علي
قاتل الخلفاء كلهم:
فقد ورد في بعض الإحتجاجات التي
جرت:
أن المغيرة اتهم علياً «عليه السلام» بأنه:
1 ـ
أراد قتل النبي «صلى الله عليه وآله»([1]).
ثم اتهمه عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة بأنه
«عليه السلام» قد:
2 ـ
سمّ أبا بكر..
3 ـ
شارك في قتل عمر.
4 ـ
ثم قتل عثمان([2]).
ونقول:
أما بالنسبة لقتل النبي «صلى الله عليه وآله»،
فحسبنا أن نقول:
أولاً:
حدّث العاقل بما لا يليق له، فإن لاق له، فلا عقل له.. أما بالنسبة
لأبي بكر وعمر وعثمان، فكذلك إنه «عليه السلام» لا يتعامل بهذه
الطريقة، لأن الإيمان قيد الفتك، فلا يفتك مؤمن([3]).
ثانياً:
أن الإقدام على سمّ أبي بكر، وقتل عمر، وعثمان، لا يخدم قضية علي
«عليه السلام»، بل هو يلحق بها أبلغ الضرر..
وهو على الأقل لا يجديه شيئاً فيما يرمي إليه..
ثالثاً:
لو أراد أن يقتلهم، فقد كان قادراً على ذلك في يوم مهاجمتهم إياه
في بيته، حيث قتلوا ولده محسناً، ثم ضربوا زوجته، فانتهى بها الأمر
إلى أن قضت شهيدة مظلومة. ثم هتكوا حرمة بيته.. ولماذا يحتاج إلى
الإنتظار كل هذه السنوات، وما هي المصلحة في ذلك..
وفي جميع الأحوال نقول:
إن هذه الإدعاءات لا تستحق البحث، أو أي درجة من
الإهتمام، فإنها في غاية السخافة والسقوط والتفاهة..
وذكروا:
أن أبا لؤلؤة شكا مولاه المغيرة بن شعبة إلى عمر بن الخطاب، أنه قد
وظف عليه مئة درهم في كل شهر، وهو لا يقدر عليها.
فأرسل عمر إلى المغيرة، فدعاه،
وأوصاه بغلامه، وقال:
اتق الله عز وجل، ولا تكلفه ما لا يطيق، وإن كان كافراً.
ثم شكاه ثانية، فقال له عمر:
إني قد أوصيته بك، فاتق الله عز وجل، وأطع مولاك.
قال:
فسكت أبو لؤلؤة، ولم يقل شيئاً.
ثم قال له عمر:
أي الأعمال تحسن؟!
فقال:
أحسن كل عمل يعمله الناس، وأحسن ما أعمل أنقر الأرحية.
فقال عمر:
فلو اتخذت لنا رحى اليد، فإنا محتاجون إليها.
فقال له أبو لؤلؤة:
أفعل ذلك يا أمير المؤمنين، لأتخذنّ لك رحى يسمع بها أهل المشرق
والمغرب.
ثم انصرف أبو لؤلؤة، فانصرف عمر
إلى أصحابه، فقال:
إنه تهددني هذا العلج وتوعدني، وقد رأيت الشر في وجهه، والله بالغ
أمره..([4]).
ثم تذكر الروايات:
أن أبا لؤلؤة استعد لتنفيذ ما عزم عليه، ثم باشر التنفيذ، ونحن
نختار هنا النص الذي أورده ابن أعثم، لتضمنه خصوصيات تحتاج إلى
بيان بعض المآخذ.. ثم نشير إلى بعض ما ألمحت إليه سائر النصوص
أيضاً، فنقول:
قال ابن أعثم:
وانطلق أبو لؤلؤة فاتخذ خنجراً طويلاً، له رأسان
وبينهما مقبض، ثم أقبل حتى دخل المسجد متنكراً، وذلك يوم الأربعاء
في وقت الفجر، قال: فأذن عمر، وأقام الصلاة، وتقدم حتى وقف في
محرابه، فجعل يسوي الصفوف عن يمينه وشماله، وأبو لؤلؤة في الصف
الأول ملفع الرأس.
فلما كبر عمر، وكبر الناس معه بدر أبو لؤلؤة من
الصف والخنجر في يده، فجرحه ثلاث جراحات: جراحتين في سرته، وجراحة
فوق سرته، ثم شق الصفوف وخرج هاربا.
قال:
وعلم عمر أنه مقتول، فأمر عبد الرحمن بن عوف أن يصلي بالناس، فصلى
في الركعة الأولى بأم الكتاب و {قُلْ
يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}،
وفي الركعة الثانية بأم الكتاب و {قُلْ
هُوَ اللهُ أَحَدٌ}.
فلما سلم وثب الناس يتعادون خلف
أبي لؤلؤة، وهم يقولون:
خذوه، فقد قتل أمير المؤمنين! فكان كلما لحقه رجل من المسلمين
ليأخذه وجأه أبو لؤلؤة بالخنجر، حتى جرح من المسلمين ثلاثة عشر
رجلاً، مات منهم ستة نفر.
قال:
ولحقه رجل من ورائه فألقى على رأسه برنسا فأخذه، فلما علم أبو
لؤلؤة أنه قد أخذ وجأ نفسه وجأة فقتل نفسه.
قال:
واحتمل عمر إلى منزله، وهو لما به.
قال:
واجتمع إليه الناس، فقال عمر: أبو لؤلؤة قتلني، أم غيره؟!
فقالوا:
أبو لؤلؤة يا أمير المؤمنين!
فقال:
الحمد لله الذي لم يجعل منيتي على يدي رجل مسلم، فأريد أن أخاصم
يوم القيامة ذا سجدتين.
قال:
ثم أغمي عليه ساعة حتى فاتته صلاة الظهر، فأيقظوه وقالوا: الصلاة
يا أمير المؤمنين!
فقال عمر:
نعم، لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، لكني على ما ترون.
قال:
ثم صلى عمر.
ودعي له بالطبيب، فسقاه نبيذاً حلواً من نبيذة،
فخرج النبيذ من جراحته، فلم يدر أنبيذ هو أم دم.
فدعي له بطبيب من الأنصار من بني معاوية فسقاه
لبناً. فإذا اللبن قد خرج من جراحته أبيض.
فقال له الطبيب:
أوص يا أمير المؤمنين فإنك ميت.
فقال عمر:
صدقتني أخا الأنصار عن نفسي([5]).
قال ابن أعثم:
ثم استعبر باكياً، فقال له ابن
عباس:
لا تبك يا أمير المؤمنين، لا أبكى الله عينك، وأبشر بالخير كله،
فوالله، لقد كان إسلامك عزاً، وهجرتك فتحاً وخلافتك رحمة، ولقد
أسلمت حين كفر الناس، ونصرت رسول الله «صلى الله عليه وآله» حين
خذله الناس.
وأنت من الذين أنزل الله تبارك وتعالى فيهم:
{لَقَدْ
رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ
الشَّجَرَةِ}،
وأنت من الذين أنزل الله في حقهم: {لِلْفُقَرَاءِ
المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ
وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَاناً}.
ولقد صحبت رسول الله «صلى الله عليه وآله» حتى بشرك
بالجنة في غير موطن، ولقد خرج من الدنيا وهو عنك راض.
ثم وليت أمور المسلمين بأحسن ما وليها أحد، فأعز
الله عز وجل بك الاسلام، وأذل بك العدو، حتى فتحت الديار، ومصرت
الأمصار، وأقمت المنار، ودونت الدواوين، وجندت الأجناد، فعدلت في
رعيتك، وأديت فيهم الأمانة، فجزاك الله عن نبيك وعن خليفته وعن هذه
الأمة خير الجزاء.
قال:
فقال له عمر: ويحك يا بن عباس، أو تشهد لي بهذا غدا عند الله؟!
قال:
فأمسك ابن عباس، ولم يتكلم شيئاً، فقال له علي «عليه السلام»: نعم
فاشهد له بذلك يا بن عباس!
فقال ابن عباس:
نعم، أنا أشهد لك بذلك عند الله يا أمير المؤمنين.
فقال عمر:
والله يا بن عباس، لو كانت لي بما فيها فافتديت من هول يوم المطلع.
ولوددت أني أخرجت من هذه الدنيا كفافاً لا لي ولا علي([6]).
وقد عبر عمر في هذه المناسبة أيضاً عن شكوك كانت
تساوره حول تآمر بعض الصحابة عليه، فقد ورد: أنه لما طعن دخل علي
«عليه السلام» عليه، فقال عمر: يا علي، أعن ملأٍ منكم ورضى كان
هذا؟!
فقال علي «عليه السلام»:
ما كان عن ملأٍ منا ولا رضى. ولوددنا أن الله زاد من أعمارنا في
عمرك([7]).
علي
غسّل عمر وحنطه وكفنه:
قال ابن أعثم:
ثم توفي عمر يوم الأربعاء، بالعشي، ليلة الخميس،
لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة النبوية
الشريفة، وهو يومئذ ابن ثلاث وستين سنة([8]).
وقال ابن أعثم أيضاً:
كان جعفر بن محمد يقول لأبي:
علي بن أبي طالب «عليه السلام»
هو الذي غسل عمر بيده، وحنطه، وكفنه. ثم وضعه على
سريره. وأقبل على الناس بوجهه فقال:
أيها الناس! هذا عمر بن الخطاب قد قضى نحبه، ولحق
بربه، وهو الفاروق، وقرن من حديد، وركن شديد، كان لا تأخذه في الله
لومة لائم،
عقل من الله أمره ونهيه، فكان لا يتقدم ولا يتأخر
إلا وهو على بينة من ربه، حتى كأن ملكا يسدده ويوفقه.
كان شفيقاً على المسلمين، رؤوفاً بالمؤمنين، شديداً
على الكافرين، كهفاً للفقراء والمساكين، والأيتام، والأرامل،
والمستضعفين، كان يجيع نفسه ويطعمهم، ويعري نفسه ويكسيهم.
كان زاهداً في الدنيا، راغباً في الآخرة، فرحمه
الله حياً وميتاً!
والله ما من أحد من عباد الله عز وجل أحب إلي من أن
ألقى الله عز وجل بمثل عمله من هذا المسجى بين أظهركم.
قال:
ثم أقبل علي «عليه السلام» على صهيب بن سنان مولى بني تميم فقال
له: تقدم رحمك الله، فصل عليه كما أمرك.
قال:
فتقدم صهيب، فصلى على عمر، فكبر عليه أربعاً([9]).
ونقول:
إننا سوف نذكر ما نرى أنه ينبغي الوقوف عنده هنا في
ضمن ما يلي من فقرات:
إن روايات قتل عمر ظاهرة التناقض والاختلاف، حتى لا
تكاد تتفق في كلمة واحدة إلا في أن أبا لؤلؤة قد قتل عمر بن
الخطاب. وذلك يدل على وجود أكاذيب متعمدة كثيرة فيها، تحتم على
الباحث الحذر الشديد في اصدار الأحكام، وتقرير حقيقة ما جرى..
قالوا:
كان عمر لا يأذن لسبي قد احتلم بدخول المدينة، ولكن المغيرة أقنعه
ـ وهو على الكوفة ـ بأن يأذن له بأن يدخل أبا لؤلؤة المدينة، لأن
عنده أعمالاً كثيرة، فهو حداد، نقاش، نجار، لينتفع به الناس، فأذن
له([10]).
وحين طعن عمر قال:
إني قد كنت نهيتكم أن تجلبوا إلينا من العلوج أحداً، فعصيتموني([11]).
مع أن اتهامهم بالعصيان لا
يتلاءم مع قولهم:
إن المغيرة كان قد استأذنه في أمر أبي لؤلؤة، فأذن له.
وقد أشرنا في بعض فصول هذا الكتاب إلى سياسات عمر
تجاه غير العرب، وهي سياسات مرفوضة من الناحية الدينية الإسلامية،
كما هو معلوم.. ولعل خوفه من نتائج هذه السياسات دفعه إلى اتخاذ
قرار منعهم من دخول المدينة، لكي يأمن على نفسه منهم، ولا نرى
سبباً لمنعهم سوى هذا.
ولا يصح تشبيه هذا بما فعله فرعون من ذبح أبناء بني
إسرائيل، لأنهم أخبروه بأنه يقتل على يد واحد منهم.. فإن عمر لم
يقتل الموالي، ولا ذبح أبناءهم، ولكنه اكتفى بإصدار هذا المنع..
وسيأتي توضيح ذلك إن شاء الله تعالى.
وسؤالنا الآخر هنا هو:
لماذا يسعى المغيرة، وهو وال على الكوفة إلى أن يدخل غلامه إلى
المدينة، ويجعله فيها؟! ولماذا لا يبقيه عنده لينتفع به أهل
الكوفة؟!
أترى المغيرة كان يرغب أو يخطط لاغتيال عمر على يد
ذلك الغلام؟!
أم أنه كان يرغب بالحصول على المال من جهته، بسبب
ما يحسنه من حرف وصناعات؟! مع أن البلاد كلها كانت تحتاج إلى هذه
الصناعات وليس المدينة وحدها.
إن سياق الرواية المتقدمة لا يبرر تهديد أبي لؤلؤة
لعمر، فضلاً عن أن يبرر قتله إياه، فحتى لو أن عمر اعتقد بأن ما
يطلبه المغيرة من غلامه ليس كثيراً، فإن غضب أبي لؤلؤة يجب أن ينصب
أولاً وبالذات على المغيرة، لا على غيره.
على أن قول أبي لؤلؤة لعمر:
لأصنعن لك رحى تتحدث بها الناس، ليس فيه أي تهديد ظاهر، فلعله
يعتقد أن لديه من المهارة ما يجعله يصنع له رحى فريدة، يتسامع
الناس بها في المشرق والمغرب، فلماذا فهم عمر كلامه على أنه
تهديد؟!.
ويؤيد ما ذكرناه أن سياق
الروايات يدل على:
أن ما صدر من أبي لؤلؤة لم يكن مجرد فورة غضب، وانفعال مفاجئ، بل
هو قد فكر فيه، وخطط له. ونفذه عن سابق علم وتصميم، وقد مضت ليالٍ
حتى فعل ما فعل([12]).
إلا إذا فرض:
أن ثمة أمراً قد حصل بين عمر وبين أبي لؤلؤة أوجب أن يتخذ منه
موقفاً عدائياً دفع أبا لؤلؤة إلى توجيه هذا التهديد المبطن إليه.
ما ذكرته رواية ابن أعثم من أن أبا لؤلؤة قد وقف في
الصف الأول وهو ملفع الرأس يثير الريب أيضاً، فإن وجود رجل ملفع
الرأس بين ذلك الجمع يدعو الناس إلى التساؤل، ويدفعهم إلى كشف أمر
من يفعل ذلك، ولا سيما إذا آثر الوقوف في الصف الأول كما تقوله
رواية ابن أعثم، وأشار إليه المقدسي([13])،
وخصوصاً إذا كان ذلك في صلاة الصبح.
وكان المفروض بعمر الذي كان يسوي الصفوف بنفسه قبل
أن يبدأ بالصلاة أن يرتاب في هذا الملفع، ويكشف أمره، ولا بد أن
يتأكد لديه الشك حين يعرف أنه أبو لؤلؤة، الذي لا يتوقع حضوره
للصلاة، فإنهم يزعمون حسبما صرحت به نفس الرواية التي نتحدث عنها:
أنه كان كافراً.. فلماذا يحضر الكافر إلى المسجد، ويقف للصلاة في
الصف الأول.
وهكذا يقال بالنسبة للرواية
التي تقول:
إن أبا لؤلؤة دخل في الناس، وبيده خنجر إلخ([14])..
فإذا ضممنا إلى ذلك:
أن عمر قد فهم من كلام أبي لؤلؤة قبل ليال التهديد والوعيد له؛ فلا
بد أن تتأكد لديه ولدى من أخبرهم بتهديده نوايا أبي لؤلؤة السيئة..
وكان على عمر أن يحتاط ويحترس لنفسه ولمن يتعلق به.
وعمر نفسه يقول أيضاً:
إنه رأى في المنام كأن ديكاً أبيض نقره نقرتين، وفسّر ذلك بأن
الديك رجل أعجمي، وما النقرة إلا طعنة([15]).
أما رواية ابن سعد؛ فإنها تذكر:
أن أبا لؤلؤة بعد أن قتل عمر انحاز على أهل المسجد، فطعن أحد عشر
رجلاً منهم سوى عمر، ثم انتحر بخنجره.
ثم تذكر الرواية نفسها:
أن عمر أمرهم بأن يصلي بهم عبد الرحمان، فصلى بالناس، فأنكر الناس
صوت عبد الرحمان([16]).
وهذا كلام عجيب وغريب. وذلك لما يلي:
ألف:
هل حين طعن أبو لؤلؤة أحد عشر رجلاً، لم يصرخ أولئك المطعونون؟!
ولم يستغيثوا؟! ولم يقع أحد منهم إلى الأرض؟! ولم يعرف أحد من
المصلين بأمرهم؟!
ب:
لماذا حين طُعِن عمر لم يعلم به أيضاً أولئك المصلون؟!
فإن كانوا قد علموا به، وعرفوا بجرح أحد عشر رجلاً،
فلماذا أنكروا صوت عبد الرحمان بن عوف؟!
وإن لم يعرفوا لا بهذا ولا بذاك، فما هو السبب في
ذلك؟!
هل كانت كثرتهم هي التي حجبت أصوات المستغيثين،
وصراخ المطعونين؟!
وإن حجبت، فهل تحجب ذلك عن الجميع؟! أو عن البعيدين
فقط؟!
ج:
كيف سمعوا صوت عبد الرحمان بن عوف، ولم يسمعوا ولم يعرفوا بما جرى
لخليفتهم، ولأحد عشر رجلاً منهم؟!.
د:
كيف انتظمت لهم صلاة بعد طعن إمام تلك الصلاة، وطعن هذا المقدار من
المصلين، ومع سائر ميزات هذا الإمام وأهميته بالنسبة لهم..
هـ:
إن رواية ابن أعثم ومن تابعه قد ناقضت رواية غيره،
حيث تضمنت: أن أبا لؤلؤة طعن ثلاثة عشر رجلاً، بعد فراغهم من
الصلاة وذلك حين تعادوا خلفه ليأخذوه.
ولكن رواية ابن سعد، ومن تابعه
تقول:
إنه طعنهم قبل أن يخرج من المسجد([17]).
قد ذكرت الرواية المتقدمة:
أن أبا لؤلؤة طعن عمر بمجرد أن كبر للصلاة، فأمر عمر عبد الرحمان
أن يصلي بالناس.. فلما سلم وثب الناس يتعادون خلف أبي لؤلؤة، فطعن
منهم ثلاثة عشر رجلاً..
وهو كلام غريب حقاً..
ألف:
إذ لماذا صبر الناس عن الخروج في طلب قاتل خليفتهم إلى أن فرغوا من
الصلاة؟! أم أن شدة اهتمامهم بصلاتهم منعهم من الالتفات إلى شيء
آخر؟!
وكيف نصدق ذلك عنهم، وقد حكى الله لنا عنهم ما
يناقضه وينافيه، فقال:
{وَإِذَا رَأَوْا
تِجَارَةً أَوْ لَهواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً
قُلْ مَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ
وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}([18]).
ب:
لماذا بقي أبو لؤلؤة قريباً منهم إلى حد أنهم قد لحقوه بهذه
السهولة رغم مرور حوالي ثلاث دقائق على فراره؟!.
ج:
كيف نوفق بين هذه الرواية وبين الرواية التي تقول: إن أبا لؤلؤة
طعن نفسه بخنجره، فقتل نفسه بالمسجد؟!([19]).
وقد ادعى ابن أعثم الكوفي:
أن جعفر بن محمد كان يقول: إن علياً «عليه السلام» هو الذي غسّل
عمر بيده، وحنطه، وكفنه، ثم وضعه على سريره، ثم أثنى عليه أمام
الناس([20]).
ونقول:
ألف:
لو صح أن علياً «عليه السلام» هو الذي تولى ذلك كله. لاهتم به
الرواة، ودونه المؤلفون، واحتج به المحتجون، ولطفحت به الكتب
والمصنفات، وضبطت أسانيد الروايات.
ولكننا لم نصادف أحداً ذكر هذا إلا ما رووه عن جعفر
بن محمد، إما مرسلاً، أو بواسطة
أنس بن عياض الليثي.
ب:
لماذا لم يشارك علياً «عليه السلام» في تغسيله وتحنيطه وتكفينه أحد
من الصحابة؟! ولا سيما أمثال ابن عوف وعثمان، فقد كانا أقرب إلى
عمر من حيث المسلك والمنحى.
ج:
واللافت هنا: أن رواية هذا الحديث منحصرة بالإمام الصادق «عليه
السلام»، فلم يروه عدوي، ولا تيمي، ولا أموي، ولا زبيري!! فهل فعل
ذلك «عليه السلام» مستسرّاً به عن كل أحد؟! ولماذا تأخرت رواية ذلك
إلى عهد الإمام الصادق.. أي إلى أكثر من مئة سنة على وفاة عمر؟!
ولماذا لم يرو ذلك شيعة الإمام جعفر عن الإمام جعفر
«عليه السلام»؟! وما هي غاية الإمام جعفر «عليه السلام» من نقل
ذلك؟! هل يريد أن: يقرر براءة عمر من كل ما يقال: إنه قد فعله مع
علي والزهراء «عليهما السلام»؟!
أو أنه يريد أن يظهر علياً «عليه السلام» بصورة
الراضي عن الشورى التي صنعها عمر؟! ليصبح مجيء عثمان للخلافة
مقبولاً ومعقولاً ومبرراً؟!.
د:
عن يحي بن
بكير قال عن عمر:
«وصلى
عليه صهيب، وولي غسله ابنه عبد الله، وكفنه في خمسة أثواب»([21]).
إن المعروف الظاهر من مذهب أهل
البيت «عليه السلام»:
هو أنه يجب في صلاة الميت خمس تكبيرات. وقد ذكرنا ذلك بالتفصيل في
بحث لنا استعرضنا فيه الروايات التي تؤكد صحة ذلك.
ولكن عمر بن الخطاب رد الناس إلى أربع تكبيرات.
وذلك لأنه لم يعرف السبب الذي دعا النبي إلى التكبير أربعاً على
بعض الناس، وعدوا ذلك من أولياته([22]).
أي من الأمور التي كان عمر أول من أحدثها.
وروي عن الإمام الصادق «عليه
السلام»:
أن النبي «صلى الله عليه وآله» كان يكبر خمساً. «فلما نهاه الله عز
وجل عن الصلاة على المنافقين كبر وتشهد، ثم كبر وصلى على النبيين،
ثم كبر ودعا للمؤمنين، ثم كبر الرابعة وانصرف، ولم يدع للميت»([23]).
وبمعناه غيره.
وهذا يشير إلى:
أن النهي عن الصلاة على المنافق يراد به النهي عن الدعاء له بعد
الرابعة، فحذف الدعاء يقتضي حذف التكبيرة بعده، فتصير التكبيرات
أربعاً.
وقالوا:
إن
عمر بن الخطاب توفى ليلة الأربعاء لثلاث ليال بقين من ذي الحجة سنة
23. فخرجوا به بكرة يوم الأربعاء، فدفن في بيت عائشة مع النبي
«صلى الله عليه وآله»
وأبي بكر.
وتقدم صهيب فصلى عليه.
وتقدم قبل ذلك رجلان من أصحاب
رسول الله «صلى الله عليه وآله»:
علي، وعثمان. قال: فتقدم واحد من عند رأسه، والآخر من عند رجليه.
فقال عبد الرحمن:
لا إله إلا الله، ما أحرصكما على الإمرة!!
أما علمتما أن أمير المؤمنين
قال:
ليصل بالناس صهيب؟!
فتقدم صهيب فصلى عليه([24]).
ونقول:
لا ريب في كذب هذه الرواية..
فأولاً:
إن علياً «عليه السلام» لم يكن ليقدم على التصدي للصلاة على أحد
إذا كان يعلم أنه قد أوصى بأن يصلي عليه رجل بعينه.
ثانياً:
إن تصديه للصلاة على عمر ـ لو صح ـ فإنه لا يفيده في الحصول على
الإمرة، لا سيما وأن ذلك لم يحصل بأمر من الرسول «صلى الله عليه
وآله»، بل ولا بأمر من عمر نفسه، ليقال: إنه قد رشحه للخلافة، ورآه
أهلاً لها.
ثالثاً:
لو كانت الصلاة تفيد علياً «عليه السلام» في الإمرة لأفادت صهيباً
فيها، لا سيما وأنه إنما يصلي بأمر من عمر نفسه.
إلا أن يقال:
المقصود أنها تفيده في تقدمه على سائر أركان الشورى..
ويجاب عن ذلك:
بأنها إنما تفيد لو كان الأمر بيد الناس، أما إذا كان بيد أركان
الشورى، فلا يقدم ذلك ولا يؤخر في بلورة آرائهم.
رابعاً:
إن علياً «عليه السلام» كان يعرف أن شرائط الخلافة والإمامة شيء،
وشرائط إمامة الصلاة شيء آخر، وأن الأهلية للصلاة لا تعني الأهلية
للخلافة. ونقصد بالصلاة هنا صلاة الميت.
والحقيقة:
هي أن الغرض من إشاعة هذه الأباطيل هو تصحيح أو تأييد استدلالهم
على خلافة أبي بكر بما زعموه: من أن النبي من أمره بالصلاة بالناس
في مرضه الذي توفي فيه..
مع أن ذلك لم يثبت بل الثابت خلافه.. ولو ثبت فهو
لا يفيد في ذلك كما أوضحناه في كتابنا: الصحيح من سيرة النبي
الأعظم «صلى الله عليه وآله».
وفي نص آخر ـ ولعله هو الصحيح
ـ:
عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: حدثني الشعبي، قال: لما مات عمر،
وأدرج في أكفانه، ثم وضع ليصلى عليه، تقدم علي بن أبي طالب فقام
عند رأسه، وتقدم عثمان فقام عند رجليه، فقال علي «عليه السلام»:
هكذا ينبغي أن تكون الصلاة.
فقال عثمان:
بل هكذا.
فقال عبد الرحمن:
ما أسرع ما اختلفتم. يا صهيب! صل على عمر، كما رضي أن تصلي بهم
المكتوبة. فتقدم صهيب فصلى على عمر([25]).
ونقول:
أولاً:
ظاهر الرواية: أن الخلاف بين علي «عليه السلام» وعثمان.. إنما هو
في كيفية الصلاة على عمر، فعلي «عليه السلام» يقول: إن المصلي على
الميت يجب أن يقف إلى جهة الرأس (أي أن يقف مقابل صدره، فيكون إلى
الرأس أقرب منه إلى رجلي الميت).
أما عثمان، فيقول:
بل يجب أن يقف المصلي إلى جهة رجلي الميت، (أي أن يكون مقابل النصف
الأسفل من جسده، من جهة الرجلين)..
ولم يكونا بصدد التسابق على الصلاة على عمر..
ثانياً:
يؤيد ذلك: ما زعموه من وصية عمر لصهيب: بأن يكون هو الذي يصلي عليه
كما يوحي به كلام عبد الرحمان بن عوف. فلماذا حور عبد الرحمان بن
عوف الموقف ليصبح تزاحماً على الصلاة، وتسابقاً عليها من أجل
الخلافة؟!
ثالثاً:
إذا كان عمر قد رضي بأن يصلي صهيب المكتوبة بالناس، فلماذا حرمه من
أمر الخلافة؟! لم يعتبر الناس ذلك تقديماً له، وترشيحاً للخلافة؟!
ويسألوا عمر عن الفرق بين صلاته، وصلاة أبي بكر
المزعومة في مرض النبي «صلى الله عليه وآله»؟!.
ولماذا لم يجعله عمر في جملة أركان شورى الخلافة؟!
فإن عمر ـ كما يزعمون ـ هو الذي استدل بصلاة أبي بكر بالناس في مرض
رسول الله «صلى الله عليه وآله» على أهلية أبي بكر للخلافة..
قالوا:
لما أحس عمر بالموت قال لابنه عبد الله: اذهب إلى
عائشة وأقرئها مني السلام، واستأذنها أن أقبر في بيتها مع رسول
الله ومع أبي بكر.
فأتاها عبد الله، فأعلمها،
فقالت:
نعم وكرامة، ثم قالت: يا بني أبلغ عمر سلامي وقل
له: لا تدع أمة محمد بلا راع، استخلف عليهم ولا تدعهم بعدك هملاً،
فإني أخشى عليهم الفتنة.
فأتى عبد الله، فأعلمه فقال:
ومن تأمرني أن أستخلف، لو أدركت أبا عبيدة بن
الجراح باقياً، استخلفته ووليته، فإذا قدمت على ربي فسألني وقال
لي: من وليت على أمة محمد؟!
قلت:
أي رب! سمعت عبدك ونبيك يقول: لكل أمة أمين وأمين
هذه الأمة أبو عبيدة ابن الجراح.
ولو أدركت معاذ بن جبل
استخلفته، فإذا قدمت على ربي فسألني:
من وليت على أمة محمد؟!
قلت:
أي رب! سمعت عبدك ونبيك يقول: إن معاذ بن جبل يأتي
بين يدي العلماء يوم القيامة.
ولو أدركت خالد بن وليد،
لوليته، فإذا قدمت على ربي فسألني:
من وليت على أمة محمد؟!
قلت:
أي رب! سمعت عبدك ونبيك يقول: خالد بن وليد سيف من
سيوف الله سله على المشركين. ولكني سأستخلف النفر الذي توفي رسول
الله وهو عنهم راض([26]).
وقد يتساءل المرء:
لماذا يستأذن عمر بن الخطاب عائشة في الدفن مع النبي «صلى الله
عليه وآله»؟!.. فإن المفروض:
1 ـ
هو أن النبي «صلى الله عليه وآله» كما قرره أبو بكر، وعمر معه لا
يورث..
2 ـ
إن تركة النبي «صلى الله عليه وآله» لم تقسم بعد وفاته.. فالمفروض
هو الإستئذان من جميع الورثة، لا من خصوص عائشة..
3 ـ
إن كان لا بد من استئذان أحد بعينه، فقد كان يكفي عمر أن يستأذن
ابنته حفصة، فإنها ترث كما ترث عائشة..
4 ـ
إن عمر كان يرى: أنه لا يحتاج إلى إذن أحد، فإنه حين سمع البكاء
على أبي بكر، وحرمت عائشة على هشام بن الوليد أن يدخل عليها البيت،
قال له عمر: أدخل فقد أذنت لك، فدخل وأخرج أم فروة أخت أبي بكر،
فضربها عمر..
ويمكن أن يجيب بعض الناس عن ذلك، بأن النبي «صلى
الله عليه وآله» كان قد ملَّك الحجر لأزواجه في حياته، والمفروض أن
الحجرة التي دفن النبي «صلى الله عليه وآله» فيها كانت لعائشة، فلا
بد من الإستئذان منها دون سائر الورثة.
ولكن هذا الجواب باطل.
أولاً:
لأننا قد أثبتنا أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد دفن في بيت
فاطمة «عليها السلام»، لا في بيت عائشة.. فالمفروض بعمر: أن يستأذن
من ورثتها «عليها السلام»، لأن بيتها كان لها، وليس هو من جملة
تركة رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ليمكن لعائشة أن يكون لها
دور في الإذن بالدفن فيه..
ثانياً:
لو سلمنا أنه دفن في بيت عائشة، فقد قلنا أكثر من مرة: إنه لا دليل
على أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد ملك الحجر لأزواجه سوى
سكناهن فيها.. وهي لا تدل على ذلك. فإن كانت السكنى تكفي لذلك، فإن
فدكاً كانت بيد فاطمة في حياة رسول الله فهذا يكفي للحكم بأنها
لها، وهي التي نزلت آية التطهير في حقها.. فلماذا تعطى الحجرة
لعائشة، وتسلب فدك من فاطمة «عليها السلام».
نقول هذا.. على الرغم من أن الله سبحانه قد نسب
الحجر في القرآن إلى الأزواج، فإنه نسبها إلى النبي «صلى الله عليه
وآله» في آية أخرى في نفس السورة.
وذلك يشير إلى أن نسبة البيوت إليهن، لأجل سكناهن
فيها، لا لأجل ملكيتهن لها.