الفصل الأول:
عثمان يبطش بالشاكين من عماله:
وبعد أن شكى الناس عمالهم في جميع البلاد إلى عثمان، وأرسل إلى
عماله، فجاؤوه وطالبهم بذلك، وأشاروا عليه بإتباع سياسات ظالمة في
مواجهة الشاكين، ردهم إلى أعمالهم، وحذرهم الشكايات، فلم يزدادوا
على الناس إلا جفاً وغلظة، وجوراً في الأحكام، وعدولاً عن السنة.
قال: فجلس نفر من أهل الكوفة منهم يزيد بن قيس الأرحبي، ومالك بن
حبيب اليربوعي، وحجر بن عدي الكندي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وزياد
بن حفيظة التميمي، وعبد الله بن الطفيل البكائي، وزياد بن النضر
الحارثي، وكرام بن الحضرمي المالكي، ومعقل بن قيس الرياحي، وزيد بن
حصن السنبسي، وسليمان بن صرد الخزاعي، والمسيب بن نجبة الفزاري،
ورجال كثير من قرى أهل الكوفة ورؤسائهم، فكتبوا إلى عثمان بن عفان:
بسم الله الرحمن الرحيم،
لعبد الله عثمان أمير المؤمنين من الملأ المسلمين من أهل الكوفة،
سلام عليك!
فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد!
فإننا كتبنا إليك هذا الكتاب نصيحة لك، واعتذاراً وشفقة على هذه
الأمة من الفرقة، وقد خشينا أن تكون خلقت لها فتنة، وإن لك ناصراً
ظالماً، وناقما عليك مظلوما، فمتى نقم عليك الناقم، ونصرك الظالم،
اختلفت الكلمتان، وتباين الفريقان، وحدثت أمور متفاقمة أنت جنيتها
بأحداقك، يا عثمان!
فاتق الله، والزم سنة الصالحين من قبلك، وانزع عن ضرب قرابتنا،
ونفي صلحائنا، وقَسْم فيئنا بين أشرارنا، والإستبدال عنا، واتخاذك
بطانة من الطلقاء وابن (أبناء . ظ.) الطلقاء دوننا، فأنت أميرنا ما
أطعت الله، واتبعت ما في كتابه، وأنبت إليه، وأحييت أهله (أي أهل
القرآن) وجانبت الشر وأهله. وكنت للضعفاء، ورددت من نفيت منا. وكان
القريب والبعيد عندك في الحق سواء.
فقد قضينا ما علينا من النصيحة لك، وقد بقي ما عليك من الحق، فإن
تبت من هذه الأفاعيل نكون لك على الحق أنصارا وأعوانا، وإلا، فلا
تلوم إلا نفسك، فإننا لن نصالحك على البدعة وترك السنة. ولن نجد
عند الله عذرا إن تركنا أمره لطاعتك، ولن نعصي الله فيما يرضيك. هو
أعز في أنفسنا، وأجل من ذلك..
نشهد الله على ذلك وكفى بالله شهيدا، ونستعينه وكفى بالله ظهيرا،
راجع الله بك إلى طاعته، يعصمك بتقواه من معصيته ـ والسلام ـ.
قال: فلما كتبوا الكتاب وفرغوا منه.. قال رجل منهم: من يبلغه عنا
كتابنا؟
فوالله إن ما نرى أحدا يجترئ على ذلك.
قال: فقال (لعل الصحيح: فقام) رجل من عنزة، آدم ممشوق (اسمه أبو
ربيعة).
فقال: والله ما يبلغ هذا الكتاب إلا رجل لا يبالي: أضرب، أم حبس،
أم قتل، أم نفي، أم حرم. فأيكم عزم على أن يصيبه خصلة من هذه
الخصال فليأخذه.
فقال القوم: ما ههنا أحد يحب أن يبتلي بخصلة من هذه الخصال.
فقال العنزي: هاتوا كتابكم، فوالله إني لا عافية [لي]، وإن ابتليت،
فما أنا يائس أن يرزقني ربي صبراً وأجراً.
قال: فدفعوا إليه كتابهم.
وبلغ ذلك كعب بن عبيدة النهدي ـ وكان من المتعبدين ـ فقال: والله
لأكتبن إلى عثمان كتابا باسمي واسم أبي، بلغ ذلك من عنده ما بلغ!
ثم كتب إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم
لعبد الله عثمان أمير المؤمنين من كعب بن عبيدة، أما بعد!
فإني نذير لك من الفتنة، متخوف عليك فراق هذه الأمة، وذلك أنك قد
نفيت خيارهم، ووليت أشرارهم، وقسمت فيأهم في عدوهم، واستأثرت
بفضلهم، ومزقت (لعل الصحيح: وحرقت) كتابهم، وحميت قطر السماء ونبت
الأرض، وحملت بني أبيك على رقاب الناس، حتى قد أوغرت صدورهم،
واخترت عداوتهم.
ولعمري لئن فعلت ذلك، فإنك تعلم أنك إذا فعلت ذلك وتكرمت، فإنما
تفعله من فيئنا وبلادنا، والله حسيبك يحكم بيننا وبينك.
وإن أنت أبيت، وعنيت قتلنا وأذانا ولم تفعل، فإننا نستعين الله
ونستجيره من ظلمك لنا بكرة وعشيا ـ والسلام ـ.
ثم جاء كعب بن عبيدة بكتابه هذا إلى العنزي، وقد ركب يريد المدينة،
فقال: أحب أن تدفع كتابي هذا إلى عثمان، فإن فيه نصيحة له، وحثا
على الاحسان إلى الرعية، والكف عن ظلمها.
فقال: أفعل ذلك.
قال: ثم أخذ الكتاب منه ومضى إلى المدينة.
ورجع كعب بن عبيدة حتى دخل المسجد الأعظم، فجعل يحدث أصحابه بما
كتب إلى عثمان، فقالوا: والله يا هذا لقد اجترأت وعرضت نفسك لسطوة
هذا الرجل!
فقال: لا عليكم، فإني أرجو العافية والاجر العظيم، ولكن ألا أخبركم
بمن هو أجرأ مني؟
قالوا: بلى، ومن ذلك؟
فقال: الذي ذهب بالكتاب.
فقالوا: بلى صدقت، إنه لكذلك. وإنا لنرجو أن يكون أعظم هذا المصر
أجرا عند الله غدا.
قال: وقدم العنزي على عثمان بالمدينة، فدخل وسلم عليه، ثم ناوله
الكتاب الأول، وعنده نفر من أهل المدينة، فلما قرأه عثمان اربدّ
لونه، وتغير وجهه، ثم قال: من كتب إلي هذا الكتاب؟
فقال العنزي: كتبه إليك ناس كثير من صلحاء أهل الكوفة وقرائها،
وأهل الدين والفضل.
فقال عثمان: كذبت!
إنما كتبه السفهاء وأهل البغي والحسد، فأخبرني من هم؟
فقال العنزي: ما أنا بفاعل.
فقال عثمان: إذا والله أوجع جنبك، وأطيل حبسك.
فقال العنزي: والله لقد جئتك وأنا أعلم أني لا أسلم منك.
فقال عثمان: جردوه!
فقال العنزي: وهذا كتاب آخر، فاقرأه من قبل أن تجردني.
فقال عثمان: آت به، فناوله إياه.
فلما قرأه قال: من كعب بن عبيدة هذا؟
قال العنزي: إيه! قد نسب لك نفسه..
قال عثمان: فمن أي قبيل هو؟
قال العنزي: ما أنا مخبرك عنه إلا ما أخبرك عن نفسه.
قال: فالتفت عثمان إلى كثير بن شهاب الحارثي فقال: يا كثير! هل
تعرف كعب بن عبيدة.
قال كثير: نعم يا أمير المؤمنين! هو رجل من بني نهد.
قال: فأمر عثمان بالعنزي، فجردوه من ثيابه ليضرب، فقال علي بن أبي
طالب «عليه السلام»:
لماذا يضرب هذا الرجل؟
إنما هو رسول جاء بكتاب، وأبلغك رسالة حملها، فلم يجب عليه في هذا
ضرب.
فقال عثمان: أفترى أن أحبسه؟
قال: لا، ولا يجب عليه الحبس.
قال: فخلى عثمان عن العنزي.
وانصرف إلى الكوفة وأصحابه لا يشكون أنه قد حبس، أو ضرب، أو قتل.
قال: فلم يشعروا به إلا وقد طلع عليهم، فما بقي في الكوفة رجل
مذكور إلا أتاه ممن كان على رأيه، ثم سألوه عن حاله فأخبرهم بما
قال وما قيل له.
ثم أخبرهم بصنع علي «عليه السلام».
فعجب أهل الكوفة من ذلك، ودعوا لعلي «عليه السلام» بخير، وشكروه
على ما فعله.
قال: وكتب عثمان إلى سعيد بن العاص أن (يضرب كعب بن عبدة عشرين
سوطاً، ويحول ديوانه إلى الري. ففعل. كما في بعض النصوص. وفي نص
آخر:) سرح إليَّ كعب بن عبيدة مع سائق عنيف، حتى يقدم علي به ـ
والسلام.
قال: فلما ورد كتاب عثمان على سعيد بن العاص، ونظر فيه، أرسل إلى
كعب بن عبيدة فشده في وثاق، ووجه به إلى عثمان مع رجل فظ غليظ.
فلما صار في بعض الطريق جعل الرجل ينظر إلى صلاة كعب بن عبيدة،
وتسبيحه واجتهاده فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، بعثت مع رجل مثل
هذا، أهديه إلى القتل والعقوبة الشديدة، أو الحبس الطويل؟!
ثم أقبل بكعب بن عبيدة حتى أدخله على عثمان.
فلما سلم عليه جعل عثمان ينظر إليه ثم قال: (تسمع بالمعيدي خير من
أن تراه)! (وكان شاباً حديث السن نحيفاً).
أنت تعلمني الحق، وقد قرأت القرآن وأنت في صلب أب مشرك؟!
قال كعب: على رسلك يا بن عفان، فإن كتاب الله لو كان للأول دون
الاخر لم يبق للآخر شيء، ولكن القرآن للأول والآخر.
(أو قال: إن امارة المؤمنين إنما كانت لك بما أوجبته الشورى، حين
عاهدت الله على نفسك في أن تسيرن (كذا) بسيرة نبيه، لا تقصر عنها،
وان يشاورنا فيك ثانية، نقلناها عنك، يا عثمان الخ..).
فقال عثمان: والله ما أراك تدري أين ربك!
قال: بلى يا عثمان! هو لي ولك بالمرصاد.
فقال مروان: يا أمير المؤمنين! حلمك على مثل هذا وأصحابه أطمع فيك
الناس.
فقال كعب: يا عثمان! إن هذا وأصحابه أغروك وأغرونا بك.
قال عثمان: جردوه، فجردوه، وضربه عشرين سوطاً، ثم أمر به فرد إلى
الكوفة، وكتب إلى سعيد بن العاص:
أما بعد، فإذا قدم عليك كعب بن عبيدة هذا، فوجه به مع رجل فظ غليظ
إلى جبال كذا، (إلى دباوند. ويقال: إلى جبل الدخان) فليكن منفيا عن
بلده وقراره.
قال: فلما قدم كعب على سعيد بن العاص دعا به، فضمه إلى رجل من
أصحابه يقال له بكير بن حمران الأحمري، فخرج به حتى جعله كذلك حيث
أمر عثمان.
(ثم ذكر ابن أعثم دخول طلحة والزبير على عثمان، ومطالبتهما إياه
ببعض مخالفاته. وذكر ما أجاب به عثمان).
ثم قال ابن أعثم:
قال: فدعا عثمان من ساعته بدواة وقرطاس، وكتب إلى عامله بالكوفة
سعيد بن العاص:
أما بعد، فإني خشيت أن أكون قد اقترفت ذنبا عظيما وإثما كبيرا من
كعب بن عبيدة، وإذا ورد كتابي هذا إليك، فابعث إليه فليقدم عليك،
ثم عجل به علي ـ والسلام. ـ
قال: فلما ورد الكتاب على سعيد بن العاص دعا ببكير بن حمران
الأحمري، وأنفذه إلى كعب بن عبيدة فأشخصه إليه، ثم وجه به إلى
المدينة، فلما أدخل على عثمان سلم، فرد «عليه السلام» ثم أدنى
مجلسه وقال: يا أخا بني نهد! (إنه كانت مني طيرة، ثم نزع ثيابه،
وألقى إليه سوطاً، وقال: اقتص).
أو قال: إنك كتبت إلي كتاباً غليظاً، ولو كتبت أنت لي فيه بعض
اللين، وسهلت بعض التسهيل لقبلت مشورتك ونصيحتك، ولكنك أغلظت لي،
وتهددتني واتهمتني حتى أغضبتني، فنلت منك ما نلت، وإنه وإن كان لكم
علي حق فلي عليكم مثله مما لا ينبغي أن تجهلوه.
قال: ثم نزع عثمان قميصه، ودعا بالسوط فدفعه إليه وقال: ثم (قم .
ظ.) يا أخا بني نهد! اقتص مني ما ضربتك.
فقال كعب بن عبيدة: أما أنا فلا أفعل ذلك، فإني أدعه لله تعالى،
ولا أكون أول من سن الاقتصاص من الأئمة، والله لئن تصلح أحب إلي من
أن تفسد، ولئن تعدل أحب إلي من أن تجور، ولئن تطيع الله أحب إلي من
أن تغضبه.
ثم وثب كعب بن عبيدة فخرج من عند عثمان، فتلقاه قوم من أصحابه
فقالوا: ما منعك أن تقتص منه، وقد أمكنك من نفسه؟
فقال: سبحان الله والي أمر هذه الأمة! ولو شاء لما أفداني (لعل
الصحيح: أقادني) من نفسه، وقد وعد التوبة، وأرجو أن يفعل( ).
ونقول:
إن هذا النص يحتاج إلى وقفات عديدة نقتصر على القليل منها، خصوصاً
ما يرتبط بأمير المؤمنين «عليه السلام»، فلاحظ ما يلي:
أسباب النقمة:
إن مراجعة النصوص التي بين أيدينا تعطي: أن ما يطلبه الصحابة وسائر
الناس في الجملة من عثمان لم يكن أكثر من الإلتزام بسنة العدل
والإنصاف، والعمل بأحكام الله التي تركت، وشرائعه التي انتهكت..
ولكن ذلك لا يعني أن جميع المعترضين، كانوا يريدون باعتراضاتهم وجه
الله تبارك وتعالى.. بل كان بعضهم يسعى للحصول على شيء من حطام
الدنيا، ولا نبرئ عمرو بن العاص وطلحة والزبير من ذلك، بل إن
الوقائع تؤكد ذلك عليهم..
كما أن بعضهم كان يحرض الناس عليه، لأنه قطع عنه العطاء الذي كان
عمر قد قرره له. أو أخر بعض أرزاقهم. ومن هؤلاء أم المؤمنين عائشة،
كما يذكره المؤرخون( ). وقد تقدم ذلك.
وبعض ثالث كعبد الرحمان بن عوف ربما كان يجد عليه في نفسه، لأنه
أدرك أن عثمان سوف لن يفي له بما كان قد وعده به، من جعل الخلافة
له من بعده( ).
ولكن الجميع بدون استثناء كانوا يطالبونه بالعودة عن مخالفاته،
وبكف يد عماله عن ظلم الناس، ومنعهم من التعديات على أحكام الله
وشرائعه..
فعثمان كان قد أعطى مناوئيه الكثير الكثير من المفردات التي يمكنهم
الإستفادة منها في مناوأته، ولم يستطع أن يفي بوعوده لهم بإصلاح
الأمور، بل كان بإصراره على مواصلة التمسك بما هو عليه، وبطريقة
تعامله مع منتقديه يضيف المزيد من المؤاخذات، والمزيد من التقوية
لهم، فهو الذي كان يعينهم على نفسه، فهو في ذلك كالذي يسعى إلى
حتفه بظلفه.
بطش عثمان بناصحيه ومنتقديه:
وكانت شدة عثمان على ناصحيه ومنتقديه، وحرصه على البطش بهم، وإيصال
الأذى إليهم لمجرد توجيه النصيحة له، وملاحقتهم وملاحقة كل من يسمع
عنه أنه تفوه بشيء من ذلك، تزيد الأمور تعقيداً، والطين بلة..
هذا عدا عن بطش عماله بكل من يوجه إليهم كلمة نقد أو نصيحة ـ إلى
حد القتل، كما فعله عبد الله بن سعد بن أبي سرح عامله على مصر ـ
مهما علا شأنه، وظهر صلاحه..
وما جرى لكعب بن عبيدة، ولعمار بن ياسر، وللرجل العنزي، وسائر
الناس الذين ضربهم عثمان أو آذهم خير شاهد على ما نقول..
وقد رأينا كيف أن أولئك العشرة الذين كتبوا كتاباً لعثمان لم يجرؤا
على تسليمه له، لعلمهم بأن مصير من يفعل ذلك سيكون غير حميد، وقد
حصل ذلك بالفعل، حيث تعرض عمار «رحمه الله» لأعنف الضرب، حتى أصابه
الفتق على يد عثمان نفسه..
وقد لاحظنا: أن أهل الكوفة لم يجرؤا على كتابة أسمائهم في كتاب
النصيحة، كما أنهم يتحيرون في الطريقة التي يوصلون بها كتابهم إلى
عثمان، حتى ليقسم بعضهم على قوله: ما نرى أحداً يجترئ على ذلك..
وحين تبرع أحدهم بإيصال الكتاب، رأوا أنه قد وطن نفسه على الصبر
على ما يصيبه من ضرب، أو حبس، أو قتل، أو نفي، أو حرمان ـ طمعاً،
منه بالأجر والثواب..
كما أن كعب بن عبيدة حين صرح بأنه يريد أن يكتب إليه كتاب نصيحة،
وقال إنه سيصرح له باسمه وإسم أبيه، بلغ ذلك من عنده ما بلغ..
وحين صرح كعب بن عبيدة لبعض إخوانه بما كتب به إليه، قالوا: لقد
اجترأت، وعرضت نفسك لسطوة هذا الرجل..
فقال: لا عليكم، فإني لأرجو العافية والأجر العظيم، ثم أخبرهم أن
الذي ذهب بالكتاب أجرأ منه..
فقالوا: بلى، صدقت، إنه لكذلك، وإنا لنرجو أن يكون أعظم هذا المصر
أجراً عند الله غداً.
وقد ذكر العنزي لعثمان: أنه كان يعلم بأنه لا يسلم منه..
وكان أهل الكوفة لا يشكون أنه قد حبس، أو ضرب، أو قتل.. وحين عاد
إليهم لم يبق في الكوفة رجل مذكور إلا أتاه..
وكيف لا يعامل عثمان الأخيار والصلحاء هذه المعاملة، وعنده مروان
يزين له التنكيل بالناس، والتعدي على حرماتهم كما ظهر مما تقدم؟!
موقف عثمان وتدخل علي ×:
وقد ذكر النص المتقدم: أن عثمان بادر إلى تكذيب رسول الكوفيين حين
وصف له مرسلي كتاب النصيحة بالصلحاء، والقراء، وأهل الدين، والفضل،
فنعتهم عثمان بـ «السفهاء، وأهل البغي والحسد»، فلاحظ ما يلي:
أولاً: صرح عثمان بأنه لا يعرفهم، وهو يطالب الرسول بأن يخبره
بأسمائهم.
ثانياً: إذا كان لا يعرفهم فمن أين عرف أنهم من أهل البغي والحسد،
وأنهم سفهاء، والحال أنه لا شيء في كتابهم يدل على شيء من ذلك..
ثالثاً: المفروض بعثمان أن ينظر إلى ما قيل، فإن كان حقاً قبله،
وإن كان باطلاً بحث عن سبب رواج هذا الباطل، فإن كان هو الوقوع في
الشبهة والغلط بسبب الجهل، أزال جهلهم، وإن كان لدوافع أخرى عالج
الموضوع بما يتناسب مع ما يظهر له بالوسائل المشروعة، وبالمقدار
المسموح به شرعاً..
رابعاً: ما ذنب حامل الكتاب حتى يصب عليه عثمان جام غضبه، فإن من
حقه ومن حق مرسليه عليه أن لا يبوح بالأسماء في مثل هذه الحالات،
إذ ليس في كتمانها أي خطر على الحاكم، ولا على الحكم؟!
خامساً: ليس من حق عثمان أن يتعرف على الأسماء، فضلاً عن أن يعاقب
غيره على كتمانها، ولأجل ذلك تدخل أمير المؤمنين «عليه السلام»
معترضاً على تصرفه، وأوضح له أنه لا يحق له أن يضرب ذلك الرسول..
فإنما هو رسول، لا يطلب منه إلا إبلاغ الرسالة التي يحملها، ولا
يستحق أية عقوبة على ذلك. وقد كانت الرسل تحفظ لدى أهل الجاهلية..
فكيف يعتدى عليهم بعد أن جاء الإسلام؟!
هذا إن لم نقل: إنه يستحق المثوبة، من حيث كونه محسناً للمرسل،
وللمرسل إليه على حد سواء..
سادساً: إن الذي يطلبه عثمان من ذلك الرسول هو من قبيل مهمات
التجسس، ونقل معلومات عن الغير، لا مبرر لقولها ونقلها، لأنها لا
ترتبط بأمن الدولة، ولا بأمن الأشخاص، وإنما يراد الإستفادة منها
في إلحاق الأذى بالأبرياء، والناصحين، والأخيار المصلحين، الآمرين
بالمعروف، والناهين عن المنكر..
سابعاً: رأينا أن عثمان قد تراجع مباشرة أمام تساؤل علي «عليه
السلام» عن مبرر هذا القرار.. ولعل ذلك يعود لسببين:
أحدهما: أن عثمان وجد نفسه غير قادر على تبرير قراره إلا بالإعتراف
بالعشوائية أو بالغطرسة، أو بالتشفي، وكل ذلك لا يتوقع ولا يقبل
منه..
الثاني: أن أولئك الناس كانوا غير قادرين في معظم الحالات على رد
كلمة علي «عليه السلام»، لأنهم يعرفون أن ذلك يكلفهم غالياً، ولم
تكن معرفة أسماء مرسلي الكتاب بالأمر الذي يستحق إغضاب علي «عليه
السلام»، لا سيما مع ما يرونه من سعيه الحثيث لإصلاح الأمور. ودفع
الشرور..
ولأجل ذلك عدل عثمان عن ضرب الرجل..
ثامناً: إن عثمان توهم أن تخليه عن ضرب ذلك الرجل يرضي علياً..
وأنه لا يمانع من إنزال عقوبة أخرى به، أخف من الضرب.. فسأل علياً
«عليه السلام» عن ذلك قائلاً: أفترى أن أحبسه؟! فقال: لا، ولا يجب
عليه الحبس..
فلم يكن أمام عثمان أي خيار سوى إطلاق سراح العنزي ليعود سالماً
إلى بلاده..
عثمان.. وكعب بن عبيدة (عبدة):
وعن عثمان وكعب بن عبدة (أو عبيدة) نقول:
أولاً: لسنا بحاجة إلى التذكير بالسؤال عن السبب والمبرر لأمر
عثمان بالإتيان بكعب بن عبيدة من الكوفة، مشدود الوثاق، مع سائق
عنيف؟!
وكيف يصدر عليه حكمه قبل سؤاله عن أمره، وسماع جوابه؟!
وهل وجد في رسالة هذا الرجل ما يوجب عقوبته؟! أم أنها تضمنت ما
يوجب مكافأته بكل جميل؟!
ثانياً: ما معنى احتقار عثمان للرجل، حيث قال له حين رآه: تسمع
بالمعيدي خير من أن تراه؟! هل احتقر فيه شكله؟ أم حجمه؟ أم ماذا؟.
ولماذا لا يتمثل عوضاً عن حديثه عن المعيدي ـ بقول الشاعر:
تـرى الـرجـل الحـقير فـتـزدريـه وتحـت ثـيـابـه أسـد هـصـــور..
ثالثاً: لماذا لا يكون كعب بن عبيدة ممن يعلّم عثمان الحق؟. وهل
قراءة عثمان للقرآن قبل كعب تجعله أفضل منه، وتمنع كعباً من أن
يعلمه الحق؟!
أليس قد قرأ الكثيرون القرآن، ولم ينتفعوا به، لأسباب تعود إليهم؟!
وألا يتفاوت قارئوا القرآن في فهمهم، وفي معارفهم، وفي دينهم وفي
وعيهم. وفي التزامهم؟!
وألا يجوز تذكير الناس بالله، وأمرهم بتقوى الله، وبالتزام أحكامه
وشرائعه؟! حتى لو كانوا يعرفون ما يوعظون به، أو ما يراد حثهم على
الإلتزام به؟!
رابعاً: إن عثمان كان هو الآخر في صلب أب مشرك، وكذلك سائر الصحابة
بما فيهم أبو بكر وعمر، فما الذي يميزه عن كعب يا ترى..
ولماذا لا يعترف عثمان وأبو بكر وعمر، وسواهم لعلي «عليه السلام»
بالتقدم عليهم، فإنه لم يسجد لصنم قط، وهم قد أشركوا بالله مدة من
حياتهم؟!
خامساً: ألم يكن بعض الصحابة ـ بما فيهم عثمان ـ على الشرك مدة
مديدة من حياتهم، وكانوا في صلب آبائهم المشركين؟! ألم يكونوا ـ
بزعم عثمان ـ أفضل من بعض من ولدوا على الإسلام ومن آباء مسلمين؟!
سادساً: كيف يقول عثمان لكعب: والله ما أراك تدري أين ربك. وهو لم
يسمع منه بعد سوى جواب واحد، جاء قوياً وحاسماً؟! وهل يصح أن يقال
لمن يجيب بهذا الجواب الصحيح والصريح: إنه لا يدري أين ربه؟!..
وهل لله تعالى مكان يكون فيه؟! لكي يسعى الناس للتعرف على مكانه؟!
وبما استحق كعب الضرب، والنفي والإبعاد مع رجل فظ غليظ؟!
استرضاء كعب بن عبيدة (عبدة):
أما فيما يرتبط بخشية عثمان من أن يكون قد أذنب في حق كعب بن عبيدة
(أو عبدة)، ثم سعيه لإسترضائه، فنقول:
أولاً: إذا كان قد أذنب إلى كعب، وأراد استرضاءه فقد أذنب إلى غيره،
ومنهم عمار بن ياسر، وابن مسعود، وابن عوف، وأبو ذر، وسواهم، فضلاً
عن أمير المؤمنين علي «عليه السلام»، فلماذا لم يسع لإسترضائهم،
وأداء حقوقهم، وسل سخيمتهم، ولو بأن يتواضع لهم بمثل تواضعه لكعب؟!
أم أنه رأى أن إرضاء كعب لا يكلفه أكثر من بضع كلمات عليها مسحة من
التواضع، وإظهار الندم، والوعد بالتوبة.. من دون أن يتراجع عن شيء.
أما إرضاؤه لعمار، وابن مسعود، وابن عوف، وأبي ذر، وعلي، والمصريين،
والأشتر، وأهل الكوفة، وأهل مصر، فإنه يكلفه تغييراً في سياساته،
وتراجعاً عن ممارساته، ومحاسبة لعماله، وإقامة لحدود الله عليهم
وعلى غيرهم ممن يستحق ذلك.. فإرضاء هؤلاء دونه خرط القتاد!!
ثانياً: لو أن عثمان كان يعلم أن كعب بن عبيدة سوف يقتص منه بالفعل،
فهل ينزع قميصه، ويعطيه السوط، ويمكنه من الإقتصاص من نفسه؟!
إننا نشك في ذلك، فإن ما فعله به من حمله من بلد إلى بلد، ومن
مشقات مصاحبة الناس القساة، ثم من ضرب، وإبعاد، لمجرد أن كتابه
إليه لم يكن ليناً، ولا سهلاً، يدل على أن عثمان لم يكن جاداً في
عرضه على كعب الإقتصاص منه.
وقد ذكر له عثمان ذلك حتى وهو يسترضيه، ويطلب أن يقتص منه!!
بل هو قد زاد على ذلك بأن ذكّره بأن له عليه حقوقاً لم يكن ينبغي
له أن يجهلها، مشيراً بذلك إلى أن كعباً لم يراع تلك الحقوق.. مما
دل على أن عثمان يرى نفسه محقاً فيما أتاه إلى كعب..
ثالثاً: إن عثمان كان يتوخى من عمله هذا أن يذهب ذكره في طول
البلاد وعرضها، وأن يترك أثراً إيجابياً على سمعته، ويخفف من درجة
الغليان ضده..
ولكن كلمات كعب التي أكد فيها على أن المطلوب هو صلاح عثمان، وعدله
وطاعته لله، فإن صلاحه أحب إلى كعب من فساده، وعدله أحب إليه من
جوره، وطاعته لله أحب إليه من أن يغضبه سبحانه..
إن هذه الكلمات قد ارشدت الناس الذين يسمعون بما جرى: أن المطلوب
هو مراقبة الإفعال، إذ لا تكفي الأقوال، فإن كانت أمور عثمان قد
تغيرت، وأحواله قد تبدلت إلى ما هو أصلح، فهو المطلوب. وإلا، فإن
عليهم أن يواصلوا القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
رابعاً: إن استرضاء كعب لا يجدي، فإن من يتسرع في أموره، ويبطش
بالناس لمجرد نصيحتهم له، بدل أن يشكرهم عليها لا يجديه ندمه في
إثبات صلاحيته لإمامة الأمة، ورعاية شؤونها، بحيث يكون للناس
بمثابة الأب الرحيم كما ورد في الروايات( ).
ويا ليته طلب الصفح من جميع من تعدى عليهم بالضرب الوجيع، والشتم
الشنيع، وهدر الحقوق الفظيع..
عثمان لا يقيد من نفسه:
ما زعموه من أن عثمان أحضر كعب بن عبده، وطلب منه أن يقتص منه،
فرفض كعب ذلك ـ قد يكون غير مقبول من أساسه، لرجحان أن يكون ذلك من
الموضوعات، التي أريد بها تخفيف حدة النقد الموجه له، بسبب ما فعله
بكعب..
وكذلك الحال بالنسبة لما زعموه من أنه رضي بأن يقيد عمار بن ياسر
من نفسه.. وما إلى ذلك..
والمبرر لشكنا هذا هو:
أولاً: ما قدمناه، من أن عثمان بين لكعب بن عبدة: أن كعباً هو
المذنب الذي لم يراع حقه.. فلماذا يقدم البريء نفسه ليقتص منه، من
دون ذنب أتاه، بل مع كون المذنب شخصاً آخر.
إلا إذا كان ذلك على سبيل العبث منه بكعب، والتظاهر أمام الناس بما
يوجب له المزيد من المحبة، والإعجاب.
ثانياً: ما روي من أنه حين اشتد الحصار عليه وظهور الخطر العظيم
على حياته قال: «إنهم يخيروني إحدى ثلاث: إما يقيدونني بكل رجل
أصبته، خطأً أو صواباً، غير متروك منه شيء.
فقلت لهم: أما إقادتي من نفسي، فقد كان من قبلي خلفاء تخطئ وتصيب،
فلم يستقد من أحد منهم( )..
وإذا كان عثمان قد تحرج مما فعله بكعب لمجرد الإحتمال، حيث قال:
إنه خشي من أن يكون قد أثم بذلك، فلماذا لا يرضى بأن يقيد من نفسه
في خصوص ما علم وثبت بالقطع واليقين أنه تعدى فيه على خيار وكبار
الصحابة بغير حق، كما هو الحال بالنسبة لعمار، وأبي ذر، وابن مسعود،
و.. و..
كعب بن عبيدة (عبدة) يعالج ما يشبه السحر:
وزعمت رواية للطبري: عن السري، عن شعيب، عن محمد وطلحة: أن كعباً
كان يعالج نيرنخاً، (وهو: أخذ كالسحر، وليس به).
فبلغ ذلك عثمان، فأرسل إلى الوليد بن عقبة ليسأله عن ذلك، فإن أقر
به فأوجعه.
فدعا به فسأله، فقال: إنما هو رفق، وأمر يعجب منه، فأمر به فعزر،
وأخبر الناس خبره، وقرأ عليهم كتاب عثمان: إنه قد جد بكم، فعليكم
بالجد، وإياكم والهزال، فكان الناس عليه. وتعجبوا من وقوف عثمان
على مثل خبره.
فغضب، فنفر في الذين نفروا فضرب معهم، فكتب إلى عثمان فيه، فلما
سيَّر إلى الشام من سيِّر، سيِّر كعب بن ذي الحبكة ومالك بن عبد
الله. وكان دينه كدينه إلى دنباوند، لأنها أرض سحرة.
فقال في ذلك كعب بن ذي الحبكة للوليد:
لـعـمـري لئن طـردتني ما إلى التي طمعـت بهـا من سـقـطتي لسبيل
رجوت رجوعي يا ابن أروى ورجعتي إلى الحـق دهـرا غـال ذلـك غـول
وإن اغـتـرابي فـي البـلاد وجفوتي وشـتـمـي في ذات الإلـه قـلـيــل
وإن دعـائـي كـل يـوم ولـيـلـــة عـلـيـك بـدنبـا ونـدكـم لـطويل
فلما ولي سعيد أقفله، وأحسن إليه، واستصلحه فكفره فلم يزدد إلا
فساداً( ).
ونقول:
هذه القصة، إما مكذوبة، أو يقصد بها رجل آخر اسمه كعب. وقد صرحت
الرواية المزعومة بأن المقصود هو كعب بن ذي الحبكة، فلعله غير كعب
بن عبدة..
ويدل على ما نقول بالإضافة إلى ضعف سند الرواية، وعدم وجود أي شاهد
لها في أي من المصادر الأخرى، الأمور التالية:
1 ـ إن تسيير صلحاء الكوفة إلى الشام كان في ولاية سعيد بن العاص
على الكوفة، لا في ولاية الوليد بن عقبة..
2 ـ إن كعب بن عبدة كان من نساك الكوفة وقرائها، فمن غير المعقول
أن يمارس ما يشبه السحر.
3 ـ إن كتاب عثمان المزعوم يدل على أن الذي كان يمارسه كعب (لو صح
ذلك عنه) هو ما يضحك الناس، ويدخل في دائرة الهزل، والأيام أيام جد.
ويؤيد ذلك: قول كعب: إنما هو رفق، وأمر يعجب منه.. فهل فعل ما يدخل
في دائرة الهزل ويعجب الناس يوجب تعزيراً؟! أو أن يوجع فاعله ضرباً؟!
4 ـ لقد ذكر المؤرخون أسماء الذين سُيّروا إلى الشام، وليس من
بينهم من اسمه مالك بن عبد الله.. بل فيهم مالك بن الحارث الأشتر،
ومالك بن حبيب..
5 ـ لا نعلم أن دنباوند (أو دماوند) كانت أرض سحرة، ولو سلمنا أنها
كانت كذلك، فلماذا ينفيه إلى أرض السحرة، التي يجد فيها ما يشجعه
على مواصلة هذا العمل المرفوض، ولا ينفيه إلى أرض يكون مكثه فيها
من موجبات صلاحه؟!
6 ـ إن الأبيات المنسوبة إلى كعب ذكرت: أن الوليد هو ابن أروى وليس
الأمر كذلك، بل ابن أروى بنت كريز هو عثمان..
7 ـ إن الأبيات تضمنت: أن نفي كعب كان في ذات الله.. والذي يعترف
بممارسته لما يشبه السحر، ويعاقب عليه، أو يعترف بأنه يعالج ما
يوجب الضحك والتعجب، ليس له أن يدعي أنه قد ظلم، وأنه أبعد في ذات
الله..
8 ـ إذا كان قد نفي إلى دنباوند في ذات الله، فما معنى قول الرواية
إنه لم يزدد إلا فساداً..
ألا يكون المقصود بفساده هو انتقاده لعثمان وعماله..
9 ـ وأخيراً.. إذا كانت عقوبة من يمارس النارجيات هي الضرب الوجيع،
فلماذا الشتم والتغريب إلى دنباوند، أو إلى غيرها؟!
هنا الخلل:
وقالوا أيضاً:
تقدم قوم من أهل الشام فشكوا معاوية إلى عثمان، وتقدم قوم من خيار
أهل الكوفة فشكوا سعيد بن العاص إلى عثمان، فقال عثمان: يا هؤلاء!
إلى كم تكون هذه الشكوى من هذين الرجلين؟!
فقال له الحجاج بن غزية الأنصاري: يا هذا! إنهم لا يشكون هذين
الرجلين فقط، ولكنهم يشكون جميع عمالك، وقد بعثت إليهم فأشخصتهم
إليك، ثم بادرت فرددتهم إلى أعمالهم، فابعث إليهم ثانية، ثم أحضرهم
في هذا المسجد بحضرة أصحاب النبي «صلى الله عليه وآله»، ثم خذ
عليهم المواثيق والعهود أنهم لا يظلمون أحداً، واستحلفهم على ذلك،
ثم ردهم إلى أعمالهم، وإلا فاستبدل بهم غيرهم، فإن صلحاء المسلمين
كثير.
قال: وأشار عليه عامة الناس بمثل ذلك، فأرسل عثمان إلى جميع عماله
فأشخصهم إليه من جميع البلاد، ثم أحضرهم وأقبل على أصحاب رسول الله
«صلى الله عليه وآله» فقال:
أيها الناس! هؤلاء عمالي الذين أعتمدهم، فإن أحببتم عزلتهم ووليت
من تحبون.
قال: فتكلم علي بن أبي طالب «عليه السلام» وقال: يا عثمان!
إن الحق ثقيل مر، وإن الباطل خفيف، وأنت رجل إذا صُدِقْت سخطت،
وإذا كُذِبْت رضيت، وقد بلغ الناس عنك أمور تركها خير لك من
الإقامة عليها، فاتق الله يا عثمان، وتب إليه مما يكرهه الناس منك.
قال: ثم تكلم طلحة بن عبيد الله فقال: يا عثمان! إن الناس قد سفهوك
وكرهوك لهذه البدع والاحداث التي أحدثتها، ولم يكونوا يعهدونها،
فإن تستقم فهو خير لك، وإن أبيت لم يكن أحد أضر بذلك في الدنيا
والآخرة منك.
قال: فغضب عثمان، ثم قال: ما تدعوني ولا تدعون عتبي، ما أحدثت حدثا،
ولكنكم تفسدون علي الناس، هلم يا بن الحضرمية!
ما هذه الاحداث التي أحدثت؟
فقال طلحة: إنه قد كلمك علي من قبلي، فهلا سألته عن هذه الأحوال
التي أحدثت فيخبرك بها.
ثم قام طلحة فخرج من عند عثمان.
وجعل يدبر رأيه بينه وبين نفسه، أيرد عماله إلى أعمالهم؟! أم
يعزلهم ويولي غيرهم؟!( ).
ونقول:
أولاً: لو أن عمال عثمان كانوا قد غيروا من سلوكهم، ومن طبيعة
تعاملهم من الناس، فبدلوا الظلم بالعدل، والحيف والتجني بالإنصاف،
والإستئثار بإعطاء كل ذي حق حقه، والتعدي على الشرائع والحقوق
بالإلتزام بحدود الله، وبرعاية حقوق عباده، لكان لعثمان أن يتساءل،
أو أن يسأل: إلى كم تكون هذه الشكوى..
ولكن ما دامت الأمور على حالها، فسيأتيه الجواب: ستستمر شكوى الناس
إلى حين الإستجابة لشكواهم بإصلاح الأمور..
وكان جواب الحجاج بن غزية هو الصحيح، واقتراحه عليه هو التدبير
الواقعي والحازم..
ثانياً: إن علياً «عليه السلام» قد وضع يده على الجرح، حين بين
لعثمان أن العيب الأهم، والذي يحتاج إلى إصلاح أولاً وقبل كل شيء
يكمن في شخص عثمان.. فلا بد لعثمان من أن يغير سياساته وسلوكه قبل
أن يطلب ذلك من غيره.. وإلا، فإنه حتى لو غير عماله، فسيستبدلهم
بمن هم على شاكلتهم، أو أسوأ..
كما أنه قد يوصي عماله ببعض الأمور في تلك الساعة، ثم يوصيهم بغيره
في ساعة أخرى.. وقد يأخذ عليهم العهود والمواثيق على أمر أو على
سلوك بعينه، ثم يخالفون أمره، فلا يصنع شيئاَ، بل يبطش بمن يلجأ
إليه بالشكوى..
فالمعالجة يجب أن تكون حقيقية وجذرية.
ثالثاً: لقد قرر «عليه السلام» في كلامه أموراً هامة جداً حول
إصلاح أمور عثمان، وهي التالية:
1 ـ إن الحق ثقيل ومر، والباطل بخلافه.. وقد كان عثمان يشعر بثقل
الحق وبمرارته كلما سمع أن أحداً تفوه بشيء منه، وكان أيضاً لا
يستثقل من الباطل الذي يمارسه عماله.. مع أن الإسلام يريد منا أن
نحب الحق، وأن نأنس به، وأن يخف علينا سماعه، وقبوله، والإلتزام به..
2 ـ إن عثمان يسخط إذا قيل له الصدق. وهذا هو لب مشكلته مع ناصحيه،
ومنتقديه، فإنهم يرون أبواب إيصال الحقائق إليه موصدة، وأية محاولة
تبذل في هذا السبيل تواجه بالعدوان على كراماتهم وحياتهم، وبالبطش
الذي لا يرحم أحداً، ولا يرثى لأحد..
3 ـ إن عثمان يرضى إذا كُذِب عليه، وهذا يفسح المجال لتزوير
الحقائق وتشويهها، والإستفادة من هيبة السلطان لتمكين الباطل،
وترويجه، وإشاعته..
4 ـ ثم إنه «عليه السلام» تقدم خطوة أخرى بإشارته إلى أمور بلغت
الناس عنه.. فلم يصرح «عليه السلام» بتلك الأمور، وتركها لذاكرة
عثمان نفسه، لكي لا يثير غضبه، وليتمكن من مراجعة حساباته، ويستحث
هو ذاكرته لإستحضار تلك الأمور، ويتخذ قراره فيها..
5 ـ إنه لم يصرح بإدانة عثمان، بل وضعه أمام موازنة معقولة ومرضية،
تفضي به إلى إختيار ما هو أصلح له.. حتى لو كان يظن أن في الخيار
الآخر بعض الصلاح، على قاعدة: {وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن
نَّفْعِهِمَا}( )..
مع إشارة منه «عليه السلام» إلى أنه لا يطلب منه التنازل لصالح
غيره، بل يريد منه أن يختار ما هو أصلح له هو شخصياً، لكي ينطلق
إلى ذلك من موقع الحرص عليه، المنطلق من حرصه على نفسه..
6 ـ ثم إنه «عليه السلام» سجل على عثمان مسؤولية أخرى، وهي لزوم
رعاية حق الله تعالى وحق الناس أيضاً في هذا الأمر..
رابعاً: إن عثمان لم يستطع أن يجيب علياً «عليه السلام» على ما
طرحه عليه، ولكنه صب جام غضبه على طلحة، لأن طلحة أثار غضب عثمان
وواجهه بالتهديد والوعيد الصريح..
ففوجئ طلحة بهذا الغضب، وتساءل عن مبرر ذلك ما دام أن علياً «عليه
السلام» قد أشار هو الآخر إلى ما صرح به طلحة.
ولكن شتان ما بين أسلوب علي «عليه السلام» الوادع والرضي، والحازم
وبين الطريقة الفجة، والنشاز التي اعتمدها طلحة والآخرون.
([1])
الفتوح لابن أعثم (ط الهند) ج2 ص179 ـ 188 و (ط دار الأضواء)
ج2 ص390 ـ 394 وأنساب الأشراف ج5 ص41 ـ 43 والغدير ج9 ص47 و 48
عنه، وعن تاريخ الأمم والملوك ج5 ص137 وعن الرياض النضرة ج2
ص140 ـ 149 وعن شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص168 وعن الصواعق
المحرقة ص68.
([2])
راجع: الأمالي للمفيد ص125 وبحار الأنوار ج31 ص295 و 483 وكشف
الغمة ج2 ص107 وتقريب المعارف لأبي الصلاح ص286 واللمعة
البيضاء ص800 وبيت الأحزان ص156 والخصائص الفاطمية للكجوري ج1
ص509.
([3])
راجع: بحار الأنوار ج31 ص288 و 289 و403 وتقريب المعارف لأبي
الصلاح الحلبي ص281 و 282 وخلاصة عبقات الأنوار ج3 ص348
والغدير ج9 ص115 وج10 ص12 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج12 ص264
وتاريخ المدينة لابن شبة ج3 ص930 وتاريخ الأمم والملوك ج3 ص297
والكامل في التاريخ ج3 ص71 والشافي في الإمامة ج4 ص210.
([4])
راجع: الإمامة والتبصرة ص138 والكافي ج1 ص407 والأمالي للصدوق
ص453 والخصال ص116 و 567 ومن لا يحضره الفقيه ج2 ص621 وبحار
الأنوار ج25 ص137 وج27 ص250 وج71 ص5 وجامع أحاديث الشيعة ج14
ص103 وموسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي ج3 ص159 وج4 ص234 وج8
ص125 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج15 ص174 و (ط دار
الإسلامية) ج11 ص134 ومكارم الأخلاق للطبرسي ص420 ومستدرك
سفينة البحار ج1 ص512.
([5])
راجع: تاريخ الأمم والملوك ج3 ص437 والإمامة والسياسة (تحقيق
الزيني) ج1 ص43 و (تحقيق الشيري) ج1 ص60 وتاريخ المدينة لابن
شبة ج4 ص1164 وتاريخ مدينة دمشق ج39 ص376 والغدير ج9 ص50.
([6])
راجع: تاريخ الأمم والملوك ج3 ص430 والغدير ج9 ص51 والفتنة
ووقعة الجمل لسيف بن عمر الضبي ص80.
([7])
الفتوح لابن أعثم ج2 ص188 ـ 190 و (ط دار الأضواء) ج2 ص294 ـ
395 وراجع: أنساب الأشراف ج6 ص156.
([8])
الآية 219 من سورة البقرة.