الفصل السابع: إيضاحات عامة لحديث المناشدة..

   

صفحة : 263-296   

الفصل السابع: إيضاحات عامة لحديث المناشدة..

مع حديث المناشدة:

إن لنا مع المناشدات المتقدمة العديد من الوقفات، التي نذكرها ضمن العناوين التالية:

مصادر حديث المناشدة:

روي حديث المناشدة مطولاً تارة ومختصراً أخرى.. مع اختلاف في مراتب اختصاره.. فهناك من يقتصر على ذكر فقرة واحدة، وهناك من يذكر فقرتين، أو ثلاثة، وهناك من يذكر العديد من الفقرات، تصل إلى نصف صفحة، أو صفحة أو صفحتين، أو صفحات، يسيرة تارة وكثيرة أخرى..

ولكنها تتفق كلها على أن ثمة مناشدة حصلت من قبل علي «عليه السلام» لأصحاب الشورى..

وإليك طائفة من المصادر التي ذكرت ذلك، وهي التالية:

المناقب للخوارزمي ص313 ح314.

وفرائد السمطين ج1 ص19ـ 322.

وكنز العمال ج5 ص716 ـ 726.

وكفاية الطالب ص386 و387، عن كتاب الطير للحاكم النيسابوري

ولسان الميزان ج2 ص156 و157.

وميزان الإعتدال ج1 ص441 و442.

وتاريخ مدينة دمشق ج42 ص431 ـ 436.

والخصال ج2 ص553.

وبحار الأنوار ج31 ص315.

وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص167 و168.

والإستيعاب (مطبوع بهامش الإصابة) ج3 ص35.

واللآلي المصنوعة ج1 ص361 ـ 363.

وغاية المرام ص564.

والصواعق المحرقة ص126 و156.

والأمالي للطوسي ص7 و212 (وفي ط أخرى: 322 ح667 وص554 ح1169) وفي (ط أخرى) ج1 ص343 وج1 ص159 و166).

والضعفاء الكبير للعقيلي ج1 ص211 ح258.

والتاريخ الكبير للبخاري ج2 ص382.

والغدير لابن جرير الطبري، ورواه الذهبي عنه.

ورواه الطبراني بطوله.

والدارقطني.

والأمالي للحسين بن هارون الضبي (مخطوط) الورق 140 في المجموع 22 في المكتبة الظاهرية..

وعن ابن مردويه.

والأمالي لعلي بن عمر القزويني (مخطوط) في مجاميع المكتبة الظاهرية.

ومناقب الإمام علي بن أبي طالب «عليه السلام» لابن المغازلي ص 112 ح155.

وجمع الجوامع ج2 ص165 و166 عن أبي ذر، وج2 ص166 و167.

والتفسير الكبير للرازي ج12 ص28.

والدر النظيم ج1 ص116.

وابن عقدة.

ومختصر تاريخ دمشق ج16 ص157 و 158.

وإرشاد القلوب للديلمي ج2 ص51.

والطرائف لابن طاووس ج2 ص411.

و... و....

سند روايات المناشدة:

تقدم نقل ابن عساكر عن العقيلي قوله عن سند إحدى روايتي أبي الطفيل: «فيه رجلان مجهولان: رجل لم يسمه زافر، والثاني: الحارث بن محمد..»([1]).

وقال: «قال أبو جعفر العقيلي: وهذا من عمل ابن حميد، أسقط الرجل، وأراد أن يجوّد الحديث، والصواب ما قاله يحي بن المغيرة، ويحي بن المغيرة ثقة. وهذا الحديث لا أصل له عن علي»([2]).

وعن البخاري: لم يتابع زافر عليه([3]).

وقال الذهبي عن العقيلي: «فهذا من عمل ابن حميد، أراد أن يجوده، قلت: فأفسد، وهو خبر منكر»([4]).

وقال: «فهذا غير صحيح، وحاشا أمير المؤمنين من قول هذا»([5]).

قال العسقلاني: لعل الآفة في هذا الحديث من زافر([6]).

وحكم ابن الجوزي على الحديث المذكور بالوضع، لمكان زافر([7]).

ونقول:

أولاً: إن ضعف السند لا يحتم الحكم بأن الحديث مكذوب وموضوع، ولا سيما إذا كان الضعف بسبب الجهالة بالراوي، أو بحاله..

بل حتى لو كان الراوي معروفاً بالكذب، فإن ذلك لا يوجب الحكم على كل رواية تصدر عنه بأنها مكذوبة، لأن الكاذب يروي الصحيح والمكذوب.. غاية الأمر أن رواية المجهول، والكذاب لا تصلح للإحتجاج بها

ثانياً: إن من يقرأ كلام ابن عساكر، والذهبي، والعقيلي، والعسقلاني وغيرهم يتوهم أن المناشدات في الشورى لم ترو إلا بهذا السند، وعن خصوص أبي الطفيل عامر بن واثلة، بواسطة الحارث بن محمد، وزافر، ورجل لم يذكر اسمه.. مع أن مراجعة النصوص في المصادر التي ذكرناها آنفاً تعطي غير ذلك، فإن للرواية اسانيد عديدة.. فلاحظ مثلاً:

السند المذكور في الإستيعاب.

والسند المذكور في كفاية الطالب..

والسند المذكور في تاريخ مدينة دمشق للنص الأول.

وسند رواية الدر النظيم.

والسند الذي ذكره ابن عقدة كما في أمالي الطوسي.

وما عن الطبري في كتابه: الغدير.

وما أورده في كنز العمال عن أبي ذر.

وما ذكره في مختصر تاريخ دمشق أيضاً وغير ذلك.

ثالثاً: اعتبر ابن أبي الحديد المعتزلي رواية المناشدة من المستفيض، وقال: إن الناس قد رووا ذلك فأكثروا، ثم ذكر نصاً للمناشدة، قال: إنه قد صح عنده([8]).

وذلك يدل على عدم صحة قول بعضهم: هذا الحديث لا أصل له عن علي «عليه السلام».

ولا قول بعضهم الآخر: فهذا غير صحيح، وحاشا أمير المؤمنين من قول هذا. وذلك لأنهم إنما ضعفوا أحد أسانيد الحديث.. ولم يتعرضوا لسائرها. وتنزيه أمير المؤمنين عن صدور مضمون المناشدة عنه ما هو إلا اجتهاد من القائل نشأ عن اعتقاد كونه مؤثرات أخرى لا يوافقه عليها أهل العلم، لأنهم يرون أنها لا تصلح لإثبات شئ من ذلك..

رابعاً: إن الحفاظ قد أخرجوا بعض الأحاديث عن الضعفاء، لأجل قرائن توفرت لديهم دلتهم على صحة رواياتهم..

خامساً: لم نعرف السبب في حكم الذهبي على هذا الحديث بأنه منكر، وغير صحيح، وحاشا أمير المؤمنين من قول هذا، فإننا لم نجد فيه كفراً، ولا غلواً، ولا إنتقاصاً، ولا تحريفاً، بل هو يحكي وقائع ثابته، وصحيحة، قد رواها الأثبات، وليس فيها افتئات على الله ولا على رسوله بشيء، فهل تذكير علي «عليه السلام» بالوقائع الصحيحة منقصة له، ولا بد من تنزيهه عنها؟!

هل حديث المناشدة موضوع؟!:

وقد ادعى بعضهم: ان حديث المناشدة هذا موضوع وإستدل على ذلك بأمرين لا يصح الإستدلال بهما، وهما:

الف ـ علي صلى القبلتين وكذلك غيره:

قال ابن عساكر: عن حديث المناشدة: «وفي هذا الحديث ما يدل على أنه موضوع، وهو قوله: (وصلى القبلتين)، وكل أصحاب الشورى قد صلوا القبلتين»([9]).

ونقول:

إن هذا الإستدلال غير صحيح، وذلك لما يلي:

أولاً: لو سلمنا عدم صحة المناشدة بهذه الفقرة، فذلك لا يدل على أن المناشدة موضوعة كلها من الأساس.

ثانياً: ذكروا: أنه «صلى الله عليه وآله» كان في مكة يستقبل الكعبة وبيت المقدس في آن واحد، فإذا كان «صلوات الله وسلامه عليه» قد صلى قبل الناس بسبع سنين أو أكثر، فذلك يعني: أنه كان قبل أن يبعث الله النبي رسولاً يتعبد مع رسول الله «صلى الله عليه وآله»، إما بدين إبراهيم، وهو دين الحنيفية، كما ورد في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ}([10]) أو بدين الإسلام، فإن النبي «صلى الله عليه وآله» كان نبياً منذ صغره، كما أثبتناه في كتابنا الصحيح من سيرة النبي «صلى الله عليه وآله» الجزء الثاني.

فيكون «عليه السلام» قد جمع في صلاته بين استقبال الكعبة وبيت المقدس في مكة المكرمة قبل أن يسلم أحد من الناس.. فتصح المناشدة منه لهم بذلك.. فإنه قد صلى إلى القبلتين وحده دونهم في تلك السبع سنين كلها..

ب: لعثمان زوجتان مثل فاطمة:

واستدل ابن عساكر على أن حديث المناشدة موضوع بقوله «عليه السلام»: «أفيكم أحد له زوجة مثل زوجتي فاطمة»؟! وقد كان لعثمان مثل ما له من هذه الفضيلة وزيادة([11]).

ونقول:

أولاً: إنه «عليه السلام» لم يقل: إن أحداً غيري لم يتزوج بنت رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ليقال له: بل تزوج فلان بنتاً أو بنتين للرسول «صلى الله عليه وآله»، بل قال: أفيكم له زوجة مثل زوجتي؟!

ومن المعلوم: أن فاطمة «عليها السلام» هي سيدة نساء العالمين([12]).

وهي حوراء إنسية([13]).

كما أنها أم أبيها([14]). ويغضب الله لغضبها، ويرضى لرضاها.

وفضائلها أكثر من أن تحصى ولا يقاس بها أحد.

ثانياً: أثبتنا في كتابنا الصحيح من سيرة النبي «صلى الله عليه وآله» وفي أربعة كتب أخرى ألفناها حول هذا الموضوع: أن زوجتي عثمان لسن بنات لرسول الله «صلى الله عليه وآله» على الحقيقة، وإنما هن بنات لغيره. لكنهن تربين عنده، ولذلك نسبن إليه، لأنهن بناته بالتربية.

والكتب التي ألفناها في إثبات هذا الأمر هي التالية:

1 ـ البنات ربائب: قل هاتوا برهانكم.

2 ـ بنات النبي أم ربائبه..

3 ـ القول الصائب في إثبات الربائب.

4 ـ ربائب الرسول: شبهات وردود.

يناشدهم بالنص عليه أم بفضائله:

ونلاحظ: أنه «عليه السلام»، في هذه المناشدات، قد أورد النصوص عليه من الله ورسوله بصيغة الفضائل.. ولم يصرح بأنه يقصد بها اثبات إمامته وخلافته الإلهية..

ولعل السبب في ذلك يعود إلى أنه «عليه السلام» لم يكن يريد أن يدخل في مواجهة تؤدي إلى تصعيد التحدي، فإن ذكر النص، والوقوف عنده سوف يفسر على أنه حكم بضلال الذين تقدموا عليه، أو تفسيقهم.. وسيجد لدى الآخرين حماساً منقطع النظير لتبرير وتصحيح ما أقدما عليه، ولو بقيمة إنكار النص، أو تحريض العامة عليه، أو إثارة الأحقاد الموروثة ضده.

وقد يجعلون ذلك ذريعة لمجاهدته بحجة، أنه هو الذي أثار الفتنة في الأمة، وقد حدث ذلك بالفعل حين حرك عبد الرحمان بن عوف بني أمية لرفض تولي علي للخلافة، والإصرار على تولية عثمان.. وانجر الأمر إلى تهديد المقداد أو غيره بالويل والثبور، وعظائم الأمور.. كما تقدم في رواية الطبري..

فاعتمد «عليه السلام» طريقة الدخول إلى هذا الأمر بوسائل ومداخل هادئة، بنحو يغني فيها التلميح عن التصريح.

فهو يورد في المناشدة الكثير من نصوص الإمامة، ومنها قضية الغدير، وسائر الآيات والروايات المصرحة، أو المشيرة إلى الإمامة، ولكن بعنوان الفضيلة والكرامة، وعلى المنصف الواعي أن يتدبر، وأن يفهم، على قاعدة {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}([15]).

ونستطيع أن ندعي: أنه لو لم يكن لدخوله «عليه السلام» في الشورى من فائدة سوى أنه «عليه السلام» قد تمكن من القيام بهذه المناشدة لكفى.

مناشدة أم مناشدات:

قد يرى البعض: أن اختلاف نصوص المناشدات من حيث الطول والقصر، وكثرة النقاط المطروحة وقلتها، وتفصيل الكلام حول كل نقطة واختصاره قد يراه دليلاً على تعدد وقوع هذه المناشدة في أيام الشورى الثلاثة.

