وروى الزبير بن بكار، عن عمه، عن عيسى بن
داود، عن رجاله، عن ابن عباس، قال: لما بنى عثمان داره بالمدينة أكثر
الناس عليه في ذلك، فبلغه، فخطبنا في يوم الجمعة، ثم صلى بنا، ثم عاد
إلى المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله، ثم قال:
أما بعد..
فإن النعمة إذا حدثت حدث لها حساد حسبها، وأعداء قدرها،
وإن الله لم يحدث لنا نعماً ليحدث لها حساد عليها، ومتنافسون فيها،
ولكنه قد كان من بناء منزلنا هذا ما كان، إرادة جمع المال فيه، وضم
القاصية إليه، فأتانا عن أناس منكم أنهم يقولون: أخذ فيئنا، وأنفق
شيئنا، واستأثر بأموالنا، يمشون خمراً، وينطقون سراً، كأنَّا غيب عنهم،
وكأنهم يهابون مواجهتنا، معرفة منهم بدحوض حجتهم، فإذا غابوا عنا يروح
بعضهم إلى بعضهم يذكرنا، وقد وجدوا على ذلك أعواناً من نظرائهم،
ومؤازرين من شبهائهم، فبعداً بعداً! ورغماً رغماً!.
قال:
ثم أنشد بيتين يومئ فيهما إلى علي «عليه السلام»:
توقـد بنـار أينـما
كـنـت واشتعـل فلـسـت تـرى مما تعـالـج شـافيـا
تشط فيقضي الامر دونــك أهلــه وشيكا ولا تدعى إذا كنت
نـائـيـا
وذكر تمام
خطبته، ثم قال:
ثم هم بالنزول، فبصر بعلي بن أبي طالب «عليه السلام»
ومعه عمار بن ياسر «رحمه الله» وناس من أهل هواه يتناجون، فقال: أيها..
أيها! إسراراً لا جهاراً؟!
أما والذي نفسي بيده، ما أحنق على جرة،
ولا أوتي من ضعف مرة، ولولا النظر مني، ولي ولكم، والرفق بي وبكم،
لعاجلتكم، فقد اغتررتم، وأقلتم من أنفسكم.
ثم رفع يديه
يدعو وهو يقول:
اللهم قد تعلم حبي للعافية، وإيثاري للسلامة فآتنيها.
قال:
فتفرق القوم عن علي
«عليه السلام»،
وقام عدي بن الخياد.. وكلمه بكلام ذكره، ثم قال: ونزل عثمان، فأتى
منزله، وأتاه الناس وفيهم ابن عباس، فلما أخذوا مجالسهم أقبل على ابن
عباس.
فقال:
ما لي ولكم يا بن عباس؟!
ما أغراكم بي، وأولعكم بتعقيب أمري،
لتنقمون علي أمر العامة..
وعاتبه بكلام طويل، فأجابه ابن عباس، وقال ـ في جملة
كلامه ـ:
.. اخسأ الشيطان عنك لا يركبك، واغلب غضبك ولا يغلبك، فما دعاك إلى هذا
الأمر الذي كان منك؟!
قال:
دعاني إليه ابن عمك علي بن أبي طالب.
قال ابن
عباس:
وعسى أن يكذب مبلغك!.
قال عثمان:
إنه ثقة.
قال ابن
عباس:
إنه ليس بثقة من أولع وأغرى.
قال عثمان:
يا بن عباس! الله إنك ما تعلم من علي ما شكوت منه؟.
قال:
اللهم لا، إلا أن يقول كما يقول الناس، وينقم كما ينقمون، فمن أغراك به
وأولعك بذكره دونهم؟!
قال عثمان:
إنما آفتي من أعظم الداء الذي ينصب نفسه لرأس الأمر، وهو علي ابن عمك،
وهذا ـ والله ـ كله من نكده وشؤمه.
قال ابن
عباس:
مهلاً! استثن يا أمير المؤمنين! قل: إن شاء الله.
فقال:
إن شاء الله.
ثم قال:
إني أنشدك يا بن عباس! الإسلام والرحم، فقد والله غلبت وابتليت بكم،
والله لوددت أن هذا الأمر كان صائراً إليكم دوني، فحملتموه عني، وكنت
أحد أعوانكم عليه، إذاً والله لوجدتموني لكم خيراً مما وجدتكم لي.
ولقد علمت أن الأمر لكم، ولكن قومكم
دفعوكم عنه، واختزلوه دونكم، فوالله ما أدري أرفعوكم (عنه. ظ.)؟! أم
رفعوه عنكم؟!
قال ابن
عباس:
مهلا يا أمير المؤمنين!
فإنا ننشدك الله والاسلام والرحم مثل ما
نشدتنا، أن تطمع فينا وفيك عدواً، وتشمت بنا وبك حسوداً، إن أمرك إليك
ما كان قولاً، فإذا صار فعلا فليس إليك ولا في يدك، وإنا والله لتخالفن
إن خولفنا، ولتنازعن إن نوزعنا، وما يمتنك أن يكون الأمر صار إلينا
دونك، إلا أن يقول قائل منا ما يقوله الناس، ويعيب كما عابوا!
وأما صرف قومنا عنا الأمر فعن حسد قد
والله عرفته، وبغي والله علمته، فالله بيننا وبين قومنا.
وأما قولك إنك لا تدري أرفعوه عنا أم
رفعونا عنه؟! فلعمري إنك لتعرف أنه لو صار إلينا هذا الأمر ما ازددنا
به فضلاً إلى فضلنا، ولا قدراً إلى قدرنا، وإنا لأهل الفضل وأهل القدر،
وما فضل فاضل إلا بفضلنا، ولا سبق سابق إلا بسبقنا، ولولا هدانا ما
اهتدى أحد، ولا أبصروا من عمى، ولا قصدوا من جور.
فقال عثمان:
حتى متى ـ يا بن عباس ـ يأتيني عنكم ما يأتيني؟!
هبوني كنت بعيداً، أما كان لي من الحق
عليكم أن أراقب وأن أناظر؟!
بلى، ورب الكعبة ولكن الفرقة سهلت لكم
القول في، وتقدمت بكم إلى الإسراع إلي، والله المستعان.
قال ابن
عباس:
فخرجت فلقيت عليا
«عليه السلام»،
وإذا به من الغضب والتلظي أضعاف ما بعثمان، فأردت تسكينه فامتنع، فأتيت
منزلي، وأغلقت بابي، واعتزلتهما.
فبلغ ذلك عثمان، فأرسل إلي، فأتيته وقد
هدأ غضبه، فنظر إلي ثم ضحك، وقال: يا بن عباس! ما أبطأ بك عنا، إن تركك
العود إلينا دليل على ما رأيت عن صاحبك، وعرفت من حاله، فالله بيننا
وبينه، خذ بنا في غير ذلك.
قال ابن
عباس:
فكان عثمان بعد ذلك إذا أتاه عن علي
«عليه السلام»
شيء فأردت التكذيب عنه يقول: ولا يوم الجمعة حين أبطأت عنا وتركت العود
إلينا، فلا أدري كيف أرد عليه([1]).
ونقول:
1 ـ
تحدث هذا النص عن أن عثمان واجه مشكلة فحاول معالجتها، وذلك حين بنى
داره الفخمة في المدينة، فعاب عليه الناس ذلك وأكثروا، واتهموه بأنه
أخذ فيأهم، وأنفق شيئهم (أي مالهم)، واستأثر بأموالهم..
وقد لاحظنا:
أن علاجه قد اقتصر على عرض العضلات، وعلى التأنيب والتقريع، لأنهم لا
يواجهونه وبني أبيه بذلك..
ثم ادعى:
أنه يملك القوة على مواجهة مناوئيه، ولكنه يحاول أن يرفق بهم، ولا
يعالجهم بالعقوبة، رغم استحقاقهم لها، بسبب جرأتهم وغرورهم.
وأضاف إلى
ذلك:
التعريض بعلي، واتهمه بأنه يشتعل حقداً، وأن الأمور تقضى دونه، ولا
يدعى إلى أمر إذا غاب عنه..
وهذه معالجة فاشلة، فإنها لم تتضمن ما
يقنع، أو يشفى الغليل، بل تضمنت تهديدات واتهامات تزيد الطين بلة،
والأمر سوءاً..
أي أن عثمان لم يبين لهم أن المال الذي
استفاد منه في بناء داره، هل كان من مال المسلمين، أو من فيئهم وشيئهم
أم لا..
مع أن عثمان كان لا يحتاج إلى الأخذ من
بيت المال، فهو على حد تعبيره في خطبته هذه نفسها: من أكثر قريش مالاً،
وأظهرهم من الله نعمة. ألم أكن على ذلك قبل الإسلام وبعده؟!
ولكن السؤال
هو:
إذا كان يملك الأموال الجزيلة، وينفق النفقات الجليلة، ومنها ما زعموه
من شرائه بئر رومة، وتجهيزه جيش العسرة.. فلماذا يتهمونه بأخذ أموال
بيت المال؟! ولماذا يتهدد ويغضب؟! ألم يكن يكفيه أن يبين كذبهم عليه؟!
فلو لم يكن خازن بيت المال قد أعلن ذلك..
وإنما يعترض الناس لأنهم يعلمون أن الأموال التي دخلت إلى بيت المال لم
تصرف بعد على أحد، ولكنهم يجدونها قد تبخرت.. أو رأوا كيف أخذت ومن
أخذها ومتى نقله منه. فلماذا يمد يده على بيت المال، ثم ينكر ذلك؟!
ولماذا يلجأ إلى التهديد والذم والإتهام
إذا كان يستطيع أن يثبت كذب التهمة الموجهة إليه؟!
ولمن وإلى متى يدخر تلك الأموال الطائلة
والهائلة؟!..
ألا يدري أن التهديد والوعيد، والتقريع
والذم، يزيد الناس إصراراً على المطالبة بحقهم، وبأموالهم المنهوبة..
2 ـ
إن ما طلبه من ابن عباس حين عاد إلى منزله، وعاد الناس
معه إليه، هو مجرد أن يكف بنو هاشم عن تعقب أمره.. وكشف سره.
فلماذا يريد عثمان أن يجعل أمور بيت
المال، وما يرتكبه عماله أسراراً؟! أو أموراً يمنع على الناس أن
يتعقبوها؟! وأن يسألوا عنها؟! وأن يطالبوا أهل السلطة بإصلاح ما فسد
منها؟!
وأين هذا من تحريض علي «عليه السلام» للناس على مراقبة
أعماله في خلافته «عليه السلام»، فيقول:
فلا تكفوا عن مقالة بحق، أو مشورة بعدل؟!([2]).
وأين هو من
قوله «عليه السلام»:
إن لكم أن لا أحتجز دونكم سراً إلا في حرب؟!([3]).
وأين هو عما أوجبه الله تعالى على الناس من النصيحة
لأئمة المسلمين؟!([4]).
3 ـ
صرح عثمان في كلامه لابن عباس: بأن علياً «عليه السلام»
وبني هاشم، ومن هم في خطهم إنما ينقمون عليه تعديه على أمور عامة
الناس.. فلم يكونوا إذن يريدون الحصول على شيء لأنفسهم، ولا الوصول إلى
الملك والسلطان.. وإنما يريدون إصلاح ما فسد من أمور الأمة، فلماذا
يغضب عثمان إذن؟! ولماذا يحتاج إلى ابن عباس، ليطلب منه أن يبعد
الشيطان عن نفسه؟!
4 ـ
إن ابن عباس نبه عثمان إلى أنه إنما يتصرف بإيحاءات من
أهل النميمة، والمفسدين الذين يهمهم إلقاح الفتنة، وكانوا يغرون عثمان
بالصحابة وبعلي «عليه السلام» على وجه الخصوص، ويوغرون صدره عليهم
وعليه.
5 ـ
إن ابن عباس أعلم عثمان بأن علياً «عليه السلام» لم يكن
يزيد على ما يتداوله الناس من أمور عثمان، وما يجري في حكومته..
6 ـ
إن عثمان أوضح أنه يرى في علي «عليه السلام» أعظم الداء
له، والذي يزعجه منه: أنه «عليه السلام» ينصب نفسه ليكون رأس هذا
الأمر..
7 ـ
يقول عثمان: إنه يود لو كان بنو هاشم هم الذين يتولون
الأمور، ويكون عثمان أحد أعوانهم.. ونحن لا ندري لماذا لا يبادر إلى
ذلك، ويحقق أمنيته، ويريح نفسه، ويريح الناس، فإن هذا الأمر كان
ميسوراً له، وهو بيده، إذ كان يمكنه أن يعترف لعلي «عليه السلام» بهذا
الحق، ويسلمه إليه، ويثبت القول بالفعل..
8 ـ
إن عثمان يعترف بأنه يعلم بأن الأمر لعلي وبني هاشم،
ولكن قومهم اختزلوه دونهم، ودفعوهم عنه..
وثمة أمور أخرى، تضمنها النص المتقدم تعلم
بالمراجعة والتأمل، وحسبنا هنا ما أشرنا إليه، والله هو الموفق
والمعين..
ومما جرى في السنة الثانية والثلاثين
للهجرة، ما روي عن ابن عباس من أنه قال:
ما سمعت من أبي قط شيئاً في أمر عثمان
يلومه فيه أو يعذره، ولا سألته عن شيء من ذلك، مخافة أن أهجم منه على
ما لا يوافقه، فإنا عنده ليلة ـ ونحن نتعشى ـ إذ قيل: هذا أمير
المؤمنين عثمان بالباب.
فقال:
إئذنوا له.
فدخل، فأوسع له على فراشه، وأصاب من
العشاء معه، فلما رفع قام من كان هناك وثبتُّ أنا، فحمد عثمان الله
وأثنى عليه، ثم قال:
أما بعد يا خال! فإني جئتك أستعذرك من ابن
أخيك علي، شتمني، وشهر أمري، وقطع رحمي، وطعن في ديني، وإني أعوذ بالله
منكم يا بني عبد المطلب، إن لكم حقاً تزعمون أنكم غلبتم عليه، فقد
تركتموه في يدي من فعل ذلك بكم، وأنا أقرب إليكم رحما منه؟!
وما لمت منكم أحدا إلا علياً، ولقد دعيت
أن أبسط عليه فتركته لله والرحم، وأنا أخاف أن لا يتركني فلا أتركه.
قال ابن
عباس:
فحمد أبي الله وأثنى عليه، ثم قال:
أما بعد،
يا بن أختي، فإن كنت لا تحمد علياً لنفسك فإني لا أحمدك لعلي، وما علي
وحده قال فيك، بل غيره. فلو أنك اتهمت نفسك للناس اتهم الناس أنفسهم
لك، ولو أنك نزلت مما رقيت، وارتقوا مما نزلوا، فأخذت منهم وأخذوا منك
ما كان بذلك بأس.
قال عثمان:
فذلك إليك يا خال، وأنت بيني وبينهم.
قال:
فأذكر لهم ذلك عنك.
قال:
نعم، وانصرف.
فما لبثنا
أن قيل:
هذا أمير المؤمنين قد رجع بالباب.
قال أبي:
إئذنوا له، فدخل، فقام قائماً ولم يجلس وقال: لا تعجل يا خال حتى أوذنك،
فنظرنا فإذا مروان بن الحكم كان جالسا بالباب ينتظره حتى خرج، فهو الذي
فثأه عن رأيه الأول.
فأقبل علي
أبي، وقال:
يا بني! ما إلى هذا من أمره من شيء.
ثم قال:
يا بني! أملك عليك لسانك حتى ترى ما لا بد منه، ثم رفع يديه، فقال:
اللهم أسبق بي ما لاخير لي في إدراكه، فما مرت جمعة حتى مات «رحمه
الله»([5]).
ونقول:
1 ـ
كان عثمان في غنى عن هذه الشكاوى، لو أنه كان يستجيب
لنصائح أهل الفضل والعقل، والغيرة على مصالح الدين والأمة، وقبل بأن
يصلح بعض شأنه. ولكنه يريد أن يصر على كل ما أخطأ فيه، وأن يضيف إليها
أخطاء جميع عماله، وجميع بني أبيه، وبني أمية، ويريد من الناس أن يرضوا
عنه، وأن يعظموه ويبجلوه، وأن لا يذكروا من ذلك شيئاً، سراً وجهراً،
وأن لا يقول المظلوم: آخ، ولا المعتدى عليه أن يطلب النجدة من أحد..
وهذا ظلم آخر أعظم وأشد، وأمر وأدهى..
2 ـ
بل لقد أصبح المظلوم في نظره ظالماً، والناصر للمظلوم
جباراً، والمطالب بالإصلاح خارجاً عن الدين، والناصح شاتماً، والناهي
عن المنكر معلناً بالخلاف، ناصباً للعداء، قاطعاً للرحم..
وهذا بالذات هو ما انتهى إليه أمر علي
«عليه السلام» بنظر عثمان.. وقد تقدم اعتراف عثمان بأنه «عليه السلام»
لم يكن ينقم على عثمان سوى أمر العامة.. ولم يكن له معه أي غرض آخر،
شخصي أو غيره..
3 ـ
إن عثمان يدعي أنه أراد أن يبسط (العقوبة) على علي
«عليه السلام»، ولكنه تركه لله وللرحم..
ونحن نعلم:
أن الذي كان يمنعه من النيل من علي «عليه السلام» هو عجزه عن ذلك، وليس
مراعاته للرحم، ومراقبة الله فيه..
يدلنا على
ذلك:
أنه لم يزل يتهمه بدون دليل، ويتلمس السبل إلى النيل منه فلا يجدها..
وقد أظهرت
الوقائع:
أن علياً «عليه السلام» ما فتئ يدفع عنه، ويضمن للناس أن يفي بتعهداته،
ثم يخيس عثمان بوعده، وينكث عهده مرة بعد أخرى، وقد دفع عنه «عليه
السلام» حتى خشي أن يكون آثماً، على حد قوله صلوات الله وسلامه عليه..
وقال مروان:
ما كان أدفع عن عثمان من علي «عليه السلام»، ولكنهم لا يتركون سبه، لأن
أمورهم لا تستقيم إلا بذلك، على حد قول مروان..
4 ـ
أما قول عثمان عن علي «عليه السلام»: «وأنا أخاف أن لا
يتركني فلا أتركه». فقد أوهم فيه: أن علياً «عليه السلام» هو المتشبث
بعثمان، المتعدي عليه، مع أن عثمان كان هو الذي يرسل إلى علي «عليه
السلام»، ويطلب منه المساعدة في دفع الناس عنه، وكان «عليه السلام»
يفعل ذلك، ولكن عثمان كان ينقض تعهداته، بمجرد إحساسه بزوال الخطر عنه،
وعودة بعض القدرة إليه ـ فيما يزعم..
وكان «عليه السلام» باستمرار ـ من موقع
الحرص عليه ـ يواجهه بالحقائق، ويصر عليه بأن يبادر للإصلاح قبل فوات
الأوان..
وكان الآخرون يترددون كثيراً في ذلك،
خوفاً من بطشه بهم، ومن كان يبادر نصيحته يواجه أعظم المصائب، وتحل به
أجلّ النوائب، مهما كان موقعه ومقامه، وقد رأى الناس ما فعل عثمان
بعمار، وأبي ذر، وابن مسعود، وعبد الرحمان بن عوف، وسواهم من الأكابر،
فضلاً عن الأصاغر..
بل إن عثمان قد تجرأ حتى على علي «عليه
السلام»، ويواجهه بالإهانات والشتائم في بعض الأحيان، ويقول له: بفيك
التراب يا علي.. ويعلن أنه لا يراه أفضل من مروان، الوزغ ابن الوزغ،
الذي لعنه النبي «صلى الله عليه وآله» وهو في صلب أبيه، بل هو يحاول
رشوته بالقوة، فلما عجز عن ذلك بادره بالضرب كما تقدم.
5 ـ
وقد بين له العباس «رحمه الله»: أن سياسته مع علي «عليه
السلام» كانت خاطئة، وغير محمودة.. وأن عثمان فقط هو الذي لا يحمد
علياً معه.. وأن علاقته هو بعلي كانت مذمومة من علي «عليه السلام» ومن
غيره..
6 ـ
وصرح العباس له أمراً بالغ الأهمية، وهو أنه يرى نفسه
بريئاً من أي ذنب أو عيب، ولا يستجيب لنصائح الناصحين، ولا يقبل
نقدهم..
وهذا هو بيت القصيد، فإن من يرى نفسه
معصوماً، وأن كل نقد يوجه إليه باطل، لا يمكن إصلاحه، ولا استصلاح
الناس له..
فلا بد من أن يتخلى عن المقام الذي يدعيه
لنفسه، ويعترف بالواقع والحق.. وأن يتحلى بالمرونة في تعامله مع غيره،
فيأخذ ويعطي ويتدبر الأمور بروية وتعقل..
7 ـ
وقد أظهر عثمان: أنه قبل من العباس ذلك، وافترقا عليه..
ولكنه ما لبث أن عاد إليه طالباً منه إقالته مما تعهد به، وذلك بتأثير
من ابن عمه مروان الذي كان يسمى (خيط باطل)، فإنه بمجرد أن تجاوز الباب
رده عن رأيه، وعادت حليمة إلى عادتها القديمة..
علي
يريد مقاطعة عثمان:
عن ابن عباس
«رحمه الله»، قال:
صليت العصر يوماً، ثم خرجت فإذا أنا بعثمان بن عفان في أيام خلافته في
بعض أزقة المدينة وحده، فأتيته إجلالاً وتوقيراً لمكانه، فقال لي: هل
رأيت علياً؟!
قلت:
خلفته في المسجد، فإن لم يكن الآن فيه فهو في منزله.
قال:
أما منزله فليس فيه، فابغه لنا في المسجد.
فتوجهنا إلى المسجد، وإذا علي
«عليه السلام»
يخرج منه.
قال ابن
عباس:
وقد كنت أمس ذلك اليوم عند علي فذكر عثمان وَتَجَرُّمَهُ عليه، وقال:
أما والله يا بن عباس، إن من دوائه لقطع كلامه، وترك لقائه.
فقلت له:
يرحمك الله! كيف لك بهذا! فإن تركته ثم أرسل إليك فما أنت صانع؟!
قال:
أعتل، وأعتل، فمن يقسرني!
قال:
لا أحد.
قال ابن
عباس:
فلما تراءينا له وهو خارج من المسجد، ظهر منه من التفلت والطلب
للانصراف ما استبان لعثمان.
فنظر إلي
عثمان، وقال:
يا بن عباس، أما ترى ابن خالنا يكره لقاءنا.
فقلت:
ولم؟! وحقك ألزم، وهو بالفضل أعلم؟!
فلما تقاربا رماه عثمان بالسلام، فرد
عليه.
فقال عثمان:
إن تدخل فإياك أردنا، وإن تمض فإياك طلبنا.
فقال علي:
أي ذلك أحببت؟!
قال:
تدخل، فدخلا، وأخذ عثمان بيده، فأهوى به إلى القبلة، فقصر عنها، وجلس
قبالتها، فجلس عثمان إلى جانبه، فنكصت عنهما، فدعواني جميعا، فأتيتهما،
فحمد عثمان الله، وأثنى عليه، وصلى على رسوله. ثم قال:
أما بعد..
يا بني خالي، وابني عمي، فإذ جمعتكما في النداء فأستجمعكما في الشكاية
عن رضاي على أحدكما، ووجدي على الاخر.
إني أستعذركما من أنفسكما، وأسألكما
فيئتكما، وأستوهبكما رجعتكما، فوالله لو غالبني الناس ما انتصرت إلا
بكما، ولو تهضموني ما تعززت إلا بعزكما، ولقد طال هذا الامر بيننا حتى
تخوفت أن يجوز قدره، ويعظم الخطر فيه.
ولقد هاجني العدو عليكما، وأغراني بكما،
فمنعني الله والرحم مما أراد.
وقد خلونا في مسجد رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
وإلى جانب قبره، وقد أحببت أن تظهرا لي رأيكما في، وما تنطويان لي
عليه، وتصدقا، فإن الصدق أنجى وأسلم، واستغفر الله لي ولكما.
قال ابن
عباس:
فأطرق علي
«عليه السلام»،
وأطرقت معه طويلا، أما أنا فأجللته أن أتكلم قبله، وأما هو فأراد أن
أجيب عني وعنه.
ثم قلت له:
أتتكلم، أم أتكلم أنا عنك؟!
قال:
بل تكلم عني وعنك.
فحمدت الله، وأثنيت عليه، وصليت على
رسوله، ثم قلت:
أما بعد..
يا بن عمنا وعمتنا، فقد سمعنا كلامك لنا، وخلطك في الشكاية بيننا على
رضاك ـ زعمت ـ عن أحدنا، ووجدك على الآخر، وسنفعل في ذلك، فنذمك
ونحمدك، اقتداء منك بفعلك فينا، فإنا نذم مثل تهمتك إيانا على ما
اتهمتنا عليه بلا ثقة إلا ظناً، ونحمد منك غير ذلك من مخالفتك عشيرتك،
ثم نستعذرك من نفسك استعذارك إيانا من أنفسنا، ونستوهبك فيئتك استيهابك
إيانا فيئتنا، ونسألك رجعتك مسألتك إيانا رجعتنا، فإنا معا أيما حمدت
وذممت منا، كمثلك في أمر نفسك، ليس بيننا فرق ولا اختلاف، بل كلانا
شريك صاحبه في رأيه وقوله.
فوالله ما تَعْلَمنا غير معذرين فيما
بيننا وبينك، ولا تعرفنا غير قانتين عليك، ولا تجدنا غير راجعين إليك،
فنحن نسألك من نفسك مثل ما سألتنا من أنفسنا.
وأما قولك:
لو غالبتني الناس ما انتصرت إلا بكما، أو تهضموني ما تعززت إلا بعزكما،
فأين بنا وبك عن ذلك، ونحن وأنت كما قال أخو كنانة:
بدا بحـتر مـا رام
نــال وإن يـرم يخـض دونه غمرا من الغـر
رائـمه
لنا ولهم منا ومنهم على العـدى مراتـب عـز مصـعـدات سـلالمـه
وأما قولك في هيج العدو إياك علينا،
وإغرائه لك بنا، فوالله ما أتاك العدو من ذلك شيئاً إلا وقد أتانا
بأعظم منه، فمنعنا مما أراد ما منعك من مراقبة الله والرحم، وما أبقيت
أنت ونحن إلا على أدياننا وأعراضنا ومروءاتنا، ولقد لعمري طال بنا وبك
هذا الامر حتى تخوفنا منه على أنفسنا، وراقبنا منه ما راقبت.
وأما مساءلتك إيانا عن رأينا فيك، وما
ننطوي عليه لك، فإنا نخبرك أن ذلك إلى ما تحب، لا يعلم واحد منا من
صاحبه إلا ذلك، ولا يقبل منه غيره، وكلانا ضامن على صاحبه ذلك وكفيل به،
وقد برأت أحدنا وزكيته، وأنطقت الاخر وأسكته، وليس السقيم منا مما كرهت
بأنطق من البريء فيما ذكرت، ولا البريء منا مما سخطت بأظهر من السقيم
فيما وصفت، فإما جمعتنا في الرضا، وإما جمعتنا في السخط، لنجازيك بمثل
ما تفعل بنا في ذلك، مكايلة الصاع بالصاع.
فقد أعلمناك رأينا، وأظهرنا لك ذات أنفسنا، وصدقناك،
والصدق كما ذكرت أنجى وأسلم، فأجب إلى ما دعوت إليه، وأجلل عن النقض
والغدر مسجد رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
وموضع قبره، واصدق تنج وتسلم، ونستغفر الله لنا ولك.
قال ابن
عباس:
فنظر إلي علي
«عليه السلام»
نظر هيبة، وقال: دعه حتى يبلغ رضاه فيما هو فيه، فوالله لو ظهرت له
قلوبنا، وبدت له سرائرنا، حتى رآها بعينه كما يسمع الخبر عنها بأذنه،
ما زال متجرماً منتقماً.
والله ما أنا ملقى على وضمة، وإني لمانع
ما وراء ظهري، وإن هذا الكلام لمخالفة منه، وسوء عشرة.
فقال عثمان:
مهلاً أبا حسن! فوالله إنك لتعلم أن رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
وصفني بغير ذلك يوم يقول وأنت عنده:
«إن من أصحابي لقوماً سالمين لهم، وإن
عثمان لمنهم، إنه لأحسنهم بهم ظنا، وأنصحهم لهم حباً».
فقال علي
«عليه السلام»:
فتصدق قوله
«صلى الله
عليه وآله»
بفعلك. وخالف ما أنت الآن عليه، فقد قيل لك ما سمعت، وهو كاف إن قبلت.
قال عثمان:
تثق يا أبا الحسن!
قال:
نعم أثق، ولا أظنك فاعلاً.
قال عثمان:
قد وثقت وأنت ممن لا يخفر صاحبه، ولا يكذب لقيله.
قال ابن
عباس:
فأخذت بأيديهما، حتى تصافحا وتصالحا وتمازحا، ونهضت عنهما، فتشاورا
وتآمرا وتذاكرا، ثم افترقا، فوالله ما مرت ثالثة حتى لقيني كل واحد
منهما يذكر من صاحبه ما لا تبرك عليه الإبل.
فعلمت أن لا سبيل إلى صلحهما بعدها([6]).
ونقول:
1 ـ
إن الشعور بالأمن هو من أهم النعم التي يحتاجها الإنسان في هذه الدنيا،
وهو يعطي الإنسان الفرصة للتأمل وللتفكير، وللتخطيط للمستقبل.
وفي ظل السلام والأمن تبنى الحضارات، وتتحقق الإنجازات،
وتنهض الأمم.. وفي ظله تتبلور الآمال، وتستنهض همم الرجال..
والأمن لا يؤخذ بالقوة، بل هو ثقافة ووعي،
وقرار ينبع من داخل الإنسان، بالإستناد إلى عوامل، وضوابط ومفاهيم وقيم
معينة تنتجه وتنميه، وشعور يفرضه ويحميه..
وإن تجوال خليفة المسلمين في أزقة المدينة
وحده، لم يكن نتيجة استهتار أو رعونة من عثمان، الذي كان يواجه صعوبات
بالغة في حياته السياسية، وهو يزرع الخصوم، والمناوئين، والمنتقدين،
والغاضبين في كل اتجاه، يوماً بعد يوم طيلة فترة حكمه.
ولم تخل فترة حكمه من هؤلاء الناس، وفي مقدمتهم علي
«عليه السلام» وبنو هاشم، فما الذي جعل عثمان يشعر بالأمن، في الوقت
الذي كانت العلاقة بينه وبين علي أمير المؤمنين «عليه السلام» قد بلغت
حدها الأقصى ـ حتى أصبح يرى أن علياً «عليه السلام» داءه الأعظم، الذي
لا يجد له دواء.. وأنه القذا في العين، والشجا في الحلق، لأنه صاحب
الحق، المغتصب الذي بمجرد رؤية الناس له يتذكرون ما جرى له وعليه..
ونفس وجوده يمثل إدانة لهم، ومن موجبات إحراجهم.
وهو يعرف جرأة علي «عليه السلام»،
وإقدامه، ويتلمس ذلك فيه باستمرار، حيث يسجل «عليه السلام» الموقف تلو
الموقف، بصراحة، لا يجدها عثمان لدى أحد من منتقديه.
وهو يعرف
أيضاً:
أن العرب إلى الأمس القريب كانوا لا يأمنون جانب بعضهم بعضاً، بل كل
منهم يتربص بالآخر ليبطش به ـ في ساعة غفلته، ويستولي على ماله وعرضه
وولده، أو ليأخذ ثأره منه إن كان له ثأر عنده.
إن الإجابة على هذا السؤال هي أن هذا
الأمن هو نتيجة تلك الثقافة الإيمانية التي جاء بها الإسلام، وفرضها
على الناس، حتى أصبحت ثقافة ورؤية، ترعاها قيم أخلاقية وإنسانية،
وتفرضها وتحميها شريعة تعاقب الجاني، وتصد المتهور، وعقيدة تجعل من أي
عبث بأمن الناس، أو عدوان على سلامتهم أو كرامتهم عدواناً على الله
سبحانه.. فإن المؤمن أعز من الكعبة..
2 ـ
أظهرت الرواية المتقدمة: أن تجرُّم عثمان لعلي «عليه
السلام» قد بلغ حداً رأى فيه علي «عليه السلام» أنه غير قادر على
التأثير في قرار الخليفة بإصلاح الأمور، وتلافي الأخطاء، فأراد «عليه
السلام» أن يقاوم هذا الواقع الذي يزداد سوءاً بموقف سلبي، يعرّف
الناس: أن الأمور أصبحت ميؤوساً منها، فلعل ذلك يدفع عثمان وبطانته
لمعاودة النظر في حسابات الربح والخسارة.
3 ـ
لاحظ عثمان: أن الإمام «عليه السلام»، يتفلت من لقائه،
ويطلب الإنصراف.. ولكنه بقي محتفظاً بهدوئه، ملتزماً بفروض المداراة
والمجاراة، فقد وصلت الرسالة إلى أهلها، وعليهم أن يتدبروا أمرهم على
ضوئها..
4 ـ
إن عثمان بعد هذا الذي رآه من علي «عليه السلام» يظهر
ليونة معه غير متوقعة، حتى إنه خاطب علياً «عليه السلام» بصيغ تشير إلى
شعور مختلف يحاول أن يظهر له: انه قد تبلور لديه، فلاحظ قوله له ولابن
عباس: يا ابني خالي، وابني عمي، وتعابير أخرى في هذا السياق..
5 ـ
إن كان قوله: أهوى إلى القبلة بضم القاف، فمعنى ذلك: أن
عثمان أراد تقبيل يد علي «عليه السلام» توددا ًله..
ويكون قوله:
«جلس قبالتها» قد تعرض لتحريف من الرواي، حيث لم يتعقل أن يفعل عثمان
ذلك، فصرف المعنى إلى قبلة الصلاة، وزاد ألفاً في آخر كلمة «قبالته»
ليكون المراد أنه جلس قبالة القبلة، لا قبالة علي «عليه السلام»..
أما إرادة أنه جلس مقابل القبلة، فهو وإن
كان الأقرب إلى سياق الكلام، إلا أن السؤال هو: ما معنى قول الراوي:
فقصر عنها، ولماذا يهتم عثمان بالجلوس في مقابلها؟! ولماذا اهتم الراوي
بإظهار هذا المعنى؟!
إلا إن كان المراد أن علياً «عليه السلام»
لم يرض بأن يجلس وظهره للقبلة، فجلس في مقابلها، فجلس عثمان إلى
جانبه..
6 ـ
إن عثمان قد ضمَّن كلامه طرفاً من التهديد بالبطش بعلي،
استجابةً لمن يغريه به، وهدفه من ذلك اللين وهذه الشدة هو الحصول على
ضمان لانسحاب علي من دائرة الإعتراض على سياساته، ومغادرة معسكر
المعترضين، لأنه يريد أن يتفرد بهم، ليتمكن من سحقهم، ولا يمكنه ذلك،
وفيهم علي «عليه السلام» الذي لا يسكت على مثل هذه التصرفات..
7 ـ
إن ابن عباس أوضح أنه ليس لدى عثمان حجة تبرر له هذا
الموقف منه، ومن علي «عليه السلام» سوى مجرد الظن والتهمة..
وقابله ابن عباس بمثل كلامه، مراعياً حالة
التوازن، والسعي لتهدئة الأمور، من دون أن يحسم شيئاً معه فيما يرتبط
بما يشتكيه الناس منه.. وفيما يتعلق بموقفه من علي «عليه السلام»..
8 ـ
أما علي «عليه السلام»، فأراد أن يضع الأمور على جادة التصويب، وأن
ينتزع من عثمان قراراً عملياً فيها.. ولا يمكن ذلك ما دام عثمان يستطيل
على الناس بموقعه، وبقوته، كما صرح به في قضية إرجاعه للحكم بن أبي
العاص إلى المدينة، حيث ذكر أن غيره لو كان يملك من القوة ما يملك
عثمان لفعل مثل ما فعل، لو كان له أقرباء نفاهم رسول الله «صلى الله
عليه وآله»..
ومما يدل على اعتزازه بقوته النص التالي:
روي:
أن عثمان لما نقم الناس عليه ما نقموا، قام متوكئا على مروان فخطب
الناس، فقال: إن لكل أمة آفة، ولكل نعمة عاهة، وإن آفة هذه الأمة،
وعاهة هذه النعمة قوم عيابون طعانون، يظهرون لكم ما تحبون، ويسرون ما
تكرهون، طغام مثل النعام، يتبعون أول ناعق، ولقد نقموا علي ما نقموا
على عمر مثله، فقمعهم ووقمهم. وإني لأقرب ناصراً، وأعز نفراً، فما لي
لا أفعل في فضول الأموال ما أشاء!([7]).
فكان لا بد
من كسر هيبة هذه القوة، والإثبات العملي لعثمان:
أنه إذا استمر على موقفه، فسيواجه خطر التحدي والتصدي، فبادر «عليه
السلام» إلى التصريح: بأن على عثمان أن لا يظن أنه قادر على التعرض
لعلي «عليه السلام»، فإنه «عليه السلام» ليس بمثابة قطعة من اللحم
ملقاة على خشبة الجزار (وهي الوضمة)، وأنه إن حدثته نفسه بذلك، فسيواجه
مقاومة علوية قوية إلى حد أن سيمنع ما وراء ظهره، ولن يمكنه الوصول إلى
شيء مما يمنعه علي «عليه السلام» ويحامي عنه..
9 ـ
إنه «عليه السلام» قد أحبط مسعى عثمان لتحييده «عليه
السلام» من ساحة الصراع، حين بدأ كلامه بإعلان أن المطلوب هو أن يرجع
عثمان إلى داخل ذاته، ويبدأ عملية التغيير والإصلاح من هناك.. فإنه لا
يتصرف بوحي من عقله ووجدانه، ولا يراعي ما تقتضيه الحكمة، ويفرضه العدل
والإنصاف، بل هو يتصرف بمشاعره، وهو يؤذي الناس، ويسعى للإنتقام منهم،
مع أن المفروض أن يكون لهم بمثابة الأب الرحيم الذي يراعي حال أولاده،
ويهتم بإصلاحهم من موقع الحكمة، والتعقل، والشفقة، لا من موقع التشفي
والإنتقام..
وقد عبر «عليه السلام» عن يأسه من أن يفعل
عثمان ذلك. وأن ما يقدمه لهم من تواضع تارة، وتودد أخرى، وقسوة ثالثة،
إنما يهدف إلى تكريس واقع لا يمكن القبول به، بل هو يخفي وراءه سعياً
حثيثاً لتوفير فرص الإيقاع بالآخرين، والإنتقام منهم..
10 ـ
وقد بدا من كلام علي «عليه السلام» أنه لا يصدق ما نسبه عثمان لرسول
الله «صلى الله عليه وآله» من أنه قال شيئاً في حقه، فإنه قال له: فصدق
قوله «صلى الله عليه وآله» بفعلك.
ولو كان «عليه السلام» يرى أن النبي «صلى
الله عليه وآله» قد قال ذلك لتراجع عما نسبه إلى عثمان من السعي
للإنتقام، ومن تجرمه للأبرياء..
ولكان تحرج
من القول:
بأن فعل عثمان لا يصدق قول النبي «صلى الله عليه وآله»، ولم يطالبه بأن
يخالف ما هو عليه آنئذٍ، فإنه «عليه السلام» لا يمكن إلا أن يرى قول
رسول الله «صلى الله عليه وآله» صادقاً، وواقعاً..
كما أن عليه
أن يقول له:
إنه يثق بقوله، ويظنه فاعلاً لما يقول، بل يتيقن بذلك.. وليس له أن
يقول له: ولا أظنك فاعلاً.
قال
المعتزلي:
«وذكر شيخنا أبو عثمان الجاحظ في الكتاب الذي أورد فيه المعاذير عن
أحداث عثمان: أن علياً اشتكى، فعاده عثمان من شكايته، فقال علي
«عليه السلام»:
وعـائــدة
تــعــود لـغـــــير ود تــود لـو أن ذا دنــف يـمــــوت
فقال عثمان:
والله ما أدرى أحياتك أحب إلي؟! أم موتك؟!
إن مت هاضني فقدك، وإن حييت فتنتني حياتك،
لا أعدم ما بقيت طاعنا يتخذك رديئة يلجأ إليها.
فقال علي
«عليه السلام»:
ما الذي جعلني رديئة للطاعنين العائبين!
إنما سوء ظنك بي أحلني من قلبك هذا المحل،
فإن كنت تخاف جانبي فلك علي عهد الله وميثاقه أن لا بأس عليك مني، ما
بل بحر صوفه، وإني لك لراع، وإني منك لمحام، ولكن لا ينفعني ذلك عندك.
وأما قولك:
«إن فقدي يهيضك»، فكلَّا أن تهاض لفقدي ما بقي لك الوليد ومروان.
فقام عثمان فخرج.
وقد روى:
أن عثمان هو الذي أنشد هذا البيت، وقد كان اشتكى، فعاده علي
«عليه السلام»
فقال عثمان:
وعـائـدة تـعــود
بغـــــير نصح تــود لـو أن ذا دنــف يـمـوت([8])
وروى أيضاً:
أن علياً
«عليه السلام»
اشتكى فعاده عثمان، فقال: ما أراك أصبحت إلا ثقيلاً!
قال:
أجل.
قال:
والله ما أدري أموتك أحب إلي، أم حياتك! إني لأحب موتك، وأكره أن أعيش
بعدك، فلو شئت جعلت لنا من نفسك مخرجاً، إما صديقاً مسالماً، وإما
عدواً مغالباً، وإنك لكما قال أخو إياد:
جرت لما
بيننا حبـل الشموس فــلا يـأسـاً مـبـيـناً نرى منها ولا
طمعا
فقال علي
«عليه السلام»:
ليس لك عندي ما تخافه، وإن أجبتك لم أجبك إلا بما تكرهه([9]).
وكتب عثمان إلى علي «عليه السلام» حين
أحيط به:
أما بعد..
فقد جاوز الماء الزبى، وبلغ الحزام الطبيين، وتجاوز الأمر في قدره،
فطمع في من لا يدفع عن نفسه.
فإن كنت مأكولا
فكن خـير آكـل وإلا فـأدركـنـي ولمــا أمـــزق([10])
ثم خرج عثمان إلى المسجد، فإذا هو بعلي،
وهو شاك معصوب الرأس، فقال له عثمان: والله يا أبا الحسن ما أدري:
أشتهي موتك أم أشتهي حياتك؟! فوالله لئن مت ما أحب أن أبقى بعدك لغيرك،
لأني لا أجد منك خلفاً، ولئن بقيت لا أعدم طاغياً يتخذك سلماً وعضداً،
ويعدك كهفاً وملجأً، لا يمنعني منه إلا مكانه منك، ومكانك منه.
فأنا منك
كالابن العاق من أبيه:
إن مات فجعه، وإن عاش عقه.
فإما سلم فنسالم، وإما حرب فنحارب، فلا تجعلني بين
السماء والأرض، فإنك والله إن قتلتني لا تجد مني خلفاً، ولئن قتلتك لا
أجد منك خلفاً، ولن يلي أمر هذه الأمة بادئ فتنة.
فقال علي
«عليه السلام»:
إن فيما تكلمت به لجواباً، ولكني عن جوابك مشغول بوجعي. فأنا أقول كما
قال العبد الصالح: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ
وَاللهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾([11]).
قال مروان:
إنا والله إذاً لنكسرن رماحنا، ولنقطعن سيوفنا، ولا يكون في هذا الأمر
خير لمن بعدنا.
فقال له
عثمان:
اسكت، ما أنت وهذا؟!([12]).
وذكروا
أيضاً:
أن عثمان صلى العصر ثم خرج إلى علي يعوده في مرضه ومروان معه فرآه
ثقيلاً، فقال:
أما والله لولا ما أرى منك ما كنت أتكلم
بما أريد أن أتكلم به، والله ما أدري أي يوميك أحب إلي أو أبغض، أيوم
حياتك؟ أو يوم موتك؟!
أما والله لئن بقيت لا أعدم شامتاً يعدك
كهفاً، ويتخذك عضداً، ولئن مت لأفجعن بك، فحظي منك حظ الوالد المشفق من
الولد العاق، إن عاش عقه، وإن مات فجعه.
فليتك جعلت لنا من أمرك لنا علما نقف عليه
ونعرفه، إما صديق مسالم، وإما عدو مغالب، ولا تجعلني كالمختنق بين
السماء والأرض، لا يرقى بيد، ولا يهبط برجل.
أما والله لئن قتلتك لا أصيب منك خلفاً،
ولئن قتلتني لا تصيب مني خلفاً، وما أحب أن أبقى بعدك.
قال مروان:
إي والله، وأخرى أنه لا ينال ما وراء ظهورنا حتى تكسر رماحنا، وتقطع
سيوفنا، فما خير العيش بعد هذا؟!
فضرب عثمان
في صدره وقال:
ما يدخلك في كلامنا؟!
فقال علي
«عليه السلام»:
إني والله في شغل عن جوابكما، ولكني أقول كما قال أبو يوسف: ﴿فَصَبْرٌ
جَمِيلٌ وَاللهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾([13])»([14]).
ونقول:
لاحظ ما يلي:
1 ـ
إن عثمان في هذا النص يعتبر الذين يعترضون عليه طغاة.
2 ـ
إن هؤلاء الطغاة لهم مكان قريب من علي، ولعلي «عليه السلام» مكان قريب
منهم.
3 ـ
من المعلوم: أن علياً «عليه السلام» لا يقرب ولا يتقرب إلا إلى أهل
الدين والتقوى والطاعة لله، ولم نجد أحداً من الفساق يحب علياً أو يحبه
علي «عليه السلام».. مما يعني: أن الذين يقصدهم عثمان هم خيار الصحابة،
أمثال عمار وأبي ذر، وأضرابهما. مع أنه يعلم أن رسول الله «صلى الله
عليه وآله» قال لعلي «عليه السلام»: لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا
منافق..
وقال:
علي مع الحق، والحق مع علي..
4 ـ
إن عثمان يتهم علياً «عليه السلام» بأنه أصبح ذريعة يستفيد منها الطغاة
للوصول إلى مآربهم، وأنه عضد لهم، ولم نجد في علي «عليه السلام» شيئاً
من ذلك، فلم نره سُلَّماً لمآرب أحد، ولا عضداً لغير أهل الحق..
كما أننا لم نجد أيا من الظالمين والطغاة
اتخذ علياً كهفاً وملجأً.
5 ـ
لو سلمنا: أن طاغياً سعى للإستفادة من شخص ما للوصول
إلى مآربه، فإن المذنب هو ذلك الطاغي، أما الشخص الآخر، فإن استجاب
لذلك الطاغي عن سابق معرفة صار مذنباً مثله، وإن لم يستجب له فلا ذنب
له، ولا يعد عاقاً لأحد من الناس..
6 ـ
وجدنا علياً «عليه السلام» أدفع الناس عن عثمان كما اعترف به مروان،
وقد دفع «عليه السلام» عنه حتى خشي أن يكون آثماً.. بل يدعون أنه أرسل
أولاده للدفاع عنه حين حوصر، حتى جرح أحدهما، وخضب بالدماء.. فمن كان
كذلك هل يعد عاقاً؟!..
وهل يصح أن
يقال:
إنه كهف وملجأ، وسُلَّمٌ، وعضد للطاغين؟!
7 ـ
إن علياً «عليه السلام» قد ميز نفسه عن الثائرين على عثمان حين قال في
كتاب منه لمعاوية: «لقد علمت أني كنت من أمره في عزلة، إلا أن تجنى
فتجن ما شئت([15]).
وحين قال:
إن عثمان استأثر فأساء الأثرة، وجزعوا فأساؤوا الجزع»..
وحين قال:
إن قتل عثمان ما سره ولا ساءه.. وغير ذلك..
إلا إن كان عثمان يريد من علي «عليه
السلام» أن يطبق فمه، ولا يبدي رأيه في شيء مما يراه، أو يريده عضداً
وسلماً لأغراضه، يوافقه على كل ما يقول ويفعل، ويكون له ولأعوانه كهفاً
وملجأ، لا يعترض على شيء، ولا يخالفهم في شيء بل يؤيد ويسدد، ويشجع على
الإمعان في مخالفاتهم..
وحينئذٍ لا يكون علي علياً، بل يكون شخصاً
آخر بلا ريب.
ومن شواهد سعي علي «عليه السلام» إلى
تمييز نفسه عن الثأئرين على عثمان.. ما يلي:
ألف:
أخرج البلاذري في الأنساب: من طريق أبي حادة: أنه سمع
علياً «عليه السلام» يقول وهو يخطب فذكر عثمان فقال: والله الذي لا إله
إلا هو ما قتلته، ولا مالأت على قتله، ولا ساءني .
ب:
أخرج ابن سعد من طريق عمار بن ياسر قال: رأيت علياً على
منبر رسول الله «صلى الله عليه وآله» حين قتل عثمان وهو يقول: ما أحببت
قتله ولا كرهته، ولا أمرت به ولا نهيت عنه.
ج:
الأنساب للبلاذري: وأوعز شاعر أهل الشام كعب بن جعيل
إلى قول الإمام «عليه السلام» بأبيات له، فقال:
ومـا فـي عــلي
لمـسـتـعــتــب مـقـال سـوى ضـمـه المـحـدثـينا
وإيـثـاره الـيـوم أهـل الذنوب ورفـع الـقـصـاص عن
القاتليـنـا
إذا سـيــل عـنـه حـذا شـبـهـة وعـمـى الجـواب عـلى
السـائلينـا
فـلـيـس بـراض ولا سـاخــط ولا فـي الـنـهـاة ولا
الآمـريـنـــا
ولا هــــو ســــاء ولا ســـره ولا بـد مـن بـعـض ذا أن
يـكونـا
د:
قال ابن أبي الحديد بعد ذكر هذه الأبيات: ما قال هذا
الشعر إلا بعد أن نقل إلى أهل الشام كلام كثير لأمير المؤمنين في عثمان
يجري هذا المجرى نحو قوله: ما سرني ولا ساءني.
وقيل له:
أرضيت بقتله؟!
فقال:
لم أرض.
فقيل له:
أسخطت قتله؟!
فقال:
لم أسخط.
وقوله تارة:
الله قتله وأنا معه.
وقوله تارة
أخرى:
ما قتلت عثمان ولا مالأت في قتله.
وقوله تارة
أخرى:
كنت رجلاً من المسلمين أوردت إذا وردوا، و أصدرت إذا صدروا.
ولكل شيء من كلامه إذا صح عنه تأويل يعرفه
أولو الألباب.
هـ:
أخرج أبو مخنف من طريق عبد الرحمن بن عبيد: أن معاوية
بعث إلى علي حبيب من مسلمة الفهري، وشرحبيل بن سمط، ومعن بن يزيد بن
الأخنس، فدخلوا عليه وأنا عنده (إلى أن قال بعد كلام حبيب وشرحبيل،
وذكر جواب مولانا أمير المؤمنين): فقالا أتشهد أن عثمان قتل مظلوماً؟!
فقال لهما:
لا أقول ذلك.
قالا:
فمن لم يشهد أن عثمان قتل مظلوما فنحن منه برءاء .
ثم قاما فانصرفا، فقال علي «عليه السلام»: ﴿إِنَّكَ
لَا تُسْمِعُ المَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا
وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن
ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم
مُّسْلِمُونَ﴾([16])»([17]).
8 ـ
ما معنى أن يتمنى عثمان موت سيد الوصيين، ومن هو من
النبي «صلى الله عليه وآله» بمنزلة هارون من موسى، بل ما معنى أن يتمنى
موت أي كان من سائر المسلمين، فإن المطلوب هو أن يتمنى حياتهم وصلاحهم،
ليكونوا قوة للإسلام، وعضداً وسنداً لأهل الإيمان..
9 ـ
لماذا يريد عثمان أن يحصر أمر علي «عليه السلام» في
العدو والمعاند، وفي الصديق المساعد، ولا يكون هناك قسم ثالث، وهو
المؤمن المسدد، والعاتب، والناصح، الذي يأبى عثمان إلا أن يجعله في
دائرة الأعداء، لأنه يأبى الإقلاع عما يطالبه بالإقلاع عنه، وإصلاح ما
يريد الله ورسوله والمؤمنون إصلاحه..
10 ـ
إن علياً «عليه السلام» بيّن موقفه من عثمان مرات كثيرة، وهو أن عليه
أن يقلع عن مخالفاته، ويحاسب عماله، ويأخذهم بأعمالهم، وكان أيضاً يدفع
الناس عنه استناداً إلى وعود له بالإقلاع لم يكن عثمان يفي بها، فليس
في موقف علي «عليه السلام» منه أي لبس أو غموض، ليطالبه عثمان بإيضاحه،
ويدعي التحيُّر فيه..
11 ـ
وكان جواب علي ـ رغم ما كان يعانيه من شدة المرض ـ واضحاً وحاسماً، حين
قرأ الآية الشريفة
﴿فَصَبْرٌ
جَمِيلٌ وَاللهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾،
فإن هؤلاء ـ أي عثمان ومن وراءه ـ يتجنون عليه، ولا يقدرون جهده وجهاده
في إصلاح ما يفسدونه.. بل يطلبون منه أن يخالف أحكام الشرع، وأن يعصي
الله في تأييدهم ونصرتهم وتقويتهم على بطشهم بأناس يطالبونهم بالإنابة
إلى الحق، وهم يصرون على عدم التراجع عن شيء، بل ويضيفون كل يوم مخالفة
جديدة إلى سجل مخالفاتهم..
12 ـ
وعلي وحده يواجه استئثار هؤلاء، وإمعانهم وإصرارهم على الباطل، ليعيدهم
إلى الحق.. ويواجه عنف أولئك، وجزعهم الذي يتجاوز الحدود، ليعيده إلى
حدوده المقبولة والمعقولة، فأولئك المستأثرون شانئون متهمون له،
معاندون للحق.. رافضون له.. وهؤلاء الجازعون عاتبون عليه، يتوقعون منه
المعونة والمشاركة بالموقف الحاد، الذي يقطع كل الجسور، وينتهي بتفاقم
الأمور، والوقوع في المحذور..
13 ـ
إننا نلاحظ: أن عثمان يتهم علياً باستمرار بأن الطاعنين
عليه يجعلونه ردءاً لهم، ويتسترون به..
أما علي
«عليه السلام»، وسائر من يسمع أقوال عثمان هذه، فيقولون:
إن عثمان يعتمد في ذلك على الظن السيء، والتهمة التي لا مبرر لها..
ويعلن «عليه
السلام»:
أن عثمان ليس على استعداد لقبول ذلك من علي مهما قدم له من ضمانات..
14 ـ
إن علياً «عليه السلام» رد على عثمان دعواه أن فقد علي
«عليه السلام» يهيضه، أي يكسره بعد جبوره، ويضعفه، لأنه إنما يتعزز
ويتقوى ـ بزعمه ـ بالوليد بن عقبة، وبمروان، اللذين هما أساس بلاء
عثمان..
عن قنبر
مولى علي «عليه السلام» قال:
دخلت مع علي بن أبي طالب «عليه السلام» على عثمان بن عفان، فأحب
الخلوة، وأومى إلي علي «عليه السلام» بالتنحي، فتنحيت غير بعيد.
فجعل عثمان يعاتب علياً «عليه السلام»،
وعلي «عليه السلام» مطرق.
فأقبل عليه
عثمان، فقال:
ما لك لا تقول؟!
فقال:
إن قلت لم أقل إلا ما تكره، وليس لك عندي إلا ما تحب([18]).
ونقول:
قال
المعتزلي:
«أي إني إن قلت واعتذرت، فأي شيء حسنته من الأعذار لم يكن عندك مصدقاً،
ولم يكن إلا مكروهاً غير مقبول، والله تعالى يعلم أنه ليس لك عندي في
باطني، وما أطوي عليه جوانحي إلا ما تحب، وإن كنت لا تقبل المعاذير
التي اذكرها، بل تكرهها، وتنبو نفسك عنها<([19])..
غير أننا نقول:
1 ـ
إن علياً «عليه السلام» لا يعتذر إلا بما هو حق وصدق،
ولذلك يكون أي عذر يعتذر به «عليه السلام» مكروهاً وغير مصدَّقٍ، وما
يرضاه عثمان من الأعذار لا يعتذر به علي «عليه السلام»..
2 ـ
إن ابن أبي الحديد فرض الإمام «عليه السلام» يريد أن
يعتذر لعثمان عن أمر صدر منه. وأن هذا هو ما يقصده بقوله: «إن قلت لم
أقل إلا ما تكره».
مع أن علياً «عليه السلام» لم يشر إلى أنه
يريد أن يقدم أعذاراً، بل المقصود بهذه الكلمة: هو أنه إن قال ما عنده
من مؤاخذات على عثمان بهدف نصيحته، وسعياً وراء إصلاح الأمور، فإن
عثمان سوف يكره ذلك، كما عودناه، لا سيما إذا كان ما يقوله «عليه
السلام» سيتضمن إظهار سيئات أعمال عماله، وما صدر منه من مخالفات في
بيوت الأموال، وما ارتكبه في حق الصحابة من أمثال أبي ذر، وابن مسعود،
وعمار، وابن عوف وسواهم، وغير ذلك مما لا يبتهج عثمان لذكره، ولا يتحمل
حتى الإشارة إليه..
مع علم عثمان بأن هدف علي «عليه السلام» هو إصلاح أمر
عثمان، وأمر الناس، وإبعاد أي شيء يوجب استعار الفتنة..
([1])
بحار الأنوار ج31 ص453 ـ 456 والموفقيات ص601 ـ 607 وشرح نهج
البلاغة للمعتزلي ج9 ص6 ـ 10 باختلاف.
([2])
راجع: نهج البلاغة (بشرح عبده) ج2 ص201 والكافي ج8 ص356 ومصباح
البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج2 ص69 وبحار الأنوار ج27 ص253
وج34 ص186 وج41 ص154 وج74 ص359 ونهج السعادة ج2 ص186 وشرح نهج
البلاغة للمعتزلي ج11 ص102 وتفسير الآلوسي ج22 ص18.
([3])
راجع: نهج البلاغة (بشرح عبده) ج3 ص79 والأمالي للطوسي ج1 ص217
وبحار الأنوار ج33 ص76 و 469 وج72 ص354 ونهج السعادة ج4 ص229
وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج17 ص16 وصفين للمنقري ص107.
([4])
راجع: الكافي ج1 ص403 و 404 ودعائم الإسلام ج1 ص378 والأمالي
للصدوق ص432 والخصال ص149 وتحف العقول ص43 ومستدرك الوسائل ج11
ص45 والأمالي للمفيد ص187 وفقه الرضا ص369 وبحار الأنوار ج2
ص148 وج21 ص139 وج27 ص68 و 69 و 70 و 114 وج47 ص365 وج67 ص242
وج72 ص66 وج74 ص130 و 146 = = وج97 ص46 وجامع أحاديث الشيعة
ج1 ص230 و 231 ومستدرك سفينة البحار ج1 ص513 وج3 ص83 ومجمع
الزوائد ج1 ص139 والمعجم الكبير للطبراني ج2 ص127 وتفسير القمي
ج1 ص173 وج2 ص447 ونور الثقلين ج1 ص656 وج5 ص690 وتأويل الآيات
ج2 ص859 وحاشية السندي على النسائي ج7 ص158 وعون المعبود ج13
ص196 وراجع: شرح مسلم للنووي ج2 ص38 والإثنا عشرية للحر
العاملي ص177 والفتوحات المكية لابن العربي ج4 ص469 والثمر
الداني ص672 وسبل السلام ج4 ص210 وفتح الباري ج1 ص128 والديباج
على مسلم ج1 ص74 .
([5])
بحار الأنوار ج31 ص457 و 458 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9 ص13
و 14 وتاريخ المدينة لابن شبة ج3 ص1046 و 1047.
([6])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9 ص18 ـ 21 والموفقيات ص614 ـ 617
وبحار الأنوار ج31 ص658 ـ 460.
([7])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9 ص23 وبحار الأنوار ج31 ص461
وتفسير أبي حمزة الثمالي ص24 والإمامة والسياسة (تحقيق الزيني)
ج1 ص31.
([8])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9 ص22 وبحار الأنوار ج31 ص460 و
461.
([9])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9 ص23.
([10])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9 ص23 و 24 والأمالي للطوسي ص712
وبحار الأنوار ج31 ص476 و 485 ومستدرك سفينة البحار ج4 ص280
والفايق في غريب الحديث للزمخشري ج2 ص76 وكنز العمال ج13 ص103
وإعجاز القرآن للباقلاني ص143 وتاريخ مدينة دمشق ج39 ص361
وتاريخ الإسلام للذهبي ج3 ص448 والوافي بالوفيات ج20 ص32
والإمامة والسياسة (تحقيق الزيني) ج1 ص37 و(تحقيق الشيري) ج1
ص53 وجواهر المطالب لابن الدمشقي ج2 ص181 وغريب الحديث لابن
سلام ج3 ص428.
([11])
الآية 18 من سورة يوسف.
([12])
الإمامة والسياسة ص23 و (تحقيق الزيني) ج1 ص36 و (تحقيق الشيري)
ج1 ص51 والغدير ج9 ص18 وتاريخ المدينة لابن شبة ج3 ص1045.
([13])
الآية 18 من سورة يوسف.
([15])
صفين للمنقري ص102 و (المؤسسة العربية الحديثة ـ القاهرة) ص91
ونهج البلاغة (بشرح عبده) ج3 ص7 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج
البلاغة) ج4 ص33 وبحار الأنوار ج33 ص77 و 113 وشجرة طوبى ج1
ص45 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج14 ص35 وج15 ص78 والغدير ج10
ص300 والمناقب للخوارزمي ص254 وموسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي
ج5 ص453 ونهج السعادة ج4 ص183 والعقد الفريد ج2 ص286.
([16])
الآيتان 80 و 81 من سورة النمل.
([17])
الغدير ج9 ص69 و 70 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص128.
([18])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9 ص14 وبحار الأنوار ج31 ص468
ومعاني الأخبار ص239 و (ط
مركز
النشر الإسلامي)
ص308 و 309 والكامل في الأدب للمبرد ج1 ص13 وتاريخ مدينة دمشق
ج39 ص364.
([19])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9 ص14.
|