صفحة :248-270   

1- الفصل الرابع: لتدعوني قريش جلادها..

2- علي يجلد الوليد الحد:

الفصل الرابع:

لتدعوني قريش جلادها..
ف

علي يجلد الوليد الحد:
ومن الأمور التي يحسن التوقف عندها أنه بعد سبع سنين من إمارة عثمان، أي في سنة ثلاثين للهجرة( ) جلد الوليد بن عقبة في الخمر، وكان والياً على الكوفة من قبل عثمان، وكان لعثمان موقف لافت من هذه القضية، أثار انتقادات الصحابة، حتى ليقول العلامة الأميني «رحمه الله»:
بالإسناد عن أبي إسحاق الهمداني: إن الوليد بن عقبة شرب فسكر، فصلى بالناس الغداة ركعتين، ثم التفت فقال: أزيدكم؟!
فقالوا: لا قد قضينا صلاتنا.
ثم دخل عليه بعد ذلك أبو زينب وجندب بن زهير الأزدي وهو سكران، فانتزعا خاتمه من يده وهو لا يشعر سكراً.
قال أبو إسحاق: وأخبرني مسروق: أنه حين صلى لم يرم حتى قاء، فخرج في أمره إلى عثمان أربعة نفر: أبو زينب. وجندب بن زهير. وأبو حبيبة الغفاري. والصعب بن جثامة. فأخبروا عثمان خبره، فقال عبد الرحمن بن عوف: ما له؟! أجن؟!
قالوا: لا، ولكنه سكر.
قال: فأوعدهم عثمان وتهددهم.
وقال لجندب: أنت رأيت أخي يشرب الخمر؟!
قال: معاذ الله، ولكني أشهد إني رأيته سكران يقسلها من جوفه، وإني أخذت خاتمه من يده وهو سكران لا يعقل.
قال أبو إسحاق: فأتى الشهود عائشة، فأخبروها بما جرى بينهم وبين عثمان، وأن عثمان زبرهم، فنادت عائشة: إن عثمان أبطل الحدود، وتوعد الشهود.
وقال الواقدي: وقد يقال: إن عثمان ضرب بعض الشهود أسواطاً، فأتوا علياً، فشكوا ذلك إليه.
فأتى عثمان، فقال: عطلت الحدود، وضربت قوماً شهدوا على أخيك، فقلبت الحكم، وقد قال عمر: لا تحمل بني أمية وآل أبي معيط خاصة على رقاب الناس.
قال: فما ترى؟!
قال: أرى أن تعزله ولا توليه شيئاً من أمور المسلمين، وأن تسأل عن الشهود، فإن لم يكونوا أهل ظنة ولا عداوة أقمت على صاحبك الحد( ).
وفي نص آخر قال عن موقف عثمان من الشهود:
(فزبرهما ودفع في صدورهما، وقال: تنحيا عني!
فخرجا وأتيا علي بن أبي طالب «عليه السلام»، فأخبراه بالقصة، فأتى عثمان وهو يقول: دفعت الشهود وأبطلت الحدود؟!
فقال له عثمان: فما ترى؟!
قال: أرى أن تبعث إلى صاحبك، فإن أقاما الشهادة عليه في وجهه ولم يدل بحجة)( ).
وقال المفيد «رحمه الله»: ولما حضر الوليد لإقامة الحد عليه أخذ عثمان السوط، فألقاه إلى من حضره من الصحابة، وقال ـ وهو مغضب ـ: من شاء فليقم الحد على أخي( ).
ويقال: إن عائشة أغلظت لعثمان وأغلظ لها وقال: وما أنت وهذا؟! إنما أمرت أن تقري في بيتك.
فقال قوم مثل قوله، وقال آخرون: ومن أولى بذلك منها، فاضطربوا بالنعال، وكان ذلك أول قتال بين المسلمين بعد النبي «صلى الله عليه وآله»( ).
وأخرج من عدة طرق: أن طلحة والزبير أتيا عثمان، فقالا له: قد نهيناك عن تولية الوليد شيئاً من أمور المسلمين، فأبيت، وقد شهد عليه بشرب الخمر والسكر، فاعزله.
وقال له علي: اعزله، وحدَّه إذا شهد الشهود عليه في وجهه.
فولى عثمان سعيد بن العاص الكوفة، وأمره بإشخاص الوليد، فلما قدم سعيد الكوفة غسل المنبر، ودار الإمامة، وأشخص الوليد.
فلما شهد عليه في وجهه وأراد عثمان أن يحده ألبسه جبة حبر، وأدخله بيتاً، فجعل إذا بعث إليه رجلاً من قريش ليضربه قال له الوليد: أنشدك الله أن تقطع رحمي، وتغضب أمير المؤمنين عليك. فيكف.
فلما رأى ذلك علي بن أبي طالب أخذ السوط، ودخل عليه، ومعه ابنه الحسن، فقال له الوليد مثل تلك المقالة.
فقال له الحسن: صدق يا أبت.
فقال علي: ما أنا إذاً بمؤمن. وجلده بسوط له شعبتان.
وفي لفظ: فقال علي للحسن ابنه: قم يا بني فاجلده.
فقال عثمان: يكفيك ذلك بعض من ترى، فأخذ علي السوط، ومشى إليه، فجعل يضربه و الوليد يسبه( ).
وفي لفظ الأغاني: فقال له الوليد: نشدتك بالله وبالقرابة.
فقال له علي: اسكت أبا وهب! فإنما هلكت بنو إسرائيل بتعطيلهم الحدود، فضربه وقال:
لتدعوني قريش بعد هذا جلادها( ).
قالوا: وسئل عثمان أن يحلق، وقيل له: إن عمر حلق مثله.
فقال: قد كان فعل ذلك ثم تركه( ).
وعند المفيد: أن الوليد لما رأى علياً «عليه السلام» يقصد نحوه ليضربه، نهض من موضعه لينصرف، فبادر إليه «عليه السلام» فقبضه، فشتمه الوليد، فسبه أمير المؤمنين «عليه السلام» بما كان أهله، وتعتعه حتى أثبت إقامة الحد عليه.
فاستشاط عثمان من ذلك، وقال له: ليس لك أن تتعتعه يا علي، ولا لك أن تسبه.
فقال له «عليه السلام»: بل لي أن أقهره على الصبر على الحد. وما سببته إلا لما سبني بباطل، فقلت فيه حقاً.
ثم ضربه بالسوط ـ وكان له رأسان ـ أربعين جلدة في الحساب بثمانين.
فحقدها عليه عثمان ( ).
وفي الوليد يقول الحطيئة جرول بن أوس بن مالك العبسي:

شـهـد الحطيئـة يــوم يلقى ربـــه أن الـولـيــد أحــق بـالــعــــذر
نـادى وقــد نفــدت صـلاتهــم أأزيــدكــم؟ ثـمـلاً ومـا يــدري
ليزيـدهـم خـــيراً ولــو قبـلــوا مـنـه لــزادهـــم عــلى عـشــــر
فـأبــوا أبـا وهب! ولـــو فعلـوا لـقـرنــت بـين الـشـفـع والـوتر
حبسـوا عنانك إذ جـريـت ولــو خـلـوا عـنـانـك لم تـزل تجري( )


وذكر أبو الفرج في «الأغاني» ج4 ص178 وأبو عمر في «الإستيعاب» بعد هذه الأبيات لحطيئة أيضاً قوله:

تـكـلـم في الصــلاة وزاد فـيـهـا عـلانـيـة وجـاهــر بـالـنـفـــاق
ومـج الخـمـر في سـنـن المـصـلي ونــادى والجـمـيـع إلى افــتـراق
أزيـدكــم؟! عـلى أن تحمــدوني فــما لـكـم ومـا لي مـن خـلاق( )


ونقول:
هنا أمور تحسن الإشارة إليها، وهي التالية:
سبه بما أهله:
إن شتم الوليد لعلي «عليه السلام»، لمجرد أنه يريد أن يقيم الحد عليه هو ظلم وعدوان، لأن علياً «عليه السلام» ليس بصدد الإنتقام منه لنفسه، ولا أن يتلذذ بآلام غيره، بل يريد أن يؤدي واجبه الإلهي، فإن كان للوليد أن يعترض، ولعثمان أن يحقد على أحد، فليحقدا على رب العالمين الذي أمرهما بإقامة الحدود.
واللافت هنا: أن الوليد يشتم علياً بالباطل الذي يدرك براءته «عليه السلام» منه. أما علي فيسب الوليد بما فيه، وذلك أوجع لقلبه، من حيث إنه يذكر الناس بصفاته وممارساته التي تصغره في أعينهم..
ومن الواضح: أن ذكر الإنسان بما فيه لردعه عن عدوانه، أو للمقابلة بالمثل ليس هو السب المبغوض لله، والقبيح عند العقلاء، بل هو عبادة وقربة إلى الله تعالى.. وإن أطلق عليه سب، فهو على سبيل المجاز، لموافقته من حيث الشكل مع السب.. مع أنه ليس منه، بل هو نعته بما فيه، وما هو أهله.
هذا هو حكم الله:
إن عثمان يعترض على علي «عليه السلام»، زاعماً: أنه خالف حكم الله حين رد على الوليد بما هو أهله، وتعتعه، وإذ به يفاجأ بأن علياً «عليه السلام» كان يراعي حكم الله في هذا وذاك، فإن من يمنع من حكم الله عليه لا بد أن يقهر على ذلك..
ومن يسب الناس بالباطل، فلا غضاضة في أن يؤخذ منه هذا الحق أيضاً، وهو أن يوصف بالحق، وبما هو فيه، وإن سمي هذا سباً مجازاً.
أسكت أبا وهب:
وحين ناشد الوليد علياً «عليه السلام» بالله والرحم، قال له «عليه السلام»: اسكت أبا وهب، فإنّما هلكت بنو إسرائيل بتعطيلهم الحدود.

ونقول:
أولاً: إن الوليد حين أظهر أنّه يريد من علي «عليه السلام» أن يراعي رضى الله تعالى فيه، وأن يراعي أيضاً حرمة الرحم، فإنّه قد عبر عن أمرين:
أحدهما: أنّه يرى: أن لله تعالى حرمة، وأن رضاه تعالى مطلوب، وكذلك الحال بالنسبة للرحم، فإن لها حرمة أيضاً. وهذا أمر إيجابي، وهو صحيح في نفسه، سواء أصدق فيه ابن عقبة، أم لم يصدق..
الثاني: أنّه أراد أن يستفيد من هذا الأمر الصحيح في اتجاه مخالف لرضا الله ولصلة الرحم، ألا وهو تعطيل حدود الله تبارك وتعالى، وتشجيع العصاة على الإستمرار في معاصيهم.
كما أنّه يتضمن قطيعة للرحم، لأن تشجيع الأقارب على المنكر لا يعد صلة لهم، بل هو قطيعة وعقوق، وجناية عليهم.
فجاء جواب علي «عليه السلام» للوليد حاملاً لخصوصيتين أيضاً، إحداهما ترضي الوليد، والأخرى تغضبه، وهو كلام حق وصحيح في نفسه، وصحيح في موقعه أيضاً. فقد قال له:
ألف: أسكت. وهي كلمة لا يرضاها لنفسه الوليد، المعتاد على تزلف المتزلفين، ولكنها تعبر عن واقع لا بدّ من حصوله، لأن ما ينطق به الوليد ما هو إلا كلمة حق يراد بها باطل.
ب: ثم خاطبه «عليه السلام» بكنيته التي ترضي غروره، ليتجانس مع ظاهر كلام الوليد المخالف لباطنه، لأنه بمطالبته علياً «عليه السلام» برعاية رضا الله وحق الرحم، أراد أن يجعل ذلك ذريعة لحمل علي «عليه السلام» على فعل ما يسخط الله، ويتسبب بقطيعة الرحم.
فيتجانس معه كلام علي «عليه السلام» المظهر للإحترام الظاهري من خلال خطابه بالكنية، والمستبطن للإصرار على إجراء الحدّ عليه، والمصاحب لأمره بالسكوت عن الكلام الذي يراد به باطل.
ج: ثم جاء التعليل القاضي بلزوم إجراء الحدّ على الوليد ليبين: أن القضية ليست مسألة شخصية، ترتبط بصلة الرحم وقطعها، وإنما هي تمس الأمة بأسرها في مصيرها الذي لا بدّ لها من التأكد من كونه مرضياً لها، ومنسجماً مع آمالها، وطموحاتها وتوقعاتها.
وبذلك يكون «عليه السلام» قد وضع الوليد في مواجهة الأمة، عوضاً من كونه في مواجهة شخص علي «عليه السلام».
وقد أسس «عليه السلام» بذلك حقاً للأمة، لا بدّ لها أن تمارسه في الدفاع عن علي «عليه السلام»، حين يتعرض للسباب من قبل الوليد، لمجرد أنّه يجري عليه الحدّ الذي هو حق للأمة، ولو أنها لم تمارس حقها هذا، فإنها ستهلك كما هلك بنو اسرائيل.
الجبة لماذا؟!:
ولا بدّ من السؤال عن السبب في الباس الوليد جبة حبر، فإن المفروض هو إقامة الحدّ عليه مجرداً إلا من ساتر عورته. ويضرب أشد الضرب. فهل أراد عثمان أن يخفف من إحساس الوليد بألم الضرب الوارد عليه؟! وألا تعتبر هذه مخالفة أخرى لأحكام الشريعة؟!
وقد صرح الطبري: بأنه كانت على الوليد خميصة يوم أمر به أن يجلد، فنزعها عنه علي بن أبي طالب «عليه السلام»( ).
ولنفترض: أن علياً «عليه السلام» لم يعترض على ذلك، فلا بد أن يكون سبب ذلك خوفه من جعل ذلك ذريعة لتعطيل الحدّ، بحجة أنهم لم يسمعوا من النبي «صلى الله عليه وآله» نصاً يلزمهم بذلك!!
موقف علي × يختلف عن موقف عائشة:
تقدم: أن عثمان أوعد الشهود، وتهددهم وزبرهم.
وأنهم شكوه إلى عائشة، فنادت عائشة: إن عثمان أبطل الحدود، وتوعد الشهود.
وتقدم: أنّه ضرب بعضهم أسواطاً، فشكوه إلى علي «عليه السلام»، فأتاه «عليه السلام» وطالبه بذلك.
ونحن لا نحتاج إلى التأكيد على حرمة التهديد والوعيد للشاهد، فضلاً عن حرمة ضربه.
ولا أن نتوقف عند شكوى الشهود لعائشة وموقفها، فإنّه قد احرج الخليفة بصورة كبيرة، فهو مدين لأبيها في تسهيل وصوله إلى المقام الذي هو فيه، ولعائشة تأثير كبير على التيار الذي ينتمي إليه عثمان، ويحتمي به.
ولكننا نتوقف عند شكوى الشهود إلى علي «عليه السلام» ما فعله بهم عثمان، ودقة علي «عليه السلام» في موقفه الذي اتخذه من هذه القضية.
والبارز هنا: هو هذا الاختلاف الظاهر بين موقفه «عليه السلام» وموقف غيره، فعائشة مثلاً بادرت إلى الإعلان بإدانة عثمان و الوليد بصورة قاطعة، حيث نادت: إن عثمان أبطل الحدود، وتوعد الشهود، وذلك بمجرد شكوى الشهود لها.
أمّا علي «عليه السلام» فلم يستسغ موقفاً كهذا، فقد يدعي مدعٍ أن الشهود كاذبون أو مخطؤن في شهادتهم على الوليد، فإن شربه للخمر لم يكن قد ثبت بعد عند قاضٍ، وشهادتهم لم توثق بعد من قبل من يتصدى لذلك، فلعل فيها خللاً من بعض الجهات يسقطها عن الإعتبار، ولعل.. ولعل.
كما أنّه لم يثبت بعد صحة ما ادعوه ـ عند عائشة وغيرها ـ على عثمان من التهديد والوعيد لهم، فإن القضية لا تزال في دائرة الإدعاء عليه.
وحتى لو ثبت أنه فعل ذلك، فلا يصح إصدار حكم ضده قبل سؤاله عن مبررات فعله هذا، فـ «لعل لها عذراً وأنت تلوم».
كما أنّه لا يجوز تجاهل أمر كهذا، بل لا بدّ متابعته، وإحقاق الحق فيه، وفق أصول الشريعة، وما تقتضيه أحكامها.
ولذلك بادر علي «عليه السلام» إلى الحضور بنفسه ليسمع من عثمان، ولم يكتف بأقوال الشهود في حقه، فيحكم عليه وهو غائب.
وحين أتاه لم يواجهه بإدانة حازمة، ولا بحكم قاطع بأنه قد عطل الحدود، وضرب الشهود. بل طرح عليه سؤالاً ينتظر منه الإجابة عليه، ثم يتصرف وفق ما يقتضيه.
وجاءته الإجابة التي فتحت له باب التدخل للإصلاح، ووضع الأمور في نصابها، فقد أقرّ عثمان بأنّه يواجه مشكلة فيما يرتبط بأخيه الوليد بن عقبة.
فجاءه الإقتراح الملزم له، والذي لا مجال له للتنصل منه، أو التقاعس فيه، والمزيل لأي وهم في أن يكون لدى علي «عليه السلام» أي تحامل، أو تجنّ على الوليد، إستجابة لأي داع غير رعاية أحكام الشرع.
بل هو قد فتح له باب احتمال براءة أخيه، كما سنرى في الفقرة التالية:
ماذا في اقتراح علي ×؟!:
وقد تضمن اقتراح علي «عليه السلام» أمرين، هما في غاية الدقة، وهما موافقان لأحكام الله تعالى، وليس فيهما ضرر على عثمان والهيئة الحاكمة، بل ربما يجدون أن الأخذ بهما مفيد وسديد. وهذان الأمران هما:
الأول: عزل الوليد عن موقعه، وعدم توليته بعد ذلك شيئاً من أمور المسلمين، لأن تولية شخص عرفت عنه أمور كهذه، سيكون من موجبات سوء الظن بالحكم والحاكمين، وتضعيف الثقة به وبهم، وعدم الإطمئنان إليه وإليهم، كما أن ذلك قد يهيء الفرصة للوليد وحزبه للإنتقام، وإثارة البلابل والقلائل.
وقد تزداد الأمور سوءاً، ويحدث ما لم يكن بالحسبان، ويتسع الخرق على راقعه، وتنتهي الأمور إلى حيث لا ينفع الندم.
الثاني: إنّه «عليه السلام» أفسح المجال أمام الوليد وحزبه للدفاع عن أنفسهم، بل هو قد فتح الباب أمام التأكد من صدق الشهود، حيث أعطى الحق للمشهود عليه، بأن يثبت بالدليل المقبول والمعقول عدم صحة الاستناد إلى شهادتهم، إذا كانوا من أهل الظنة، أو من أهل العداوة له.
وبذلك يكون «عليه السلام»:
أولاً: قد عمل بمقتضى الآية الكريمة: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾( )، حيث دلت على أنه لا بدّ من رعاية حقوق المتهم، وحفظها له، وأدائها إليه على أتم وجه.
وأعطى الأمثولة في العدل، ورعاية الحقوق، والإلتزام بأحكام الشرع الشريف.
ثانياً: إنّه «عليه السلام» قد أكد مضمون القاعدة التي تقول:
إن المتهم بريء إلى أن تثبت إدانته، وإن مجرد شهادة الشهود لا يبرر التجني عليه، ولا يسقط حقه في الدفاع عن نفسه، ولا أيا من حقوقه الأخرى.
ثالثاً: لقد شرط «عليه السلام» لإدانة الوليد: أن تتم شهادة الشهود عليه في وجهه، وهذه ضمانة أخرى لحق المشهود عليه، ليس فقط لأجل أن المواجهة تصعِّب على الشاهد الإفتراء والكذب، والشهادة على الغائب هي الأيسر والأسهل على الشاهد، حيث يتكلم بلا رقيب أو حسيب، وإنما يضاف إلى ذلك: أن الشهادة الحاضرة تعطي المشهود عليه الفرصة لإثارة الكثير من علامات الإستفهام حول ما يدلي به الشاهد، وقد يتمكن من كشف بعض مواضع الوهن في الشهادة، وبالتالي من إسقاطها.
موقف الإمام الحسن × من جلد الوليد:
وتقدم: أن عثمان ألقى السوط إلى من حضره من الصحابة، وقال ـ وهو مغضب ـ: من شاء منكم فليقم الحد على أخي. فتراه قد ضمَّن كلامه ما دل الحاضرين على أن جلد الوليد سيعتبره عثمان بمثابة تعدٍ عليه هو شخصياً، ولذلك قال: فليقم الحد على أخي.
وقد قال ذلك، وهو مغضب، فأحجم الحاضرون عن ذلك ربما خوفاً من عاقبة هذا الموقف الذي يشبه التهديد.
وتقدم: أن الوليد كان يقول لمن يريد أن يجلده من قريش: أنشدك الله أن تقطع رحمي، وتغضب أمير المؤمنين عليك. فينصرفون عنه، وأنّه قال لعلي «عليه السلام» ذلك، فقال الحسن «عليه السلام»: صدق يا أبت.
فقال علي «عليه السلام»: ما أنا إذاً بمؤمن.
ونقول:
أولاً: إن علياً «عليه السلام» لم ير في جلد الوليد قطيعة لرحمه، بل رأى «عليه السلام» في إجراء حدود الله الرادعة للمذنبين، والموجبة لعبرة المعتبرين سبباً في صلة الرحم، لأنها من وسائل صدهم عن المنكرات، وحملهم على التزام سبيل الصلاح والرشاد، وهذا غاية الإحسان إليهم، والصلة لهم.
ثانياً: إنّه «عليه السلام» لم يكن يهتم لغضب أي كان من الناس إذا كان يغضب من إجراء أحكام الله، وإقامة حدوده، فإن المطلوب هو رضا الله دون سواه، فإنّه لا طاعة لمخلوق ولا قيمة لرضاه في جانب سخط الخالق تبارك وتعالى.
ثالثاً: إن هذه الكلمة التي تنسب للإمام الحسن «عليه السلام» ـ لو صحت عنه ـ إنّما أريد بها إسماع الناس موقف أمير المؤمنين «عليه السلام» من هذه المقولة، وتعريفهم: بأن الإلتزام بها معناه الخروج عن دائرة الإيمان، لأنها تؤدي إلى تخطئة الساحة الإلهية فيما شرعته، وشراء رضا المخلوق بسخط الخالق.
بل هي تعني تخصيص أحكام الشريعة بفئات من الناس دون سواهم. والقول بلزوم إجراء حدود الله بغير أقارب الخلفاء، وبغير ذوي الأرحام وهذا هو التشريع الباطل، المخرج عن دائرة الإيمان كما هو ظاهر.
عثمان لا يرضى بتولي الحسن × جلد الوليد:
وتقدم: أن علياً «عليه السلام» أمر الإمام الحسن «عليه السلام» بجلد الوليد، فمنعه عثمان بقوله: يكفيك ذلك بعض من ترى.
فقد دلّ عثمان بقوله هذا على أنّه يرغب بأن يتولى مهمة الجلد أحد المتعاطفين مع الوليد، ربما لأنه ظن أنهم سيكونون به أرفق، لا سيما مع علمه بأن الحسن كعلي «عليهما السلام»، لا يحابي ولا يتساهل في إجراء حدّ الله، ولا يمكن أن تأخذه الرقة على الوليد.
غير أن تولي علي «عليه السلام» نفسه لهذه المهمة قد أفشل ما خطط له عثمان، ولم يكن يمكنه الإعتراض عليه في ذلك، لأن الأمر سيصبح مكشوفاً إلى حدّ الفضيحة.
وهذا يعطي: أنه لا مجال لتأييد الرواية التي تقول بتولي عبد الله بن جعفر لجلد الوليد بأمر علي «عليه السلام»، لأن عثمان الذي لم يرض بالإمام الحسن «عليه السلام».. لا يرضى بابن جعفر لنفس السبب الذي ذكرناه.
التزييف والتحريف في موقف الإمام الحسن ×:
وعند ابن قتيبة: أن عثمان قال لعلي «عليه السلام»: دونك ابن عمك، فأقم عليه الحد.
فقال علي للحسن «عليهما السلام»: قم فاجلده.
فقال الحسن: ما أنت وذاك؟! هذا لغيرك.
قال علي: لا، ولكنك عجزت وفشلت. يا عبد الله بن جعفر، قم فاجلده.
فقام فضربه وعلي يعدّ، فلما بلغ أربعين أمسك وقال: جلد رسول الله أربعين، وأبو بكر أربعين، وكملها عمر ثمانين. وكلٌّ سنَّة( ).
ونقول:
أولاً: إن هذا الحديث قد تضمن طعناً بالإمام الحسن «عليه السلام»، حيث نسب إليه إساءة أدب الخطاب مع أبيه، وقد نزَّهته آية التطهير عن أي شين وعيب..
ثانياً: إنه تضمن أن الإمام الحسن «عليه السلام» يرى أن أباه يتدخل فيما لا يعنيه، وما ليس من شأنه، حين يتصدى لجلد الوليد الحد، حيث قال له: وما أنت وذاك؟! هذا لغيرك.
بل هذه الكلمة توحي بأن الإمام الحسن «عليه السلام» يرى أباه جاهلاً بالحكم الشرعي، وأنه بصدد تعليمه.
وإذا كان هذا لغير علي «عليه السلام»، فكيف رضيه علي «عليه السلام» لنفسه؟! وإذا كان علي «عليه السلام» لا يدري الحكم الشرعي، وهو باب مدينة العلم، فمن يدريه؟!
وألا يعد هذا تكذيباً للنبي «صلى الله عليه وآله» الذي أعلن أن علياً «عليه السلام» مع الحق، ومع القرآن، والحق والقرآن مع علي «عليه السلام»؟!
بل كيف رضي النبي «صلى الله عليه وآله» لعلي «عليه السلام» هذا الأمر حين أمره بجلد الأمة التي زنت، فجلدها، بعد أن طهرت من استحاضتها؟!( ).
ثالثاً: هل صحيح أن الإمام الحسن «عليه السلام» يعجز ويفشل عن أمر كهذا؟! ومن يكون كذلك هل يصلح لإمامة الأمة؟!
وهل معنى ذلك: أن يكون النبي «صلى الله عليه وآله» قد أخطأ في نصبه في هذا المقام حين قال: «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا»؟!.
وإذا كان «صلى الله عليه وآله» لا ينطق عن الهوى، ألا يكون من الكفر القول عمن رضيه الله ورسوله إماماً للأمة: إنه عاجز وفاشل؟! أم أن من أوصاف الإمام هو العجز والفشل؟!
رابعاً: بالنسبة للجلد أربعين أو ثمانين في الخمر، وقول أمير المؤمنين «عليه السلام»: وكل سنة، نقول:
إن الحد في الخمر هو ثمانون جلدة، إذا جلده بسوط واحد.. أما إذا جلده بسوط له شعبتان أربعين جلدة، فإنها تحتسب ثمانين..
وقد يكون اختيار جلد الوليد بسوط له شعبتان لمصلحة رآها «عليه السلام»، وهي تأكيد جواز ذلك شرعاً. وقد يكون هو السوط الذي توفر لهم آنئذٍ.
خامساً: تقدم أن عثمان هو الذي رفض أن يتولى الإمام الحسن «عليه السلام» جلد الوليد. ولعل قول الرواية هنا: إن الحسن «عليه السلام» قال: ما أنت وذاك؟! قد حرِّف، وأن عثمان هو الذي قال ذلك.
لتدعوني قريش جلادها:
وعن قول علي «عليه السلام»: «لتدعوني قريش بعد هذا جلادها» نقول:
ألف: إنّه عليه يخبر عن المستقبل، فإنّه أعرف الناس بنفسيات بني قومه، وبأفق تفكيرهم، ونطاق تصرفاتهم، غير أن التأكيد باللام وبالنون المؤكدة الثقيلة يعطي: أن الأمر أكثر من مجرد توقع، فإنّه علم مأخوذ من ذي علم، وقد عودنا أمير المؤمنين «عليه السلام» على مثل هذه الأخبار الصادقة.
هذا وقد تحققت نبوءته «عليه السلام» بالفعل، فصاروا يعدونه ممن يضرب الحدود بين يدى الخلفاء الذين سبقوه، بل لقد رووا ذلك على لسانه أيضاً( ).
ب: إنّه «عليه السلام» قد دل على أن قريشاً تقيس الأمور بما يخالف طريقة أهل الإيمان والتسليم لحكم الله تعالى. فترى حتى إقامة الحدّ على الزاني أو شارب الخمر منها تعدياً عليها وانتهاكاً لحرمتها.
وذلك يشير إلى أمرين:
أحدهما: أنها تتعامل مع الأمور من خلال النظرة القبلية والعشائرية، وتنظر إليها بمنظار الجاهلية.
الثاني: أنها ترى: أن من حقها أن تعصي الله في أمر ه ونهيه، وأن أحكام الحدود والقصاص لا تشملها، ربما على قاعدة: شعب الله المختار، المأخوذ من اليهود.
ج: أن قريشاً ترى: أن من يقيم حدود الله على مرتكبي الفواحش جلاداً، في حين أن ذلك عند الله تعالى يعد من العبادات التي يثاب فاعلها.
د: أنها ترى في الوليد بن عقبة وأضرابه ممثلاً لها، وتعبيراً عنها، فليت شعري! ما حال قبيلة يكون أمثال الوليد عنوان شرفها، ومصدر عزها وفخرها، وليس صلحاؤها، إن كان فيها صلحاء؟! ولا أتقياؤها وأبرارها، إن كان ثمة أبرار وأتقياء، وقليل ما هم.
سعيد بن العاص يجلد الوليد:
وزعم الطبري: أن الذي جلد الوليد هو سعيد بن العاص، فأورث ذلك عداوة بين ولديهما حتى اليوم( ).
ونقول:
إن ذلك موضع ريب، فإن المشهور المعروف هو: أن علياً «عليه السلام» هو الذي جلده، ومن المشهور أيضاً قوله «عليه السلام»: «لتدعوني قريش بعد هذا جلادها». ولعله لأجل ذلك ادعوا: أن علياً «عليه السلام» كان يقيم الحدود بين يدي الخلفاء.
أما العداوة بين سعيد بن العاص، والوليد وولداهما، فلعلها لأجل تولية سعيد الكوفة مكان الوليد، فسير سعيد الوليد إلى عثمان، وغسل المنبر في الكوفة.. كما تقدم.
وهذا يعطي: أن سعيد بن العاص لم يحضر جلد الوليد في المدينة. فكيف يكون هو الذي جلده الحد؟!
لا قيمة لروايات الطبري:
أما ما ذكره الطبري، من مروايات تحاول تبرئة الوليد ( )، فلا قيمة لها.. بعد ظهور الإجماع على جلد الوليد..
ويتأكد سقوط هذه الروايات، بملاحظة: أنها تعتمد على ادعاء العداوة السابقة بين الوليد وبين الشهود لأمور كانت بينه وبينهم.. مع العلم بأن علياً «عليه السلام» قد قال لعثمان: إن العداوة بين الشاهد والمشهود تسقط شهادته عن الإعتبار. وقد كان عثمان حريصاً كل الحرص على التشبث بأدنى سبب لتبرئة أخيه الوليد..
فدلنا ذلك: على سقوط دعوى العداوة والتجني من قِبَل الشهود على الوليد.


([1]) راجع: تاريخ الأمم والملوك ج4 ص276 ـ 278 والكامل في التاريخ ج3 ص104 وتاريخ الإسلام للذهبي ج3 ص329.

([2]) الغـديـر ج8 ص120 عن أنساب الأشراف ج5 ص33 وراجع: شرح نهـج = = البلاغة للمعتزلي ج3 ص19.

([3]) بحار الأنوار ج31 ص156 وقاموس الرجال للتستري ج10 ص440 و 441 وراجع: الجمل ص177 وفي هامشه عن: تاريخ اليعقوبي ج2 ص165 ومروج الذهب ج2 ص344 و 345 و (ط دار الأندلس) ج2 ص336 والكامل في التاريخ ج3 ص106 و 107 والأغاني ج5 ص126 و 129 و 130.

([4]) الجمل ص179 و (ط مكتبة الداوري ـ قم) ص96 وأشار في هامش النسخة الأولى إلى المصادر التي في الهامش السابق، بالإضافة إلى: أنساب الأشراف ج1 ق4 ص520 و 521 والعقد الفريد ج4 ص307 و 308 والشافي ج4 ص245 والرياض النضرة ج2 ص78 وشرح نهج البلاغة ج3 ص18 ـ 20.

([5]) الغدير ج8 ص120 و 121 وعن أنساب الأشراف ج5 ج33 و (ط أخرى) ج6 ص144 وراجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج3 ص19.

([6]) الغدير ج8 ص121 وعن أنساب الأشراف ج5 ج35.

([7]) راجع: الغدير ج8 ص121 ومناقب آل أبي طالب (ط المكتبة الحيدرية) ج1 ص409 وبحار الأنوار ج76 ص99 والأغاني (ط ساسي) ج4 ص177 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج17 ص230.

([8]) الغدير ج8 ص121 وعن أنساب الأشراف ج5 ج35.

([9]) راجع: الجمل للمفيد ص179 و (ط مكتبة الداوري ـ قم) ص96 وسائر المصادر في الهامش السابق.

([10]) راجع: بحار الأنوار ج31 ص153 والغدير ج8 ص121 و 122 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج3 ص18 وتهذيب الكمال ج31 ص58 والكامل في التاريخ ج3 ص107 والشافي في الإمامة ج4 ص252 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج11 ص214 والسقيفة وفدك للجوهري ص123 وإمتـاع الأسـماع ج13 ص218 = = وقاموس الرجال للتستري ج10 ص441.

([11]) الغدير ج8 ص122 والسقيفة وفدك للجوهري ص123 والإستيعاب (ط دار الجيل) ج4 ص1555 وتهذيب الكمال ج31 ص58 وإمتاع الأسماع ج13 ص218 والشافي في الإمامة ج4 ص253 والنصائح الكافية ص171 والوافي بالوفيات ج27 ص277 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج3 ص19 وج17 ص230 وقاموس الرجال للتستري ج10 ص442.

([12]) تاريخ الأمم والملوك ج4 ص267 و 277 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص330 والكامل في التاريخ ج3 ص106 وأعيان الشيعة ج1 ص440.

([13]) الآية 8 من سورة المائدة.

([14]) الإمامة والسياسة ج1 ص34 و (تحقيق الزيني) ج1 ص37 و (تحقيق الشيري) ج1 ص52.

([15]) مسند أحمد ج1 ص136 ونيل الأوطار ج7 ص292 والغدير ج8 ص196 وتهذيب الكمال ج29 ص195 ومصادر كثيرة أخرى ذكرناها في موضعها.

([16]) راجع: تاريخ الخلفاء ص119 و 120 والمحاسن والمساوي (طبع مصر) ج1 ص79 والفتوحات الإسلامية لدحلان (ط مصطفى محمد) ج2 ص368 .

([17]) راجع: تاريخ الأمم والملوك ج4 ص276 و 277 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص329 و 330 وتاريخ مدينة دمشق ج63 ص244 و 245 والكامل في التاريخ ج3 ص106 وتاريخ الكوفة للسيد البراقي ص302.

([18]) راجع: تاريخ الأمم والملوك ج4 ص275 ـ 280 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص328 ـ 333.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان