الفصل
السادس: ليست توبـة.. بل
حوبـة..
توبة عثمان.. وعودته عنها:
أخرج الطبري من طريق علي بن عمر، عن أبيه، قال: إن علياً جاء
عثمان بعد انصراف المصريين فقال له: تكلم كلاماً يسمعه الناس
منك، ويشهدون عليه ويشهد الله على ما في قلبك من النزوع
والإنابة، فإن البلاد قد تمخضت عليك، فلا آمن ركبا آخرين
يقدمون من الكوفة فتقول: يا علي إركب إليهم.
ولا أقدر أن أركب إليهم، ولا أسمع عذراً.
ويقدم ركب آخرون من البصرة فتقول: يا علي إركب إليهم.
فإن لم أفعل، رأيتني قد قطعت، رحمك، واستخففت بحقك.
قال: فخرج عثمان وخطب الخطبة التي نزع فيها، و أعطى الناس من
نفسه التوبة، فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال:
أما بعد.. إلخ..(1).
وذكرت الروايات: أنه بعد أن أعلن عثمان توبته على المنبر،
ودفعه مروان إلى التنصل منها، وزبر الناس حين اجتمعوا على باب
عثمان مبتهجين.
«بلغ علياً الخبر، فأتى عثمان وهو مغضب، فقال: أما رضيت من
مروان ولا رضي منك إلا بإفساد دينك، وخديعتك عن عقلك؟! وإني
لأراه سيوردك ثم لا يصدرك. وما أنا بعائد بعد مقامي هذا
لمعاتبتك».
ولامته زوجته نائلة بنت الفرافصة. وقالت له: «قد أطعت مروان،
ولا قدر له عند الناس ولا هيبة».
فبعث إلى علي، فلم يأته(2).
وقال عبد الرحمان بن الأسود بن عبد يغوث:
فجئت إلى علي فأجده بين القبر والمنبر، وأجد عنده عمار بن
ياسر، ومحمد بن أبي بكر، وهما يقولان: صنع مروان بالناس وصنع.
قال: فأقبل عليَّ عليٌّ فقال: أحضرت خطبة عثمان؟!
قلت: نعم.
قال: أفحضرت مقالة مروان للناس؟!
قلت: نعم.
قال علي «عليه السلام»: عياذ الله يا للمسلمين، إني إن قعدت في
بيتي قال لي: تركتني وقرابتي وحقي، وإني إن تكلمت فجاء ما يريد
يلعب به مروان، فصار سيقة له يسوقه حيث شاء، بعد كبر السن،
وصحبة رسول الله «صلى الله عليه وآله».
قال عبد الرحمن بن الأسود: فلم يزل حتى جاء رسول عثمان: إئتني.
فقال علي بصوت مرتفع عال مغضب: قل له: ما أنا بداخل عليك ولا
عائد.
قال: فانصرف الرسول. فلقيت عثمان بعد ذلك بليلتين جائياً،
فسألت ناتلا غلامه من أين جاء أمير المؤمنين؟
فقال: كان عند علي، فقال عبد الرحمن بن الأسود: فغدوت فجلست مع
علي «عليه السلام» فقال لي: جاءني عثمان البارحة فجعل يقول:
إني غير عائد وإني فاعل.
قال: فقلت له: بعد ما تكلمت به على منبر رسول الله «صلى الله
عليه وآله»، وأعطيت من نفسك، ثم دخلت بيتك، وخرج مروان إلى
الناس فشتمهم على بابك ويؤذيهم؟!
قال: فرجع وهو يقول: قطعت رحمي، وخذلتني، وجرأت الناس علي.
فقلت: والله إني لأذب الناس عنك، ولكني كلما جئتك بهنة أظنها
لك رضى جاء بأخرى. فسمعت قول مروان علي، واستدخلت مروان.
قال: ثم انصرف إلى بيته.
فلم أزل أرى علياً منكباً عنه، لا يفعل ما كان يفعل(3).
فرصة مروان:
إن مروان لم يكن قادراً على شيء من الفساد والإفساد، لو لم يكن
يجد السبيل ممهداً لدى عثمان قبل وقد أعلن هذه التوبة لأنه خاف
القتل، تماماً كما أعلن التوبة في المقدمة الأولى التي كانت
لأهل مصر.. ولكن حين شجعه مروان على نقضها عاد فنقضها، ولم يهب
أخرج الطبري من طريق عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: كتب أهل
المدينة إلى عثمان يدعونه إلى التوبة، ويحتجون ويقسمون له
بالله لا يمسكون عنه أبدا حتى يقتلوه، أو يعطيهم ما يلزمه من
حق الله.
فلما خاف القتل شاور نصحاءه وأهل بيته، فقال لهم: قد صنع القوم
ما قد رأيتم فما المخرج؟!
فأشاروا عليه أن يرسل إلى علي بن أبي طالب، فيطلب إليه أن
يردهم عنه، ويعطيهم ما يرضيهم، ليطاولهم حتى يأتيه أمداده.
فقال: إن القوم لن يقبلوا التعليل، وهم محملي عهداً. وقد كان
مني في قدمتهم الأولى ما كان، فمتى أعطهم ذلك يسألوني الوفاء
به.
فقال مروان بن الحكم: يا أمير المؤمنين! مقاربتهم حتى تقوى
أمثل من مكاثرتهم على القرب، فاعطهم ما سألوك، وطاولهم ما
طاولوك، فإنما هم بغوا عليك فلا عهد لهم.
فأرسل إلى علي فدعاه، فلما جاءه قال: يا أبا حسن! إنه قد كان
من الناس ما قد رأيت. وكان مني ما قد علمت، ولست آمنهم على
قتلي، فارددهم عني؛ فإن لهم الله عز وجل أن اعتبهم من كل ما
يكرهون، وأن أعطيهم الحق من نفسي ومن غيري، وإن كان في ذلك سفك
دمي.
فقال له علي «عليه السلام»: الناس إلى عدلك أحوج منهم إلى
قتلك، وإني لأرى قوما لا يرضون إلا بالرضا، وقد كنت أعطيتهم في
قدمتهم الأولى عهدا من الله لترجعن عن جميع ما نقموا فرددتهم
عنك، ثم لم تف لهم بشيء من ذلك، فلا تغرني هذه المرة من شئ،
فإني معطيهم عليك الحق.
قال: نعم، فاعطهم، فوالله لأفين لهم.
فخرج علي إلى الناس فقال: أيها الناس، إنكم إنما طلبتم الحق
فقد أعطيتموه. إن عثمان قد زعم أنه منصفكم من نفسه ومن غيره،
وراجع عن جميع ما تكرهون، فاقبلوا منه، ووكدوا عليه.
قال الناس: قد قبلنا، فاستوثق منه لنا، فإنا والله لا نرضى
بقول دون فعل.
فقال لهم علي: ذلك لكم.
ثم دخل عليه فأخبره الخبر، فقال عثمان: اضرب بيني وبينهم أجلا
يكون لي فيه مهلة، فإني لا أقدر على رد ما كرهوا في يوم واحد.
قال له علي «عليه السلام»: ما حضر بالمدينة فلا أجل فيه، وما
غاب فأجله وصول أمرك.
قال: نعم، ولكن أجلني فيما بالمدينة ثلاثة أيام.
قال علي: نعم.
فخرج إلى الناس فأخبرهم بذلك، وكتب بينهم وبين عثمان كتابا
أجله فيه ثلاثا على أن يرد كل مظلمة، ويعزل كل عامل كرهوه.
ثم أخذ عليه في الكتاب أعظم ما أخذ الله على أحد من خلقه من
عهد وميثاق، وأشهد عليه ناساً من وجوه المهاجرين والأنصار.
فكف المسلمون عنه، ورجعوا إلى أن يفي لهم بما أعطاهم من نفسه،
فجعل يتأهب للقتال، ويستعد بالسلاح، وقد كان اتخذ جنداً عظيماً
من رقيق الخمس.
فلما مضت الأيام الثلاثة وهو على حاله، لم يغير شيئاً مما
كرهوه، ولم يعزل عاملاً، ثار به الناس.
وخرج عمرو بن حزم الأنصاري حتى أتى المصريين وهم بذي خشب،
فأخبرهم الخبر، وسار معهم حتى قدموا المدينة، فأرسلوا إلى
عثمان: ألم نفارقك على أنك زعمت أنك تائب من أحداثك، وراجع عما
كرهنا منك، وأعطيتنا على ذلك عهد الله وميثاقه؟
قال: بلى، أنا على ذلك.
قال: فما هذا الكتاب الذي وجدنا مع رسولك(4).
وتذكر بعض النصوص: أنه لما راجع علي «عليه السلام» عثمان في
أمر الكتاب إلى عامله بمصر، وأنكر عثمان أن يكون قد كتبه أقبل
عثمان على علي «عليه السلام» فقال: إن لي قرابة ورحماً، والله
لو كنت في هذه الحلقة لفككتها عنك، فاخرج إليهم فكلمهم، فإنهم
يسمعون منك.
قال علي «عليه السلام»: والله ما أنا بفاعل. ولكن أدخلهم حتى
تعتذر إليهم، فادخلوا(5).
ونقول:
لا بد من ملاحظة الأمور التالية:
أي ذلك صحيح؟!:
1 ـ نلاحظ هنا: أن عثمان يتوب على المنبر، ويكتب كتاباً لأهل
مصر يضمنه توبته هذه. ولكنه حين يرجع عنه المصريون يصعد المنبر
ويقول:
«إن هؤلاء القوم من أهل مصر كان بلغهم عن إمامهم أمر، فلما
تيقنوا أنه باطل ما بلغهم عنه رجعوا إلى بلادهم»(6).
فما هذا التناقض في أقوال وأفعال هذا الرجل.. فتوبته السابقة
تدل على أنه قد فعل تلك الأمور التي أخذت عليه..
وقوله ثانياً: إن ما بلغهم عنه كان باطلاً يدل على ضد ذلك، فأي
ذلك هو الصحيح؟!
وكيف يجرؤ على مواجهة الناس بهذه المواقف المتناقضة؟!.
وكيف يطلب منهم أن يثقوا به، وأن يطيعوه؟!
2 ـ ما معنى: أن يكتب عثمان إلى أهل مكة: «لا أدعي إلى توبة
أقبلها، ولا تسمع مني حجة أقولها..»؟!(7).
فإنه قد دعي إلى توبة، فأعلنها على المنبر، ثم نقضها، حتى اضطر
علي «عليه السلام» إلى إعلان مقاطعته..
يكفرهم ويستحل دماءهم:
إن عثمان قد كفر أهل المدينة، وصار يسعى لاستقدام الجنود للبطش
بهم، لمجرد أنهم يطالبونه بإصلاح الأمور، وبالإقلاع عن
المخالفات، وبوضع حد لعماله في انتهاكهم الحرمات، وإقدامهم على
المحرمات..
فهل هذه المطالبة من موجبات كفرهم؟ واستحلال دمائهم؟!.. وكيف
يطلب منهم أن لا يبادروه بما هو من سنخ ما أراده بهم؟ لا سيما،
وهم يرون إصراره على مخالفة سنة رسول الله «صلى الله عليه
وآله».. وما قرره الشرع الحنيف؟!..
التكفير متبادل:
ثم إن لعثمان موقفاً تكفيرياً من الصحابة ظهر جلياً في قوله عن
المهاجرين والأنصار في المدينة: «إن أهل المدينة كفروا،
وأخلفوا الطاعة، ونكثوا البيعة».
وقال: «هم كالأحزاب أيام الأحزاب، أو من غزانا بأحد».
مع أن أهل السنة يقولون عن الصحابة: إنهم عدول بأجمعهم. ولا
ريب في أنه من بينهم صفوة كبار، وعلماء أخيار أبرار، لا
يدانيهم أحد في الفضل والاستقامة والبر والصلاح.
وتكفيرهم من قبل عثمان معناه: أنه يستحل دماءهم، لذلك كتب إلى
عماله بإرسال الجيوش إليه لكي ينتقم منهم..
فالتكفير واستحلال الدم متبادل بين الصحابة وبين عثمان.. وهذا
ما يزيد من الشبهة في جواز مبادرة علي «عليه السلام» إلى
عقوبتهم، أو في السماح بالإعتداء عليهم بحجة إرادة الإقتصاص
منهم.
موقف علي
من التكفير:
قال المرتضى: «روي أن عماراً نازع الحسن بن علي، فقال عمار:
قتل عثمان كافراً، وقال الحسن: قتل مؤمناً.
وتعلق بعضهما ببعض، فصارا إلى أمير المؤمنين «عليه السلام»،
فقال: ماذا تريد من ابن أخيك؟!
فقال: إني قلت كذا، وقال كذا.
فقال له أمير المؤمنين «عليه السلام»: أتكفر برب كان يؤمن به
عثمان؟
فسكت عمار»(8).
ونقول:
لا بد من الإشارة فيما يلي إلى بعض التوضيحات وهي:
ألف: إن تكفير عمار وغيره لعثمان لأجل حكمه بغير ما أنزل الله
تعالى لا يعني تكفير سائر الصحابة له أيضاً، بل لعل الكثيرين
منهم كانوا يرون لزوم قتله بسبب امتناعه من الخلع، أو لأسباب
أخرى، قد لا تكون موجبة للكفْر بنظرهم.. كقتله بعض النفوس
المحترمة، فقد تقدم في بعض فصول هذا الكتاب أن عثمان شكا من
أنهم يطالبونه بالقود ببعض من قتلهم.
ب: إن جواب أمير المؤمنين «عليه السلام» يدل على أنه «عليه
السلام» لا يكفر عثمان من ناحية إخلاله بالتوحيد، أو إنكاره
الألوهية، فإنه قد أسكت عماراً بسؤاله إن كان يكفر برب كان
يؤمن به عثمان، لأن عماراً لا يستطيع أن يدعي أنه مطلع على
ضمير عثمان، ليحكم عليه في إيمانه صحة وفساداً، ولذلك كان لا
بد له من السكوت في مقابل هذا السؤال..
غير أن الجميع يعلم أن الكفر لا ينحصر بإنكار الألوهية، أو
بالإخلال بالتوحيد، فإن عماراً كان يكفر عثمان لحكمه بغير ما
أنزل الله تعالى، ويستشهد بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾(9)»(10).
والخلاصة:
إنه «عليه السلام» كان يعلم أن الكفر لا ينحصر بإنكار الرب
والربوبية، بل هناك كفر بالصفات، وكفر بالنبوة، وكفر بالمعاد،
وغير ذلك، ولكنه أراد أن يشير إلى عمار: أنه ليس من المقبول أن
يطرح أمثال هذه الموضوعات، فإنها قد تنسب إلى علي وأهل البيت
«عليهم السلام»، وأنهم هم الذين يثيرونها، ويلقونها إلى عمار
«رحمه الله» ونظرائه، لمكان عمار منهم.
وقد أبقى «عليه السلام» الأمر في دائرة الإبهام، وسكت عمار
أيضاً عن مطالبته بالتوضيح والبيان، ربما لأنه «رحمه الله» قد
فهم ما يرمي إليه صلوات الله وسلامه عليه..
ج: لعل ما ذكرناه آنفاً هو الذي دعا الإمام الحسن «عليه
السلام» لإثارة هذا الموضوع مع عمار «رحمه الله» ولكن ما معنى
أن تتحدث الرواية عن تنازع حصل بين عمار بن ياسر، وبين الإمام
الحسن «عليه السلام»، حتى تعلق أحدهما بالآخر؟!.. فهل يتجرأ
عمار على الإمام الحسن «عليه السلام» في شيء من أمور الدين أو
الدنيا إلى هذا الحد؟ وهو قد عرف نزول الآيات القرآنية في حقه،
ومنها آية التطهير، وعرف قول النبي «صلى الله عليه وآله»:
الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا.. وغير ذلك..
فلعل المقصود هو أن الإمام الحسن «عليه السلام» أثار الموضوع
مع عمار، ثم أخذه إلى علي «عليه السلام» للسماع منه، ولم يكن
هناك أي خلاف حقيقي فعلاً، تماماً كما جرى للملكين حينما رفعا
أمرهما إلى داود عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام في قضية
النعاج.. ﴿إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً
وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي
فِي الْخِطَابِ، قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ
إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الخُلَطَاءِ لَيَبْغِي
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا
فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً
وَأَنَابَ﴾(11)..
د: يلاحظ هنا هذا التعظيم والإجلال العلوي لعمار «رحمه الله»،
حيث قال له «عليه السلام»: ماذا تريد من ابن أخيك؟! فجعل
عماراً «رحمه الله» أخاً له، والحال: أنه «عليه السلام» إمامه،
وكذلك الإمام الحسن..
هـ: إنه «عليه السلام» لم يسأل ولده الإمام الحسن، بل سأل
عماراً عما يريده من الإمام الحسن «عليه السلام»، لأنه يعلم أن
الإمام الحسن «عليه السلام» كان على يقين مما يقول، وعمار فقط
كان هو الذي يحتاج إلى التوضيح والبيان، ويسعى لتحصيل اليقين،
فهو الطالب، وهو الذي ينبغي أن يوجه السؤال إليه..
و: لا حاجة إلى الإفاضة فيما قصده الإمام الحسن «عليه السلام»
بإيمان عثمان، فإن مقصوده هو نفس ما ذكره الإمام علي «عليه
السلام»، وهو إثبات أنه لا ينكر الألوهية، ولا يشرك به أحداً..
البيعة.. والطاعة:
إن الصحابة إنما قاموا في وجه عثمان لأنهم رأوا أنه لم يقم بما
شرط عليه في عقد البيعة، فلم يعمل بكتاب الله وسنة نبيه، وخالف
ما شرطه عليه عبد الرحمان بن عوف من العمل أيضاً بسنة أبي بكر
وعمر.
والظاهر: أنهم يرون البيعة ملزمة لهم، إذا قام صاحبها بالشروط
التي أخذت عليه، فإذا لم يف لهم لم يجب عليهم الوفاء له.. فكيف
إذا رأوا أنه يجمع الجنود، ويهيء السلاح لأجل الإيقاع بهم
وقتلهم؟!
البلاد كلها ضد عثمان:
صرحت رواية الطبري المتقدمة: «أن علياً «عليه السلام» قال
لعثمان: «إن البلاد قد تمخضت عليك..» بل إن معاوية نفسه لم يرض
بإنجاده، لأنه يرى أنه بدل وغيّر فبدل ـ الله عليه.. فلا
يستطيع معاوية أن يفعل له شيئاً.
وهذا يسقط ما تحاول بعض الرويات الأخرى التسويق له من أن الذين
يعترضون علي عثمان كانوا قلة، لا شأن لها ولا مقدار..
على أن هذه الروايات لو صحت لكان ينبغي للصحابة أن يؤازروه
وينصروه عليهم.. لا أن يتركوه يحاصر شهرين، أو أكثر أو أقل،
ويمنع عنه الماء، ثم يقتل.
إن رجع هؤلاء، فسيأتي غيرهم:
ظاهر كلام أمير المؤمنين «عليه السلام» لعثمان هو أن الذين
قدموا المدينة من أهل الكوفة، أو مصر، أو البصرة، أو غيرها..
لم يكونوا وحدهم يعترضون عليه، بل كان من ورائهم أمثالهم، ممن
كان من المتوقع أن يقدموا المدينة أيضاً، إن ظهر لهم فشل هؤلاء
في مهمتهم..
فعلى عثمان إذن، أن لا يتوقع انتهاء الأزمة، برد هذا الفريق
بحفنة من الوعود يزجيها له.. بل لا بد من قرار واقعي حاسم يرضي
هؤلاء، ويرضي من خلفهم.
الإصرار حتى الموت:
إن إصرار عثمان على عدم القبول بالخلع. ثم شحذ مروان عزيمته
على هذا الإصرار. فلم يسمح له بأن يتراجع عن شيء مما طلب منه
التراجع عنه.. وعدم إنجاد معاوية له بالجيوش حتى قتل ـ إن ذلك
كله ـ لم يأت من فراغ، بل الظاهر أنهم فكروا في الأمر، فظهر
لهم:
1 ـ إن عزل عثمان معناه: أن لا يبقى أمل للأمويين بالخلافة،
لأن الناس سوف يستهينون بهم، ويذلونهم، ولا يبقى لهم قيمة ولا
شأن..
2 ـ إن ذلك قد يمهد الطريق لملاحقة كل ذلك الفريق بالجرائم
التي ارتكبوها، والمآثم التي مارسوها. وستسترد الأموال التي
استولوا عليها، وسيعزلون من مناصبهم. بل قد تنال العقوبة
الخليفة المخلوع نفسه، وكان هو أعرف الناس بما صدر منه، وبما
يأخذونه عليه، أو يطالبونه به.
3 ـ إن قتل عثمان سيكون هو الأكثر نفعاً لمعاوية ومروان
وسواهما من بني أمية، لأنه يفسح المجال لإثارة الشبهة في
الناس، وادعاء مظلوميته، ورفع شعار المطالبة بدمه، ويمكِّنهم
من تخيُّر النخبة الإيمانية في سياساتهم الإنتقامية.
لا ينصر عثمان بل ينصر دينه:
إن من غير المعقول أن يستمر علي «عليه السلام» بالتوسط لدى
الذين يطالبون بالإصلاح، ويردهم، ثم يظهر لهم أنها وعود فارغة،
وأنهم لن يحصلوا على شيء من مطالبهم، لأن ذلك يفقد علياً «عليه
السلام» مصداقيته عندهم وعند غيرهم. بل هو يظهره لهم على أنه ـ
والعياذ بالله ـ مداهن في دين الله، راض بالتعدي على حدوده..
أو أنه ألعوبة، وضعيف لا يملك من أمره شيئاً.
من أجل ذلك كان لا بد له «عليه السلام» من أن يوضح لعثمان.. أن
عليه أن لا يتوقع منه هذه المعونة التي من شأنها أن تسيء إلى
كرامته، وإلى سلامة دينه. وتؤدي إلى إسقاط حرمته.. لأن حرمته
وكل ما لديه إنما يدخره لحماية الدين.. فإذا فقده وأنفقه على
عثمان، ولم يبق لديه ما يجدي في هذا السبيل، يكون قد ضحى بدينه
وبكرامته من أجل شخص، بدل أن يضحي بكل شيئ في سبيل دينه، الذي
يحفظ له كرامته وعزته.
إفساد الدين والخديعة عن العقل:
اعتبر علي «عليه السلام» هذا التنصل العثماني من التوبة،
فساداً للدين، وخديعة عن العقل..
وهو كلام دقيق، فهو يفسد الدين، من حيث أنه يكرس الخروج على
أحكامه، ومسلماته، ويعطيها صفة الشرعية، من خلال حماية مقام
خلافة الرسول «صلى الله عليه وآله» لتلك المخالفات، والإصرار
على استمرارها، وعدم التراجع عنها.
بل إن الرجوع عن التوبة معناه: حكم الخليفة بأن المعصية طاعة،
والخطأ صواب.
وذلك أيضاً خديعة للعقل، فإن ما يجري لا يصب في مصلحة عثمان،
ولا يزيده إلا بلاء وعناء، في حين أن مروان يزينه له بصورة
انتصارات، وإنجازات تزيده قوة وشوكة.
وكأنه يطلب منه أن يدع عقله جانباً، لينقاد له، ليورده موارد
الهلكة، حيث لا يمكنه أن يصدر عنها، لأن مروان لا يريد له
النجاة من الهلكات، أو لا يستطيع ذلك.
لماذا لا يعود علي
إلى عثمان؟!:
وقد أدركت زوجة عثمان بعضاً من الحقيقة، ونصحت زوجها بأن يكف
عن طاعة مروان.. فحركه ذلك إلى أن يرسل إلى علي «عليه السلام».
ولكن علياً «عليه السلام» لم يأته هذه المرة، ربما لأنه يعلم:
أنها لن تكون أفضل من سابقاتها، إن لم تكن ستزيد الأمر سوءاً
على عثمان نفسه، لأن عودته إليه، وقبوله بوعوده، ثم نقضها مرة
أخرى سيقرب النهاية السيئة لعثمان، إذ سيتأكد للثائرين أنه
يتلاعب بهم، وبالخيرة من أصحاب رسول الله «صلى الله عليه
وآله». وربما لا يتمكن أحد بعد هذا من صدهم عن ممارسة أساليب
من العنف، ربما تلحق أضراراً هائلة بالكيان كله.
فعدم مجيء علي «عليه السلام» كان أنفع له، وهو بمثابة صدمةٍ
وفرصة لعثمان لمراجعة حساباته، والتراجع عن الأمور التي يأخذها
الناس عليه، إن كان حقاً يعني ما يقول..
ولكن الأيام كانت تمضي، ولا يبادر إلى شيء من ذلك، بل هو يزداد
إصراراً على طاعة مروان، وأضرابه، وأصبح أكثر عناداً في الدفاع
عن مآثم عماله.
فظهر بذلك صوابية موقف أمير المؤمنين «عليه السلام»، حيث رفض
العودة حين أرسل إليه.
قطعت رحمي وخذلتني:
وقد أظهر النص المذكور أيضاً: أن عثمان حين لم يجد عند علي
«عليه السلام» ما يحب، لأنه نقض توبته على المنبر، أظهر سخطه
على علي «عليه السلام»، واعتبره قاطعاً لرحمه، خاذلاً له،
مجرئاً الناس عليه..
فدل ذلك على: أنه ينظر إلى الأمر، وكأنه أمر شخصي، لا بد لعلي
«عليه السلام» أن يكون معه فيه، ظالماً كان أو مظلوماً، وأن
ينصره حين يعد، وينصره حين يخيس بوعوده، ويكون معه حيث يتوب،
وحين ينقض توبته، ويدفع عنه حين يعصي الله، وحين يطيعه.. وهذا
هو عين منطق أهل الجاهلية الذي رفضه الإسلام وأدانه..
المطاولة إلى أن يأتي المدد:
ثم أظهرت الوقائع: أن عثمان لا يريد أن يتخلى عن أي من عماله،
الذين كانوا يقتلون الناس، ويظلمونهم، ويتخذون مال الله دولا،
وعباده خولاً.. ويريد أن يطاول الناس حتى يأتيه المدد، فينتقم
منهم.. كما ورد في النص الذي رواه الطبري، عن عبدالله بن
الزبير، عن أبيه.
وهذا هو اقتراح مروان عليه، وحجته في ذلك: أنهم قد بغوا عليه،
فلا عهد لهم.
ولا ندري ما الذي حمل مروان على اعتبارهم بغاةً، فإنهم كانوا
إلى تلك الساعة يطالبون الخليفة بإنصافهم، وبالرجوع عن
المخالفات لأحكام الشرع والدين.. وحين قبل ذلك منهم رجعوا إلى
بلادهم في مصر، ففاجأهم كتابه إلى ابن أبي سرح الذي يأمر فيه
بقتل البعض من رؤسائهم، وبالتنكيل بالبعض الآخر.
هل الخداع حلال؟!:
ولو سلمنا ما ادعاه مروان من أنهم لا عهد لهم، لأنهم قد بغوا،
فإن السؤال الكبير هو: كيف جاز لعثمان أن يخدع علياً بإيهامه
أنه مقلع عما طلب منه الإقلاع عنه، وتائب عما بدر منه، وأنه
سوف يصلح الأمور، في حين أنه يبطن خلاف ذلك، ويريد المطاولة
إلى أن يأتيه المدد، ليبطش بالناس وهم غافلون؟!
ولو حصل ذلك، يكون قد عرَّض أمير المؤمنين «عليه السلام» لنقمة
أولئك الناس عليه، لكونه أصبح سبباً في حلول البلاء بهم، وآلة
غدر ووسيلة خداع، قد تنتهي بإحراق الأخضر واليابس.
وأين هي كرامات الناس؟!
وكيف، ومتى تقدم العهود، ويكون الوفاء بالوعود؟ وهي وعود سيكون
ثمن نقضها الأرواح والمهج، وربما مصير الأمة بأسرها؟!.
يقسم ويحنث:
وقد ذكَّره «عليه السلام» بنكثه، ونقضه للعهد والوعد الذي
أعطاه للمصريين في قدمتهم الأولى. وعبر عن خشيته من أن يكون
الهدف هو التغرير والخديعة..
ويقسم عثمان له بأنه سيفي بما يعطيه من الحق.. فعثمان يعترف
بالحق هنا، فهل يصح العدول عن الحق إلى الباطل، حتى لو لم يكن
عهد ووعد وقسم؟! فكيف إذا كان ذلك كذلك.. فقد اجتمعت الأسباب
كافة على لزوم الوفاء..
دلالات حنث الإيمان:
وقد قدمت هذه المبادرة العلوية للناس دليلاً آخر، وحجة بالغة
ودامغة تتمثل بنكث عثمان لعهوده، وإخلافه بوعوده، وحنثه
بأيمانه، ونقضه لمواثيقه التي أعطاها.. كما تدل عليه النصوص
الروائية والتاريخية..
وهذا النقض للمواثيق، والحنث بالإيمان من شأنه:
أولاً: أن يؤكد صحة ما يقال عن عثمان، وأن يكون حجة أخرى عليه.
ثانياً: هو يعطي دليلاً حسياً آخر على أن عثمان لم يكن ينطلق
في موقفه هذا من مبادئ وأصول تحكم حركته وتهيمن عليها، ولا كان
يحنث بإيمانه، ويخل بوعوده وعهوده، ابتغاء رضا الله تعالى..
فإن الحنث بالإيمان محرم شرعاً. ولا يطلب رضاه تعالى بارتكاب
المحرمات.
ثالثاً: إن هذا النقض والحنث يدعو الناس إلى المقارنة بين علي
«عليه السلام» وبين غاصبي حقه، والمستأثرين بمقامه.. وإلى
التفكير في حاله، وهو يواجه أناساً لهم هذه الصفات، وهاتيك
الحالات، ولا يأبون عن التعامل معه، ومع سائر الناس بهذه
الطريقة، وبمثل هذه الروح!!
رابعاً: من يحنث بأيمانه، وينقض عهوده، ويخلف بوعوده في
القضايا الكبرى، ومع كبار القوم وخيارهم. لا يمكن المبادرة إلى
تكذيب ما ينسب إليه من مخالفات كبيرة وخطيرة، فضلاً عما ينسب
إلى عماله، الذين هم من الطلقاء والسفهاء؟! وبعضهم اهدر النبي
«صلى الله عليه وآله» دمه..
وأية قاعدة وضابطة تعطي الناس الطمأنينة والسكينة إلى المستقبل
مع هؤلاء. وما الذي يضمن أن لا تنكث الوعود والعهود، ثم ينتقم
هؤلاء الحكام من مخالفيهم شر انتقام.
الشروط الفاضحة:
وجاءت الشروط التي لا يمكن لأحد الجدال في أنها عين العدل
والإنصاف، وهي أن يبدأ التنفيذ فيما هو حاضر، أما البعيد فأجله
وصول أمره.
ولكن عثمان قد ماحك حتى في هذا أيضاً، فطلب منه أن يؤجله ثلاثة
أيام في خصوص ما كان بالمدينة.. وهذا يثير الريب والشبهة، إذ
لماذا يؤجل هذا الحاضر القريب إلى ثلاثة أيام.. والحال أنه لا
يجوز الإبقاء على الباطل والخطأ لحظة واحدة..
ولكن علياً «عليه السلام» منحه هذه الفرصة، لأنه «عليه السلام»
لم يرد أن يفسح له المجال لادعاء أنه يتعرض للابتزاز، والإهانة،
والإذلال، فيصير بنظر الناس مظلوماً، ويصير علي ظالماً، أو
قاسياً، أو ما إلى ذلك.. فعسى أن تظهر الأيام الثلاثة نواياه،
وبعض ما ينطوي عليه.
وإذ بالثلاثة أيام تتمخض عن تأهب للقتال، واستعداد بالسلاح،
وإعادة تجميع جنده العظيم، الذي كان عنده من رقيق الخمس.
وقد ذكرت بعض الروايات عن علي «عليه السلام» أنهم كانوا أربعة
آلاف، ثم ظهر كتابه مع رسوله، وتفاقمت المشكلة كما تقدم.
([1])
تاريخ الأمم والملوك ج3 ص395 والكامل في التاريخ ج3 ص164
والغدير ج9 ص172 وعن أنساب الأشراف ج6 ص180.