وحاول محبوا عثمان الدفاع
عنه فيما يرتبط بإقطاعاته غير المشروعة، بأن علياً «عليه السلام» قد
أقطع كردوس بن هاني الكردوسية"
، واقطع سويد
بن غفلة الجعفي
.
وعن سيف،
عن ثابت بن هريم، عن سويد بن غفلة، قال:
استقطعت علياً «عليه السلام»، فقال: اكتب: هذا ما أقطع علي سويداً
أرضاً لدا ذويه، ما بين كذا إلى كذا، وما شاء الله([1]).
ونقول:
إننا نلاحظ هنا أمرين:
أولهما:
إن قياس إقطاعات عثمان
لذويه ومواليه وحزبه بإقطاعات علي «عليه السلام» قياس
مع الفارق..
فعثمان
XE "عثمان"
كان
يقطع أقاربه ومحبيه محاباة لهم، وبنحو يزيد عن قدرتهم على إحياء الأرض،
ويصيبهم بالتخمة المالية.. وذلك على القاعدة التي أطلقها أحد أقاربه،
والتي تقول: السواد بستان لقريش
([2]).
وأما علي «عليه السلام» فهو يُقْطِعُ القادرين على
إحياء الأرض، ولا يُقْطِعُ محاباة لقريب، ولا لصديق أو حبيب، وإنما
لأهل الحاجة وذوي الإستحقاق..
وشاهد ذلك:
أحداً من الأمة لم يعترض على إقطاعاته «عليه السلام»، بل رأوها صورة
طبق الأصل عن إقطاعات رسول الله «صلى الله عليه وآله»..
ولكن صلحاء الأمة وعلماءها اعترضوا على عثمان
في
إقطاعاته وفي عطاياه على حد سواء، ورأوها مخالفة لأحكام الشرع والدين،
ومن موجبات سقوطه عن الأهلية للموقع الذي وضع نفسه فيه، بل هم قد
استحلوا قتله بسبب ذلك..
ثانيهما:
إن لنفس استدلال أتباع عثمان على
مشروعية فعل خليفتهم بفعل علي «عليه السلام»، دلالة واضحة على أن علياً
«عليه السلام» كان هو الميزان والمعيار للحق والباطل بنظر الناس الذين
إذا بلغهم شيء عنه أذعنوا ورضوا بقوله وفعله، فإنه هو الذي تطمئن
النفوس إلى أخذ الشرع والدين منه وعنه.. وقد قيل «والفضل ما شهدت به
الأعداء»..
قال أبو مخنف والواقدي:
أنكر الناس على عثمان
إعطاءه
سعيد بن العاص مئة ألف درهم، فكلمه علي «عليه السلام»، والزبير
،
وطلحة
وسعد
، وعبد
الرحمان بن عوف
في ذلك، فقال: إن لي قرابة ورحماً.
قالوا:
أفما كان لأبي بكر ، وعمر
قرابة، وذو رحم؟!
فقال:
إن أبا بكر وعمر كانا
يحتسبان في منع قرابتهما، وأنا أحتسب في إعطاء قرابتي.
قالوا:
فهديهما ـ والله ـ أحب إلينا من هديك.
فقال:
لا حول ولا قوة إلا بالله!!([3]).
ونقول:
أولاً:
إن الذي يريد أن يصل قرابته يمكنه أن يصلها من ماله، لا من مال غيره،
وخصوصاً إذا كانوا من المستضعفين والفقراء.
ثانياً:
إن كان يريد أن يعطيهم من بيت المال، فلا
بد أن تكون تلك القرابة من أهل الحاجة، ومن مصاديق العناوين التي جعل
الله تعالى لها أموال الفيء والصدقات، كأن يكون ابن سبيل، أو فقيراً،
أو من المؤلفة قلوبهم، أو من المساكين، أو غير ذلك..
ثالثاً:
لو سلمنا أن له الحق أن يصل رحمه ولو بأموال غيره.. فإن الصلة تتحقق
بما هو أقل من تلك المبالغ الهائلة بكثير، فلو أعطاه مئة درهم لتحققت
الصلة.
أما أن يجمع أموال الفقراء والمساكين، ويعطيها كلها
لواحد أو أكثر من أهل قرابته الأغنياء جداً، فهذا غير معقول في
التدبير، ولا مقبول في أي شرع ودين..
رابعاً:
إن هذه الصلة لا بد أن تكون مما يرضاه الله، أما إذا كانت معونة على
الطغيان، وعلى معصية الله، وللتقوية على أهل الإيمان.. فإنها تكون
قطيعة لله ولرسوله، ولأهل الإيمان.
وسعيد بن العاص هو
القائل لما ولاه عثمان XE "عثمان"
الكوفة XE "الكوفة:أماكن"
بعد
الوليد بن عقبة XE "الوليد
بن عقبة"
: إن هذا
السواد بستان لقريش XE "قريش:جماعات"
([4]).
وسعيد XE
"سعيد
بن العاص"
هذا هو الذي
ضرب هاشم المرقال XE "هاشم
المرقال"
وحرق داره،
لأنه رأى هلال العيد، وعمل بما رأى، وفقاً لقول النبي «صلى الله عليه
وآله»: «إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا»، أو:
>صوموا
لرؤيته، وأفطروا لرؤيته<([5]).
فقد روى ابن سعد
XE "ابن سعد"
:
أن سعيد بن العاص XE "سعيد
بن العاص"
قال مرة
بالكوفة XE "الكوفة:أماكن"
: من رأى الهلال منكم؟! وذلك في فطر رمضان.
فقال القوم:
ما رأيناه.
فقال هاشم بن عتبة بن أبي وقاص
XE "هاشم المرقال"
:
أنا رأيته.
فقال له سعيد
XE "سعيد بن العاص"
:
بعينك هذه العوراء رأيته من بين القوم؟!
فقال هاشم
XE "هاشم المرقال"
:
تعيرني بعيني، وإنما فقئت في سبيل الله؟! ـ وكانت عينه أصيبت يوم
اليرموك.
ثم أصبح هاشم
XE "هاشم
المرقال"
في داره
مفطراً، وغدى الناس عنده، فبلغ ذلك سعيداً XE "سعيد
بن العاص"
، فأرسل إليه فضربه، وحرق داره([6]).
خامساً:
إن المعترضين على عثمان XE "عثمان"
في
عطاياه هم شركاؤه في الشورى، وفيهم عبد الرحمان بن عوف
XE "عبد
الرحمن بن عوف"
الذي اشترط
على عثمان XE "عثمان"
أن
يعمل بسنة أبي بكر XE "أبو
بكر"
وعمر
XE "عمر"
.. وها
هو يحتج عليه هنا بسنة أبي بكر XE "أبو
بكر"
وعمر
XE "عمر"
بالذات، فيصر عثمان XE "عثمان"
على مخالفتهما فيها..
وذكر البلاذري
XE "البلاذري"
:
أنه لما ولى عثمان XE "عثمان"
الوليد بن عقبة XE "الوليد
بن عقبة"
الكوفة
XE "الكوفة:أماكن"
،
اعترض عليه علي «عليه السلام»، وطلحة XE "طلحة"
والزبير XE "الزبير"
، وقالوا له:
ألم يوصك عمر
XE "عمر"
ألاّ
تحمل آل أبي معيط XE "آل
أبي معيط:جماعات"
، وبني أمية
XE "بنو
أمية:جماعات"
على رقاب الناس؟!
فلم يجبهم بشيء([7]).
ونقول:
لا بأس بملاحظة النقاط التالية:
1 ـ
إن عثمان XE "عثمان"
قد
ولى الوليد بن عقبة XE "الوليد
بن عقبة"
الكوفة
XE "الكوفة:أماكن"
سنة ست وعشرين في قول الواقدي
XE "الواقدي"
([8])،
وقال خليفة بن خياط XE "خليفة
بن خياط"
: في سنة خمس وعشرين([9])
فاستعظم الناس ذلك([10]).
2 ـ
إن علياً «عليه السلام»، ومن معه لم يحتجوا على عثمان
XE "عثمان"
بقول
رسول الله «صلى الله عليه وآله» لأبيه عقبة XE
"عقبة"
، حين
أراد «صلى الله عليه وآله» قتله في بدر XE "بدر:غزوات"
فقال له عقبة: من للصبية؟!
فقال «صلى الله عليه وآله»:
النار([11]).
ولم يحتجوا عليه بقول الله تعالى في الوليد
XE "الوليد
بن عقبة"
:
﴿إِنْ
جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا﴾([12])
إذ لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن أنها نزلت فيه([13]).
بل احتجوا عليه بقول عمر
XE "عمر"
ووصيته له بشأن حمله بني أبي معيط XE "أل
أبي معيط:جماعات"
على رقاب
الناس.. رغم أن النبي «صلى الله عليه وآله» هو الذي حذر أصحابه وقومه
منهم.. وهذا يمثل إدانة ضمنية لعثمان XE "عثمان"
، من
حيث أنه يهتم بوصية عمر XE "عمر"
أكثر مما يهتم بإطاعة الله ورسوله..
3 ـ
إن عثمان XE "عثمان"
وإن
كان حين البيعة له قد التزم بالعمل بسنة الشيخين، ولكن علياً «عليه
السلام» لم يحتج عليه بذلك، لأنه قد يدعي أن من سنة عمر
XE "عمر"
وأبي
بكر XE "أبو
بكر"
تولية أمثال
الوليد XE "الوليد
بن عقبة"
، بل ألزمه
بوصية عمر XE "عمر"
،
فإنها نص في المطلوب، ولذلك نرى أن عثمان XE "عثمان"
لم يجبهم بشيء، كما صرحت به الرواية.
وروى أبو سعد
XE "أبو سعد"
في كتابه، عن ابن عباس
XE "ابن
عباس" قال:
وقع بين عثمان
XE "عثمان"
وعلي
«عليه السلام» كلام، وذلك في حياة عمر بن الخطاب
XE "عمر"
([14]).
فقال عثمان
XE "عثمان"
:
ما أصنع إن كانت قريش XE "قريش:جماعات"
لا
تحبكم، وقد قتلتم منهم يوم بدر XE "بدر:غزوات"
سبعين كأنَّ وجوههم شنوف الذهب، تصرع أنفهم قبل شفاههم([15]).
والشنوف:
هو القرط الأعلى.
ونحن نستغرب هذا التوصيف لقتلى المشركين في بدر
XE "بدر:غزوات"
..
وكأنه يريد أن يظهر جمالهم الباهر، وأنهم أهل عزة وشمم، بحيث تصرع
آنافهم قبل شفاههم، وكأنه يسعى لنيل عطف الناس، وأسفهم على فقدان أمثال
هؤلاء.. ثم إثارة الناس وخصوصاً قريش XE "قريش:جماعات"
ضد علي «عليه السلام» الذي قتل نصف هؤلاء وشارك في قتل
النصف الباقي.
على أن هذا الكلام من عثمان
XE "عثمان"
يدل
على أن قريشاً XE "قريش:جماعات"
لا
تحب رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ولا أحداً من المسلمين، الذين
شاركوا في قتل هؤلاء في بدر XE "بدر:غزوات"
.
وحين منع سعيد بن العاص
XE "سعيد
بن العاص"
ـ وهو يومئذ
أمير على الكوفة XE "الكوفة:أماكن"
، من
قبل عثمان XE "عثمان"
ـ علياً «عليه السلام» حقه في الفيء، قال «عليه
السلام»:
«إن بني أمية
XE "بنو
أمية:جماعات"
ليفوّقونني تراث محمد «صلى الله عليه وآله» تفويقاً.
أما والله، لئن بقيت لهم لأنفضنّهم نفض اللحَّام (القصَّاب) الوِذام
التربة»([16]).
أصل هذا الخبر رواه أبو الفرج الأصفهاني
XE "أبو
الفرج الأصفهاني"
في كتاب
الأغاني، بإسناد رفعه إلى حرب بن حبيش XE "حرب
بن حبيش"
، قال:
بعثني سعيد بن العاص
XE "سعيد
بن العاص"
ـ وهو يومئذ
أمير الكوفة من قبل عثمان XE "عثمان"
ـ
بهدايا إلى أهل المدينة XE "أهل
المدينة:جماعات"
، وبعث معي هدية إلى علي «عليه السلام»، وكتب إليه: أني
لم أبعث إلى أحد أكثر مما بعثت به إليك، إلا أمير المؤمنين.
فلما
أتيت علياً وقرأ كتابه قال:
لشد ما تخطر علي بنو أمية XE "بنو
أمية:جماعات"
تراث محمد «صلى الله عليه وآله»، أما والله، لئن
وليتها لأنفضنها نفض القصاب التراب الوذمة.
قال أبو الفرج
XE "أبو الفرج الأصفهاني"
:
وهذا خطأ، وإنما هو: الوذام التربة.
قال:
وحدثني بذلك أحمد بن عبد العزيز الجوهري XE "أحمد
بن عبد العزيز الجوهري"
، عن عمر بن
أبي شيبة XE "عمر
بن أبي شيبة"
، بإسناده ـ
ذكره في الكتاب ـ: أن سعيد بن العاص XE "سعيد
بن العاص"
، حيث كان
أمير الكوفة، بعث مع ابن أبي عائشة XE "عائشة"
مولاه إلى علي بن أبي طالب «عليه السلام» بصلة، فقال
علي «عليه السلام»:
والله، لا يزال غلام من غلمان بني أمية
XE "بنو
أمية:جماعات"
يبعث إلينا مما أفاء الله على رسوله بمثل قوت الأرملة،
والله لئن بقيت لأنفضنها كما ينفض القصاب التراب الوذمة([17]).
ونقول:
لاحظ ما يلي:
1 ـ
الوذام: الكرش والأمعاء. فالوذام إذا وقعت في التراب فإن القصاب يأخذها
وينفضها، ليلقي عنها ما علق بها منه.
2 ـ
إن القصاب هو الذي يتحكم بالوذام والأمعاء، ويجري فيها ما يريد.
والوذام:
هي من الأمور التي لا يرغب بها الناس ولا يهتمون لها، فكيف إذا مرغت
بالتراب، وأصبحت تربة؟!.. فإن القصاب الذي ينفضها لا بد أن يشتد في
نفضها، مع علمه بأنها لن تصبح نظيفة كما يرغب.. فهو زاهد بها، ولا يهتم
لما يجري عليها حين نفضه لها. وهذا هو حال علي «عليه السلام» مع بني
أمية XE "بنو
أمية:جماعات"
في تلك الحقبة..
أو فقل:
إنه يريد أن ينفضهم حتى يزول عنهم ما علق بهم من مال الله، وأن يستخرج
منهم حقوق الله تعالى، وحقوق الناس، ويجازيهم على سيئاتهم.
3 ـ
التفويق: هو إعطاء الشيء آناً فآناً.. أي أنهم يعطونه تراثه على دفعات،
وآناً بعد آن..
4 ـ
إنه «عليه السلام» يشير بكلمته هذه إلى أن فيء العراق وسواه هو تراث
النبي «صلى الله عليه وآله»، فلا يحق لأحد الإستئثار به، بل ولا التصرف
فيه، ولا أن يمن به على أحد، ولا أن يحبسه عن أهله، ولو بأن يعطيهم
إياه بصورة تدريجية، وعلى شكل دفعات..
5 ـ
إن علياً «عليه السلام» أولى الناس برسول الله «صلى الله عليه وآله»،
فهو أخوه وابن عمه، ووصيه، ووارث علمه، والإمام من بعده..
وأين بنو أمية
XE "بنو
أمية:جماعات"
من رسول الله «صلى الله عليه وآله»؟! فإنهم قد حاربوه
ونابذوه إلى أن عجزوا.. ثم هم لم يكونوا الحريصين على العمل بدين الله
سبحانه.. بل كانوا أكثر الناس تعدياً على حدوده، وانتهاكاً لحرمات
الدين..
وقد تمردوا وساعدوا على التمرد على أمر الله في موضوع
الإمامة بعد النبي «صلى الله عليه وآله» وساعدوا على إقصائه «عليه
السلام» عن المقام الذي جعله الله تعالى له، وابطلوا تدبير رسول الله
«صلى الله عليه وآله» فيه. وها هم يمنعون تراث محمد أولى الناس بمحمد
«صلى الله عليه وآله»..
6 ـ
يظهر
هذا النص: أنه «عليه السلام» كان على يقين من أنه إن بقي لهم، فيسكون
قادراً على فعل ذلك ببني أمية XE "بنو
أمية"
. مما يعني: أنه كان عارفاً بأنه سيصل إلى الحكم، إلا
إن كان الأجل مانعاً له من ذلك، جرياً على قانون البداء.
وعلمه بما سيكون لا بد أن يكون قد أخذه من ذي علم اختصه
به دون كل أحد..
عن أحمد بن محمد بن عيسى
XE "أحمد
بن محمد بن عيسى"
، عن ابن
محبوب XE "ابن
محبوب"
، عن علي بن
رئاب XE "علي
بن رئاب"
، عن أبي عبد
الله XE "الإمام
الصادق"
«عليه
السلام»،
قال: إن جماعة من بني أمية XE "بنو
أمية:جماعات"
في
إمرة عثمان XE "عثمان"
اجتمعوا في مسجد رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
في يوم جمعة، وهم يريدون أن يزوجوا رجلا منهم، وأمير المؤمنين
«عليه السلام»
قريب منهم، فقال بعضهم لبعض:
هل لكم أن نخجل علياً
«عليه السلام»
الساعة؟! نسأله أن يخطب بنا ويتكلم، فإنه يخجل ويعيا بالكلام؟!
فأقبلوا إليه، فقالوا:
يا أبا الحسن! إنا نريد أن نزوج فلاناً، فلانة. ونحن نريد أن تخطب.
فقال:
فهل تنتظرون أحداً؟!
فقالوا:
لا.
فوالله ما لبث حتى قال:
الحمد لله المختص بالتوحيد، المقدم بالوعيد، الفعال لما يريد، المحتجب
بالنور دون خلقه، ذي الأفق الطامح، والعز الشامخ، والملك الباذخ،
المعبود بالآلاء، رب الأرض والسماء، أحمده على حسن البلاء، وفضل
العطاء، وسوابغ النعماء، وعلى ما يدفع ربنا من البلاء، حمداً يستهل له
العباد، وينمو به البلاد.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، لم يكن شيء
قبله، ولا يكون شيء بعده.
وأشهد أن محمداً
«صلى الله
عليه وآله»
عبده ورسوله، اصطفاه بالتفضيل، وهدى به من التضليل، اختصه لنفسه، وبعثه
إلى خلقه برسالاته وبكلامه، يدعوهم إلى عبادته وتوحيده، والإقرار
بربوبيته، والتصديق بنبيه
«صلى الله
عليه وآله»،
بعثه على حين فترة من الرسل، وصدف عن الحق، وجهالة، وكفر بالبعث
والوعيد، فبلغ رسالاته، وجاهد في سبيله، ونصح لامته، وعبده حتى أتاه
اليقين
«صلى الله
عليه وآله»
كثيراً.
أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم، فإن الله عز وجل قد
جعل للمتقين المخرج مما يكرهون، والرزق من حيث لا يحتسبون، فتنجزوا من
الله موعده، واطلبوا ما عنده بطاعته، والعمل بمحابه، فإنه لا يدرك
الخير إلا به، ولا ينال ما عنده إلا بطاعته، ولا تكلان فيما هو كائن
إلا عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله:
أما بعد..
فإن الله أبرم الأمور وأمضاها على مقاديرها، فهي غير متناهية عن
مجاريها دون بلوغ غاياتها فيما قدر وقضى من ذلك.
وقد كان فيما قدر وقضى من أمره المحتوم، وقضاياه
المبرمة ما قد تشعبت به الأخلاق، وجرت به الأسباب من تناهي القضايا بنا
وبكم إلى حضور هذا المجلس الذي خصنا الله وإياكم للذي كان من تذكرنا
آلائه، وحسن بلائه، وتظاهر نعمائه.
فنسأل الله لنا ولكم بركة ما جمعنا وإياكم عليه، وساقنا
وإياكم إليه.
ثم إن فلان بن فلان ذكر فلانة بنت فلان، وهو في الحسب
من قد عرفتموه، وفي النسب من لا تجهلونه، وقد بذل لها من الصداق ما قد
عرفتموه، فردوا خيرا تحمدوا عليه، وتنسبوا إليه، وصلى الله على محمد
وآله وسلم([18]).
وروي بإسناد مرفوع قال:
اجتمع نفر من الصحابة على باب عثمان بن عفان، فقال كعب الأحبار: والله
لوددت أنَّ أعلم أصحاب محمد عندي الساعة، فأسأله عن أشياء ما أعلم
أحداً على وجه الأرض يعرفها ما خلا رجلاً أو رجلين إن كانا.
قال:
فبينا نحن كذلك، إذ طلع علي بن أبي طالب «عليه السلام». قال: فتبسم
القوم.
قال:
فكأن علياً «عليه السلام» دخله من ذلك بعض الغضاضة، فقال لهم: لشيء
مَّا تبسمتم؟!
فقالوا:
لغير ريبة، ولا بأس يا أبا الحسن، إلا أن كعباً تمنى أمنية فعجبنا من
سرعة إجابة الله له في أمنيته.
فقال «عليه السلام» لهم:
وما ذاك؟!
قالوا:
تمنى أن يكون عنده أعلم أصحاب محمد «صلى الله عليه وآله» ليسأله عن
أشياء زعم أنه لا يعرف أحداً على وجه الأرض يعرفها.
قال:
فجلس «عليه السلام»، ثم قال: هات يا كعب مسائلك.
فقال:
يا أبا الحسن، أخبرني عن أول شجرة اهتزت على وجه الأرض؟!
فقال «عليه السلام»:
في قولنا؟! أو في قولكم؟!
فقال:
بل أخبرنا عن قولنا وقولكم.
فقال «عليه السلام»:
تزعم يا كعب أنت وأصحابك أنها الشجرة التي شق منها السفينة.
قال كعب:
كذلك نقول.
فقال «عليه السلام»:
كذبتم يا كعب، ولكنها النخلة التي أهبطها الله تعالى مع آدم «عليه
السلام» من الجنة، فاستظل بظلها، وأكل من ثمرها.
هات يا كعب.
فقال:
يا أبا الحسن، أخبرني عن أول عين جرت على وجه الأرض.
فقال «عليه السلام»:
في قولنا؟! أو في قولكم؟!
فقال كعب:
أخبرني عن الأمرين جميعاً.
فقال «عليه السلام»:
تزعم أنت وأصحابك أنها العين التي عليها صخرة بيت المقدس.
قال كعب:
كذلك نقول.
قال:
كذبتم يا كعب، ولكنها عين الحيوان، وهي التي شرب منها الخضر فبقي في
الدنيا.
قال «عليه السلام»:
هات يا كعب.
قال:
أخبرني يا أبا الحسن عن شيء من الجنة في الأرض.
فقال «عليه السلام»:
في قولنا؟! أو في قولكم؟!
فقال:
عن الأمرين جميعاً.
فقال «عليه السلام»:
تزعم أنت وأصحابك أنه حجر أنزله الله من الجنة أبيض، فاسود من ذنوب
العباد.
قال:
كذلك نقول.
قال:
كذبتم يا كعب، ولكن الله أهبط البيت من لؤلؤة بيضاء، جوفاء من السماء
إلى الأرض، فلما كان الطوفان رفع الله البيت وبقي أساسه. هات يا كعب.
قال:
أخبرني يا أبا الحسن عمن لا أب له، وعمن لا عشيرة له، وعمن لا قبلة له.
قال:
أما من لا أب له فعيسى «عليه السلام»، وأما من لا عشيرة له فآدم «عليه
السلام»، وأما من لا قبلة له فهو البيت الحرام، هو قبلة ولا قبلة لها.
هات يا كعب.
فقال:
أخبرني يا أبا الحسن عن ثلاثة أشياء لم ترتكض في رحم، ولم تخرج من بدن.
فقال «عليه السلام» له:
هي عصا موسى «عليه السلام»، وناقة ثمود، وكبش إبراهيم.
ثم قال:
هات يا كعب.
فقال:
يا أبا الحسن بقيت خصلة، فإن أنت أخبرتني بها فأنت أنت.
قال:
هلمها يا كعب.
قال:
قبر سار بصاحبه.
قال:
ذلك يونس بن متى، إذ سجنه الله في بطن الحوت([19]).
ونقول:
لاحظ ما يلي:
إن كعب الأحبار يحاول أن يدعي:
أن لديه علماً لا يعرفه على وجه الأرض أحد ما خلاه رجلاً أو رجلين.
وليسا هما من أصحاب محمد!! ما يعني أنه أعلم من على وجه الأرض.
ولعله أعلم من هذين الرجلين أيضاً!! بل هو قد شكك بوجود
هذين الرجلين من الأساس.
وبهذه الأساليب والإنتفاخات الكاذبة كان علماء أهل
الكتاب يهيمنون علي عقول الناس.
وقد تضمن كلام كعب الأحبار تشكيكاً، إن لم نقل نفياً
مبطناً لوجود العلم الذي يدعيه لنفسه لدى أحد من الناس حتى علي «عليه
السلام».. وكان الناس قد عاينوا من علوم علي «عليه السلام» طيلة عهد
أبي بكر وعمر، بل وفي عهد رسول الله «صلى الله عليه وآله» ما بهرهم..
ولذلك تبسموا حين طلع عليهم علي «عليه السلام»، وكأنهم أحسوا أن الله
سبحانه قد أرسله ليكذب كعب الأحبار.
وعلينا أن لا ننسى أن كعباً كان قد مضى عليه بين
المسلمين سنوات كثيرة، فإنه أسلم في عهد أبي بكر كما عن أبي مسهر([20]).
وقيل: في زمن عمر كما عن أبي نعيم([21]).
بل قيل: إنه أسلم في زمن النبي «صلى الله عليه وآله»([22]).
فلا يعقل أن يكون قد مضى عليه هذا الزمن كله، وهو يخالط
المسلمين ويتنسم أخبارهم، ولا يعرف عن علم علي «عليه السلام» ما يصده
عن هذا القول.. المتضمن لإنكار الفضل لأهل الفضل، والتكذيب لرسول الله
«صلى الله عليه وآله» وكتاب الله تعالى فيما أخبر به عن علم علي «عليه
السلام»..
وملاحظة أخرى نسجلها هنا:
هو التسالم الذي أظهرته هذه الرواية على أن علياً «عليه السلام» أعلم
الصحابة، وذلك يضاف إلى عشرات الأدلة الأخرى التي تكذب ما يزعمونه من
أعلمية بعض الناس في القضاء أو في غيره بالنسبة لعلي «عليه السلام».
وقد ظهر كعب الأحبار في هذا الموقف بمظهر التحدي لأهل
الإسلام.. وكأنه يريد أن يسقط قول القرآن: أنه مهيمن على الدين كله.
وأن علياً «عليه السلام» دون سواه هو الذي عنده علم الكتاب..
ولكن الله سبحانه أبطل كيده، وأبار جهده، وعاد بالفشل
الذريع، والذل المريع، وبمقام الخزي الشنيع..
ولذلك نلاحظ:
أن علياً «عليه السلام» لم يجامل كعباً ومن وراءه، وقد وصفهم بالكذب
ثلاث مرات. وكان صارماً وحازماً، ولذلك لم يقل له: أخطأتم مثلاً..
وقد لوحظ:
أن كعباً لم يكن متحمساً لسؤال أمير المؤمنين، ولولا أن أمير المؤمنين
«عليه السلام» كان يستحثه على طرح أسئلته بقوله: هات يا كعب، ثم كان
يفتح له آفاقاً تثيره، فلعلنا لا نجده يواصلها. لأنه لا يريد أن يفقد
الهالة التي أحاط نفسه بها، والبريق الذي يظن أنه ينبثق ويتفايض عنه.
وقد بقي «عليه السلام» يستنزفه حتى أقر أنه لم يبق لديه
شيء يمكنه أن يدعي أن له خصوصية أو قيمة..
على أن من الأسئلة ما كان قد سئل وأجاب عنه علي «عليه
السلام» في مناسبات سابقة، ومن البعيد أن لا يكون خبرها قد بلغ كعباً،
فإنها تعنيه أكثر من أي شخص آخر.
([1])
تاريخ الأمم والملوك ج3 ص589 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص89.
([2])
راجع: تاريخ الأمم والملوك ج3 ص365 والصراط المستقيم ج3 ص30
وكتاب الأربعين للشيرازي ص580 والغدير ج9 ص31 و 32 ومواقف
الشيعة ج2 ص227 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص129 وج3 ص21
وأعيان الشيعة ج3 ص443 وحياة الإمام الحسين «عليه السلام»
للقرشي ج1 ص342 وج2 ص279 والشافي في الإمامة ج4 ص256 وتقريب
المعارف ص229 ونهج الحق ص291 والفتوح لابن أعثم ج2 ص171 وأنساب
الأشراف ج5 ص40 ـ 42 والإستيعاب ترجمة سعيد بن العاص، والكامل
في التاريخ ج3 ص139 والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج2 ق2 ص140
وتاريخ الكوفة للبراقي ص305 وراجع: الطبقات الكبرى لابن سعد ج5
ص32 وتاريخ مدينة دمشق ج21 ص114 و 115 وتاريخ الإسلام للذهبي
ج3 ص431.
([3])
بحار الأنوار ج31 ص219 وراجع: والغدير ج8 ص269 وعن أنساب
الأشراف ج5 ص28 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج3 ص35.
([4])
راجع: تاريخ الأمم والملوك ج3 ص365 والصراط المستقيم ج3 ص30
وكتاب = = الأربعين للشيرازي ص580 والغدير ج9 ص31 و 32 ومواقف
الشيعة ج2 ص227 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص129 وج3 ص21
وأعيان الشيعة ج3 ص443 وحياة الإمام الحسين «عليه السلام»
للقرشي ج1 ص342 وج2 ص279 والشافي في الإمامة ج4 ص256 وتقريب
المعارف ص229 ونهج الحق ص291 والفتوح لابن أعثم ج2 ص171 وأنساب
الأشراف ج5 ص40 ـ 42 والإستيعاب ترجمة سعيد بن العاص، والكامل
في التاريخ ج3 ص139 والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج2 ق2 ص140
وتاريخ الكوفة للبراقي ص305 وراجع: الطبقات الكبرى لابن سعد ج5
ص32 وتاريخ مدينة دمشق ج21 ص114 و 115 وتاريخ الإسلام للذهبي
ج3 ص431.
([5])
راجع: السنن الكبرى للبيهقي ج4 ص204 و 205 و 206 و 207 و 209 و
247 و 252 وشرح مسلم للنووي ج7 ص186 و 189 و 190 وسنن ابن ماجة
ج1 ص529 و 530 وصحيح البخاري (ط دار الفكر) ج2 ص227 و 229 وج3
ص122 و 124 وصحيح مسلم ج2 ص461 ح19 و (ط دار الفكر) ج3 ص124
وسنن الترمذي ج2 ص96 و 98 وسنن النسائي ج2 ص69 و 61 وج4 ص133 و
134 و 135 و 136 و 139 و 154 وفـتـح = = الباري ج11 ص493 وعمدة
القاري ج10 ص271 و 272 و 274 و 279 و 280 وعون المعبود ج6 ص322
والمستدرك للحاكم ج1 ص423 و 425 والمصنف للصنعاني ج4 ص155 و
156 ومسند الحميدي ج1 ص238 والمصنف لابن أبي شيبة ج2 ص437
والسنن الكبرى للنسائي ج2 ص69 و 70 و 71 و 74 ومسند أبي يعلى
ج4 ص171 و 277 وج9 ص337 و 342 وج11 ص126 ومسند ابن راهويه ج1
ص429 وراجع: الفتوح لابن أعثم ج2 ص169 و 170 والكافي ج4 ص77
ومن لا يحضره الفقيه ج2 ص123 والإستبصار ج2 ص63 وتهذيب الأحكام
ج4 ص156 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج10 ص252 و 289 و (ط
دار الإسلامية) ج7 ص182 و 209 وعوالي اللآلي ج1 ص137 وجامع
أحاديث الشيعة ج9 ص124 والغدير ج8 ص270 واختلاف الحديث للشافعي
ص546 وكتاب المسند للشافعي ص187 ومسند أحمد ج1 ص222 و 226 و
258 وج2 ص145 و 259 و 263 و 281 و 287 و 422 و 430 و 438 و 454
و 456 و 469 و 497 وج3 ص329 وج4 ص23 و 321 وسنن الدارمي ج2 ص2
و 3 ومجمع الزوائد ج3 ص145 و 146 ومصادر كثيرة أخرى.
([6])
الطبقات الكبرى لابن سعد ج5 ص32 وتاريخ مدينة دمشق ج21 ص114
والغدير ج8 ص270.
([7])
الغدير ج8 ص289 وكتاب الفتوح لابن أعثم ج2 ص393.
([8])
تاريخ الأمم والملوك ج4 ص251 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص310
والبداية والنهاية ج7 ص170.
([9])
تاريخ خليفة بن خياط ص114 والإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ج3
ص438 وتاريخ مدينة دمشق ج20 ص352 وج21 ص470 وج63 ص236 وتهذيب
الكمال ج31 ص59 وتهذيب التهذيب ج11 ص126 وراجع: العبر وديوان
المبتدأ والخبرج2 ق1 ص127.
([11])
المصنف للصنعاني ج5 ص205 و 352 و 356 وربيع الأبرار ج1 ص187
والكامل في التاريخ ج2 ص131 والسيرة النبوية لابن هشام ج2 ص298
والأغاني (ط ساسي) ج1 ص10 و 11.
([12])
الآية 6 من سورة الحجرات.
([14])
الجمل للمفيد ص186 و (ط مكتبة الداوري ـ قم) ص99.
([15])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9 ص22 و 23 وبحار الأنوار ج31 ص461
وكتاب الأربعين للشيرازي ص202 والتحفة العسجدية ص131 وحياة
الإمام الحسين للقرشي ج1 ص235 وراجع: الجمل للشيخ المفيد ص99.
([16])
نهج البلاغة الخطبة رقم 77 وبحار الأنوار (ط قديم) ج8 ص350
ونهج السعادة ج1 ص165 ونثر الدر للآبي ج1 ص305.
([17])
بحار الأنوار ج31 ص471.
([18])
بحار الأنوار ج31 ص464 ـ 466 حديث4 والكافي ج5 ص369 ـ 370
وجامع أحاديث الشيعة ج20 ص109 ـ 111 ونهج السعادة ج1 ص147 ـ
150.
([19])
قضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» ص104 وخصائص
الأئمة ص89 ـ 90.
([20])
تاريخ مدينة دمشق ج50 ص157 وتهذيب الكمال ج24 ص190 ومختصر
تاريخ دمشق ج21 ص181.
([21])
جامع البيان للطبري ج5 ص174 وتفسير القرآن العظيم ج1 ص520
والدر المنثور ج2 ص169 وتفسير الآلوسي ج5 ص49 ومختصر تاريخ
دمشق ج21 ص181 و 182 والطبقات الكبرى لابن سعد ج7 ص446 وعمدة
القاري ج18 ص42 والتمهيد لابن عبد البر ج23 ص39 وتاريخ مدينة
دمشق ج50 ص157 ـ 162 وحقائق التأويل ص351 والتبيان للشيخ
الطوسي ج3 ص216 ومجمع البيان ج3 ص99 وكتاب الفتوح لابن أعثم ج4
ص326 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج18 ص276.
([22])
تاريخ مدينة دمشق ج50 ص162 و 163 ومختصر تاريخ دمشق ج21 ص182 و
183 وفتح الباري ج8 ص84 وعمدة القاري ج18 ص42.
|