صفحة : 79-98   

الفصل الثالث: صيد الحرم.. اصرار وتراجع..

علي وعثمان وصيد الحرم:

روى أحمد وغيره بإسناد صحيح، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال:

أقبل عثمان إلى مكة، فاستقبلته بقديد، فاصطاد أهل الماء حجلاً، فطبخناه بماء وملح، فقدمناه إلى عثمان وأصحابه، فأمسكوا، فقال عثمان: صيد لم نصده ولم نأمر بصيده، اصطاده قوم حل فأطعموناه، فما بأس به؟!

فبعث إلى علي، فجاء، فذكر له، فغضب علي وقال: أنشد رجلاً شهد رسول الله «صلى الله عليه وآله» حين أتي بقائمة حمار وحش، فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: إنا قوم حرم، فأطعموه أهل الحل؟!

فشهد اثنا عشر رجلاً من أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله».

ثم قال علي «عليه السلام»: أنشد الله رجلاً شهد رسول الله «صلى الله عليه وآله» حين أتي ببيض النعام، فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: إنا قوم حرم أطعموه أهل الحل؟!

فشهد دونهم من العدة من الإثنى عشر.

قال: فثنى عثمان وركه من الطعام فدخل رحله، وأكل الطعام أهل المـاء([1]).

وفي لفظ آخر لأحمد عن عبد الله بن الحرث: إن أباه ولي طعام عثمان قال: فكأني أنظر إلى الحجل حوالي الجفان، فجاء رجل فقال: إن عليا رضي الله عنه يكره هذا.

فبعث إلى علي فجاء وهو ملطخ يديه بالخبط فقال: إنك لكثير الخلاف علينا.

فقال علي «عليه السلام»: أذكر الله من شهد النبي «صلى الله عليه وآله» أتي بعجز حمار وحش وهو محرم فقال: إنا محرمون، فأطعموه أهل الحل؟!

فقام رجال فشهدوا.

ثم قال: أذكر الله رجلاً شهد النبي «صلى الله عليه وآله» أتي بخمس بيضات بيض نعام فقال: إنا محرمون، فأطعموه أهل الحل؟!

فقام رجال فشهدوا.

فقام عثمان فدخل فسطاطه، وتركوا الطعام على أهل الماء.

وفي لفظ الشافعي: إن عثمان أهديت له حجل وهو محرم، فأكل القوم إلا علياً فإنه كره ذلك.

وفي لفظ لابن جرير: حج عثمان بن عفان، فحج علي معه، فأتي عثمان بلحم صيد صاده حُلّال، فأكل منه، ولم يأكله علي، فقال عثمان: والله ما صدنا، ولا أمرنا، ولا أشرنا.

فقال علي: ﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً([2]).

وفي لفظ: إن عثمان بن عفان نزل قديداً، فأتي بالحجل في الجفان شائلة بأرجلها، فأرسل إلى علي «عليه السلام» وهو يضفر بعيراً له، فجاء والخبط ينحات من يديه، فأمسك علي وأمسك الناس، فقال علي: من هاهنا من أشجع؟! هل تعلمون أن النبي «صلى الله عليه وآله» جاء أعرابي ببيضات نعام وتتمير وحش فقال: أطعمهن أهلك، فإنا حرم؟!

قالوا: بلى.

فتورك عثمان عن سريره ونزل، فقال: خبثت علينا([3]).

وأخرج الطبري من طريق صبيح بن عبد الله العبسي قال: بعث عثمان بن عفان أبا سفيان بن الحرث على العروض، فنزل قديداً، فمر به رجل من أهل الشام معه باز وصقر، فاستعاره منه، فاصطاد به من اليعاقيب، فجعلهن في حظيرة، فلما مر به عثمان طبخهن، ثم قدمهن إليه، فقال عثمان: كلوا.

فقال بعضهم: حتى يجيء علي بن أبي طالب.

فلما جاء فرأى ما بين أيديهم قال علي «عليه السلام»: إنا لا نأكل منه.

فقال عثمان: ما لك لا تأكل؟!

فقال: هو صيد لا يحل أكله وأنا محرم.

فقال عثمان: بيِّن لنا.

فقال علي: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ([4]).

فقال عثمان: أونحن قتلناه؟!

فقرأ عليه: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً([5]).

وأخرج سعيد بن منصور ـ كما ذكره ابن حزم ـ من طريق بسر بن سعيد قال: إن عثمان بن عفان كان يصاد له الوحش على المنازل، ثم يذبح، فيأكله وهو محرم سنتين من خلافته.

ثم إن الزبير كلمه، فقال: ما أدري ما هذا، يصاد لنا ومن أجلنا، لو تركناه.

فتركه([6]).

ونقول:

في هذه النصوص أمور يحسن لفت النظر إليها. فقد دلت على ما يلي:

المعيار قول علي :

إن قول علي «عليه السلام» هو المقبول والمرضي عند الناس، وهو المعيار للحق والباطل، وللصحيح والخطأ فيه، حتى إن خليفتهم يصر عليهم، ويحتج بما رآه كافياً لإقناعهم، فلا يلتفتون إلى قوله، ولا إلى حججه، فهو يقول لهم ـ كما في بعض الروايات ـ: كلوا.

فيقول بعضهم: حتى يجيء علي بن أبي طالب.

وفي بعضها: أنهم وهم حول الجفان جاء رجل فقال: إن علياً «عليه السلام» يكرهه، فأرسلوا إلى علي. وهذا يدل على أنهم لا يثقون بعلم خليفتهم، ولا يطمئنون إلى أنه يحتاط في أحكام الشرع والدين..

ونحن لم يمر معنا مورد واحد يتهيأ فيه الخليفة وسائر من معه للمباشرة في فعل، فيقول شخص: إن فلاناً يكره ذلك، فيتوقف الجميع، بانتظار معرفة رأي ذلك الشخص، إلا ما نراه هنا بالنسبة لأمير المؤمنين «عليه السلام»، فإن مجرد احتمال مخالفته جعل الخليفة المعروف بتمرده على آراء الآخرين، وتعمده فرض رأيه، كما ظهر في التمتع بالعمرة إلى الحج، وفي إتمام الصلاة بمنى، وغير ذلك جعله يتوقف، ويستطلع رأي وحكم علي «عليه السلام» في هذا الأمر..

ولعل سبب ذلك: هو أنه وجد نفسه أمام أمر مبهم، فخاف إن بادر إليه، أن يواجه بما لم يكن بالحسبان، أو لعله أراد أن يفحم علياً «عليه السلام» بحجة ظن أنها تفيده في ذلك.

وسيكون اليوم الذي ينتصر فيه عثمان على علي «عليه السلام» يوم عيد؛ بل هو العيد الأعظم عند حاسدي علي «عليه السلام» ومناوئيه، وشائنيه.

وهذه الحجة هي قوله: ما صدنا، ولا أمرنا، ولا أشرنا. لم تنفع مطلقها شيئاً، ولا أغنت عنه فتيلاً..

وما أروعه من مشهد يكون علي «عليه السلام» فيه مشغولاً بتهيئة مائدة لبعيره، ويأتيهم ويداه ملطختان بالخبط، الذي هو طعام ذلك البعير، ومناوؤا علي «عليه السلام» يجلسون حول مائدة طعام أخرى يشغلهم النظر إليها، وهم ينتظرون الإفراج عنها بفتواه «عليه السلام».. وإذ به يمنعهم عنها، ويحرمهم منها.

أكل القوم إلا علياً:

وقد لفت نظرنا ما يشبه التناقض الذي ظهر بين الروايات، حيث جاء في بعضها قوله: « وأكل الطعام أهل الماء» أو نحو ذلك..

وفي بعضها الآخر قوله: « فأكل القوم إلا علياً».

وفي بعضها: أن عثمان «أكل منه، ولم يأكله علي».

ولعل عثمان ومن معه، أو بعضهم أصابوا من ذلك الطعام، قبل أن يعرفوا أن علياً «عليه السلام» يكره ذلك.. فلما جاءهم «عليه السلام»، وأقام عليهم الحجة انسحب عثمان ومن معه، وتركوا الطعام لأهل الماء.

الصيد حرام للمحرم:

إن هذا الإنسان الذي يطغيه المال ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾، وتبطره النعمة، ويزهو بقوته، ويتيه بكبريائه، ويستكبر بخيلائه، يريد الله تعالى أن يعيده إلى حجمه الطبيعي، وأن يعود إلى الله تعالى، مقراً مذعناً معترفاً، مستعيناً به، لاجئاً إليه، معتمداً عليه. ليعيد إليه حالة التوازن والإنضباط، وليعرِّفه: أنه هو الذي يجب أن يهيمن على نفسه، وأنه قادر على ذلك بالفعل، فبدل أن يكون عبداً لنفسه الأمارة بالسوء، منقاد اً لأهوائه وشهواته، يريد أن يذيقه حلاوة العبودية والطاعة لله تبارك وتعالى، وأن يكون فانياً فيه، لا يرى لنفسه حولاً ولا قوة إلا به.

فكان أن حرم عليه في إحرامه بعض ما كان قد أحله له.. وكان الصيد فعلاً وأكلاً.. هو أحد تلك المحرمات في حال الإحرام، لأن في الصيد إحساساً بالظفر، وشعوراً بالقوة، وإيقاظاً لهوى النفس.

وهذا الإحساس والشعور يتشاطره الصائد والآكل على حد سواء، وإن كان في الصائد أكثر تجلياً وبروزاً منه في سواه..

الخوف والإحترام للحاكم:

ولم يجد الناس في كثير من الحكام ما يبعث السكينة إلى قلوبهم، ويؤكد الثقة لديهم في صحة كثير مما يجعلونه لأنفسهم من صلاحيات، وما يتصدون له من أعمال.. بل هو أمن مصطنع، وسكينة موهومة. وثقة الغفلة أو التغافل، لا ثقة الروية والبصيرة.

فالخلفاء الذين يجعلون لأنفسهم حق الفتوى، والتعبير عن الحكم الشرعي الإلهي. لا يجدون إلا القليل من الناس يصدقونهم في دعواهم أنهم يصيبون كبد الحقيقة فيما ينقلونه، أو يشرعونه، أو يفتون به لهم.

والحكام الذين يجعلون لأنفسهم حق التشريع الذي جعله الله تعالى لنفسه دونهم؛ لا يجد أكثر الناس فيما يشرعونه ما يضمن لهم صحة ذلك التشريع، أو عدم النقص أو الخلل فيه.

وحتى في مسألة الأمن الإجتماعي والإقتصادي، والسياسي، وغيره.. لا تجد أحداً يطمئن لغير الأنبياء وأوصيائهم، ومن نصبوهم، لأنهم يراعون مصالحهم في ذلك كله وسواه.

فاحترام الناس لأولئك الحكام وخضوعهم لهم، ليس لأجل قناعتهم بعدلهم، وبصحة أحكامهم، وإنما هو احترام الخوف من السيف والعصا، أو رغبة في نيل بعض الفتات الذي يلقونه لهم، فلا عجب إذا رأينا السكينة والأمن والثقة مهاجرة عنهم إلى موقع آخر، وإلى شخص يكرهه أولئك الخلفاء والحكام كل الكره.

وربما يهاجر الأمن وسواه عن هؤلاء الحكام، ويبقى تائهاً لا يستقر على أرضٍ، ولا يستظل بسماء، بسبب ما تصنعه الأهواء، وتثيره الشبهات من أباطيل وأضاليل يغرق بها الناس العاديون وتشككهم، أو تحرفهم وتبعدهم عن ملجئهم، وملاذهم، وإمامهم، وصانع الأمن الحقيقي لهم.

ولعل هذه القضية التي نحن بصدد الحديث عنها تصلح مثالاً لهجرة الشعور بالسكينة والأمن والثقة عن الحكام، وإستقرارها في الموضع الذي يكرهه أولئك الحكام، حيث وجدنا الناس لا يقبلون من عثمان فتواه، ولا تقنعهم حججه عليها، وينتظرون علياً «عليه السلام» ليعرفهم الحق، ويكشف لهم عنه.

فهم بعلي يثقون، وإلى علمه وتقواه وورعه يسكنون، ومعه من أي حيف أو استجابة لهوى يأمنون.

خبثت علينا:

ولعل الكلمة التي أطلقها عثمان في هذا المورد بعد أن سدت أمامه السبل، وأخذ من بين يديه ومن خلفه، وهي قوله: «خبثت علينا» ـ بتشديد الباء ـ تستطيع أن تحمل لنا أكثر من دلالة، في أكثر من اتجاه، فقد صرحت، أو ألمحت إلى ما يلي:

1 ـ لعل عثمان رأى أن ما فعله علي «عليه السلام» قد أنتج خباثة للطعام، مع أن حرمة ذلك الطعام على المحرم، لا تعني صيرورته من الخبائث التي حرمها الله، بل يبقى من الطيبات، كما هو مفاد قوله تعالى: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَآئِثَ([7]).

فالإحرام مانع من تناول الطعام الطيب، وليس من موجبات خباثته، فهو كالطعام الذي يمنع المرض من تناوله، فإنه يبقى على طيبه.

وقد يقال: إن عثمان قد قصد معنى أبسط من ذلك وأيسر، وهو المعنى الذي يلتقي بتحريم أكل مال اليتيم، حيث قال تعالى: ﴿وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾.

ونقول:

إن هذا المعنى ليس هو الظاهر من الآية، بل الظاهر منها هو النهي عن تبديل أموال اليتامى الطيبة التي لهم عندكم، فتأخذونها لأنفسكم، وتعطونهم أموالاً رديئة عوضا عنها، وهذا ما يستفاد من قوله تعالى بعده مباشرة: ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً([8]).

وربما يقال: إن عثمان أراد أن يقول لعلي: إنك نغّصت علينا طعامنا ومجلسنا.. ليدل بذلك على أنه لا يترك ذلك الطعام بطيب خاطر، لكن كشف علي «عليه السلام» عن الحكم الشرعي أرغم عثمان على ترك ذلك الطعام بعد أن ظهر قصوره، وبعد أن صغر مقامه في أعين الذين من حوله..

2 ـ إن عثمان قد نسب تخبيث الطعام إلى علي «عليه السلام» مع أن علياً «عليه السلام» لم يزد على أن بين له الحكم الشرعي فيه، استناداً إلى الآيات المباركة، وإلى فعل رسول الله «صلى الله عليه وآله».

فهل أراد بذلك الإيحاء بأن ما احتج به علي «عليه السلام» لا يكفي لإثبات حكم الله تعالى، ولا يخرج المورد عن كونه رأياً لعلي «عليه السلام» قد يخطئ فيه وقد يصيب؟! وبذلك يكون قد حفظ لنفسه بعض ماء الوجه!!

أم أنه أطلق الكلام بعفوية وبراءة، ويريد أن يبين بها أن نفس بيان علي «عليه السلام» للحكم الشرعي قد جعل الطعام بهذه المثابة؟!

إن التأمل في حركات وكلمات عثمان الأخرى لا يؤيد هذا المعنى الأخير، لا سيما وأنه واجه علياً «عليه السلام» بالإتهام المستبطن للتهديد بمجرد حضوره في المجلس، وقبل أن ينبس ببنت شفة، حيث قال له ـ مؤكداً قوله باللام، وبإن، وبالجملة الإسمية ـ: إنك لكثير الخلاف علينا!!.

ولعل هذا هو ما أغضب علياً «عليه السلام» وأحوجه إلى ابتغاء الشهود من أشجع، وإلى أن ينشد القوم مرة بعد أخرى، ليشهدوا بما رأوه وسمعوه من رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وليستدل عليه بالآيات الشريفة..

هذا كله لو قرئت كلمة «خبثت» بتشديد الباء أما لو قرئت بتخفيفها وضمها، فلا مجال لقبولها أيضاً: لأن حرمة الأكل لا تجعل ذلك الحرام من الخبائث إلا بضرب من التأويل..

مع ملاحظة: أن سياق الكلام مع علي «عليه السلام» قد أظهر انزعاج عثمان مما جرى. كما أظهره قوله: إنك كثير الخلاف علينا.

عثمان يتهم.. ويتهدد:

ولا ندري ما الذي دعا عثمان لمواجهة علي «عليه السلام» بهذه القسوة، فإنه هو الذي طلب إليه أن يحضر، فلما حضر وجه إليه ما يشبه التهديد، وصرح بالإتهام له بكثرة الخلاف عليه!!

فهل بيان الأحكام الشرعية يعتبر خلافاً على الحاكم؟! أو هو خدمة للناس، وحفظ لدينهم، ونصيحة لهم، وغيرة عليهم، بما فيهم الحاكم نفسه؟!

وقوله هذا: «إنك لكثير الخلاف علينا» ـ المؤكد باللام، وبإن، وبالجملة الإسمية ـ إن كان يريد به ما يرتبط ببيان الأحكام، فهو يشير إلى كثرة أخطاء عثمان وفريقه في بيانها للناس، وكثرة الحاجة إلى تدخل علي «عليه السلام» للتصحيح وللتوضيح.. وإلى أن الأمر قد بلغ حداً أصبح عثمان يشعر معه بالإحراج الكبير، أو بخطر انفلات الأمور من يديه، من خلال سقوط الهيبة، وفقدان الثقة..

وعثمان لم يقل «عليَّ»، بل قال: «علينا». يشير به ـ فيما يظهر ـ إلى أن تدخلات علي «عليه السلام» لتصحيح الأحكام لم تكن تنحصر بشخص الخليفة، بل تعدته إلى سائر بطانته، وحزبه.. حتى فضحهم بذلك، ولم يعودوا يطيقونه منه؟!

علي يطلب الشهادة من الصحابة:

وتقدم: أن عثمان قد أغضب علياً «عليه السلام» خصوصاً وأنه سعى للإيحاء باتهامه بأنه يزور أحكام الله تعالى، ويحرف الكلم عن مواضعه، ليظهر جهل الحاكم، ويضعف أمره، ويسقط هيبته، وأن داعيه إلى ذلك هو أهواؤه ومآربه الشخصية..

فبادر «عليه السلام» إلى إقامة الحجة القاطعة، ليرد الحجر من حيث جاء، فأثبت له: أن هذا الحكم هو صريح القرآن، وهو قول الرسول وفعله.. وأشهد عليه أناساً هم جلساء عثمان، وليست لهم أية علاقة بعلي «عليه السلام»، بل لعل قبيلة أشجع بأسرها كانت أقرب إلى عثمان وحزبه منها لعلي وأهل بيته..

وظهر: أن علياً «عليه السلام» لم يقل برأيه، ولا مال مع هواه، ولا هو بصدد الخلاف على أحد.

لم يعترض الشهود على عثمان:

والسؤال الذي يحتاج إلى إجابة هو: إذا كان قد شهد لعلي «عليه السلام» اثنا عشر رجلاً بأنهم رأوا وسمعوا وشهدوا رسول الله «صلى الله عليه وآله» قال وفعل ذلك، حين أتي بقائمة حمار وحش، ثم شهد دونهم في العدة، في قضية بيض النعام، فلماذا لم ينبهوا عثمان إلى ذلك قبل أن يحضر علي «عليه السلام»؟! ولو فعلوا ذلك لم تبق حاجة إلى دعوته وحضوره «عليه السلام».

والحال أن الذين شهدوا كانوا في مجلس عثمان، ولعله كان من المفروض أن يشاركوه في تناول ذلك الطعام!!

ونجيب:

بأنه قد يكون السبب في ذلك هو خوفهم من غضب عثمان، وعلي «عليه السلام» وحده الذي يقدم على بيان الأحكام المخالفة لهوى الحكام، ولا يهاب أحداً، كما أظهرته الوقائع التي جرت في خلافة أبي بكر وعمر وبعده.. وقد عرضنا بعض مفردات ذلك في أجزاء سابقة من هذا الكتاب، فآثروا الإحتماء بعلي «عليه السلام»، على تعريض أنفسهم لما لا تحمد عقباه.

حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء:

 ظن عثمان أنه يملك الحجة المقنعة التي تخوله مواجهة علي «عليه السلام»، وكسب المعركة، التي ظن عثمان للمرة الثانية أنها معركة آراء.. وللمرة الثالثة ظن أيضاً، أنها تنتحل الدين لتحقيق مكاسب للدنيا.

وكانت حجته كلمات ثلاث هي: ما صدنا ولا أمرنا، ولا أشرنا..

وإذا بعلي «عليه السلام» يقول له بلسان الحجة من الكتاب ومن السنة النبوية، قولاً وفعلاً: حفظت شيئاً، وغابت عنك أشياء.

فإن حرمة الصيد على المحرم ليس معناها أن لا يقتل الفريسة، أو أن لا يأمر بقتلها، ولا يشير على أحد به، بل معناها ذلك، بالإضافة إلى حرمة أكل الصيد على المحرم.

وقد أطلق الله تبارك وتعالى كلمة الصيد على المصيد في آية صريحة، لا مجال للتأويل فيها؛ فقال: ﴿لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ([9]).

وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ([10]).

ثم جاء «عليه السلام» بالشاهد من فعل النبي «صلى الله عليه وآله»، ليكون القرينة القاطعة على هذا التعميم. لتصبح الآية دالة على حرمة فعل الصيد، وحرمة أكله.

الإستدراج في ا لإستدلال:

ولم نعد بحاجة إلى التذكير بأنه «عليه السلام» قد استدرج عثمان في تقرير الحجة عليه.. ليعرف الناس: أن القضية تنطلق من خلل حقيقي في معرفته بعناصر الحجة على هذا الحكم الشرعي، حيث اقتصر «عليه السلام» أولاً على الإستشهاد بالآية الشريفة على حرمة قتل الصيد.

فقد قال له عثمان: بيِّن لنا؟!

فقال علي «عليه السلام»: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ([11]).

فظن عثمان أنه ظفر بمطلوبه، فاعترض عليه: بأنه لا يجدها صريحة في تقرير الحكم بتحريم أكل الصيد.

فبادره «عليه السلام» بالآية الثانية الأكثر اقتراباً من الصراحة، من حيث أنها تتحدث عن حلية الصيد، وعن حلية أكله في الحل، ثم تعطف عليه الصيد المحرم، وهو ما كان في حال الإحرام،

وهي قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً([12]).

ومن المعلوم: أن المعطوف يأخذ حكم المعطوف عليه، فما حلل في المعطوف عليه صيداً وأكلاً حرم في المعطوف صيداً وأكلاً أيضاً.. ثم بين صحة هذه النتيجة بما ظهر من فعل رسول الله «صلى الله عليه وآله» وشهد به الإثنا عشر، ثم الشهود الآخرون الذين انضموا إليهم، وقضي الأمر.

هذا.. ويبدو لنا: أن الروايات المتقدمة تحكي واقعة واحدة، فيحتاج إلى ضم الخصوصيات المتفرقة إلى بعضها.. لتصبح الصورة أكثر وضوحاً، فليلاحظ ذلك.

سنتان مضتا.. لماذا؟!:

وقد ذكرت رواية سعيد بن منصور: أن عثمان كان يصاد له الوحش على المنازل،ثم يذبح فيأكله، وهو محرم سنتين من خلافته، ثم كلمه الزبير، فتركه..

وسؤالنا هو:

أين كان «عليه السلام» عن عثمان في هاتين السنتين اللتين كان يأكل فيهما الصيد وهو محرم؟!

ويجاب: بأن من الممكن أن لا يكون «عليه السلام» قد حج في تينك السنتين.

ومن الجائز أن يكون قد حج «عليه السلام» فيهما، ولم يحضر في مجلس عثمان الذي أكل فيه من ذلك الصيد، ولعل أحداً لم يتجرأ على الاعتراض على ما يجري، ليصار إلى استدعاء علي «عليه السلام» لحل الإشكال.. أو لعل معترضاً اعترض، فزجره عثمان.

ولا يجوز لنا أن نحتمل أن يكون علي «عليه السلام» قد علم بالأمر وسكت عنه سنتين، إلا إذا فرضنا: أنه كان قد يئس من استجابتهم لهذا الأمر. ولكنهم استجابوا في الثالثة حين أقام الحجة عليها.. فلماذا لم يقمها في السنتين الأوليين لو كان حاضراً؟!..

إلا إذا فرض أن مقصود الرواية: أن بيان علي «عليه السلام» لحرمة أكل الصيد قد حصل في السنة الأولى، وكان عثمان قد أكل من ذلك الصيد، وانتهى الأمر.. ثم أصرَّ عثمان على أكل الصيد بعد ذلك، فرأى الزبير أن ينصحه بالكف حتى لا تنشأ مضاعفات تضعف موقع عثمان، وتجرئ الناس عليه، لأنه يخالف حكم الله بعد إيضاحه واتضاحه. فاستجاب عثمان عندئذٍ، وترك الأكل!!!

ولعل هذا الإحتمال هو الأقرب إلى الإعتبار!!!


([1]) بحار الأنوار ج31 ص250 وفي هامشه عن: صحيح مسلم ج1 ص449 ومسند أحمد ج1 ص290 و 338 و 341 وج4 ص37 وسنن الدارمي ج2 ص39 وسنن ابن ماجة ج2 ص462 وسنن النسائي ج5 ص184 و 185 والسنن الكبرى للبيهقي ج5 ص192 و 193 وأحكام القرآن للجصاص ج2 ص586 وجامع البيان ج7 ص48 وتيسير الوصول ج1 ص272 والمحلى لابن حزم ج7 ص249 والجامع لأحكام القرآن ج6 ص322 وشرح معاني الآثار (كتاب الحج) ص386 وكنز العمال ج3 ص53 عن ابن جرير وصححه، وأبي يعلى، والطحاوي، ومجمع الزوائد ج3 ص229.

([2]) الآية 96 من سورة المائدة.

([3]) الغدير ج8 ص187 ـ 188 ومسند أحمد ج1 ص104 ومجمع الزوائد ج3 ص230.

([4]) الآية 95 من سورة المائدة.

([5]) الآية 96 من سورة المائدة.

([6]) الغدير ج8 ص188 والمحلى لابن حزم ج7 ص254.

([7]) الآية 157 من سورة الأعراف.

([8]) الآية 2 من سورة النساء

([9]) الآية 94 من سورة المائدة.

([10]) الآية 95 من سورة المائدة.

([11]) الآية 95 من سورة المائدة.

([12]) الآية 96 من سورة المائدة.

 

   
 
 

العودة إلى موقع الميزان