غير أننا نقول:

إن ذلك لم يثبت، إذ لعل الإختصار والتطويل، والحذف وعدمه قد جاء من قِبَلِ الرواة، روماً للإختصار تارة، ولأن بعضهم حفظ، والبعض الآخر لم يحفظ.. أو لأن بعض الرواة لم يشأ التصريح بكامل الحقيقة لسبب بعينه، ولم يتوفر هذا السبب لدى غيره.

اختلاف السياق:

قد يحاول البعض أن يدَّعي: أن ثمة خللاً في المناشدة، يشير إلى حصول الدس، والتصرف فيها، فقد ورد فيها ما يشير إلى أنه يتحدث عن غائبين عن مجلس المناشدة، فتارة يقول: «لأحتجن عليهم».

وفي نص آخر يقول: «ولو أشاء لاحتججت عليهم».

وفي نص آخر يقول: «إن عمر جعلني في خمسة نفر أنا سادسهم»..

مع أن المناسب هو أن يكون خطابه موجهاً إليهم بصيغة خطاب الحاضر، فيقول: لأحتجن عليكم، ونحو ذلك..

ويمكن أن يجاب: بأن من الممكن أن يوجه الخطاب للغائب لغرض من الأغراض، ثم يلتفت في خطابه للحاضرين، كقوله تعالى: {الحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}([16])، ثم قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ}([17]). ومثله قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى}([18]). إلى أن قال: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى..}([19]).

مع احتمال أن تكون المناشدة بحضور جماعات أخرى غير أعضاء الشورى، كان «عليه السلام» يوجه الخطاب إليهم، ثم التفت ليخاطب أعضاء الشورى أنفسهم.

ما يتوخاه علي من المناشدات:

وقد حدد علي «عليه السلام» ما كان يتوخاه من مناشداته لأهل الشورى بقوله: «فناظرتهم في أيامي وأيامهم، وآثاري وآثارهم، وأوضحت لهم ما لم يجهلوه، من وجوه استحقاقي لها دونهم.

وذكرتهم عهد رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وتأكيد ما أكده من البيعة لي في أعناقهم»([20]).

فيلاحظ:

أنه «عليه السلام» كان يتوخى من ذكر ذلك كله أموراً، هي:

الأول: أراد «عليه السلام» بيان أنه ثمة عهداً من النبي «صلى الله عليه وآله» لعلي «عليه السلام»، وليس الأمر لمجرد التلذذ بمدائح، وبيان مزايا، تشبه قصائد الشعراء، وثناء المحبين والأولياء، والأصدقاء الأصفياء والأوفياء..

الثاني: إن هذا العهد كان بمرأى وبمسمع منهم، ولا يحتاج استحضارهم له إلى أكثر من التذكير به.. لكي لا يتذرع أحد بالغفلة عنه أو بالنسيان له..

الثالث: إن هناك بيعة كانت له «عليه السلام» في أعناقهم.. وان النبي «صلى الله عليه وآله» هو الذي أخذها منهم له، وأن هدف النبي «صلى الله عليه وآله» من هذه البيعة هو تأكيد ذلك العهد..

الرابع: إن المطلوب لم يكن مجرد تذكيرهم بتلك الوقائع، بل المطلوب هو إيضاح وجوه دلالتها، ولو من خلال الإيحاء، والإلماح لهم بارتباطها بأمر الإمامة والخلافة، وإفهامهم أنها ليست مجرد أقوال عابرة، دفعت إليها المحبة،أو القرابة، أو المصاهرة، أو الإلفة، أو إظهار الإعجاب بالإنجازات، أو التشجيع.. وإنما هي أوسمة استحقاق تظهر المزايا المطلوبة في أمر الإمامة والخلافة بعد الرسول «صلى الله عليه وآله».

الخامس: قد ظهر من قوله: «فناظرتهم» أنه «عليه السلام» أراد أن يكون المقام مقام احتجاج وإثبات، ومفاضلة، بهدف اسقاط مقولة أراد مؤسس هذه الشورى تكريسها بصورة عفوية وتلقائية، وهي أن علياً قد قرن بنظائره وأقرانه..

السادس: دلتنا هذه المناظرة على أن الهدف هو تكريس حقيقة أن أمر الإمامة أجلُّ من أن يكون خاضعاً للتجاذبات القائمة على مجرد التَّنَطُّح والإدعاء، أو أن يخضع لأسباب القوة المادية، أو العشائرية، أو العسكرية، أو أي شيء دنيوي، بل هو مقام إلهي، عظيم الخطر، بالغ الأهمية، له معاييره ومرتكزاته التي تناسبه. وليس ملكاً عضوضاً، بل هو خلافة النبوة..

ولا بد أن تثبت الأفعال، والسيرة العملية، والإمتحان المباشر صحة كل الأقوال والإدعاءات التي تطلق حوله.. ولأجل ذلك ناظرهم في أيامه وأيامهم، وآثاره وآثارهم..

المناشدات بنظر المعتزلي:

ولعل نفس هذا الذي ذكرناه قد أزعج محبي الخلفاء، وأَثار حفائظهم، فاهتموا بالتشكيك في هذه المناشدات، وسعوا ما أمكنهم إلى تكذيبها، والحد من تأثيرها..

قال المعتزلي:

«ونحن نذكر في هذا الموضع ما استفاض في الروايات من مناشدته أصحاب الشورى، وتعديده فضائله وخصائصه التي بان بها منهم ومن غيرهم.

قد روى الناس ذلك فأكثروا، والذي صح عندنا أنه لم يكن الامر كما روي من تلك التعديدات الطويلة، ولكنه قال لهم بعد أن بايع عبد الرحمن والحاضرون عثمان، وتلكأ هو «عليه السلام» عن البيعة:

إن لنا حقاً، إن نعطه نأخذه، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل وإن طال السرى.. في كلام قد ذكره أهل السيرة، وقد أوردنا بعضه فيما تقدم.

ثم قال لهم: أنشدكم الله! أفيكم أحد آخى رسول الله «صلى الله عليه وآله» بينه وبين نفسه، حيث آخى بين بعض المسلمين وبعض، غيري؟!

فقالوا: لا.

فقال: أفيكم أحد قال له رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «من كنت مولاه فهذا مولاه» غيري؟!

فقالوا: لا.

فقال: أفيكم أحد قال له رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»، غيري؟!

قالوا: لا.

قال: أفيكم من اؤتمن على سورة براءة، وقال له رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «إنه لا يؤدى عني إلا أنا أو رجل منى» غيري؟!

قالوا: لا.

قال: ألا تعلمون أن أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله» فروا عنه في مأقط الحرب في غير موطن، وما فررت قط؟!

قالوا: بلى.

قال: ألا تعلمون أنى أول الناس إسلاماً؟!

قالوا: بلى.

قال: فأينا أقرب إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» نسباً؟!

قالوا: أنت.

فقطع عليه عبد الرحمن بن عوف كلامه، وقال: يا علي، قد أبى الناس إلا عثمان، فلا تجعلن على نفسك سبيلاً.

ثم قال: يا أبا طلحة، ما الذي أمرك به عمر؟!

قال: أن أقتل من شق عصا الجماعة.

فقال عبد الرحمن لعلي: بايع إذن، وإلا كنت متبعاً غير سبيل المؤمنين، وأنفذنا فيك ما أمرنا به.

فقال: «لقد علمتم أنى أحق بها من غيري، والله لأسلمن..» الفصل إلى آخره، ثم مد يده فبايع([21]).

ونقول:

إننا لا نوافق ابن أبي الحديد على كثير من النقاط التي أوردها في كلامه هذا.. فلاحظ مثلاً الأمور التالية:

1 ـ من أين وكيف ثبت للمعتزلي أن تلك التعديدات الطويلة لم تكن قد حصلت، فإن هناك المئات من السنين التي تفصله عن ذلك الحدث.. ولا سبيل إلى إثبات شيء أو نفيه بالتشهي، ومحض الرغبة.

2 ـ لو جمعنا تلك المناشدات كلها، وحذفنا ما كرره الرواة منها، فإن المجموع لا يحتاج إلى أكثر من ساعة أو ساعتين لتداوله. وهذا وقت قصير جداً بالقياس إلى الثلاثة أيام التي قضوها في البحث والمناظرة.

3 ـ بالنسبة لما جرى في الشورى نفسها نقول:

لو أردنا أن نقصر النظر على النصوص التي يتداولها الناس، واقتصرنا في المناشدات على ما ذكره المعتزلي، لما احتاجت الشورى كلها إلى أكثر من نصف ساعة، فلماذا بقوا ثلاثة أيام ساكتين؟

وهل نقول: إنه لم يحصل طيلة الثلاثة أيام سوى هذا الذي ذكروه؟! أم أن الإحتمال سوف يقوى عندنا ليصل إلى درجة الإطمينان بأن هناك مداولات كثيرة هي أضعاف أضعاف ما بلغنا جرت فيما بينهم، ولم تصل إلينا..؟!

فإذا جاز لنا أن نترقى في هذا الأمر إلى درجة اليقين، فلم لا يرقى بنا الظن إلى القول بأن ما بلغنا من المناشدات حتى المطولة منها هو جزء الحقيقة أيضاً؟

4 ـ قول المعتزلي عن علي «عليه السلام»: «ثم مد يده فبايع»، غير ثابت، فقد تقدم أن المفيد رحمه الله تعالى قال: إنه لم يبايع أبداً..

وتقدم: أن من المحتمل أن يكون قد جرى له معهم ما يشبه الذي حدث له في بيعة أبي بكر، حيث تكاثروا عليه، فمدوا يده، وهو يقبضها، فجاء أبو بكر، فمسح يده عليها.. فقالوا: بايع أبو الحسن، أو نحو ذلك.

5 ـ وكنا نتوقع أن يبادر المعتزلي إلى تسجيل تحفظه على تهديد عبد الرحمان بن عوف لعلي بن أبي طالب بالقتل، واستدعائه أبا طلحة ليؤكد جدية هذا التهديد.. من حيث أن هذا التهديد يسقط بيعة علي «عليه السلام» عن الإعتبار، إذ لا بيعة لمكره..

6 ـ إن عبد الرحمان بن عوف لم يستند في أمره بقتل علي «عليه السلام» إلى أن علياً خالف عهده الذي أعطاه أن يرضى بمن يختاره عبد الرحمان بن عوف، بل استند إلى وصية عمر لهم بقتله.. لأن ابن عوف كان يعلم: أنه ـ هو الذي ـ لم يفِ بالشرط الذي احلفه علي «عليه السلام» على العمل به، فهو الذي خان العهد، وعلي هو الذي وفى به، وبيَّن له عدم صحة عمله.

هل المناشدات أبطلت خلافة عثمان؟!:

وصرحت بعض نصوص المناشدات بأنها حصلت قبل حسم الأمر بالبيعة لعثمان، الأمر الذي يعني: أنه «عليه السلام» قد اسقط حجتهم ومشروعية اختيارهم غيره، وأبطل هذا الإختيار ـ بالدليل القاطع، والبرهان الساطع، من حيث أنه أثبت أنه يقع مخالفاً للشرط الذي شرطه «عليه السلام» على عبد الرحمان بن عوف والزمه به بواسطة القسم.

فلا أثر لهذا الإختيار الذي جاء على خلاف الشرط، ويتحقق به الحنث بالقسم.. ولا أثر لبيعة تقع بالإستناد إليه..

أوهام المعتزلي والمعتزلة:

وقد أحرجت كلمات علي «عليه السلام» ومواقفه من الخلفاء ابن ابي الحديد المعتزلي وسائر المعتزلة، ومنهم البغداديون القائلون بتقدم علي «عليه السلام» على جميع الصحابة في الفضل، ولكنهم أجازوا تقديم المفضول على الفاضل في الإمامة.. فصححوا بذلك خلافة أبي بكر وعمر، وجهروا بأفضلية أمير المؤمنين «عليه السلام» عليهما وعلى جميع الصحابة..

وقد ظهر هذا الحرج على موقف ابن أبي الحديد المعتزلي حين بلغ في شرحه لنهج البلاغة إلى قوله «عليه السلام» لما عزموا على بيعة عثمان:

«لقد علمتم أنى أحق بها من غيري، ووالله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلا علي خاصة، التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه».

فقد قال: «يقول لأهل الشورى: إنكم تعلمون أنى أحق بالخلافة من غيري، وتعدلون عني. ثم أقسم ليسلمن وليتركن المخالفة لهم، إذا كان في تسليمه ونزوله عن حقه سلامة أمور المسلمين، ولم يكن الجور والحيف إلا عليه خاصة.

وهذا كلام مثله «عليه السلام»، لأنه إذا علم أو غلب على ظنه أنه إن نازع وحارب دخل على الإسلام وهن وثلم لم يختر له المنازعة، وإن كان يطلب بالمنازعة ما هو حق، وإن علم أو غلب على ظنه بالإمساك عن طلب حقه إنما يدخل الثلم والوهن عليه خاصة، ويسلم الإسلام من الفتنة، وجب عليه أن يغضي ويصبر على ما أتوا إليه من أخذ حقه، وكف يده، حراسة للاسلام من الفتنة.

فإن قلت: فهلا سلم إلى معاوية، وإلى أصحاب الجمل، وأغضى على اغتصاب حقه حفظا للاسلام من الفتنة؟!

قلت: إن الجور الداخل عليه من أصحاب الجمل ومن معاوية وأهل الشام، لم يكن مقصوراً عليه خاصة، بل كان يعم الإسلام والمسلمين جميعاً، لأن أحداً غير علي «عليه السلام» لم يكن يصلح لرياسة الأمة، وتحمل أعباء الخلافة، فلم يكن الشرط الذي اشترطه متحققاً، وهو قوله: «ولم يكن فيه جور إلا علي خاصة».

وهذا الكلام يدل على: أنه «عليه السلام» لم يكن يذهب إلى أن خلافة عثمان كانت تتضمن جوراً على المسلمين والإسلام، وإنما كانت تتضمن جوراً عليه خاصة، وأنها وقعت على جهة مخالفة الأولى، لا على جهة الفساد الكلي، والبطلان الأصلي. وهذا محض مذهب أصحابنا([22]).

ونقول:

إن هذا الكلام مرفوض من جهات عديدة، نذكر منها ما يلي:

لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين:

أولاً: إن قوله «عليه السلام»: لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين، لا يعني أنه يرى أن أمور المسلمين قد سلمت بالبيعة لعثمان، وانتهى الأمر. بل هو يقول: إني منتظر لما يجري، وراصد للتحولات.. ولكنه مجرد انتظار وترقب، من دون أن تفرض عليه بيعة، إذ هو لم يضمن سلامة أمور المسلمين بعد..

ثانياً: إن هذه الكلمة قد تضمنت التصريح بما يمنع من مبادرته للبيعة، وهو قوله: «ولم يكن جور إلا علي خاصة»، إذا لا يجوز مبايعة الجائر، حتى لو كان جوره يستهدف شخصاً بعينه، لأن ذلك يفقده شرط الإمامة بأدنى مراتبه، وهو العدالة، فضلاً عن العصمة التي هي الشرط الحقيقي..

كما أن ذلك لا يمنع من أن يكون هذا الجائر فاقداً لسائر الشرائط والصفات المعتبرة في الإمام والخليفة، ويكون توثبه على الخلافة من مفردات العدوان على الحقوق والمخالفات لما أمر الله ورسوله به..

ثالثاً: إن الرواية تقول: لأسلمنّ ـ وهو من التسليم، والقبول بما هو بالأمر الواقع الذي فرض عليه سبب تقصير الناس في القيام بواجبهم تجاه امامهم.. فقراءة بعض الناس لها بصيغة لأسالمن الذي هو من المسالمة، في مقابل المحاربة.. في غير محلها، إذ لم يكن «عليه السلام» قد أعلن الحرب على أحد..

رابعاً: لقد قرر «عليه السلام» أن الحاضرين معه في الشورى قد علموا بأنه «عليه السلام» أحق بها من غيره.. ونحن هنا نذكِّر القارئ الكريم بما يلي:

ألف: إن ذلك ينتج أنهم يتوثبون على أمر ليس لهم.

ب: إن عدم وجود حق لهم في هذا الأمر معروف لديهم، وليس أمراً يغفلون عنه، ويدعيه من لا علم لهم بصحة دعواه، أو بصدقها.

ج: الظاهر من سياق الكلام هو أن مناشداته لهم هي التي قطعت الشك باليقين، واظهرت أنهم إنما علموا ذلك من خلال شهودهم، للوقائع، وسماعهم المباشر لما كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد قاله في حقه «عليه السلام».

د: إن مناشداته لهم بتلك المواقف والأقوال، والآيات القرآنية كانت تهدف إلى مساعدتهم لاستحضار ما شهدوه وسمعوه، ولم تكن لمجرد الإفتخار.

خامساً: إن ما ساقه «عليه السلام» من مضامين له هدف ظاهر، وهو تأكيد حقه «عليه السلام» في الإمامة، والخلافة دون كل أحد سواه..

فلاحظ استدلاله بحديث الغدير، وبحديث أنت مني بمنزلة هارون من موسى، وغير ذلك.

سادساً: إن عبد الرحمان بن عوف قد رد كل ما سمعه من مناشدات بادعاء أن الناس يصرون على تولية عثمان، لأنهم نظروا لأنفسهم في دنياهم، ولم يهتموا لأمر دينهم.

ويلاحظ على ذلك:

ألف: إن الذين أبوا إلا تولية عثمان هم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وبنو أمية.. وذلك في مقابل عمار والمقداد، وسلمان، وأبي ذر، وبني هاشم، وسائر الأنصار، وغيرهم..

ب: إن ما ناشدهم به تضمن تأكيد حق الإمامة، وفيه النص والتأكيد من الله ورسوله.. فلا يصح مقابلته بأقوال الناس، وطلاب اللبانات في الدنيا، ولا يصح الإحتجاج بمواقفهم المستندة إلى ميولهم وأهوائهم، ولا يجوز طاعة الناس ومعصية الله في ذلك.. بل لا بد من حمل الناس على طاعة الله، والإنقياد لأوامره، والإنتهاء بزواجره..

ج: إن ادعاء الناس: أن تولية عثمان أصلح لهم في دنياهم لا مبرر له، ولا دليل لهم عليه، ولا منطق يساعده. بل جاءت الوقائع لتدل على خلافه، لا سيما وأن الموقع هو موقع خلافة الرسول، مما يعني أن مهمة الخليفة هي تطبيق أحكام الله تعالى فيهم، وهدايتهم، ورعايتهم وحل مشاكلهم، وتوفير فيئهم، ودفع عدوهم، وتأمين سبلهم وحل مشاكلهم، وتزكيتهم وتربيتهم تربية صالحة.. وما إلى ذلك..

وهل يمكن لأحد أن يقول: إن حكم أي إنسان آخر للناس كان أنفع للناس من حكم رسول الله «صلى الله عليه وآله» لهم؟!. لأن حكم هذا المتوثب على ما ليس له ينفعهم في دنياهم، وحكم النبي يرتبط بآخرتهم؟!.

سابعاً: قوله «عليه السلام»: ولم يكن جور إلا علي خاصة، يريد به أن خلافة عثمان تحمل في طياتها جوراً على علي «عليه السلام» خاصة، لأنه هو وحده الذي له حق في الخلافة، ويغتصب منه هذا الحق، أما سائر أعضاء الشورى فيشاركون في ظلمه «عليه السلام»، لأنهم يسعون لاقتناص حقه منه..

ومن الواضح: أن ظلم علي «عليه السلام» في هذا الأمر ظلم لجميع المسلمين، لأن إبعاده عن الخلافة يؤدي إلى الحيف على الناس، وحرمانهم من حكومة الحق والعدل التي جعلها الله تعالى لهم من خلال علي «عليه السلام».

فظهر أن قوله «عليه السلام» ولم يكن جور أو ظلم إلا علي خاصة يريد به المقابلة بينه «عليه السلام» وبين أعضاء الشورى، لا المقابلة بينه وبين الأمة. أي أنه «عليه السلام» وحده الذي ظلم من بين سائر أركان الشورى، لأن الآخرين لا حق لهم في الخلافة.. ليقال: إنهم ظلموهم بأخذ حقهم منهم..

كما أنه «عليه السلام» يظلم بالمباشرة، والأمة تظلم بالواسطة أي بحرمانها من حكمه العادل الذي جعله الله لها. وما ستتبعه من هدايات، وتوفيقات، وعنايات، ونفحات، وبركات.

فظهر عدم صحة قول المعتزلي: إنه «عليه السلام» يذهب إلى أن خلافة عثمان لا تتضمن جوراً على المسلمين والإسلام، بل تتضمن جوراً عليه وحده..

ثامناً: ومما يدل على عدم صحة ما ادعاه المعتزلي، من أن الظلم في عهد عثمان لم يكن عاماً: أن الأحداث قد أظهرت كم كان الإسلام مظلوماً في عهد عثمان، حتى لقد ذكروا: أنهم ليلة بيعة عثمان سمعوا هاتفاً يقول:

يـا نـاعـي الإسـلام قـم فـانـعـه                   قـد مـات حـق وبـدا مـنـكــر([23])

كما أن أبا سفيان مرّ أيام عثمان بقبر حمزة، فضربه برجله، وقال: يا أبا عمارة! إن الأمر الذي اجتلدنا عليه بالسيف أمس في يد غلماننا اليوم يتلعبون به([24]).

وحين وصلت الخلافة لعثمان قال له أبو سفيان: صارت إليك بعد تيم وعدي، فأدرها كالكرة، واجعل أوتادها بني أمية، فإنما هو الملك، ولا أدري ما جنة ولا نار([25]).

ودخل على عثمان فقال: ها هنا أحد؟!

فقالوا: لا.

فقال: اللهم اجعل الأمر أمر جاهلية، والملك ملك غاصبية، واجعل أوتاد الأرض لبني أمية([26]) فلم يزد عثمان على أن زجره، وأظهر استياءه..

تاسعاً: صرح «عليه السلام»: بأن الذين معه في الشورى يتنافسون على زخرف الدنيا وزبرجها.. وقد ميز نفسه عنهم بأنه يزهد فيما يتنافسون فيه.. وأن الداعي له للمطالبة بهذا الأمر هو التكليف الشرعي المناط به من خلال تنصيب الله تعالى ورسوله «صلى الله عليه وآله» له...

أما دخولهم في هذا الأمر، وتنافسهم فيه، وحرص كل منهم على الوصول إليه، فليس له مبرر من شرع، ولا كان لأجل غيرتهم على مصلحة الأمة، ولو من حيث أنهم يرون في أنفسهم مؤهلات لا توجد في الذي نص الله ورسوله عليه.. بل المبرر هو محض الطمع بالدنيا، وحبهم للذهب وغيره من حطامها..

عاشراً: إن هذا الكلام يدل على أن غرضه «عليه السلام» من طلب الخلافة هو استقامة أمور المسلمين، وصلاح حالهم، وتحقيق السلامة لهم من الفتن، ولو في أدنى مستوياتها، إذ لا بد من الكف عن المطالبة إذا كانت ستؤدي إلى ظهور النزاع، وحدوث القلاقل، بسبب سعي دعاة الباطل، وبعض أهل الأهواء إلى ايقاد نار الفتنة، والتحريض على الفوضى، واللعب على الوتر العشائري، وإنعاش الأحقاد.

حادي عشر: قد يدعي البعض: أن الخلافة منصب دنيوي، ولا يتوقع من علي «عليه السلام» العابد الزاهد المعرض عن الدنيا أن ينافس فيه.

وهو كلام غير صحيح، فإن الدنيا هي مضمار الآخرة، وبالخلافة يحفظ الدين، وتصان كرامات الناس، ودماؤهم، وأموالهم وأعراضهم، وسائر شؤونهم. وهذا من أهم الواجبات الدينية، التي لا يمكن التخلي عنها، حين ينحصر الأمر به، من خلال التكليف الإلهي له..

ثاني عشر: بالنسبة لما ذكره المعتزلي من أنه إذا جاز تسليمه «عليه السلام» الأمر لعثمان، ولأبي بكر وعمر، وكانت أمور المسلمين تسلم بذلك، فلم لم يسلم الخلافة لطلحة والزبير ومعاوية منعاً للفتنة، وصيانة لدماء المسلمين، ولكي تسلم أمورهم؟!

وأجاب بالفرق بين هذا وذاك، فإن ما يدعيه معاوية وطلحة والزبير فيه جور على الأمة، بخلاف أبي بكر وعمر وعثمان.

ونقول:

1 ـ لا فرق بين الحكومات المبنية على غصب الحق والتعدي، فإنها كلها لا مشروعية لها، ولا أهلية للمتصدين للأمر والنهي فيها. ولابد من منعهم من ذلك، والعمل على إرجاع الحق إلى أهله مع الإمكان..

2 ـ إن بيعة عثمان قامت على الإكراه إلى حد أنهم أرادوا قتله «عليه السلام»، كما أنها خلافة بنيت على التعدي على الحق الظاهر، بعد إقامة الحجة فيه، ووضوحه إلى حد البداهة.. خصوصاً بعد تلك المناشدات.

3 ـ إن خلافة عثمان بنيت على خلافة سابقيه أبي بكر وعمر، ومن المعلوم أن خلافتهما بنيت على أخذ الحق من صاحبه الشرعي بالقوة والقهر، كما تقدم.

4 ـ إن مسار خلافة عثمان تضمن مفاسد جليلة، حيث بسط بنو أمية أيديهم وأكدوا هيمنتهم على الناس، وأوغلوا في تعدياتهم وظلمهم لهم، ونهبوا ثروات الأمة، وعاثوا في الأرض فساداً، حتى استحل الصحابة والتابعون دم عثمان، ووقعت الواقعة، وقتله الناس..

ولم يكن علي «عليه السلام» ليرضى هذا المسار، لا من الأمويين في عهد عثمان، ولا في عهد معاوية، ولا في أي عهد كان..

5 ـ أما السبب الذي دعا علياً «عليه السلام» للتسليم في عهد أبي بكر وعمر وعثمان، فيمكننا أن نلخصه على النحو التالي:

ألف: إن المقصود بقوله «عليه السلام»: ما سلمت امور المسلمين هو سلامتهم من أن يفتنوا عن دينهم، بان يرجعوا كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض، وسلامة أمر الإمامة الذي به حفظ دينهم من التشويه ومن الشبهات حوله، وليس مقصوده بهذه الكلمة مجرد حفظ مصالحهم، وسلامة أحكام دينهم من التعدي..

إذ المهم بقاء أصل الدين، فان تعدى أحد على أحكامه، فيمكن التصحيح والتوضيح..

لكن إذا ارتد الناس، وصار يضرب بعضهم رقاب بعض، فتلك هي المصيبة الكبرى..

ويشير إلى أن هذا هو المقصود بسلامة أمور المسلمين: أن علياً «عليه السلام» قد أوضح في الشورى نفسها، وفي حديث المناشدة بالذات: أنه لا يرى صحة خلافة أبي بكر ولا عمر، ولا عثمان، وكان لا يرى أن أمور المسلمين قد سلمت، أو تسلم بخلافتهم: ولكنه سمع وأطاع، لأنه خاف من ارتداد الناس.

فقد روى أبو الطفيل عامر بن واثلة: أنه كان على الباب يوم الشورى، فارتفعت الأصوات بينهم، قال: فسمعت علياً «عليه السلام» يقول: «بايع الناس أبا بكر، وأنا ـ والله ـ أولى بالأمر منه، وأحق به منه، فسمعت وأطعت، مخافة أن يرجع الناس كفاراً، أو يضرب بعضهم رقاب بعض.

ثم بايع أبو بكر لعمر، وأنا أولى بالأمر منه، فسمعت وأطعت مخافة أن يرجع الناس كفاراً، ثم أنتم تريدون أن تبايعوا عثمان إلخ..»([27]).

ب: إن الأمر في عهد عثمان كان أشد خطراً وسوءاً منه في عهد معاوية، لأن الجور في عهد عثمان قد انضم إليه الإفساد الشديد الذي أدى إلى انتقاض الأمور، في الدولة بأسرها، حتى انتهى الأمر بقتله..

والجور والإفساد وإن كان حاصلاً في عهد معاوية، ولكنه لم يصل إلى الحد الذي بلغه في عهد عثمان، بل كانت حكومة الحق والعدل قائمة في الجانب الآخر.. ثم إن الناس قد عرفوا أن ثمة حقاً وباطلاً.. وأن حكومة معاوية لا تمثل دولة الحق بالتأكيد..

ولكننا نجد من جهة أخرى: أن أمير المؤمنين «عليه السلام» بعد وفاة النبي «صلى الله عليه وآله» واجه المحنة وحده، بعد أن خذله الأكثرون، وأحبوا السلامة، أو ركنوا إلى الدنيا، والتزم «عليه السلام» بوصية رسول الله «صلى الله عليه وآله» بأن لا يواجه القوم إلا إذا وجد أنصاراً. ثم هددوه بالإحراق والقتل، وجرى ما جرى على زوجته فاطمة الزهراء، من ضرب، واسقاط جنين، وغير ذلك.

وأوصى أبو بكر بالأمر لعمر، ثم قرر عمر الشورى، ونفذت أوامر عمر بكل إصرار وشراسة، وهددوا علياً بضرب عنقه إن لم يسلِّم لهم..

فلم يكن علي «عليه السلام» قادراً على استرجاع الحق، إلا إن كان يريد أن يُقتَل أو ينتهي الأمر إلى فتنة عارمة، وتفجير الأوضاع، وانفلات الزمام، وسفك الكثير من الدماء..

ولكن الأمر في عهد أمير المؤمنين قد اختلف، فكان هو «عليه السلام» صاحب السلطة.. وقد أراد طلحة والزبير نقضها، وأراد معاوية أن يتخلف عنها، وشرع بالعمل على تقويضها.

فكان الواجب الشرعي يفرض على أمير المؤمنين «عليه السلام» أن يدفع هؤلاء البغاة الخارجين على امام زمانهم، والذين كان أمرهم على درجة عالية من الوضوح لأكثر الناس..

فبادر «عليه السلام» إلى دفعهم، موضحاً هذه الخصوصية بقوله:

«لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروُّا على كظة ظالم، ولا على سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها»([28]).

وقال «عليه السلام»: «فما وجدتني يسعني إلا قتالهم أو الجحود بما جاءني به محمد»([29]).


([1]) تاريخ مدينة دمشق ج42 ص435 وكنز العمال ج5 ص726 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج31 ص324.

([2]) تاريخ مدينة دمشق ج42 ص436 وضعفاء العقيلي ج1 ص212 والموضوعات لابن الجوزي ج1 ص380 ولسان الميزان ج2 ص157.

([3]) ميزان الإعتدال ج1 ص441 ولسان الميزان ج2 ص156 وكنز العمال ج5 ص726 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج31 ص324 و 325.

([4]) ميزان الإعتدال ج1 ص441 ولسان الميزان ج2 ص156 وراجع كنز العمال ج5 ص726.

([5]) ميزان الإعتدال ج1 ص442 وكنز العمال ج5 ص726.

([6]) لسان الميزان ج2 ص157 وكنز العمال ج5 ص726 و شرح إحقاق الحق (الملحقات) ج31 ص325.

([7]) الموضوعات لابن الجوزي ج1 ص380 واللآلي المصنوعة ج1 ص361 ـ 363 وكنز العمال ج5 ص726 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج31 ص325.

([8]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص167 والغدير ج1 ص161 والتحفة العسجدية ص128 والمناشدة والإحتجاج بحديث الغدير ص7.

([9]) تاريخ مدينة دمشق ج42 ص436.

([10]) الآية 123 من سورة النحل.

([11]) تاريخ مدينة دمشق ج42 ص436.

([12]) راجع: أرجح المطالب ص241 وتجهيز الجيش (مخطوط) ص96 وجامع الأحاديث للسيوطي ج7 ص734 وأشعة اللمعات في شرح المشكـاة (ط لكهنو) ج4 ص693 ووسيلة النجاة ص228 وعيون المعجزات ص51 ومناقب آل أبي طالب ج3 ص137 والطبقات الكبرى لابن سعد ج8 ص27 وأسد الغابة ج5 ص522 وج8 ص266 واللمعة البيضاء للتبريزي ص46 وشرح إحقاق الحق ج10 ص30 وج25 ص48 وج33 ص295 وراجع: إحقاق الحق (الملحقات) ج10 عن كثير من المصادر وج19 ص19 وسير أعلام النبلاء ج2 ص127 وينابيع المودة ص198 وفتح الملك المعبود ج4 ص8 ومرآة المؤمنين ص183.

([13]) راجع: الأمالي للصدوق ص546 وعيون أخبار الرضا «عليه السلام» ج2 ص107 ومعاني الأخبار ص396 وروضة الواعظين ص149 ومناقب الإمام أمير المؤمنين «عليه السلام» للكوفي ج2 ص191 والتوحيد للصدوق ص118 وعلل الشرائع ج1 ص184 والإحتجاج للطبرسي ج2 ص191 ومناقب آل أبي طالب ج3 ص114 والمحتضر للحلي ص239 ومدينة المعاجز ج3 ص225 و 423 وبحار الأنوار ج4 ص4 وج8 ص119 و 151 و 189 و 190 وج18 ص351 وج36 ص361 وج37 ص82 وج43 ص4 و 6 و 18 و 43 وج44 ص241 ونور البراهين للجزائري ج1 ص302 والعوالم (الإمام الحسين «عليه السلام») للبحراني ص121 وتفسـير فرات الكـوفي ص76 و 211 و 216 = = و 221 ومجمع البيان ج6 ص37 ونور الثقلين ج2 ص502 وج13 ص119 وتاريخ بغداد ج5 ص293 والموضوعات لابن الجوزي ج1 ص411 و 412 وذكر أخبار إصبهان ج1 ص78 والدر النظيم ص459 وكشف الغمة ج2 ص87 واللمعة البيضاء ص114 و 116 ونفس الرحمن للطبرسي ص400 وبيت الأحزان ص18 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج10 ص6 وج10 ص222.

([14]) راجع: مقاتل الطالبيين ص29 وتاج المواليد (المجموعة) ص20 ومناقب آل أبي طالب ج1 ص140 وبحار الأنوار ج22 ص152 وج43 ص19 والمعجم الكبير للطبراني ج22 ص397 والإستيعاب (مطبوع بهامش الإصابة) ج4 ص380 و (ط دار الجيل) ج4 ص1899 والتعديل والتجريح للباجي ج3 ص1498 وتاريخ مدينة دمشق ج3 ص158 وأسد الغابة ج5 ص520 وتهذيب الكمال ج35 ص247 والكاشف في معرفة من له رواية في كتب الستة للذهبي ج2 ص514 والإصابة ج8 ص262 وتهذيب التهذيب ج12 ص391 والمنتخب من ذيل المذيل ص6 وتاريخ الإسلام للذهبي ج3 ص43 وسبل الهدى والرشاد ج11 ص37 واللمعة البيضاء ص53 و 122 و 123 وعمدة القاري ج16 ص222 والبداية والنهاية ج6 ص365 وكشف الغمة ج2 ص90 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج25 ص29 وج33 ص377.

([15]) الآية 24 من سورة محمد.

([16]) الآيات 2 ـ 4 من سورة الفاتحة.

([17]) الآيتان 5 و 6 من سورة الفاتحة.

([18]) الآيتان 1 و 2 من سورة عبس.

([19]) الآية 3 من سورة عبس.

([20]) الخصال ج2 ص375 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج3 ص139 والإختصاص للمفيد ص173 وحلية الأبرار ج2 ص371 وبحار الأنوار ج31 ص347 وج38 ص177.

([21]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص167 و 168 وغاية المرام ج2 ص67 و 68 وج6 ص8.

([22]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص166 و167.

([23]) كشف المحجة ص179 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج4 ص78 ونهج السعادة ج5 ص215 وبحار الأنوار ج30 ص14.

([24]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج16 ص136 وبحار الأنوار ج33 ص89 والغدير ج10 ص83 وقاموس الرجال للتستري ج11 ص352.

([25]) الإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ج2 ص690 و (ط دار الجيل) ج4 ص1679 و = = (ط دار الكتب العلمية) ج4 ص240 وشرح الأخبار ج2 ص528 ومناقب أهل البيت «عليهم السلام» للشيرواني ص407 والغدير ج8 ص278 و 331 وج10 ص83 ومستدركات علم رجال الحديث ج8 ص398 وقاموس الرجال للتستري ج11 ص352 والنزاع والتخاصم ص59 والنصائح الكافية ص110.

([26]) مختصر تاريخ مدينة دمشق ج11 ص67 وتاريخ مدينة دمشق ج23 ص471 والغدير ج8 ص278 وج10 ص83.

([27]) تاريخ مدينة دمشق ج42 ص433 ـ 435 وكنز العمال ج5 ص724 والطرائف لابن طاووس ص411 والصراط المستقيم ج2 ص64 وكتاب الأربعين للشيرازي ص220 وكتاب الأربعين للماحوزي ص432 وضعفاء العقيلي ج1= = ص211 والموضوعات لابن الجوزي ج1 ص378 ولسان الميزان ج2 ص156 والمناقب للخوارزمي ص313 وبناء المقالة الفاطمية ص410 وغاية المرام ج5 ص77 وج6 ص5 وسفينة النجاة للتنكابني ص361 وشرح إحقاق الحق (الأصل) ج5 ص31 وج15 ص684.

([28]) نهج البلاغة (بشرح عبده) الخطبة رقم3 ج1 ص30.

([29]) نهج البلاغة (بشرح عبده) ج1 ص103 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج4 ص6 وبحار الأنوار ج32 ص555.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان