الفصل الرابع:  وقفات مع نصوص الفصل السابق..

   

صفحة :131-162   

الفصل الرابع:  وقفات مع نصوص الفصل السابق..

بـدايـة:
إننا نستفيد من نصوص الفصل السابق أموراً هامة نجملها فيما يلي من عناوين ومطالب:
كتاب.. أو كتب معاوية؟:
إن مراجعة النصوص المختلفة لما كتبه معاوية لعثمان بشأن أبي ذر، قد يفسر على أن الجميع يحكي عن كتاب واحد، ذكر كل راوٍ من فقراته ما راق له..
ولكن الذي يبدو لنا من اختلاف في النصوص المعبرة حتى عن المضمون الواحد: أن معاوية قد كتب لعثمان عدة مرات يلح عليه في استعادة أبي ذر من الشام.. بل يكون عثمان أيضاً قد كتب لمعاوية أكثر من كتاب بهذا الخصوص، والله هو العالم بالحقائق.
إفساد أهل الشام على عثمان:
إن إفساد الشام الذي تذرع به معاوية للتخلص من أبي ذر لا يكون إلا إذا كان أبو ذر يتحرك فيها في كل اتجاه.. وأن يكون استمرار حركته هذه من موجبات خروج الشام بأسرها من يد عثمان..
وليس المقصود بالشام خصوص دمشق. فإن أبا ذر كان عند أبي الدرداء في حمص، كما دل عليه النص المتقدم في الرواية رقم (1).
كما أن صلحاء الكوفة كان لهم أثر كبير في بلاد الشام عموماً، بل إن سلمان الفارسي قد وصل إلى بيروت، ونقل عنه فيها حديثه عن رسول الله «صلى الله عليه وآله»( ).
وقد كتب معاوية لعثمان:
«إن أبا ذر قد حرف قلوب أهل الشام» أو «قد أفسد عليك الشام» أو «إني أكره أن يكون مثله في الشام أو بمصر، أو بالعراق».
وقال له عثمان: «قد أنغلت (قلبت) الشام علينا».
أو قال: «إنما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها».
وقال: «وضغنت قلوب المسلمين علينا».
فلو لم يكن أبو ذر يقوم بنشاط واسع يؤثر في بلاد الشام كلها، لم يصح الحديث عنها إلى جانب الحديث عن مصر والعراق، وفي سياق واحد..
وانتقاض الشام على عثمان وسقوطها من يده، إنما يكتسب أهميته إذا كان السقوط للمقاطعة كلها، لا مجرد سقوط بلد أو قرية منها.
مقارنة ذات مغزى:
وقد رأينا كيف أن معاوية ينذر عثمان بأن بلاد الشام، ستخرج من يده، ويجعل عواقب ترك أبي ذر في تلك البلاد تنال من عثمان نفسه، وكأن معاوية لا ناقة له في هذا الأمر ولا جمل.
وهذا يشبه إلى حد كبير قول فرعون للملأ حوله حين أراهم موسى الآيات:
{إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}(
2 ).
وقال للسحرة حين آمنوا بموسى «عليه السلام»: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي المَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}(
3).
أي أن فرعون حين لم يجد سبيلاُ لمقاومة آيات موسى «عليه السلام»، وخشي من أن يميل الناس إلى دعوته لجأ إلى طرح عنوان غامض، لا سبيل لقومه لاكتشاف التزوير فيه، وانسحب هو من المواجهة قائلاً لهم: إن الأمر لا يعنيه، بل مصيرهم هم أصبح في خطر، وعليهم أن يدافعوا عن أنفسهم. ثم اتخذ موقف الناصح الباذل جهده في استخراج الصواب لهم، فقال: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}(
4 ).
وهذا بالذات هو ما حصل لأبي ذر مع معاوية، فبعد أن ظهرت براهين أبي ذر للناس، ولم يعد يمكن لمعاوية مقاومتها، وخشي من أن يميل الناس إلى دعوته حاول التخلص منه بإخراج نفسه من المواجهة. وكتب إلى عثمان يدَّعي له: أن عثمان وسمعته في خطر.. وأنه إن كان له بالشام حاجة فليخرج منها أبا ذر. أي أن بقاء أبي ذر في الشام يوجب خسارة عثمان. أما معاوية فكأنه لا شأن له في ذلك، ولا ناقة له ولا جمل.
الحكم بالنفي غيابياً:
يفهم من الحديث الأول: ان الحكم بإعادة أبي ذر إلى المدينة قد صدر في غياب أبي ذر عن الشام.. وأنه بلغه الخبر وهو في حمص عند أبي الدرداء.. ثم صار أبو الدرداء يتحدث عن أبي ذر، وما سمع فيه من أحاديث وأبوذر ساكت..
وذلك يشير إلى أن موافقة عثمان على إعادة أبي ذر إلى المدينة قد وصلت إلى معاوية فأعلنها على الملأ مباشرة قبل أن يحضر أبو ذر ويبلغه إياها، ثم يسيره إلى المدينة، على النحو الذي سبق بيانه.
الإبعاد من الشام كان متوقعاً:
وقد دل الحديث الأول المذكور آنفاً على أن نفي أبي ذر كان متوقعاً. ربما لأن أبا الدرداء كان من المقربين إلى معاوية، وكان مطلعاً على نواياه تجاه ذلك الصحابي الجليل.. وربما لأن الأمور كانت واضحة في مسارها، لما يعرفه الناس من سياسات معاوية.. وأنه لا يقدم على قتل أبي ذر، لأنه يعرف عاقبة ذلك. وإنما سيسعى إلى إبعاده عن المحيط الذي يهمه بسط سيطرته عليه، والاحتفاظ به في قبضته..
أبو ذر لا يشتم عثمان. بل يظهر الحقائق!!:
وقد ادعى الواقدي في بعض رواياته.. وربما ادعى ذلك غيره أيضاً: أن أبا ذر جعل كلما دخل المسجد أو خرج شتم عثمان..
ونقول:
إن هذا الكلام مبالغ فيه، فقد صرحت رسائل معاوية إلى عثمان وسائر كلماتهم بما كان يقوله في حقه، وبحقيقة ذنبه. وقد تضمنت الأمور التالية:
1 ـ كان لا يقول في أبي بكر وعمر ما يسيئ، فإذا ذكر عثمان أظهر عيبه. وقال فيه القبيح.
2 ـ قد ألمح إلى أنه كان يثير الشبهة حول تصرفات عثمان.. وأهل الشام يحبون الشبهات.
3 ـ إنه بغَّض عثمان إلى أهل الشام، وحرف (صرف) قلوبهم عنه.
4 ـ إن نتيجة ذلك هي أنهم كانوا لا يستفتون غير أبي ذر.
5 ـ إن نتيجة ذلك أنهم لا يقضي بينهم إلا هو.
6 ـ إنه تجتمع إليه الجموع، ولا يأمن معاوية من أن يفسدهم على عثمان.
وذكرت الروايات أموراً أخرى، مثل:
7 ـ إنه كان يقول: إن بني أمية يقولون: يد الله مغلولة. وأن الله فقير، وهم الأغنياء.
8 ـ إنه «رحمه الله» قد نصح عثمان فاستغشه، ونصح معاوية فكذلك.
9 ـ إنه يتهم عثمان بمخالفة سنة أبي بكر وعمر.
10 ـ إنه يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر.
11 ـ اتهمه عثمان، بأنه طعن في دينهم.
12 ـ واتهمه بأنه فارق رأيهم.
13 ـ واتهمه بأنه ضغن قلوب المسلمين عليهم.
14 ـ اتهموه بأنه يكذب (خصوصاً حين أخبرهم بقول النبي «صلى الله عليه وآله» عما يفعله آل أبي العاص حين بلوغهم ثلاثين رجلاً).
15 ـ إنه يقول عن نفسه: إنه خيرمن أبي بكر وعمر.
هذه هي مآخذهم على أبي ذر، وليس فيها ما يصلح أن يعتبر شتماً، كما زعمه معاوية ومؤيدوا بني أمية، بل هو عين الواقع والحقيقة.. ولعلنا نشير إلى شيء من ذلك..
ذكر الشيخين بالجميل:
ومن المعلوم: أن ذكر الناس بالجميل ليس من الممنوعات، لا شرعاً ولا عرفاً. إن لم نقل إنه حسن إذا كان لغايات حسنة، مثل حفظ النفوس كما في مورد التقية، أو في مورد التعريض بمن يخالف سنة الرسول بهدف حثه على الإلتزام بها، ودفع ظلمه عن الناس.. ولو لأجل إلزامه بما يلزم به نفسه من المتابعة لهذا أو ذاك في سيرته وفي سياسته.
وها نحن نرى معاوية يحرض عثمان على أبي ذر في هذا الأمر بالذات، فيعتبر إطراء أبي ذر لأبي بكر وعمر ذنباً.. لكن معاوية قد بالغ في الأمر لعثمان، فإن أباذر لم يكن يثني على أبي بكر في كل ما فعل، فأنه قد تعدى على الزهراء «عليها السلام» ولم يكن أبوذر يرضى ذلك بل كان أبوذر يثني على سيرة أبي بكر في خصوص العطاء، لأنه أبقى الأمور على ما كانت عليه في عهد رسول الله «صلى الله عليه آله»، وكذلك فعل عمر شطرا من خلافته.. ولكن الذي أزعج معاوية هو المقارنة بين سيرة أبي بكر وعمر في الأموال وسيرة عثمان وعماله، التي تجاوزت كل الحدود المقبولة والمعقولة وكان الناس يطالبون عثمان بالتزام نهج صاحبيه.
وقد قلنا: إن المقصود هو نهج أبي بكر الذي التزم بالبقاء على ما رسمه رسول الله «صلى الله عليه وآله» في العطاء، ثم تابعه عمر مدة من خلافته، ثم عدل عن ذلك فدون الدواوين. وتصرف بطريقة أخرى ظهرت فيها مناح واعتبارات يأباها النهج الإسلامي من حيث إنه أرسى قواعد في التمييز القبلي، والعنصري وغير ذلك مما لا يقره الشرع.
ولكنه مع ذلك قد بقي يقسم بيت المال على الناس، ولو وفق قاعدة تعاني من إشكالات ونقائص، عرضنا لبعضها حين تعرضنا لهذا الأمر حين الحديث عن عمر بن الخطاب. ولكنه لم يكن يعطي أقاربه، ويحرم غيرهم على أقل تقدير.
أما عثمان، فقد محق بيت المال حين اختص به أقاربه وأنسبائه، ومؤيديه الذين يعتبرون السواد بستاناً لقريش، ويرون أن بيت المال لهم وليس للمسلمين فيه حق، كما سنبينه إن شاء الله تعالى..
وقد قال عثمان لأبي ذر: أنت الذي تزعم أنا نقول: يد الله مغلولة، وأن الله فقير ونحن أغنياء؟!
فأجابه أبو ذر: لو كنتم لا تقولون هذا لأنفقتم مال الله على عباده.
ثم إنه «رحمه الله» أكد صحة كلامه بالحديث الذي رواه عن النبي «صلى الله عليه وآله» عن أن بني أبي العاص إذا بلغوا ثلاثين رجلاً جعلوا مال الله دولاً، وعباده خولاً، ودينه دخلاً..
فحاول عثمان تكذيب أبي ذر «رحمه الله» في ذلك، فواجهه علي «عليه السلام» بحديث أصدقية أبي ذر على البشر كلهم.
ولكن عثمان أصر على موقفه، غير آبه بحديث الرسول «صلى الله عليه وآله».
مرجعية أبي ذر لأهل الشام:
وقد تبين من كلام معاوية: أن أبا ذر قد أصبح مرجعاً لأهل الشام في القضاء والأحكام. وهذا لا يسعد معاوية ولا عثمان، ولا أحداً من الحكام، لأنه يمثل نقيضاً عملياً للسياسة التي أرساها عمر بن الخطاب، وفرضها بالسيف والسوط، وهيبة السلطان، القاضية باختصاص الفتوى بالأمراء، ومن ينصبونهم لذلك.
ومن أقوال عمر المشهورة: كيف تفتي الناس، ولست بأمير؟! ولي حارها من ولي قارها(
5 ).
وما ذلك إلا لأن هذا الإختصاص يخولهم الفتوى بما يوافق مصالحهم، ويمنع من ظهور خطلهم وخطأهم، ويكرس الإيحاء بالقداسة لهم من حيث أنهم يمارسون ما هو من شؤون النبي «صلى الله عليه وآله» من منطلق إمساكهم بمقام خلافة النبوة.
على أن هذا التوجه العام من الناس إلى أبي ذر، واجتماع الجموع إليه، وبلوغه هذا المستوى من العلاقة بالناس، وعلاقة الناس به، لا بد أن يخيف معاوية وعثمان مما هو أخطر وأعظم..
المسارعون إلى الفتنة والشبهات:
ولا أدري السبب في توصيف معاوية لأهل الشام ومصر والعراق بأن أحب الأمور إليهم الشبهات. فهل كانوا يجدون في الشبهات لذة بعينها، فيحبونها لأجلها؟!
ولماذا حُرِمَ غيرهم من الإلتذاذ بالشبهات؟!
وكيف يميزون الشبهة عن غيرها، فيلتذون بهذه، ولا يلتذون بما سواها؟!
ومن أين اكتسب معاوية هذه الخبرة في شعوب الأرض؟! هل عاشرهم؟! هل خالطهم، فعرف حب هؤلاء للشبهة، وعدم حب أولئك لها؟!
أم أنه أطلق هذا القول لكي يسلم هو ورفقاؤه من سائر عمال عثمان كابن عامر بن كريز، وابن عقبة، وابن أبي سرح، وسعيد بن العاص، فلا تظهر فضائحهم ولا قبائحهم على لسان أبي ذر، الذي لا يستطيع أحد أن يشك في صدقه؟! مع علم معاوية بأن عثمان جريء على أبي ذر، ولا يهتم لعواقب جرأته ما دام مروان هو الذي يلقي إليه بآرائه المثيرة والخطيرة. ويسعى لإيقاع عثمان في الشرك، ليتمكن معاوية ونظراؤه من الإستقلال بالأمور، ويصفو الحكم لبني أمية، وتتلاشى احتمالات وصول مناوئيهم إليه، ويمكنهم تكريس هيمنتهم على ما سوى المدينة من البلاد.
ليسوا بأهل طاعة ولا جماعة:
والأسئلة عينها تأتي حول حكم معاوية على أهل مصر، والعراق والشام بأنهم أيضاً ليسوا بأهل طاعة ولا جماعة.. مع أن أهل الشام كانوا منقادين لولاتهم، وكذلك أهل مصر والعراق، فإنهم إنما شكو ظلم الولاة وعسفهم، واستئثارهم بمال الله، وتجاوزهم حدود الله، وارتكابهم الموبقات، كالزنا وشرب الخمر، وقتل النفس المحترمة، وما إلى ذلك من فضائح وشناعات.
ولم نرهم خلعوا يداً من طاعة حتى مع ابتلائهم بحكام هذا حالهم، بل شكوهم، وطلبوا إصلاح الأمور، والكف عن المآثم. ولم يزيدوا على ذلك.
ينسيه ذكري وذكرك:
وجاء كتاب عثمان إلى معاوية ليؤكد على أن القضية المحورية والحساسة لدى عثمان هي نفسه، ونفس معاوية، ولذلك أمره في كتابه بأن يسير الدليل بأبي ذر ليلاً ونهاراً، ولا يسمح له بالنزول عن مركبه، فيغلبه النوم، فينسيه ذكر عثمان ومعاوية.
إذن.. فلم تكن مشكلة عثمان مع أبي ذر تمس الأمة في دينها، أو في أمنها، واستقرارها، أو أي شيء آخر يعود بالنفع عليها، أو بدفع الضرر عنها.. بل المطلوب: هو أن ينسى أبو ذر شخصاً اسمه عثمان، وآخر اسمه معاوية!!
الحكم بدون محاكمة:
وقد أظهرت النصوص المتقدمة: أن عثمان أدان أبا ذر، وحدد عقوبته، ونفذها فيه..واتبعها بشتائم، وباتهامات، وبِحَجْبٍ، وإهمال نحو عشرين يوماً، وبغير ذلك مما تضمنته النصوص السابقة، لمجرد كتاب جاءه من معاوية، من دون أن يسأل أبا ذر عن صحة أو سقم ما أخبره به خصمه.
مع أنه حتى لو كان معاوية عدلاً، فإن شهادته لا تقبل في حق خصمه، فكيف يقبلها عثمان وهو يعرف معاوية، وظلمه وعداوته لأبي ذر، وسائر أحواله؟!
عثمان يصدق قول معاوية:
ويلاحظ: أن بعض النصوص المتقدمة أظهرت أن عثمان يستفيد من حواره مع أبي ذر مما كتبه له معاوية، فيذكر له: أن أحب شيء إلى أهل العراق، ومصر والشام، هو الشبهات.. فإنه حين أراد نفيه، وعرض عليه أبو ذر أن يسير إلى العراق:
قال له: لا، إنك إن تخرج إليها تقدم على قوم أولي شبه وطعن على الأئمة والولاة..
كما أنه منعه من العودة إلى الشام، لأنه قد أفسدها كما أخبره معاوية.
لا بد لي من قول الحق:
ولنا أن نتصور كم كانت كلمة أبي ذر مؤلمة لعثمان حين كان يقترح عليه البلدان التي يسيِّره إليها منفياً، فيأباها واحدة بعد الأخرى، فلم يرض بنفيه إلى: مصر، العراق، الشام، مكة، بيت المقدس، بادية نجد، الكوفة، البصرة..
وهنا قال له أبو ذر كلمته الرائعة، والرائدة: «فإني حيث كنت فلا بد لي من قول الحق».
وهذا معناه: أن ما يسعى إليه عثمان لن يصل إليه. ولن يحصد من جهده هذا سوى المزيد من نقمة الناس عليه، وظهوره لهم بصفة المعتدي على الأبرياء، والمنكل بأجلاء الصحابة، وخيارهم، والأبرار الأتقياء.
فرحم الله أبا ذر، وأعلى مقامه، فإنه قد أعطى أعظم الدروس في الصبر والصلابة في الدين. وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
كذبت على نبينا:
ويعلن أبو ذر أنه بقي على العهد الذي فارق عليه رسوله الله «عليه السلام»، لم يغير ولم يبدل.
وهذا بمثابة استثارة لفضول الناس للمقارنة، فينظروا في حال الذين ينكلون به، ويؤذونه، وينفونه من المدينة إلى الشام، ويحملونه من الشام إلى الحجاز على مركب صعب، يتسلخ منه لحم فخذيه، ويكاد يتلف.. وليتساءلوا عن سبب هذا العدوان، وهذه القسوة على رجل لم يزل كما كان على عهد رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ولم يغير ولم يبدل.. وكان ولا يزال مكرماً ومعظماً عند رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ثم عند صحابته الكبار والصغار..
إنه إذا كان أبو ذر لم يغير ولم يبدل، ولا يزال على العهد، فلا بد أن يكون الذين يفعلون به ذلك هم الذين غيروا وبدلوا..
وسيصبح أبوذر معياراً ومقياساً لغيره، يقيسون حالهم على حاله، ليعرفوا مدى بعدهم عن النهج الذي كان مرضياً لرسول الله «صلى الله عليه وآله»، أو قربهم منه..
وسيكون مضراً جداً بحال مناوئي أبي ذر، ومن موجبات سقوط هيبتهم، بل حرمتهم عند الناس..
وإذا كان الذين يضطهدون أبا ذر، يتهمونه بالكذب على الرسول، فيقول له عثمان: لقد كذبت على نبينا.. فذلك يدعو الناس إلى مراجعة أقواله، ليروا إن كان ذلك صحيحاً أو غير صحيح.
وحين يرجعون إلى كلماته، فلن يجدوا فبها إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاعتراض على فسق الفاسقين، وظلم الظالمين، واستئثار المستأثرين ببيت مال المسلمين.. ونحو ذلك..
على أن نفس هذا التكذيب لأبي ذر سوف يثير السؤال الكبير عما تضمنه من تكذيب لرسول الله «صلى الله عليه وآله» في قوله: ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من ابي ذر.. وسيحتفظ الإنسان المسلم في ذاكرته بهذه الجرأة العظيمة على مقام الرسول «صلى الله عليه وآله»..
طعنت في ديننا:
والمؤاخذة الأخرى هنا هي قول عثمان لأبي ذر: وطعنت في ديننا. فإنه إذا لم يكن تحت السماء، ولا فوق الأرض أحد أصدق من أبي ذر، فإن تصريح عثمان هذا يمثل إدانة خطيرة له (أي لعثمان).. ويحتم عليه أن يعرض ما يدين به على أبي ذر، أو على العارفين بهذا الدين، لتلمُّس على مواضع الخلل التي عرضت لدينه، ويبادر إلى تصحيحها، لا أن يبادر إلى اضطهاد ومعاقبة من يصدقه القول لمجرد صدقه..
بل إن عليه أن يكون شاكراً له وممتناً، لأنه يكون من أعظم المحسنين إليه، والغيورين عليه.
فارقت رأينا:
وعن قول عثمان لأبي ذر: «وفارقت رأينا» نقول:
أولاً: إن مفارقة الرأي ليست من الذنوب التي توجب العقوبة.. فللإنسان أن يرى الرأي الذي يريد، وأن يوافق وأن يخالف، فلماذا يعامل أبو ذر هذه المعاملة الخشنة والقاسية إذن لمجرد الإختلاف في الرأي؟!
ثانياً: إذا كان أبو ذر يرى أن عثمان يتبنى آراءً ضارة بالناس، أو بالدين وأهله، فيجب عليه: أن يتجنب تلك الآراء، وأن يفارقها. وعلى عثمان وفريقه أن يتخلوا عن آرائهم، ويكونوا إلى جانب أبي ذر.
ضغنت قلوب المسلمين علينا:
وعن قول عثمان لأبي ذر: «وضغنت قلوب المسلمين علينا»، نقول: لم يكن ما فعله أبو ذر على سبيل العدوان والتجني، بل كان ذلك في سياق الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فظهرت الحقائق للمسلمين، فوجدوا فيها ما يسوؤهم، وتعريف الناس بالحقائق الدينية والإيمانية واجب على أبي ذر. وعلى مرتكب المنكر ان يكف عن معصية الله سبحانه.
فأبو ذر لم يدخل الضغينة إلى قلوب الناس، بل هو قد امتثل أمر الله تعالى.. ولا شأن له بما يكون بعد ذلك.
أدع لي قريشاً:
ولا ندري لماذا خص عثمان الدعوة بقريش، ليطلب رأيهم فيما يفعله بأبي ذر، الذي لم يكن قرشياً!!
هل كانت قريش هي المخولة بالتصرف في مصائر الناس. وفي تحديد العقوبات لهم؟! ومن الذي خولها؟!
ولماذا يحتاج إلى قريش، ولا يراجع أحكام الله في مثل هذه الحالات، ويعمل بمقتضاها؟! فهذا كتاب الله بين يديه، وأقوال رسول الله «صلى الله عليه وآله» ليست مجهولة.. فإن كان عثمان يجهلها، فيمكنه أن يطلب حضور العارفين بالدين، والعلماء بالشريعة، سواء كانوا من قريش، أو من غيرها.. وكان يكفيه أن يسأل علياً عن هذا الأمر ليعطيه الجواب القاطع بالبرهان الساطع، بل هو قد أعطاه إياه أكثر من مرة، ولكنه يأبى الانصياع له...
وإن كان يريد استشارة العقلاء في أمر أبي ذر، ولا يريد معرفة الحكم الشرعي، فقد كان في غير قريش عقلاء أيضاً.. كما أنه لو كان هذا هو المراد لم يكن بحاجة إلى دعوة قريش كلها، حتى امتلأ البيت من رجالها، حتى إن علياً «عليه السلام» الذي وصل متأخراً لم يجد مكاناً يجلس فيه، فوقف متكئاً على عصاه.
إن الحقيقة: هي أن عثمان أراد أن يقدم على أمر عظيم، وهو قتل أبي ذر، بالدرجة الأولى خصوصاً، حين قال أبو ذر: «إني حيث كنت، فلا بد لي من قول الحق».
فأراد أن يحصل على تفويض من قريش يخوله ذلك، وأن يتحقق من حمايتها له لو أقدم على ارتكاب هذا الأمر العظيم والهائل.
أجمع رأينا على قتل أبي ذر:
والأدهى والأمر من ذلك: أن عثمان حاول إيقاع علي «عليه السلام» في الشَّرَك، فإنه بالرغم من أن عثمان وجد تردداً ورفضاً لدى بعض رجال قريش لما عرضه عليهم في حق أبي ذر، حيث قال له بعضهم: رأينا لرأيك. وقال بعضهم: لا تفعل. فإنه صاحب رسول الله «صلى الله عليه وآله»وله حق. فما أحد أدى الذي عليه.
نعم.. إن عثمان بالرغم من ذلك ادعى إجماع الحاضرين على قتل، أو صلب أبي ذر، أو نفيه من الأرض!! فأين هذا الإجماع الذي ادعاه يا ترى؟! وما معنى قوله: «أجمع رأينا ورأي المسلمين على اختيار عقوبة من ثلاث، هي، قتل أبي ذر، أو صلبه، أو نفيه من الأرض؟!.. فإن قريشاً ليست هي المسلمين جميعاً..
وقريش نفسها لم تجمع على ذلك، بل افترقت إلى فرقتين، فلماذا زعم عثمان ذلك لعلي «عليه السلام»؟! هل ظن أن علياً «عليه السلام» لا يجرؤ على مخالفة الإجماع؟! أم أنه أراد إيهامه بأن الأمر محسوم، لکي یضعف عزيمته عن المعارضة له، حين يقدم على أحد هذه الأمور الثلاثة؟!
استدراج عثمان للبوح بما يضمره:
وقد لاحظنا: أن علياً «عليه السلام» تصرف بطريقة استدرج بها عثمان إلى طرح الأمر عليه. حيث إن عثمان قد بدا ـ في أول الأمر ـ حريصاً على عدم البوح بما انتهت إليه مشاوراتهم، واكتفى بإجابة مبهمة على سؤاله «عليه السلام» عن سبب دعوته فقال:
«أرسلنا إليكم في أمر قد فرق لنا فيه الرأي. فأجمع أمرنا، وأمر المسلمين على أمر».
فقال «عليه السلام»: ولله الحمد.. ثم أتبع هذه الكلمة بما دفع عثمان للبوح بما أخفاه، حيث عرفه أنه يعلم بعدم رغبته باستشارته، حيث جاء بكلمة لو، فقال: لو استشرتمونا إلخ..
فكان على عثمان أن يبرئ نفسه وبني أمية من ذلك، فبادر إلى إخباره بالنتيجة التي انتهى إليها هو وقريش، موهماً إياه بأنها محسومة، ولا نقاش فيها، ألا وهي قتل أبي ذر، أو صلبه، أو نفيه من الأرض..
موقف علي :
وإذ بعلي «عليه السلام» يعلن رأيه الذي أحبط مسعى عثمان، وبني أمية، وفوت عليهم الفرصة، حين قرر أن الأمر يشبه قضية فرعون حين تآمر مع الملأ من قومه على قتل موسى، فقال لهم المؤمن: {.. أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ..}(
6 ). فأبوذر بمنزله موسى، وعلي «عليه السلام» نزل نفسه بمنزلة المؤمن وقال لهم نفس قول مؤمن آل فرعون.
فليس لهم ولا عليهم الحديث عن صدق أبي ذر وكذبه.. بل عليهم أن يصلحوا أمرهم، حتى لا يصيبهم الله ببعض ما يعدهم به.
وأما صدق أبي ذر، فقد حسمه حديث رسول الله «صلى الله عليه وآله» فيه.. فالكلام فيه بعد هذا ضرب من العدوان على الله ورسوله..
وجاء ذيل الآية الشريفة: {إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}(
7)، ليكون بمثابة النار المحرقة، بما يمثله من صراحة في الإدانة..
وقد مثلت هذه الآية المباركة القول الفصل، لأنها الخيار الذي لا بد منه شرعاً وعقلاً، وسقطت كل أحلام أعداء أبي ذر، وتهاوت وتلاشت، فلم يجد بعضهم وسيلة للتنفيس عن كربه سوى العدوان على أمير المؤمنين وسيد الوصيين «عليه السلام»، فقيل له: بفيك التراب.
وجاء جواب علي «عليه السلام» لا ليكون دعاءاً أو تعبيراً عن تمنيات، بل ليكون إخباراً عن الواقع الذي يراه ويلمسه من خلال آثار تلك الممارسات التي شاهدها، ويعرف نتائجها، حيث قال له: وسيكون ذلك.
أبو ذر أسلم قبل أبي بكر:
قال عثمان: إن أبا ذر يقول عن نفسه: إنه خير من أبي بكر وعمر.. ظناً منه أن ذلك يحرج أبا ذر، ويضطره للإنكار والتراجع، وبذلك يكون قد أكذب نفسه، وإن أصر على هذا الموقف، فإنه يكون قد ألَّب كل محبي أبي بكر وعمر على نفسه.
ولكن أبا ذر بادر إلى تصديق القول المنسوب إليه، واستدل عليه بأمور ثلاثة لا يمكن دفعها.. وهي:
أولاً: إن أبا ذر قد أسلم قبل أبي بكر وعمر، وإن إسلام أبي بكر قد تأخر عن البعثة عدة سنوات .. فلا صحة لما يدعيه محبو أبي بكر من أنه أول من أسلم.
والتأمل في هذا الأمر يعطي أن ثمة مفارقة لا حل لها إلا بتقدير أن يكون أبو ذر أفضل من أبي بكر وعمر، فإنهما عاشا في مكة، وعرفا رسول الله «صلى الله عليه وآله» منذ صغره، وشاهدا سلوكه وفضائله، وعاينا كراماته، ووقفا على أخلاقياته، ورأيا استقامته على طريق الحق والهدى، وعرفا من دلائله وآياته ما لم يره أبو ذر.
ثم جاءهم «صلى الله عليه وآله» بالهدى ودين الحق. المنسجم مع الفطرة، والمتوافق مع أحكام العقل. وظهرت لهم المعجزات القاهرة، والكرامات الباهرة على يديه.. ثم لم يؤمنا به.
أما أبو ذر فيعيش في البادية، ولم يعرف عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» ما عرف، ولا عاش معه، ولا رأى شيئاً من براهينه ومعجزاته..
وقد بعث رسول الله «صلى الله عليه وآله» وظهرت آياته ومعجزاته وبراهينه للناس.
وبعد أن تداولوها.. وتناقلوها بلغت أخبارها أبا ذر في باديته، فلم يصبر حتى بعث أخاه إلى مكة ليكشف له الأمر، رغبة منه في تحري الحق، وطلباً لسبيل النجاة.
فلما عاد إليه، ولم يشف له غليلاً سعى هو بنفسه باحثاً عن الحق، متلهفاً للوصول إليه، مندفعاً بكل وجوده إليه، فلما صادفه تلقفته روحه، فعاشت به حياتها الحقيقية، وانتعش به وجوده، وعرف به نفسه، فعرف ربه..
فأين هذا من ذاك. هذا كله في خط البداية والانطلاق.
ثانياً: بالنسبة للإستمرار والبقاء، فإن من دلائل خيرية أبي ذر وامتيازه على أبي بكر وعمر أنهما وليا أمور الناس، ولم يل هو شيئاً من ذلك.. أي أنهما أصابا من هذه الدنيا، وأقدما على أمر محفوف بالمخاطر، ويحتاج إلى إذن ونصبٍ من الله ورسوله، لمن يملك المؤهلات التي أودعها الله فيه، وصنعه على عينه، ومنها: العلم الإلهي، والعصمة، وصفات أخرى..
ولم يكن لدى أبي بكر وعمر العصمة التي يحتاج إليها هذا المقام، ولا العلم الرباني، وأعني به: علم الإمامة، الذي يختص الله به من يشاء من عباده.. ولا كانت لديهما المواصفات الكثيرة الأخرى التي لا بد منها لممارسة هذا الشأن الخطير..
فعرضا أنفسهما لأخطاء وأخطار جمة، لا يمكن لأي كان من الناس أن يجزم بخروجهما سالمين منها.. بل أثبتت الوقائع الكثيرة أنهما لم يوفقا إلى الصواب في كثير منها..
وقد احتاجا إلى آراء الناس، وإلى مساعدة أمير المؤمنين لهما حتى قال أحدهم سبعين مرة لولا علي لهلك عمر..
وقال عثمان نفسه مثل هذه الكلمة أيضاً..
أما أبو ذر فلم يتعد طوره، ولا تجاوز حده، بل بقي في دائرة الأمان، ولم يواجه شيئا من ذلك، فاحتفظ بحالة الصفاء والسلامة.. فكان خيراً منهما من هذه الناحية أيضاً..
ثالثاً: أما في خط النهاية، فقد سقط بموتهما خيارهما. ولم يعد يمكنهما تصحيح أي خطأ، أو التراجع عن أي زلل أو خطل..
أما أبو ذر فلا يزال باب الإستزادة من الخير مفتوحاً أمامه، وإن اكتشف أي خلل أو خطل، فبإمكانه التراجع عنه، والتوبة منه.. والتصحيح له..
وهذه ميزة فضلٍ له عليهما. وهو في هذا خير منهما..
شهادة علي حدث، ودلالة:
وعن شهادة على «عليه السلام» لأبي ذر بأنه ربع الإسلام نقول:
1 ـ إن شهادة على «عليه السلام» لأبي ذر، كانت عن شهود وحس وحضور، لأن أبا ذر حين قدم مكة باحثاً عن دينه قد نزل ضيفاً على علي «عليه السلام»، وجمعه علي «عليه السلام»برسول الله «عليه السلام»، فأسلم رحمه الله على يديه..
ولم يكن عثمان قد أسلم آنئذٍ، فليس له أن يجادل في هذا الأمر، وأن يؤيد أو أن يفنِّد.
2 ـ ومن جهة أخرى، فإن القرآن قد حظّر على عثمان تكذيب علي «عليه السلام»، لأنه تعالى قد حكم بطهارته «عليه السلام» من كل رجس، والكذب من أظهر مفردات الرجس.
3 ـ وأيضاً ليس لعثمان أن يكذب أبا ذر بعد أن قال رسول الله «صلى الله عليه وآله» في حقه: «ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر».
4 ـ فسعي عثمان لتكذيب علي «عليه السلام» وأبي ذر لا مبرر له، ولا منطق يساعده.. ولا بد من ردعه عن هذا الأمر الذي يخالف صريح القرآن، وصريح قول الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله»، الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
5 ـ وبعد هذا أو ذاك يتضح: أن تهديد عثمان لعلي «عليه السلام» بقوله: «والله لقد هممت بك» يعتبر عدواناً آخر على حدود الله تبارك وتعالى. ولا بد من التصدي له، وردعه عنه.
فبادر علي «عليه السلام» إلى ذلك، فقال: «وأنا ـ والله ـ لأهم بك»، وبذلك يعرف عثمان: أن سلطانه لا يبيح له المحرمات، ولا يعفيه من المسؤولية عن أعماله..
6 ـ قد ظهر من قول عثمان لعلي: إني لأهم بك، ثم جواب على «عليه السلام» له كقوله تعالى: {هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا}، لا يقصد به أنه هم بنكاحها وهمت بنكاحه.. بل هي عبارة يقصد بها التهديد أي همت بمهاجمته، أو بضربه أو بقتله، وهم هو بضربها أو نحو ذلك.
أبو ذر على بينة من أمره:
وقد ورد في النص الذي ذكره المسعودي: أنه قيل لأبي ذر حين وصوله من الشام، وقد تسلخ لحم فخذيه، وكاد يتلف: إنك تموت من ذلك.
فقال لهم: هيهات، لن أموت حتى أنفى إلخ..
وهذا يعطي: أن أبا ذر كان على بينة من أمره، وأنه كان يعتمد في مواقفه تلك على الغيوب التي أخبره بها رسول الله «صلى الله عليه وآله».. ولم يكن يخامره أي شك أو شبهة في تحققها وفي صحتها.
وقد صرح: بأن النبي «صلى الله عليه وآله» أخبره بتفاصيل دقيقة. ومنها نفيه، والمكان الذي ينفى إليه، وأين يموت، ومن يتولى دفنه، ومن أين تأتي الجماعة التي تتولى ذلك، وإلى أين تقصد..
اليهود هم الداء الدوي!!:
وكما كان كعب الأحبار اليهودي الأصل السبب المباشر لنفي أبي ذر إلى الشام، كان كعب الأحبار نفسه سبباً في نفي أبي ذر إلى الربذة.. حيث ضرب أبو ذر «رحمه الله» كعباً بعصاه حين رآه يفتي في ديننا بما يخالف قول نبينا «صلى الله عليه وآله»..
واللافت هنا: أن أبا ذر بادر إلى ذلك بالرغم من أنه كان لا يزال يعاني من الآلام التي سببها له حمله من الشام على قتب يابس.. وكانوا لا يدعونه يستريح ليلاً ولا نهاراً حتى تسلخ لحم فخذيه، وكاد يتلف كما تقدم..
وهذا الموقف من أبي ذر «رحمه الله»، لم يكن إلا لأنه كان يعلم: أن اليهود يسعون لإفساد دين الناس، والتلاعب بعقائدهم، كيداً منهم للحق وأهله. وتنفيساً عن أحقاد يجدونها في نفوسهم، بسبب ما جنوه هم على أنفسهم.
وكان الناس باستثناء علي أمير المؤمنين «عليه السلام» مبهورين بهم، ويظنون: أن لديهم علوماً ليست لدى غيرهم.. ويحاول اليهود إشاعة هذا الإنطباع وتكريسه بأساليب عديدة ومختلفة،
وقد أوجب هذا الإنبهار وسياسات أخرى المزيد من النفوذ لهم، ولغيرهم من أهل الكتاب، ومكنهم من دس الكثير من سمومهم في عقائد الناس، وفي سائر معارفهم.. وكانت لهم هيمنة على العديد من الخلفاء والحكام.
وقد ذكرنا طرفاً مفيداً مما يرتبط بهذا الموضوع في الجزء الأول من كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله».. فراجع.
تعدد الوقائع:
والمراجع للنصوص المختلفة يعرف: ان هناك العديد من المواجهات الكلامية الحادة، قد وقعت بين علي «عليه السلام» وعثمان، وبين عثمان، وأبي ذر، وبين أبي ذر ومعاوية. وأن مساعيهم للتخلص من أبي ذر تواصلت وتعددت مظاهرها. وأن الجرأة عليه وعلى علي «عليه السلام» قد تكررت.. ووسائل الضغط قد اختلفت.
وكانت النتيجة واحدة هي إصرار أهل الحق على حقهم، وكان الآخرون هم المتحيرون، الذين وقعوا في الأخطاء الكبيرة والخطيرة على مرأى ومسمع من الصحابة وسائر الناس.
هل هذا تقصير أم قصور؟!
وتقدم في الرواية رقم (7) أن عثمان اتهم أبا ذر بالكذب، فيما رواه عن النبي «صلى الله عليه وآله» في حق بني أبي العاص إذا بلغوا ثلاثين رجلاً.. فقال أبوذر لمن حضر: أما تدرون أني صدقت؟
قالوا: لا والله ما ندري.
ثم لما روى لهم علي «عليه السلام»: حديث ما أظلت الخضراء إلخ.. فقال جميع من حضر أما هذا فسمعناه كلنا من رسول الله «صلى الله عليه وآله»..
والسؤال هو: إذا كانوا قد سمعوا الحديث أن أباذر أصدق من كل ذي لهجة، فكيف يقولون إنهم لا يدرون أنه صدق في نقله حديث بني أبي العاص؟!
فهم إما كذبوا في قولهم هذا.. أو أنهم لم يحسنوا الإستفادة من حديث أصدقية أبي ذر.. وهذا قصور معيب. .
كما إن من البعيد أن لا يفهم جميعهم أو أن لا يحسن الجميع الإستفادة من هذا الحديث.. فيكون بعضهم قد عمل بالتقية..
وأما القول بأنهم يرون الحديث النبوي لا يعبر عن الواقع، فهو بمثابة الإنكار للنبوة.. وفيه تكذيب للقرآن..
تأسف أبي ذر:
وحين قال أبوذر لهم: ما كنت أظن أني أعيش حتى أسمع هذا منكم، فإنه قد عبر عن دهشته من جرأتهم على تكذيب النبي «صلى الله عليه وآله»، أو على كذبهم، ولم يدخل في وهمه: أنهم لم يفهموا كلام النبي «صلى الله عليه وآله»، وأنهم لم يحسنوا تطبيقة..
علم علي :
وتذكر الرواية رقم (7) أيضاً أن عثمان سأل علياً إن كان قد سمع الحديث عن بني أبي العاص من رسول الله «صلى الله عليه وآله»؟!
فقال: لا، وقد صدق أبو ذر..
ثم استدل على صدقه بحديث: ما أظلت الخضراء..
وهذا معناه: أن علياً «عليه السلام» لا يعرف جميع الأحاديث عن رسول الله، فكيف يكون باب مدينة علم الرسول «صلى الله عليه وآله»؟!
ونجيب:
أولاً: لعل المطلوب هو أن يشهد بأنه حضر المجلس الذي سمع فيه أبوذرهذه الكلمة من رسول الله «صلى الله عليه وآله».. فأجاب بأنه لم يكن حاضراً آنئذٍ.. ولكن ذلك لا يمنع من أن يكون «صلى الله عليه وآله» قد ذكر له هو نفسه هذا الحديث في مناسبات أخرى.
ثانياً: لعله «عليه السلام» سمع هذا المعنى الذي ذكره أبوذر، ولكن بلفظ آخر، فلا يصح أن يشهد بسماعه نفس هذه الألفاظ التي ذكرها أبوذر.
ثالثاً: قد يكون «عليه السلام» قد استفاد هذه المعاني التي ذكرها أبو ذر من بعض أبواب العلم التي فتحت له من خلال الألف باب التي تعلمها من رسول الله.. والطريق الذي استفاد منه هذه الأبواب ليس هو الطريق العادي الميسور لسائر البشر..
إساءة أدب:
وبعد أن ذكر المعتزلي ما جرى بين عثمان وعلي «عليه السلام» بشأن أبي ذر، وقراءة علي «عليه السلام» آية مؤمن آل فرعون لتكون هي المشورة التي يقدمها لعثمان، قال: «فأجابه عثمان بجواب غليظ، وأجابه «عليه السلام» بمثله.. ولم نذكر الجوابين تذمماً منهما».
ونقول:
أولاً: قال عثمان لعلي «عليه السلام» بفيك تراب يا علي، فقال علي «عليه السلام» بل بفيك التراب يا عثمان، مما يعني أن علياً قد أجاب عثمان على سبيل المقابلة بالمثل، إنطلاقاً من قوله تعالى: {مَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}(
8 ) وآيات آخرى..
فعلي قد ظُلم، وللمظلوم أن ينتصر لنفسه، ويدفع الظلم عنها، فلماذا يتذمم ابن أبي الحديد من إستعمال علي «عليه السلام» حقه؟!
إن التذمم لا بد أن يكون من المضمون الذي استفيد منه في العدوان والظلم.. لا من المضمون الذي رضي الشارع بالإستفادة منه للدفاع عن النفس..
ثانياً: إن كلمة عثمان كانت دعاءً بالسوء على علي «عليه السلام».
أما كلمة علي «عليه السلام» فهي إخبار منه «عليه السلام» بالغيب، وإن ذلك سيجري على عثمان بسوء إختياره، ولذلك شفع كلمته بأن ذلك سيجري وسيكون كما تقدم..
ولماذا يتذمم المعتزلي من ذكر كلام يخبر به «عليه السلام» عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» عن الله عن أمر سيكون؟!
فإن ذلك ليس من الأجوبه الغليظة، ولا هو مما لا يحسن التصريح به.. 


([1]) راجع: تاريخ الإسلام للذهبي ج3 ص513 وسير أعلام النبلاء ج1 ص505 وتاريخ مدينة دمشق ج10 ص294 وج21 ص374.

([2]) الآيتان 109 و 110 من سورة الأعراف.

([3]) الآية 123 من سورة الأعراف.

([4]) الآية 29 من سورة الأعراف.

([5]) راجع: جامع بيان العلم ج2 ص175 و 203 و 194 و 174 و (ط دار الكتب العلمية) ج2 ص143 و 166 وتاريخ مدينة دمشق ج40 ص521 ومنتخب كنز العمال (مطبوع بهامش مسند أحمد) ج4 ص62 وسنن الدارمي ج1 ص61 والطبقات الكبرى لابن سعد ج6 ص179 و 258 وسير أعلام النبلاء ج2 ص495 وج4 ص612 والمصنف للصنعاني ج8 ص301 وج11 ص329 وراجع ص231 وأخبار القضاة لوكيع ج1 ص83 وتاريخ الإسلام للذهبي ج3 ص658 وتهذيب تاريخ دمشق ج1 ص54 وخلاصة عبقات الأنوار ج3 ص79 وراجع: حياة الصحابة ج3 ص286 وكنز العمال ج1 ص185 وراجع ص189 و (ط مؤسسة الرسالة) ج10 ص299 عن عبد الرزاق، وابن عساكر، وابن عبد البر، والدينوري في المجالسة.

([6]) الآية 28 من سورة غافر.

([7]) الآية 28 من سورة غافر.

([8]) الآية 194 من سورة البقرة.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان