادة تلك الفئة التي خصّت العرب بامتيازات ليست لهم، وما كانوا يفكرون فيها، ولا يحلمون بها.. فعكفوا على دنياهم، وغرقوا في زبارجها وبهارجها.

ولم يعد يهمهم، إلا أن يكرسوا لأنفسهم هذه الإمتيازات، ويحوطوها، ويحافظوا عليها، ثم أن يسعوا الحصول على المزيد منها، مهما كان ذلك ظالماً، ومدمراً للأخرين، أو مخالفاً للشرع، ولأحكام الدين، أو تمجه الأخلاق، وتأباه الفطرة..

4 ـ وهناك أمر آخر أشارت إليه بعض الروايات، وفيها صرح النبي «صلى الله عليه وآله»: أن أهل بيته سليقون من بعده القتل والظلم والتشريد من قريش خاصة، ومن العرب عامة، وأن أكثر الناس سيرجعون بعده كفاراً.

وأشار إلى تأويل آية: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}([48]) بأن الله سوف يستبدل هؤلاء المرتدين بقوم آخرين، وقال: إنهم قوم سلمان.

ولعل كلام زياد لعمر حول سياسته مع الموالي قد زاده خوفاً من أن تؤدي سياسته إلى التفاف الموالي حول علي «عليه السلام»، وذلك يجعله يتقوى بهم على استعادة حقه. فزاده ذلك إصراراً على إضطهادهم، وتضعير شأنهم، وحرمانهم من أبسط الحقوق.

5 ـ وحين جاء قرار التمييز والتفضيل للعرب على غيرهم من قبل رأس الهرم، وهو عمر بن الخطاب، كان من الطبيعي أن يصاب الكثيرون من العرب بداء الغرور والعنجهية، والكبرياء إلى حد الصلف في تعاملهم مع غير العرب، القائم على أساس الظلم، والتعدي، والإذلال، بل والإضطهاد إلى حد التفكير بإبادة جماعات من الذين كانوا بالأمس أسيادهم، وأصبحوا اليوم مواليهم.

6 ـ وبعد أن ملكوا الأموال، والضياع، والبلاد والعباد كان من المتوقع أن يسقطوا في حمأة الشهوات، وأن يستغرقوا بصورة بشعة، وغير معقوله ولا متزنة في الملذات، ما حلّ منها، وما حرم. وأن تسحرهم الجواهر والمظاهر، وتأخذ عقولهم الدنيا وما فيها، من زبارج وبهارج.

ثم كان من الطبيعي في هذه الأجواء أن تبدأ ملامح شخصيتهم الإنسانية بالإنحسار والتلاشي، ليبرز عوضاً عنها ذلك المارد البهيمي الشرس، والضاري، الذي أفلت من القمقم، حين كان يعيش في ظلمات نفوسهم..

هذا المارد العتي، الذي لم يكن ليرحم أحداً يحاول أن يقف في وجهه، بل هو سوف يواجهه بالمزيد من المقت، والكراهية، والحقد، وبروح الإفناء والتدمير، لا يفرق بين نبي، أو ولي، ولا بين رسول ورسالة، ولا بين فضيلة أو تقوىً، ولا بين فطرة أو عقل..

وهذا بالذات هو الذي يفسر لنا ما نال عليّاً «عليه السلام» وأهل بيته «عليهم السلام»، وشيعته، على مدى التاريخ. وما واقعة كربلاء عنا ببعيد.

وهو أيضاً يعطينا التفسير الدقيق لدوافع الحرب التي لا تزال تشن دون هوادة على الإسلام والقرآن، وعلى كل ما هو شرف ودين، وكمال وفضيلة..

ذلك أن عليّاً «عليه السلام» وأهل بيته «عليهم السلام» وشيعته، يلتزمون بتعاليم الإسلام، ويمثلون خط القرآن والإيمان، ويتحلون بفضائل الأخلاق، وكريم السجايا، ويهتدون بهدى العقل والفطرة.


([1]) مناقب آل أبي طالب ج2 ص365 وبحار الأنوار ج40 ص233.

([2]) عيون الأخبار لابن قتيبة ج1 ص130 وبغداد لطيفور ص38 و 40 والمحاسن والمساوي ج2 ص278 والزهد والرقائق (قسم ما رواه نعيم بن حماد) ص52 ومحاضرة الأدباء ج1 ص350 وقاموس الرجال للتستري ج12 ص150 ومعجم البلدان ج4 ص233 وراجع: الإيضاح لابن شاذان ص486 وراجع: قضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ص264 عن ابن قتيبة والحموي.

([3]) تهذيب تاريخ دمشق ج5 ص446 وتذكرة الحافظ ج1 ص31 والسنن الكبرى للبيهقي ج8 ص32 والمصنف لابن أبي شيبة ج6 ص419 وتاريخ مدينة دمشق ج19 ص297 وتذكرة الحفاظ للذهبي ج1 ص31 وجامع المسانيد والمراسيل ج14 ص460 وسير أعلام النبلاء ج2 ص440 وكنز العمال ج15 ص94 والغدير ج6 ص133.

([4]) حياة الصحابة ج3 ص150 وكنز العمال ج5 ص216 و (ط مؤسسة الرسالة) ج13 ص560 عن أبي يعلى، والمصنف للصنعاني ج11 ص439 وفي هامشه عن مسلم وأبي يعلى ومنتخب كنز العمال (مطبوع مع مسند أحمد) ج5 ص216 ومسند أبي يعلى ج1 ص186.

([5]) الإيضاح لابن شاذان ص280 و 286 وفي هوامشه عن مصادر عديدة. وراجع: الإستغاثة ص45 والسنن الكبرى للبيهقي ج7 ص133 والمصنف للصنعاني ج6 ص152 و 154 ونفس الرحمان (ط حجرية) ص29 ومحاضرات الأدباء المجلد الثاني ج3 ص208 والمبسوط للسرخسي ج4 ص196 والمغني لابن قدامة ج7 ص372 و 375 وكشاف القناع للبهوتي ج5 ص73 والغارات للثقفي ج2 ص822 والمسترشد ص74 والمصنف لابن أبي شيبة ج3 ص466 وسنن الدارقطني ج3 ص206 ومعرفة السنن والآثار ج5 ص259 والشرح الكبير لابن قدامة ج7 ص462 و 466 وكنز العمال ج16 ص534 والجرح = = والتعديل للرازي ج2 ص124 وتاريخ مدينة دمشق ج7 ص147 وج19 ص193.

([6]) العثمانية للجاحظ ص211.

([7]) الموطأ لمالك ج2 ص520 والغدير ج6 ص187 عنه، والمحلى لابن حزم ج9 ص303 وبحار الأنوار ج31 ص40 والنص والإجتهاد ص267 وتحفة الأحوذي ج1 ص63 وبداية المجتهد ج2 ص351 وراجع: الإستذكار لابن عبد البر ج5 ص372 وكنز العمال ج11 ص29 وتيسير الوصول ج2 ص188 والمدونة الكبرى لمالك ج3 ص338 و 365 و 383.

([8]) تيسير الوصول ج2 ص188 وبحار الأنوار ج31 ص40.

([9]) التراتيب الإدراية ج2 ص20 وراجع ص21.

([10]) التراتيب الإدراية ج2 ص17.

([11]) التراتيب الإدراية ج2 ص20 عن العتيبة، عن مالك.

([12]) راجع: مروج الذهب ج2 ص320 والمصنف للصنعاني ج5 ص474 وراجع: مجمع الزوائد ج9 ص75 عن الطبراني، والطبقات الكبرى لابن سعد ج3 ص349 والمجروحون ج3 ص350 وتاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص238 و 241 وحياة الصحابة ج2 ص29.

([13]) راجع: لسان العرب ج4 ص210 والنهاية في غريب الحديث ج1 ص438 والغارات للثقفي ج2 ص830 وبحار الأنوار ج32 ص523 وج34 ص319.

([14]) كتاب سليم بن قيس ج2 ص682 وراجع: نفس الرحمان ص568 ـ 570 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج2 ص334 وبحار الأنوار ج30 ص309 وج100 ص165 ومستدرك سفينة البحار ج7 ص109.

([15]) كتاب سليم بن قيس ج2 ص740 ـ 745 و (ط أخرى) ص282 ونفس الرحمان ص568 ـ 570 وبحار الأنوار ج33 ص262 ـ 264. وراجع: الغارات للثقفي ج2 ص824.

([16]) كتاب سليم بن قيس ج2 ص683 و (ط أخرى) ص232 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج2 ص334 وبحار الأنوار ج30 ص310 وج100 ص165 وغاية المرام ج6 ص134.

([17]) المصنف لابن أبي شيبة ج6 ص471 و 472 والمصنف للصنعاني ج10 ص178 وكنز العمال ج5 ص544 والغدير ج6 ص171 وجامع المسانيد والمراسيل ج14 ص446.

([18]) تاريخ الأمم والملوك (ط ليدن) ج9 ص1974 وج10 ص25 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج6 ص14 و 15 والكامل في التاريخ ج4 ص295 والبداية والنهاية ج10 ص28 و 64 والإمامة والسياسة ج2 ص114 و (تحقيق الزيني) ج2 ص114 و(تحقيق الشيري) ج2 ص156 والنزاع والتخاصم ص45 و (ط أخرى) ص135 والعقد الفريد ج4 ص479 وشرح نهج البلاغة ج3 ص267 وضحى الإسلام ج1 ص32 والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج3 ص103.

([19]) راجع: الكامل في التاريخ ج2 ص382 وتاريخ الأمم والملوك (ط مؤسسة الأعلمي) ج2 ص549 وقضاء أمير المؤمنين علي «عليه السلام» ص263 و 264 وإمتاع الأسماع ج14 ص250.

([20]) الأموال ص197 و 198 و 199 والإيضاح ص249 وقضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» ص264 وتاريخ الأمم والملوك (ط مؤسسة الأعلمي) ج2 ص549 والسنن الكبرى للبيهقي ج9 ص74 والمصنف للصنعاني ج7 ص278 والفايق في غريب الحديث ج3 ص258 والمصنف لابن أبي شيبة ج7 ص580 ونيل الأوطار ج8 ص150 والمسترشد ص115 و (ط سنة 1415هـ) ص525 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج12 ص144 والمحلى لابن حزم ج10 ص39 وسبل السلام للكحلاني ج4 ص45 وكنز العمال ج6 ص545 وغريب الحديث لابن سلام ج3 ص341 والنهاية في غريب الحديث ج4 ص361 والنظم الأسلامية لصبحي الصالح ص463 ولسان العرب ج11 ص632.

([21]) تاريخ اليعقوبي ج2 ص139.

([22]) الإيضاح لابن شاذان ص249 والمثالب لابن شهرآشوب (مخطوط) ص108.

([23]) المصنف للصنعاني ج8 ص380 و 381 وج9 ص168 وراجع: المسترشد ص115 والشرح الكبير لابن قدامة ج12 ص451 والمحلى لابن حزم ج9 ص185 والإستذكار ج7 ص420 وكنز العمال ج10 ص359 والمغني لابن قدامة ج12 ص482 وبداية المجتهد لابن رشد الحفيد ج2 ص314 وسبل السلام ج4 ص143.

([24]) المصنف للصنعاني ج8 ص381 وج9 ص168وكنز العمال ج12 ص673.

([25]) راجع في ذلك: المصنف للصنعاني ج7 ص278 و 279 وج10 ص104 و 302 و 103 وتاريخ الأمم والملوك (ط مؤسسة الأعلمي) ج2 ص549 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج12 ص144 والمحلى ج10 ص38 وكنز العمال ج5 ص736.

([26]) الأموال ص197.

([27]) فتوح البلدان ص465 والأموال ص205 وكنز العمال ج4 ص486 وتاريخ مدينة دمشق ج61 ص289 ومعجم ما استعجم ج4 ص1264 والمصنف لابن أبي شيبة ج8 ص33.

([28]) الأموال ص205 والمصنف لابن أبي شيبة ج8 ص35 والطبقات الكبرى لابن سعد ج7 ص127.

([29]) المصنف للصنعاني ج6 ص99 وج10 ص370 والمحلى لابن حزم ج6 ص114 و 115 والمغني لابن قدامة ج10 ص595 و 598 ومسند ابن الجعد ص47 ونصب الراية ج2 ص431 والشرح الكبير لابن قدامة ج10 ص625 وراجع: التمهيد لابن عبد البر ج2 ص131.

([30]) راجع: المصنف للصنعاني ج11 ص325 وتاريخ الأمم والملوك (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص273 والسنن الكبرى للبيهقي ج9 ص39 وج1 ص279 وتاريخ مدينة دمشق ج44 ص277 والمسترشد ص115 والمستدرك للحاكم ج4 ص439 وحياة الصحابة ج2 ص82 وكنز العمال ج3 ص148 عن ابن أبي شيبة، والبيهقي و (ط مؤسسة الرسالة) ج5 ص689 والنظم الإسلامية لصبحي الصالح ص310.

([31]) المصنف للصنعاني ج5 ص476.

([32]) تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص240 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج12 ص186 وكنز العمال ج12 ص681 ـ 684 والطبقات الكبرى لابن سعد ج3 ص346 وتاريخ مدينة دمشق ج44 ص414 وتاريخ المدينة لابن شبة ج3 ص903.

([33]) الآية 18 من سورة المائدة.

([34]) الكنز المرصود ص66 ومقارنة الأديان (اليهودية) ص272.

([35]) مقارنة الأديان (اليهودية) ص212 و 213.

([36]) مقارنة الأديان (اليهودية) ص272. الكنز المرصود ص67 و 68 وعن: التلمود شريعة إسرائيل ص25.

([37]) الكنز المرصود ص67 وراجع ص68.

([38]) الكنز المرصود ص67 وراجع ص68.

([39]) الكنز المرصود ص69.

([40]) الكنز المرصود ص66 واليهود قديماً وحديثاً ص69 ومقارنة الأديان (اليهودية) ص272.

([41]) الكنز المرصود في قواعد التلمود ص72.

([42]) اليهود قديماً وحديثاً ص14 وتفسير الجواهر للطنطاوي ج2 ص136.

([43]) الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ج1 ص301.

([44]) جامع البيان للطبري ج4 ص52 وضحى الإسلام ج1 ص18 عنه.

([45]) نهج البلاغة (بشرح عبده) ج1 ص66 الخطبة رقم 26. وراجع الخطبة رقم 187 أيضاً، وبحار الأنوار ج18 ص226 وشجرة طوبى ج2 ص224 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص19.

([46]) تاريخ الأمم والملوك (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص18 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج7 ص49 و (ط مكتبة المعارف) ج4 ص37 وراجع: الأخبار الطوال ص121 وحياة الصحابة ج1 ص220.

([47]) مجمع الزوائد ج6 ص218 وج8 ص237 عن الطبراني، وحياة الصحابة ج3 ص770 عنه، ومسند أبي يعلى ج13 ص338 وصحيح ابن حبان ج14 ص522 وموارد الظمآن ج5 ص360 وتاريخ مدينة دمشق ج46 ص159 وسير أعلام النبلاء ج3 ص70.

([48]) الآية 54 من سورة المائدة.

 
 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان