الفصل الثالث: أبو ذر إلى المدينة.. نصوص وآثار..

   

صفحة :109-130   

 الفصل الثالث: أبو ذر إلى المدينة.. نصوص وآثار..

بـدايـة:
إن ما جرى بين علي «عليه السلام» وأبي ذر من جهة، ومعاوية وعثمان وغيرهما من جهة أخرى.. يحتاج إلى بسط في البيان، وتوفر تام على دراسته، واستنتاج العبر والإشارات منه.
ولكننا نصرف النظر عن ذلك هنا، لأسباب كثيرة، لا نرهق القارئ الكريم في بيانها. نقتصر على الميسور منها، فإنه لا يسقط بالمعسور.
ونبدأ أولاً بذكر طائفة من النصوص، ثم نعقب عليها في فصل مستقل بما نراه مجدياً في عجالة كهذه فنقول:
من الشام إلى المدينة:
ذكرت النصوص التاريخية بعض ما يرتبط بعودة أبي ذر من الشام إلى المدينة، فلاخط النصوص التالية:
1 ـ ذكر الثقفي في تاريخه، عن عبد الرحمن: أن أبا ذر زار أبا الدرداء بحمص، فمكث عنده ليالي، فأمر بحماره فأوكف.
فقال أبو الدرداء: لا أراني الله مشيعك، وأمر بحماره فأسرج.
فسارا جميعاً على حماريهما، فلقيا رجلاً شهد الجمعة عند معاوية بالجابية، فعرفهما الرجل ولم يعرفاه، فأخبرهما خبر الناس، ثم إن الرجل قال: وخبر آخر كرهت أن أخبركم به الآن، وأراكم تكرهانه.
قال أبو الدرداء: لعل أبا ذر قد نفي؟!
قال: نعم والله.
فاسترجع أبو الدرداء وصاحبه قريباً من عشر مرات، ثم قال أبو الدرداء: فارتقبهم واصطبر، كما قيل لأصحاب الناقة.
اللهم إن كانوا كذبوا أبا ذر فإني لا أكذبه!
وإن اتهموه فإني لا أتهمه!
وإن استغشوه فإني لا أستغشه!
إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» كان يأتمنه حيث لا يأتمن أحداً، ويسر إليه حيث لا يسر إلى أحد.
أما والذي نفس أبي الدرداء بيده، لو أن أبا ذر قطع يميني ما أبغضته بعد ما سمعت رسول الله «صلى الله عليه وآله» يقول: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر.
2 ـ وذكر الواقدي في تاريخه، عن سعيد بن عطاء، عن أبي مروان الأسلمي، عن أبيه، عن جده، قال: لما صد الناس عن الحج في سنة ثلاثين أظهر أبو ذر بالشام عيب عثمان، فجعل كلما دخل المسجد أو خرج شتم عثمان، وذكر منه خصالا كلها قبيحة، فكتب معاوية بن أبي سفيان إلى عثمان كتابا يذكر له ما يصنع أبو ذر(
1 ).
وفي نص آخر: أنه كتب إليه: إن أبا ذر قد حرف قلوب أهل الشام، وبغضك إليهم، فما يستفتون غيره، ولا يقضي بينهم إلا هو.
فكتب إلى معاوية: أن احمل أبا ذر على ناب(
2 ) صعب وقتب، ثم ابعث معه من ينجش(3 ) به نجشاً عنيفاً(4 ).
4 ـ وفي نص المسعودي: فكتب معاوية إلى عثمان: إن أبا ذر تجتمع إليه الجموع، ولا آمن أن يفسدهم عليك. فإن كان لك في القوم حاجة، فاحمله إليك(
5 ).
فكتب إليه عثمان:
أما بعد.. فقد جاءني كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه من أمر أبي ذر، جندب بن جنادة، فإذا ورد عليك كتابي هذا فابعث به إليَّ، واحمله على أغلظ المراكب وأوعرها. وابعث معه دليلاً يسير به الليل مع النهار، حتى يغلبه النوم، فينسيه ذكري وذكرك.
قال: فلما ورد الكتاب على معاوية حمله على شارف ليس عليه إلا قتب، وبعث معه دليلاً، وأمر أن يغذَّ به السير حتى قدم به المدينة، وقد سقط لحم فخذيه.
قال: فلقد أتانا آت ونحن في المسجد ضحوة مع علي بن أبي طالب «عليه السلام»، فقيل: أبو ذر قد قدم المدينة.
فخرجت أعدو، فكنت أول من سبق إليه، فإذا شيخ نحيف، آدم طوال، أبيض الرأس واللحية، يمشي مشياً متقارباً، فدنوت إليه، فقلت: يا عم! ما لي أراك لا تخطو إلا خطواً قريباً؟!
قال: عمل ابن عفان، حملني على مركب وعر، وأمر بي أن أتعب، ثم قدم بي عليه ليرى في رأيه.
قال: فدخل به على عثمان، فقال له عثمان: لا أنعم الله لك (بك) عيناً يا جنيدب..(
6 ).
5 ـ وفي رواية الواقدي: أن أبا ذر لما دخل على عثمان قال له:
لا أنـعـم الله بـقـين عــيـــنــاً نـعـم ولا لـقـــاه يـومـــاً زيـنــا
تـحـية الســخــط إذا الــتقــيـنـا
فقال أبو ذر: ما عرفت اسمي قينا قط(
7 ).
6 ـ وفي رواية أخرى: لا أنعم الله بك عينا يا جنيدب.
فقال أبو ذر: أنا جندب، وسماني رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «عبد الله» فاخترت اسم رسول الله «صلى الله عليه وآله» الذي سماني به على اسمي.
فقال له عثمان: أنت الذي تزعم أنا نقول: يد الله مغلولة، وأن الله فقير ونحن أغنياء!
فقال أبو ذر: لو كنتم لا تقولون هذا لأنفقتم مال الله على عباده. ولكني أشهد أنى سمعت رسول الله «صلى الله عليه وآله»، يقول: «إذا بلغ بنو أبى العاص ثلاثين رجلاً، جعلوا مال الله دولاً، وعباده خولاً، ودينه دخلاً (ثم يريح الله العباد منهم).
فقال عثمان لمن حضر: أسمعتموها من رسول الله؟!
قالوا: لا.
قال عثمان: ويلك يا أبا ذر! أتكذب على رسول الله؟!
فقال أبو ذر لمن حضر: أما تدرون أنى صدقت؟!
قالوا: لا والله ما ندري.
فقال عثمان: ادعوا لي علياً.
فلما جاء، قال عثمان لأبي ذر: أقصص عليه حديثك في بنى أبى العاص.
فأعاده، فقال عثمان لعلي «عليه السلام»: (يا أبا الحسن)، أسمعت هذا من رسول الله «صلى الله عليه وآله»؟!
قال: لا، وقد صدق أبو ذر.
فقال: كيف عرفت صدقه؟!
قال: لأني سمعت رسول الله «صلى الله عليه وآله» يقول: «ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر».
فقال (جميع) من حضر (من أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله»: صدق علي «عليه السلام»): أما هذا فسمعناه كلنا من رسول الله.
فقال أبو ذر: أحدثكم أنى سمعت هذا من رسول الله «صلى الله عليه وآله» فتتهمونني! ما كنت أظن أنى أعيش حتى أسمع هذا من أصحاب محمد «صلى الله عليه وآله»!(
8 ).
7 ـ روى الواقدي في خبر آخر بإسناده عن صهبان، مولى الأسلميين، قال: رأيت أبا ذر يوم دخل به على عثمان، فقال له: أنت الذي فعلت وفعلت؟!
فقال أبو ذر: نصحتك فاستغششتني، ونصحت صاحبك فاستغشني!
قال عثمان: كذبت، ولكنك تريد الفتنة وتحبها، قد أنغلت(
9 ) (قلبت) الشام علينا.
فقال له أبو ذر: اتبع سنة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام.
فقال عثمان: ما لك وذلك لا أم لك!
قال أبو ذر: والله ما وجدت لي عذراً (ما أعرف لي إليك ذنباً) إلا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
فغضب عثمان، وقال: أشيروا عليَّ في هذا الشيخ الكذاب، إما أن أضربه، أو أحبسه، أو أقتله. فإنه قد فرق جماعة المسلمين، أو أنفيه من أرض الإسلام.
فتكلم علي «عليه السلام» ـ وكان حاضراً ـ فقال: أشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون:
{وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}(
10 ).
فأجابه عثمان بجواب غليظ، وأجابه علي «عليه السلام» بمثله، ولم نذكر الجوابين تذمما منهما(
11).
8 ـ وعند ابن أعثم: فقال عثمان: التراب بفيك يا علي!
فقال علي: بل بفيك يا عثمان! أتصنع هذا بأبي ذر وهو حبيب رسول الله «صلى الله عليه وآله» في كتاب كتبه إليك معاوية، من قد عرفت رفقه (رهقه أو فسقه. ظ.) وظلمه؟!
قال: فأمسك عثمان عن علي، ثم أقبل على أبي ذر فقال: اخرج عنا إلخ..(
12 ).
9 ـ ثم إن عثمان حظر على الناس أن يقاعدوا أبا ذر ويكلموه، فمكث كذلك أياماً، ثم أمر أن يؤتى به، فلما أتي به ووقف بين يديه، قال:
ويحك يا عثمان! أما رأيت رسول الله «صلى الله عليه وآله» ورأيت أبا بكر وعمر؟! هل هديك كهديهم؟! أما إنك لتبطش بي بطش جبار!.
فقال: اخرج عنا من بلادنا.
فقال أبو ذر: ما أبغض إلي جوارك! فإلى أين أخرج؟!
قال: حيث شئت.
قال: فأخرج إلى الشام، أرض الجهاد؟!
فقال: إنما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها، أفأردك إليها؟!
قال: أفأخرج إلى العراق..
قال: لا.
قال: ولم؟!
قال: تقدم على قوم أهل شبهة وطعن على الأئمة.
قال: فأخرج إلى مصر؟!
قال: لا.
قال: (فقال أبو ذر: فإني حيث كنت فلا بد لي من قول الحق) فإلى أين (تحب أن) أخرج؟!
قال: إلى البادية.
قال أبو ذر: أصير بعد الهجرة أعرابياً؟!
قال: نعم.
فقال أبو ذر: هو إذن التعرب بعد الهجرة، أخرج إلى نجد؟.
قال عثمان: (إلى بلد هو بغض إليك، قال: الربذة؟!)، بل إلى الشرق الأبعد، أقصى، فأقصى. إمض على وجهك هذا، فلا تعدون الربذة..
فخرج إليها(
13).
10 ـ وفي نص آخر: فلما قدم بعث إليه عثمان: إلحق بأي أرض شئت.
قال: بمكة؟!
قال: لا.
قال: بيت المقدس؟!
قال: لا.
قال: بأحد المصرين؟! (أي: الكوفة أو البصرة)
قال: لا، ولكني مسيرك إلى ربذة. فسيره إليها فلم يزل بها حتى مات(
14 ).
11 ـ وفي آخر يقول: وبلَّغنا عثمان ما لقي أبو ذر من الوجع والجهد، فحجبه جمعة وجمعة، حتى مضت عشرون ليلة أو نحوها. وأفاق أبو ذر، ثم أرسل إليه ـ وهو معتمد على يدي ـ فدخلنا عليه وهو متكي. فاستوى قاعداً، فلما دنا أبو ذر منه قال عثمان:
لا أنعــــم الله بعمرو عـيــنــــاً تحـيــة الـسـخـط إذا الـتـقـيـنــا
فقال له أبو ذر: لم؟! فوالله ما سماني الله عمرواً، ولا سماني أبواي عمرواً، وإني على العهد الذي فارقت عليه رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ما غيرت ولا بدلت.
فقال له عثمان: كذبت! لقد كذبت على نبينا، وطعنت في ديننا، وفارقت رأينا، وضغنت قلوب المسلمين علينا.
ثم قال لبعض غلمانه: ادع لي قريشاً.
فانطلق رسوله، فما لبثنا أن امتلأ البيت من رجال قريش.
فقال لهم عثمان: إنا أرسلنا إليكم في هذا الشيخ الكذاب، الذي كذب على نبينا، وطعن في ديننا، وضغن قلوب المسلمين علينا، وإني قد رأيت أن أقتله، أو أصلبه، أو أنفيه من الأرض.
فقال بعضهم: رأينا لرأيك تبع.
وقال بعضهم: لا تفعل، فإنه صاحب رسول الله «صلى الله عليه وآله» وله حق، فما منهم أحد أدى الذي عليه.
فبينا هم كذلك، إذ جاء علي بن أبي طالب «عليه السلام»، يتوكأ على عصى ستراً. فسلم عليه، ونظر ولم يجد مقعداً، فاعتمد على عصاه. فما أدري أتخلف عهد، أم يظن به غير ذلك.
ثم قال علي «عليه السلام»: فيما أرسلتم إلينا؟!
قال عثمان: أرسلنا إليكم في أمر قد فرق لنا فيه الرأي، فاجمع رأينا ورأي المسلمين فيه على أمر.
قال علي «عليه السلام»: ولله الحمد، أما إنكم لو استشرتمونا لم نألكم نصيحة.
فقال عثمان: إنا أرسلنا إليكم في هذا الشيخ الذي قد كذب على نبينا، وطعن في ديننا، وخالف رأينا، وضغن قلوب المسلمين علينا، وقد رأينا أن نقتله، أو نصلبه، أو ننفيه من الأرض.
قال علي «عليه السلام»: أفلا أدلكم على خير من ذلكم وأقرب رشداً؟! تتركونه بمنزلة مؤمن آل فرعون، {وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}(
15 ).
قال له عثمان: بفيك التراب!
فقال له علي «عليه السلام»: بل بفيك التراب، وسيكون به.
فأمر بالناس فأخرجوا(
16 ).
12 ـ وعن الثقفي في تاريخه، بإسناده، عن عبد الرحمن بن معمر، عن أبيه، قال: لما قدم بأبي ذر من الشام إلى عثمان كان مما أبنه به أن قال: أيها الناس! إنه يقول: إنه خير من أبي بكر وعمر.
قال أبو ذر: أجل أنا أقول، والله لقد رأيتني رابع أربعة مع رسول الله «صلى الله عليه وآله» ما أسلم غيرنا، وما أسلم أبو بكر ولا عمر، ولقد وليا وما وليت، ولقد ماتا وإني لحي.
فقال علي «عليه السلام»: والله لقد رأيته، وإنه لربع الإسلام.
فرد عثمان ذلك على علي «عليه السلام»، وكان بينهما كلام، فقال عثمان: والله لقد هممت بك.
قال علي «عليه السلام»: وأنا والله لأهم بك.
فقام عثمان، ودخل بيته، وتفرق الناس(
17 ).
13 ـ وقال المسعودي: لما رد عثمان أبا ذر «رحمه الله» إلى المدينة على بعير عليه قتب يابس، معه (خمسة) خمسمائة من الصقالبة، يطيرون به حتى أتوا به المدينة، وقد تسلخت بواطن أفخاذه وكاد يتلف، فقيل له: إنك تموت من ذلك؟.
فقال: هيهات! لن أموت حتى أنفى.. وذكر ما ينزل به من هؤلاء فيه(
18 ).
إلى أن قال المسعودي: وكان في ذلك اليوم قد أتي عثمان بتركة عبد الرحمان بن عوف الزهري من المال، فنثرت البدر حتى حالت بين عثمان وبين الرجل القائم، فقال عثمان: إني لأرجو لعبد الرحمان خيراً، لأنه كان يتصدق، ويقري الضيف، وترك ما ترون.
فقال كعب الأحبار: صدقت يا أمير المؤمنين.
فشال أبو ذر العصا وضرب بها رأس كعب، ولم يشغله ما كان فيه من الألم، وقال: يا ابن اليهوديّ تقول لرجل مات وخلف هذه (هذا. ظ.) المال: إن الله أعطاه خير الدنيا والآخرة، وتقطع على الله بذلك؟! وإنما سمعت رسول الله «صلى الله عليه وآله» يقول: ما يسرني أن أموت وأدع ما يزن قيراطاً.
فقال له عثمان: وار وجهك عني.
قال: أسير إلى مكة؟!
قال: لا والله.
قال: فتمنعني من بيت ربي أعبده فيه حتى أموت؟!
قال: إي والله!
قال: فإلى الشام ؟!
قال: لا والله.
قال: البصرة ؟!
قال: لا والله. فاختر غير هذه البلدان.
قال: لا والله لا أختار غير ما ذكرت لك، ولو تركتني في دار هجرتي ما أردت شيئاً من البلدان، فسيرني حيث شئت.
قال: فإني مسيرك إلى الربذة.
قال: الله أكبر! صدق رسول الله «صلى الله عليه وآله»، قد أخبرني بكل ما أنا لاق!
قال عثمان: وما قال لك؟!
قال: أخبرني أني أمنع من مكة والمدينة، وأموت بالربذة، ويتولى دفني نفر يردون من العراق إلى الحجاز(
19 ).
إعادة أبي ذر إلى المدينة:
وقالوا: إنه حين كان أبوذر منفياً في الشام بلغه ما جرى لعمار، فجعل يظهر عيب عثمان هناك، ويذكر منه خصالاً قبيحة، فكتب معاوية بن أبي سفيان بذلك إلى عثمان:
بسم الله الرحمن الرحيم
لعبد الله عثمان أمير المؤمنين من معاوية بن صخر..
أما بعد..
فإني أخبرك يا أمير المؤمنين بأن أبا ذر قد أفسد عليك الشام. وذلك أنه يظهر لأبي بكر وعمر بكل جميل، فإذا ذكرك أظهر عيبك، وقال فيك القبيح. وإني أكره أن يكون مثله بالشام، أو بمصر، أو بالعراق، لأنهم قوم سراع إلى الفتن، وأحب الأمور إليهم الشبهات، وليسوا بأهل طاعة ولا جماعة ـ والسلام ـ.
قال: فكتب إليه عثمان: أما بعد! فقد جاءني كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه من أمر أبي ذر جندب بن جنادة، فإذا ورد عليك كتابي هذا، فابعث به إلي، واحمله على أغلظ المراكب وأوعرها، وابعث معه دليلاً يسير به الليل مع النهار حتى يغلبه النوم، فينسيه ذكري وذكرك ـ والسلام ـ.
قال: فلما ورد كتاب عثمان على معاوية دعا بأبي ذر، فحمله على شارف من الإبل بغير وطاء، وبعث معه دليلاً عنيفاً، يعنف عليه حتى يقدم المدينة.
قال: فقدم بأبي ذر المدينة وقد سقط لحم فخذيه.
وكان أبو ذر «رحمه الله» رجلاً آدم طويلاً، ضعيفاً، نحيفاً، شيخاً أبيض الرأس واللحية، فلما أدخل على عثمان ونظر إليه قال: لا أنعم الله بك عيناً يا جنيدب!
فقال أبو ذر: أنا جندب بن جنادة، وسماني النبي «صلى الله عليه وآله» عبد الله، فقال عثمان: أنت الذي تزعم بأننا نقول: إن يد الله مغلولة، وإن الله فقير ونحن أغنياء؟!
فقال أبو ذر: لو كنتم لا تقولون ذلك لأنفقتم مال الله على عباده المؤمنين!!
إني لم أقل ذلك، ولكني أشهد لقد سمعت رسول الله «صلى الله عليه وآله» وهو يقول: (إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً، جعلوا مال الله دولاً، وعباد الله خولاً، ودين الله دخلاً، ثم يريح الله العباد منهم).
فقال عثمان لمن بحضرته من المسلمين: أسمعتم هذا الحديث من رسول الله «صلى الله عليه وآله»؟
فقالوا: ما سمعناه.
فقال عثمان: ويلك يا جندب! أتكذب على رسول الله «صلى الله عليه وآله»؟!
فقال أبو ذر لمن حضر: أتظنون أني كذبت، ولم أصدق في هذا الحديث!
فقال عثمان: ادعوا لي علي بن أبي طالب، فدعي له، فلما جلس قال عثمان لأبي ذر: أقصص عليه حديثك في بني أبي العاص، قال: فأعاد الحديث أبو ذر.
فقال عثمان: يا أبا الحسن! هل سمعت هذا من رسول الله «صلى الله عليه وآله»؟!
فقال علي «عليه السلام»: لم أسمع هذا، ولكن قد صدق أبو ذر.
فقال عثمان: وبماذا صدقته؟!
فقال علي «عليه السلام»: بحديث النبي «صلى الله عليه وآله»، قال: (ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أحداً أصدق لهجة من أبي ذر).
فقال جميع من حضر من أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله»: صدق علي «عليه السلام».
وقال أبو ذر: أحدثكم أني سمعت هذا من رسول الله «صلى الله عليه وآله» وتتهموني!! ما كنت أظن أني أعيش حتى أسمع هذا منكم!!
فقال عثمان: كذبت، أنت رجل محب للفتنة.
فقال أبو ذر: اتبع سنة صاحبيك أبي بكر وعمر، حتى لا يكون لاحد عليك كلام.
فقال عثمان: ما أنت وذاك، لا أم لك؟!
فقال أبو ذر: والله ما أعرف لي إليك ذنباً إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قال: فاشتد غضب عثمان.
ثم قال: أشيروا علي في أمر هذا الشيخ الكذاب، فقد فرق جماعة المسلمين!
فقال علي «عليه السلام»: أما أنا فأشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون: {وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}(
20 ).
فقال عثمان: التراب بفيك يا علي!
فقال علي «عليه السلام»: بل بفيك يا عثمان! أتصنع هذا بأبي ذر، وهو حبيب رسول الله «صلى الله عليه وآله» في كتاب كتبه إليك معاوية من قد عرفت زهقه (رهقه. أو فسقه. ظ.) وظلمه؟!
قال: فأمسك عثمان عن علي، ثم أقبل على أبي ذر فقال: اخرج عنا من بلدنا!
فقال أبو ذر: ما أبغض إلي جوارك، ولكن إلى أين أخرج؟!
فقال عثمان: إلى حيث شئت.
فقال: أرجع إلى الشام، فإنها أرض الجهاد.
فقال عثمان: إني إنما جئت بك من الشام لما تفسد بها علي، ولا أحب أن أردك إليها.
قال أبو ذر: فأخرج إلى العراق.
قال عثمان: لا، لأنهم قوم أهل شبهة وطعن على الأئمة.
فقال أبو ذر: فإني حيث كنت فلا بد لي من قول الحق، فإلى أين تحب أن أخرج؟
فقال عثمان: إلى بلد هو أبغض إليك.
قال: الربذة.
قال: فاخرج إليها ولا تَعْدُها(
21 ).


 

([1]) بحار الأنوار ج31 ص278 و 279 وتقريب المعارف لأبي الصلاح الحلبي ص269 والفتوح لابن أعثم ج2 ص155.

([2]) الناب: الناقة الحسنة.

([3]) النجش: الإسراع.

([4]) بحار الأنوار ج31 ص274 و 275 وتقريب المعارف لأبي الصلاح الحلبي ص266 وراجع: الفوائد الرجالية ج2 ص152.

([5]) مروج الذهب (تحقيق شارل بلا) ج3 ص83 والغدير ج8 ص295.

([6]) بحار الأنوار ج31 ص278 و 279 والفتوح لابن أعثم ج2 ص156 و (ط دار الأضواء) ج2 ص374 وتقريب المعارف لأبي الصلاح الحلبي ص269.

([7]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج8 ص257 و 258 وبحار الأنوار ج31 ص275 وكتاب الأربعين للشيرازي ص607 والغدير ج8 ص305 والدرجات الرفيعة ص244 وأعيان الشيعة ج4 ص238.

([8]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج3 ص55 و 56 وج8 ص258 و 259 وبحار الأنوار ج31 ص176 و 177 والفتوح لابن أعثم ج2 ص156 ـ 158 و (ط دار الأضواء) ج2 ص374 وكتاب الأربعين للشيرازي ص607 و 608 والغدير ج8 ص305 و 306  والشافي في الإمامة ج4 ص295 و 296.

([9]) النغل: الإفساد بين القوم.

([10]) الآية 28 من سورة غافر.

([11]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج3 ص56 وج8 ص259 و 260 وبحار الأنوار ج22 ص417 وج31 ص177 و 178 والفتوح لابن أعثم ج2 ص158 وكتاب الأربعين للشيرازي ص608 والغدير ج8 ص297 و 306 والدرجات الرفيعة ص245 وأعيان الشيعة ج4 ص238 وحياة الإمام الحسين للقرشي ج1 ص370 والشافي في الإمامة ج4 ص296 وتقريب المعارف لأبي الصلاح الحلبي ص271 وسفينة النجاة للتنكابني ص252.

([12]) الفتوح لابن أعثم ج2 ص158 و (ط دار الأضواء) ج2 ص375.

([13]) راجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج3 ص57 وج8 ص260 وبحار الأنوار ج22 ص418 وج31 ص178 و 179 والشافي في الإمامة ج4 ص297 وتقريب المعارف لأبي الصلاح الحلبي ص272 وسفينة النجاة للتنكابني ص253 والفتوح لابن أعثم ج2 ص158 و 159 وكتاب الأربعين للشيرازي ص608 والغدير ج8 ص298 و 306 والدرجات الرفيعة ص245.

([14]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج3 ص55 وج8 ص257 و 258 وبحار الأنوار ج22 ص416 وج31 ص176 وراجع ص275 عن الشافي. وكتاب الأربعين للشيرازي ص607 والغدير ج8 ص293 و 305 والدرجات الرفيعة ص244 والشافي في الإمامة ج4 ص295 ونهج الحق وكشف الصدق ص299 وسفينة النجاة للتنكابني ص251.

([15]) الآية 28 من سورة غافر.

([16]) بحار الأنوار ج31 ص275 و 276 عن الثقفي , وتقريب المعارف لأبي الصلاح الحلبي ص267 و 268.

([17]) بحار الأنوار ج31 ص276 و 277 وتقريب المعارف لأبي الصلاح الحلبي ص268.

([18]) مروج الذهب (تحقيق شارل بلا) ج3 ص83 وبحار الأنوار ج31 ص180 و 181 عنه، والغدير ج8 ص296 وراجع: النصائح الكافية ص127.

([19]) مروج الذهب (تحقيق شارل بلا) ج3 ص83 و84 والغدير ج8 ص296 و351 عنه. وراجع: مروج الذهب ج2 ص340 ومسند أحمد ج1 ص63 وحلية الأولياء ج1 ص160 وتاريخ الأمم والملوك ج3 ص336 وج4 ص284 وأنساب الأشراف ج5 ص52 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج3 ص54 وج8 ص256 وسير أعلام النبلاء ج2 ص67 ـ 69 والطبقات الكبرى لابن سعد ج4 ص232 والأوائـل ج1 ص279 ومجمع الزوائـد ج10 ص239 وحيـاة = = الصحابة ج2 ص157 و158 و259 وعن كنز العمال ج3 ص310. وأشار إليه العلامة الطباطبائي في الميزان ج9 ص258 و251.

([20]) الآية 28 من سورة غافر.

([21]) الفتوح لابن أعثم ج2 ص155 ـ 159و (ط دار الأضواء) ج3 ص373 ـ 375.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان