صفحة : 123-156  

الفصل الثامن: إيضاحات لمواقف علي ..

 بـدايـة:

نذكر في هذا الفصل بعض ما يوضح حقيقة مواقف علي «عليه السلام» مما يجري، ولا سيما ما يصدر من قبل الفريق الحاكم من ممارسات، وسياسات..

ولم يقتصر الأمر على ذلك، إذ سوف يمر معنا بعض ما يبين موقفه «عليه السلام» من ردات الفعل لمناوئي عثمان وأعوانه، فلاحظ ما يلي:

كان على عثمان أن يعتزل:

وذكروا: أنه حين تحدث علي «عليه السلام» عما حاق به من الظلم، وانتهى إلى قوله:

فأكرهوني وقهروني، فقلت كما قال هارون لأخيه: ﴿ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي﴾([1]).

فلي بهارون أسوة حسنة، ولي بعهد رسول الله «صلى الله عليه وآله» حجة قوية.

فقال الأشعث: كذلك صنع عثمان، استغاث بالناس ودعاهم إلى نصرته فلم يجد أعواناً، فكف يده حتى قتل مظلوماً.

قال «عليه السلام»: ويلك يا بن قيس، إن القوم ـ حين قهروني، واستضعفوني، وكادوا يقتلونني ـ لو قالوا لي: (نقتلك البتة) لامتنعت من قتلهم إياي، ولو لم أجد غير نفسي وحدي، ولكن قالوا: (إن بايعت كففنا عنك، وأكرمناك، وقربناك، وفضلناك، وإن لم تفعل قتلناك).

فلما لم أجد أحداً بايعتهم، وبيعتي إياهم لا يحق لهم باطلا، ولا يوجب لهم حقا.

فلو كان عثمان ـ حين قال له الناس: (اخلعها ونكف عنك) ـ خلعها لم يقتلوه، ولكنه قال: (لا أخلعها).

قالوا: (فإنا قاتلوك)، فكف يده عنهم حتى قتلوه.

ولعمري لخلعه إياها كان خيرا له، لأنه أخذها بغير حق، ولم يكن له فيها نصيب، وادعى ما ليس له، وتناول حق غيره.

عثمان أعان على قتل نفسه.

ويلك يا بن قيس، إن عثمان لا يعدو أن يكون أحد رجلين: إما أن يكون دعا الناس إلى نصرته فلم ينصروه، وإما أن يكون القوم دعوه إلى أن ينصروه فنهاهم عن نصرته، فلم يكن يحل له أن ينهى المسلمين عن أن ينصروا إماماً هادياً مهتدياً، لم يحدث حدثاً، ولم يؤو محدثاً.

وبئس ما صنع حين نهاهم، وبئس ما صنعوا حين أطاعوه.

وإما أن يكون جوره وسوء سريرته قضى أنهم لم يروه أهلا لنصرته، لجوره وحكمه بخلاف الكتاب والسنة.

وقد كان مع عثمان ـ من أهل بيته ومواليه وأصحابه ـ أكثر من أربعة آلاف رجل، ولو شاء أن يمتنع بهم لفعل.

فلم نهاهم عن نصرته؟!

ولو كنت وجدت يوم بويع أخو تيم تتمة أربعين رجلا مطيعين لي لجاهدتهم، وأما يوم بويع عمر وعثمان فلا، لأني قد كنت بايعت، ومثلي لا ينكث بيعته([2]).

ونقول:

الكلام المتقدم هام ودقيق، وهو يفتح آفاقاً حافلة بالحيوية والعطاء. غير أننا نحب أن نشير إلى أنه «عليه السلام» قد فرق بين موقفه من عمر وعثمان، وموقفه من أبي بكر.. بفارق يقوم على حقيقة: أنه قد بايعهما ولم يبايع أبا بكر.

فإن صحت هذه الفقرة عنه «عليه السلام»، ولم نأخذ بالنص الذي يقول: إنهم أتوا به ملبباً، ومسحوا على يده، وقالوا: بايع، بايع أبو الحسن. ولم نأخذ أيضاً بالنص الذي يقول: إنه لم يبايع لعثمان، حسبما قدمناه حين الحديث عن الشورى العمرية.. كما أنه لم تكن هناك حاجة إلى تجديد البيعة لعمر، بعد أن انتهى الأمر إليه بالوصية من سلفه أبي بكر.

فإن تجاوزنا هذا، أو ذاك، فلا بد أن نقول: إنه «عليه السلام» يقصد: أنه أجبر على البيعة تحت طائلة التهديد بالقتل، كما ذكرته بعض الروايات الأخرى.. التي صرحت بتهديد ابن عوف وغيره له، حين جعل ابن عوف الخلافة لعثمان.

لا ينكث الإمام بيعته:

وقد ذكر النص المتقدم: أنه «عليه السلام» لا ينكث بيعته.. وقد تحدثنا عن هذه النقطة في موضع آخر من هذا الكتاب. وقلنا: إنه «عليه السلام» حتى حين يكرهه الناس على البيعة لهم، وهي بيعة باطلة، ولا تعد عقداً ولا عهداً، ولا أثر لها شرعاً في الإلزام ولا في الالتزام.. ولكن إذا فهم عامة الناس أنها حصلت، فإن الإمام «عليه السلام» لا يمكن أن يفعل ما يرونه نقضاً لها.. لأن سلبيات ذلك ستكون خطيرة وكبيرة.. فيحتاج التخلص من بيعة كهذه إلى جهد واسع في تعريف الناس بما جرى، وفي تثقيفهم بما شرعه الله تعالى لهذه الحالة من أحكام، وإفهامهم أن الوفاء ببيعة كهذه التي قامت على الإكراه والقهر لا يصح في الظروف العادية والملائمة..

ولعلك تقول: لو صح ذلك فلماذا يطلب من الأنصار نكث بيعتهم لأبي بكر، حين جال على بيوتهم ومعه الزهراء «عليهما السلام»؟!

ونجيب: لأن بيعة الأنصار لأبي بكر قد استبطنت نكثهم بيعة علي «عليه السلام» يوم الغدير، فهي غير شرعية، حتى في أعراف الجاهلية، والبيعة التي أخذت منه قهراً، وإن كانت مسبوقة ببيعة الغدير منهم له أيضاً.. ولكن الشبهات التي كانوا يلقونها من شأنها أن تضل أكثر الناس عن الحقيقة.. لا سيما مع ادعائهم أنه هو الذي انصرف عن هذا الأمر ثم حلا في عينيه، وأنه يريد الفتنة وغير ذلك..

علي يأنف لنفسه ما جرى على عثمان:

كان علي «عليه السلام» يخطب، ويلوم الناس على تثبيطهم، وتقاعدهم، ويستفزهم إلى أهل الشام، فقال له الأشعث بن قيس: هلا فعلت فعل ابن عفان؟!

فقال له: إن فعل ابن عفان لمخزاة على من لا دين له، ولا وثيقة معه. إن امرءاً أمكن عدوه من نفسه، يهشم عظمه، ويفري جلده، لضعيف رأيه، مأفون عقله. انت فكن ذاك، إن أحببت، فأما أنا فدون أن أعطي ذاك ضرب بالمشرفية الفصل([3]).

ونقول:

تضمنت إجابة علي «عليه السلام» للأشعث الأمور التالية:

1 ـ إن الأشعث كان يريد من علي «عليه السلام» أن يترك الميدان لمعاوية، ليصول ويجول، ويزبد ويرعد، ويظلم الناس، ويهتك الحرمات، ويعتدي على الكرامات، ويستولي على البلاد، ويذل العباد. ويميت السنة ويحيي البدعة.

ثم يغير على علي «عليه السلام»، ويبطش ولا يحرك علي «عليه السلام» ساكناً. ولا يدفع ظلماً، ولا يجازي ظالماً..

2 ـ إن علياً «عليه السلام» بين في كلامه هذا: أن ما يطلبه منه الأشعث لا يرضاه أحد لنفسه حتى أهل الدنيا، ومن لا دين له، ولا وثيقة معه. بل هم يأنفون من ميتة الذل والهوان، فكيف إذا كانت القيم والمثل العليا، والوازع الديني هو المهيمن، وهو الذي يدعو إلى جهاد الظالمين، ودفع شر الأشرار، وإعزاز الدين وأهله؟! كما هو الحال بالنسبة لعلي «عليه السلام»؟!

وكيف إذا كان المعني بذلك هو علي «عليه السلام» الذي كان على بينة من ربه، ولديه وثيقة من الله ورسوله، تشد أزره، وتقوي عزيمته، وترسخ يقينه؟! فإنه سيكون مع هذه الوثيقة والبينة أقوى جناناً، وأعظم تضحية، وأشد إباءً..

3 ـ ولو لم يفعل «عليه السلام» ذلك، فإنه يكون ضعيف الرأي، بل ناقص العقل.. ولم يكن علي «عليه السلام» هو ذلك الرجل، ولا يمكن أن يرضى لنفسه أن تكون بهذه المثابة فإن الإسلام قد منحه العزة والكرامة، وأيده بالعقل وبالحكمة، وشد ازره بالصبر والعزيمة.

4 ـ ثم إنه أعلن للأشعث ولغيره: أن هذا الموقف إنما يتخذه أهل الحفاظ، وأصحاب المروءات، ومعدن السؤدد والكرامة..

وعلى الأشعث أن يراجع حساباته، وأن يضع نفسه في الموضع الذي تستحق أن تكون فيه. فإن وجد أنها تقصر عن ذلك، فعليه أن يسعى لإخراجها من هذا الحال بالتربية الصالحة، وبالتزكية والتطهير، ثم بشحنها بالقيم الصحيحة، والمثل العليا، وبمعاني الخير والفلاح والصلاح..

وعليه أن لا يحب لنفسه أن تكون في موقع الذل والمهانة، والتخلف والسقوط.. ولذلك قال له: «إن أحببتَ».

5 ـ ثم أعلن «عليه السلام»: أن غيره إن كان يتردد ويشك في الموضع الذي يضع فيه نفسه، فإنه «عليه السلام» لا يتردد ولا يشك في ذلك، لأنه قراره الحاسم الذي يحميه بالمشرفية التي تقطع كل صلة بين الحقيقي والزائف، وبين العز والذل، والموت والحياة..

6 ـ أما عثمان.. فقد أعطى بيده إعطاء الذليل. وهي خطة يرفضها أهل الحفاظ والنجدة، حتى لو كانوا لا يملكون أي داع ديني يحتم عليهم هذا الرفض.. أو لا يملكون أية وثيقة يلجأون إليها، ويعتمدون عليها..

مع أنه كان بإمكان عثمان أن يتلافى كل ما جرى عليه بالتخلي عن دواعي الدنيا. والرضا منها بما يرضاه الله تعالى له، بالتزام جادة الحق وإنصاف الناس، وإرجاع الحقوق إلى أصحابها، ومنع عماله من ظلم الناس، ومن العدوان على الدين وأهل الدين، وعلى المستضعفين.

ولو أنه رضي ولو بممارسة القليل من ذلك لم يكن قد وصل إلى ما وصل إليه، ولكان قد احتفظ لنفسه بقسط من العزة والكرامة.

رمتني بدائها:

وقد سمع «عليه السلام» قوماً يذمون عثمان بما يضرون به أنفسهم، فقال: «إنما أنتم وما تعيرون به عثمان كالطاعن نفسه، ليقتل ردفه»([4]).

ونقول:

إنه «عليه السلام» يريد أن يقول: إن جماعة من الطاعنين على عثمان كانوا يطعنون عليه بأمور كانوا هم مبتلين بها، ومن هؤلاء طلحة، والزبير، وعمرو بن العاص، وأضرابهم، من أهل الدنيا، كما أثبتته الوقائع، فلم يكونوا يطعنون على عثمان لكي يردوه إلى حكم الله تبارك وتعالى، بل ليستأثروا هم بالأمر لأنفسهم دونه..

وشاهدنا على ذلك: أن عمرو بن العاص الطاعن هو الآخر على عثمان قد شرط على معاوية أن يعطيه مصر طعمة، ليعاونه على حرب علي «عليه السلام» طلباً بدم عثمان حسب زعمهم([5]).

كما أن حرب الجمل، إنما كانت لأن علياً «عليه السلام» رفض طلب طلحة والزبير بأن يوليهما بعض بلاد الإسلام([6]).

وعائشة بالذات إنما ثارت على عثمان لأنه منعها من العطاء الذي كان عمر قد اختصها به.. وكانت تقول: اقتلوا نعثلاً فقد كفر. وتأمل أن يتولى الأمر طلحة..

فلما تولى علي «عليه السلام»، وكانت تعرف أنه لن يكون لها معه أية خصوصية تستحقها، رفعت راية الخلاف عليه، وقالت: والله ليوم من عثمان خير من علي الدهر كله([7])، ثم خرجت على علي بحجة الطلب بدم عثمان، الذي كانت هي التي أمرت الناس بقتله!!

ومن الواضح: أن من يطعن على شخص بأمر، ثم يظهر أنه لا يختلف عنه، بل هو فيه أكثر إمعاناً وغوصاً ـ إن هذا ـ سيكون كالطاعن نفسه ليقتل الذي يكون خلفه كما قال «عليه السلام»..

الفرق بين موقف طلحة، والزبير، وموقف علي ؟!

عن مسروق، قال: دخلت المدينة. فبدأنا بطلحة، فخرج مشتملاً بقطيفة له حمراء. فذكرنا له أمر عثمان فصيَّح القوم، فقال: قد كاد سفهاؤكم أن يغلبوا حلماءكم على المنطق.

قال: أجئتم معكم بحطب؟! وإلا فخذوا هاتين الحزمتين، فاذهبوا بهما إلى بابه.

فخرجنا من عنده، وأتينا الزبير، فقال مثل قوله.

فخرجنا حتى أتينا علياً «عليه السلام» عند أحجار الزيت، فذكرنا أمره، فقال: «استتيبوا الرجل ولا تعجلوا، فإن رجع مما هو عليه وتاب، فاقبلوا منه»([8]).

ونقول:

1 ـ إن علياً «عليه السلام» هو الذي أخذ العهود والمواثيق من عثمان، ورد الناس من المصريين وغيرهم عنه، وأعلن عثمان توبته أكثر من مرة، ثم نقض عهده، وتراجع عن توبته.

ولكنه «عليه السلام» لم ييأس، فلعل عثمان يتراجع ويتوب على الحقيقة، ويوفر على الأمة مشاكل هي في غنى عنها.

2 ـ وقد ظهر في النص المذكور آنفاً: الفرق الشاسع بين تصرفات طلحة والزبير العشوائية، والعدوانية تجاه عثمان، وبين العقلانية والإنصاف، وبعد النظر، والمسؤولية الشرعية والأخلاقية تجاه قضايا الأمة، التي ظهرت في موقف أمير المؤمنين «عليه السلام».

3 ـ ولا بد من تذكر الموقف الآخر لطلحة والزبير بعد قتل عثمان، ووصول الأمر إلى علي «عليه السلام»، حيث انقلبا رأساً على عقب.. وأصبح طلحة والزبير هما حملة لواء الخلاف، وقادة العساكر، للأخذ بثارات عثمان من علي نفسه، الذي رأينا موقفه آنفاً من قتل عثمان، وكذلك موقفهما!!

4 ـ إن هذا النص يدل على أن الزبير لم يكتف بالإشارة من بعيد كما زعم سعد بن أبي وقاص. وقد ذكرنا في موضع آخر من هذا الكتاب، أنه شارك في التحريض الصريح والقوي.

موقف أمير المؤمنين من قتل عثمان:

رووا عن علي «عليه السلام» أنه قال عن عثمان: الله قتله، وأنا معه([9]).

قال العلامة الحلي: أي أنا مع الله أحكم بما حكم الله([10]).

وروي ذلك أيضاً عن ابن عباس([11]).

وقد ادعى ابن روزبهان: أن العلامة الحلي بكلامه هذا يتهم علياً «عليه السلام» بالمشاركة في قتل عثمان، ثم قال:

«وقد ذكر صاحب كتاب نهج البلاغة في مواضع من كلامه أنه كان يتبرأ من قتل عثمان غاية التبري، وكان أشد الأشياء على أمير المؤمنين أن يشركه أحد في قتل عثمان، حتى إنه قال: لو أني أعلم أنه يذهب من صدور بني أمية الوهج من مشاركتي في قتل عثمان، لحلفت لهم بين الركن والمقام خمسين حلفة أني ما شاركت في قتل عثمان، ولا رضيت به، ولا أمرت به»([12]).

ونقول:

1 ـ لعل مراد العلامة «رضوان الله تعالى عليه»: أن الله لم يقتله على الحقيقة، فإضافة الفعل إليه لا يكون إلا على معنى الحكم والرضا.. وعلي مع الله في ذلك، وإن كان «عليه السلام» لم يباشر ذلك بنفسه، ولا شايع فيه، ولا آزر عليه.

وتوضيح ذلك: أن السنة الإلهية قد جرت بأن من يتجاوز حدود الله تعالى لا بد أن يجد آثار أعماله، ويبتلي بنتائجها التي قد تودي به إلى الهلاك، فالسنة الإلهية هي التي قتلت عثمان، فصح قوله «عليه السلام»: قتله الله أي بما أودعه في هذه الحياة من سنن، وأنا معه راض بما رضيه الله..

ويشهد لما نقول: قوله «عليه السلام» عنه في الخطبة الشقشقية: «أجهز عليه عمله، وكبت به بطنته»([13]).

وبذلك يتضح عدم صحة قول ابن روزبهان: إن العلامة يتهم علياً بالمشاركة في قتل عثمان.

ولو صح قوله هذا لكان الإتهام الحقيقي موجهاً إلى الله تعالى، ومجرد كون علي «عليه السلام» مع الله في ذلك لا يعني مشاركته في الفعل الإلهي، بل يعني رضاه به، وتسليمه له.

2 ـ إن تبري علي أمير المؤمنين «عليه السلام» المتكرر من قتل عثمان يؤيد هذا الذي ذكرناه آنفاً في معنى كلام علي «عليه السلام» وفق تفسير العلامة الحلي، فإن رضاه «عليه السلام» بفعل الله لا يعني مشاركته فيه كما قلنا.

فادعاء ذلك عليه ظلم له، وافتراء عليه، لا سيما وأن هذا الإتهام يهدف إلى إثارة الفتنة، والتوصل به إلى ظلم أشد، وباطل أعظم، يستهدف تضليل الناس، وإرباك الأمة في مفاهيمها، وقيمها واعتقاداتها.

3 ـ إن قوله «عليه السلام»: ما أحببت قتله ولا كرهته، ولا أمرت به، ولا نهيت عنه([14])، وقوله على المنبر: «والله الذي لا إله إلا هو ما قتلته، ولا مالأت على قتله، ولا ساءني»([15])، صحيح أيضاً، ولا يتعارض مع ما سبق.

4 ـ قد يقال: إن عثمان بنظر أمير المؤمنين لم يكن معصوم الدم، محرم القتل، وإلا لنهى ودافع عنه، لوجوب النهي عن المنكر، الذي يرتكب في حقه.

ويدل على ذلك أو يؤيده: أنه «عليه السلام» لم يخطِّئ قاتلي عثمان، بل أعطاهم الحق في الجزع، من أفعاله ولكنه خطأهم في طريقة ومقدار جزعهم، فقال: استأثر فأساء الإثرة، وجزعتم فأسأتم الجزع([16]).

فدل ذلك على: أنه كان يرى أن طريقة قتله كانت غير سليمة، لأنها ستفسح المجال لمعاوية وبني أمية، لإتهام الأبرياء، واتخاذ ذلك ذريعة لتنفيذ مآربهم بالعودة إلى المناصب، وإثارة الفتن، والتسبب بسفك الدماء، وخداع عوام الناس بالشبهات والأباطيل.

ويمكن أن يجاب: بأنه «عليه السلام» لم يصرح بأن عثمان مهدور الدم، وإنما هو قد وصف حال عثمان، وحال الناس معه، فإن إساءة الأثرة لا توجب هدر الدم ما لم تصل إلى حد الإفساد في الأرض، وقتل النفس المحترمة، والتكذيب للرسول، والإستخفاف بالشريعة، وغير ذلك من موجبات القتل.

5 ـ وقد يقال أيضاً: لو كان «عليه السلام» يرى عثمان غير مستحق للقتل بنظره لجفا قاتليه، والذين أعانوا عليه، مع أن منهم من هو من أشد الناس لصوقاً به، كعمار بن ياسر، ومالك الأشتر، ومحمد بن أبي بكر، وعمرو بن الحمق الخزاعي، الذي يقال: إنه وثب وجلس على صدر عثمان، وطعنه تسع طعنات، ثلاث منهن لله، والباقي لما يجده في صدره عليه([17]).

في حين أننا نجده يتوعد عبيد الله بن عمر بالقتل، ويصر على ملاحقته لقتله بالهرمزان وجفينة..

إلا أن يقال: إن هذا يدخل في دائرة الفعل الذي لم يعرف وجهه، فلا يمكن الجزم بدلالته على ما ذكر..

6 ـ بالنسبة لما زعموه من أن علياً «عليه السلام» لو علم أنه يذهب من صدور بني أمية الوهج لحلف لهم خمسين يميناً بين الركن والمقام أنه لم يشارك في قتل عثمان نقول:

إنه كلام باطل، يراد به اعذار بني أمية في محاربتهم لعلي «عليه السلام»، تحت شعار الأخذ بثأر عثمان، وتخفيف وقع جريمتهم هذه.. مع أن بني أمية وعلى رأسهم معاوية هم الذين أسهموا في قتل عثمان.

وحقدهم على علي «عليه السلام» ليس لأجل اتهامه بالمشاركة في قتله، لعلمهم ببراءته من هذه التهمة، لأنهم هم الذين صنعوها وروجوها طلباً منهم للدنيا.

إنهم يحقدون عليه لأن الدين قام بسيفه، وأظهره الله به على الدين كله، وبيده قتل الله شياطين أهل الشرك في بدر وأحد، والخندق وحنين، وأسقط كل هيمنتهم يوم الفتح..

وقد قال له عثمان نفسه في زمن عمر: فما ذنبي، والله ما تحبكم قريش أبداً بعد سبعين رجلاً، قتلتم منهم يوم بدر، كأنهم شنوف الذهب([18]).

أحداث عثمان في حديث علي :

وذكر علي «عليه السلام» في حديثه لأحد اليهود ملخصاً عن أحداث عثمان، وما جرى له، وما انتهت إليه الحال، فقال:

ثم لم تطل الأيام بالمستبد بالأمر ابن عفان حتى أكفروه وتبرؤوا منه، ومشى إلى أصحابه خاصة، وسائر أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله» عامة يستقيلهم من بيعته، ويتوب إلى الله من فلتته.

فكانت هذه ـ يا أخا اليهود ـ أكبر من أختها وأفظع، وأحرى أن لا يصبر عليها، فنالني منها الذي لا يبلغ وصفه، ولا يحد وقته، ولم يكن عندي فيها إلا الصبر على ما أمض وأبلغ منها.

ولقد أتاني الباقون من الستة من يومهم، كل راجع عما كان ركب مني، يسألني خلع ابن عفان، والوثوب عليه، وأخذ حقي، ويؤتيني صفقته وبيعته على الموت تحت رايتي، أو يرد الله عز وجل علي حقي.

فوالله ـ يا أخا اليهود ـ ما منعني منها إلا الذي منعني من أختيها قبلها، ورأيت الإبقاء على من بقي من الطائفة أبهج لي وآنس لقلبي من فنائها، وعلمت أني إن حملتها على دعوة الموت ركبته.

فأما نفسي فقد علم من حضر ممن ترى ومن غاب من أصحاب محمد «صلى الله عليه وآله» أن الموت عندي بمنزلة الشربة الباردة في اليوم الشديد الحر من ذي العطش الصديّ.

ولقد كنت عاهدت الله عز وجل ورسوله «صلى الله عليه وآله»، أنا، وعمي حمزة، وأخي جعفر، وابن عمي عبيدة على أمر وفينا به لله عز وجل ولرسوله، فتقدمني أصحابي، وتخلفت بعدهم لما أراد الله عز وجل، فأنزل الله فينا: ﴿مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً([19])، حمزة، وجعفر، وعبيدة.

وأنا والله المنتظر ـ يا أخ اليهود ـ وما بدلت تبديلاً.

وما سكتني عن ابن عفان، وحثني على الإمساك عنه إلا أني عرفت من أخلاقه فيما اختبرت منه بما لن يدعه حتى يستدعي الأباعد إلى قتله وخلعه، فضلاً عن الأقارب، وأنا في عزلة.

فصبرت حتى كان ذلك، لم أنطق فيه بحرف من «لا»، ولا «نعم».

ثم أتاني القوم وأنا ـ علم الله ـ كاره. لمعرفتي بما تطاعموا به: من اعتقال الأمول، والمرح في الأرض، وعلمهم بأن تلك ليست لهم عندي، وشديد عادة منتزعة.

فلما لم يجدوا عندي تعللوا الأعاليل.

ثم التفت «عليه السلام» إلى أصحابه، فقال: أليس كذلك؟!

فقالوا: بلى يا أمير المؤمنين([20]).

ونقول:

إن لنا مع هذا النص وقفات عديدة، نذكر منها ما يلي:

 أقيلوني.. قلب للحقائق:

قد عرفنا أنا أبا بكر هو صاحب المقولة المشهورة: «أقيلوني، فلست بخيركم» وهذا عثمان أيضاً يقوم بنفس الدور، ويطلب الإقالة أيضاً..

وهو أمر غريب وعجيب..

فأولاً: إذا كان الأمر عند عثمان بهذه السهولة، فلماذا لا يرضى بالخلع حين اجتمع عليه الناس من مختلف البلاد، ومعهم عامة الصحابة ليخلعوه، أو يتوب، حتى انتهى الأمر بقتله؟!

ويتأكد هذا الأمر إذا علمنا: أنهم حين أخذوا عليه إرسال الكتاب إلى مصر مختوماً بخاتمه، ومع خادمه وعلى جمله.. قد استدلوا عليه بأن ذلك إن كان بعلمه، فهو قد أمر بقتل المسلمين من دون مبرر، كما أنه نقض عهده، وأخلف بوعده، ولا يصلح للخلافة من فعل ذلك..

وإن كان بغير علمه، فمن بلغ به الضعف إلى هذا الحد لا يصلح أيضاً لهذا المقام، فلا بد له من التنحي على كل حال..

ثانياً: لو صح هذا لم يتلاءم مع كلمته المشهورة حين طلب منه التنحي: ما كنت لأخلع قميصاً قمصنيه الله([21])، وأقام على إصراره على ذلك حتى قتل، مع ملاحظة: أنه نسب إلباسه الخلافة إلى الله تعالى.. مع أن الذي فعل ذلك هو عمر بن الخطاب، وعبد الرحمان بن عوف، مخالفين بذلك النص القرآني، والكثير من النصوص والمواقف النبوية الصريحة بجعل الأمر لعلي بن أبي طالب «عليه السلام»، ولا سيما ما جرى في يوم الغدير، حيث أخذ النبي «صلى الله عليه وآله» البيعة له من عشرات ألوف المسلمين..

إلا إن كان عثمان يشير بإلباس الله له ذلك القميص إلى ما يزعمونه من الجبر الإلهي للبشر.. وهي المقولة التي لا شك في فسادها، وعدم صحة الإعتقاد بها، إذ لا يجوز نسبة أفعال العباد لله تعالى بنحو الجبر والإكراه لهم.. لا سيما على قاعدة (الكسب) التي وضعها أبو الحسن الأشعري، ليقلل من بشاعة عقيدة الجبر هذه..

حيث زعم: أن الله يخلق قدرة للعبد حين إيجاد الفعل، من دون أن يكون لتلك القدرة أي دور سوى أنها تصحح نسبة الفعل للعبد، فتكون تلك القدرة كالحجر في جنب الإنسان.

ثالثاً: قلنا: إن المطلوب هو أن يقيلهم عثمان بيعتهم له، وكذلك أبو بكر من قبله. فكان عليه أن يقول: «أقلتكم بيعتكم»، فلن أطالبكم بالوفاء، أو لا يجب عليكم الوفاء بها. لا أن يقول لهم: أقيلوني!!

رابعاً: قلنا: إذا كان الله هو الذي ألبسه الخلافة، فليطلب من الله تعالى أن يقيله منها، فإنه لا يحق للناس التدخل لإلغاء التصرفات الإلهية..

وإذا جاز للناس هذا التدخل، فإنه يجوز لعثمان نفسه ذلك، فلماذا لا يخلع ذلك القميص الذي ألبسه الله إياه؟!

خامساً: صرحت الروايات: بأن عبد الرحمان بن عوف قد خلع عثمان من الخلافة كما يخلع قميصه.. وعبد الرحمن هو الذي اختار عثمان لهذا الأمر، ونصبه فيه بتدبير من عمر بن الخطاب، فألا يكفيه أن يخلعه نفس الذي نصبه؟!

والذي يبدو لنا: هو أن عثمان أراد أن يظهر مدى تعلق أصحابه الأقربين به، وأن يعرف مقدار وفائهم له في محنته، فخاطبهم بهذا الخطاب.

أما سائر الصحابة فلعله لم يكلمهم في هذا ـ وإنما كانوا ثابتين على رأيهم بلزوم تنحيه..

فقول النص: «مشى إلى أصحابه خاصة» يدل على ما نقول، إذ لا معنى لكلمة «خاصة» إذا كان قد مشى إلى سائر الصحابة أيضاً. فكلمة وسائر الصحابة عامة ليست هي الكلمة المناسبة هنا، بل المناسب هو أن تكون كلمة: «وسائر أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله» على هذا جملة معترضة.. بين كلمتي «مشى إلى أصحابه خاصة» و «يستقيلهم من بيعته».

وكأن عثمان يرى أن قبول خصوص أصحابه به يكفي لإصراره على التمسك بموقعه، وعدم الإستجابة إلى مطالب الناس في سائر البلاد، بما فيهم الصحابة، وسائر أهل المدينة.. في حين أنه لو أن أحداً يفترض أنه لا حق له في التدخل في أمر الخلافة فهم أصحاب عثمان خاصة، لأنهم بين من لعنه رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وبين من أباح دمه ولو كان معلقاً بأستار الكعبة، وبين من طرده ونفاه رسول الله «صلى الله عليه وآله»، زيادة على لعنه، وكلهم مباح الدم لا حرمة له ولا كرامة.

علي وباقي أعضاء الشورى:

وذكر «عليه السلام»: أن بقية الستة ـ ما عدا عثمان ـ قد جاؤوا إليه «عليه السلام»، يسألونه خلع عثمان، وأخذ حقه، ويبايعونه على الموت تحت رايته، أو يرد الله عز وجل إليه حقه..

ولكنه «عليه السلام» رفض ذلك.

وذلك يشير إلى ما يلي:

ألف: إن هؤلاء الستة يستسهلون خلع خليفتهم، وقد ذكروا: أن ابن عوف قد خلع عثمان من الخلافة كما خلع قميصه. فناداه علي «عليه السلام»: ﴿آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المُفْسِدِينَ([22]).

ولكننا لم نسمع من علي «عليه السلام» أنه خلع عثمان ولا غيره.. رغم أنه كان يرى أنهم غاصبون لحقه، معتدون عليه..

ب: إنه «عليه السلام» لم يرض منهم ذلك، ربما لأنه يريد أن يكرس لزوم الوفاء بالعهود والعقود، ولا يسمح بنقضها بصورة عشوائية، لأن ذلك سوف يؤسس لطريقة خاطئة في التعامل، من شأنها أن تنسف كل الضمانات والأسس الضرورية لبناء الحياة الإنسانية.. وتصبح الهيمنة للقوة، والقرار في فسخ عقد البيعة وعدمه للأهواء، واستطراف الآراء ومن دون أن يرى أحد نفسه ملزماً برعاية أي قيد أو ضابطة. وبذلك يقع الإستخفاف بأمر البيعة والعقود والعهود، فيبايعون اليوم، وينكثون غداً.

وهذا من شأنه أن يعطي الفرصة والذريعة لاستئصال كل مواقع الخير والصلاح في المجتمع الإنساني، ولذلك قال «عليه السلام»: إنه رفض ما عرضه عليه باقي الستة، لأنه رأى: «أن الإبقاء على من بقي من الطائفة أبهج له، وآنس لقلبه من فنائها»، لأن هذه الطائفة لا تستطيع مواجهة الظروف القاسية التي سوف تنشأ من ذلك.

على أن هؤلاء لا يريدون نكث البيعة توصلاً للدنيا. ولولا ذلك لاستجابوا لطلب علي «عليه السلام» بعدم قتل عثمان، والإكتفاء بحصاره إلى أن يتوب ويتراجع ويخلع نفسه، ولو أنهم أطاعوا الإمام، لم تصل الأمور إلى هذا الحد الذي ألحق الضرر به نفسه، وأوجد له المشكلات وتسبب بالحروب الكبيرة والخطيرة..

ج: إنه «عليه السلام» قد بين أن موقفه هذا ينطلق من حرصه على الآخرين، لا على نفسه، لأن الأمر بالنسبة إليه ليس بذي أهمية، لأن الكل يعلم أن الموت بالنسبة إليه بمنزلة الشربة الباردة في الحر الشديد..

سكوت علي عن عثمان:

وقد بين «عليه السلام» أن سبب سكوته وإمساكه عن عثمان أمران:

الأول: ما يعرفه ـ من خلال خبرته العملية ـ من أن أخلاق عثمان ستدعو الأباعد إلى قتله وخلعه، فضلاً عن الأقارب..

فعلي «عليه السلام» إذن كان يعرف مآل الأمور، وأنها ستكون في غير صالح عثمان وفريقه.. فلم يكن لتدخله فائدة سوى بلورة مفردات مشتبهة، يستطيع مناوئوا علي «عليه السلام» أن يستفيدوا منها لتضليل الناس حول حقيقة ما يجري.

الثاني: إن الأقارب ـ كما الأباعد ـ كانوا مستائين من تصرفات عثمان.. وهذا يدل على أن مخالفاته كانت أمراً واقعاً، ومشهوداً، فلا أثر لإنكار بعضهم لها، ولا جدوى من محاولات تبريرها وتصغيرها، فإن الأقارب والأباعد من الصحابة وغيرهم قد رأوا أنها لتبرير موقفهم الحاد منه.

ولعله يقصد بالأقارب أهل المدينة، وبالأباعد أهل الأمصار..

ثم ذكر: أنه اعتزلهم، فلم ينطق بلا أو بنعم.. حتى قتل عثمان..

من أسباب كراهة تولي الأمر:

وقد أشار «عليه السلام» إلى سبب كراهته قبول ما يعرضونه عليه من البيعة له: فذكر أنه كان يعرف أن أهدافهم من طلبهم هذا لم تكن سليمة، فإنهم كانوا يريدون أن يجعلوا ذلك ذريعة للوصول إلى الأموال.. والمرج (أو المرح) في الأرض..

وكلا الأمرين مرفوض عند علي «عليه السلام»، الذي لا يرضى بمخالفة سنة العدل.. ويرفض أن يتصرفوا حسب هواهم، وأن يتعدوا حدود الله، في بلاده تعالى وعباده.. وكانوا يعلمون بأن هذه خطة مرفوضة عند علي «عليه السلام»، ولكنهم كانوا يأملون بإنتزاعها منه.. فلما لم يحصلوا على ما أرادوا غيروا مواقفهم، ونابذوه، ثم حاربوه.. ولعلنا نوضح ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى..

دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثماً:

وجاء ابن عباس برسالة من عثمان وهو محصور إلى علي «عليه السلام»، يسأله فيها الخروج إلى مائه بينبع، ليقل هتف الناس بإسمه للخلافة، بعد أن سأله مثل ذلك من قبل، فقال «عليه السلام»:

«يا ابن عباس، ما يريد عثمان إلا أن يجعلني جملاً ناضحاً بالغرب، أقبل وأدبر: بعث إلى أن أخرج، ثم بعث إلى أن أقدم، ثم هو الآن يبعث إلي أن أخرج..

والله، لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثماً([23]).

وقد اعترف مروان بن الحكم بذلك، فقال: ما كان أحد أدفع عن عثمان من علي.

فقيل له: ما لكم تسبونه على المنابر؟!

قال: إنه لا يستقيم لنا الأمر إلا بذلك([24]).

ونقول:

أولاً: الغريب في الأمر هنا أن عثمان يتضايق من وجود علي «عليه السلام» بالقرب منه، لمجرد أن الناس يهتفون باسمه.. فهو يريد إبعاده ليقل هذا الهتاف..

والسؤال هو: هل هتاف الناس بإسم شخص يسوغ للحاكم عقوبته وإبعاده؟ وهل يلزم ذلك الشخص أن يطيع أوامره بفعل ما يوجب تقليل ذلك الهتاف؟!

ثانياً: هل هناك أية إشارة إلى أن علياً «عليه السلام» كان بصدد توظيف هذا الهتاف في الإستيلاء على الحكم، وإقصاء عثمان عن الخلافة؟! أم أن الإشارات كلها تدل على أن مواقفه «عليه السلام» كانت تصب في اتجاه حفظ مصلحة الأمة، وتهدئة الأمور؟!

وقد كان سعيه الدائب والدائم هو لدفع الناس عن عثمان بإقناعه بالتراجع عن مخالفاته، وحلّ العقد المستعصية، وإصلاح الأمور بينه وبينهم لأنه يرى أن هذا مصلحة للدين والأمة، وإن كان يلتقي مع مصلحة الحاكم في ذلك الظرف؟!

ثالثاً: هل وقف هتاف الناس بإسم علي «عليه السلام» للخلافة يحل مشكلة عثمان مع الناس، ويمنعهم من حصاره وقتله؟!

وهل لا يجدون غير علي لمقام الخلافة مع كثرة الطامحين والعاملين لها..

رابعاً: لا بد من المقارنة بين أمرين، من خلال الإجابة على أسئلة معينة.

الأول: هل وصول علي للخلافة يحفظ عثمان، أم يوجب وقوع الظلم والتجني عليه، أم يوجب قتله..

الثاني: هل وصول غير علي «عليه السلام» كطلحة إلى الخلافة يحفظ عثمان؟ أم يوجب وقوع الظلم والتجني عليه؟! أم يوجب قتله..

إن الشواهد العملية قد دلت: على أن علياً هو الذي يحفظ عثمان.. فقد دفع عنه حتى خشي أن يكون آثماً.. بل لم يكن أحد أدفع عن عثمان من علي.. كما أن الوقائع دلت على أنه «عليه السلام» وحده الذي يلتزم بأحكام الله، ولا يتعداها..

أما طلحة، فهو الذي ساهم عملياً في سفك دم عثمان.. ومعه كثير من الصحابة وغيرهم.. بل كان يريد أن يقتل عثمان عطشاً.. وقد رد وساطة علي «عليه السلام» لأيصال الماء إلى عثمان..

رابعاً: لقد أوضح «عليه السلام»: أن ما يهم عثمان هو أن ينقاد له علي «عليه السلام»، بحيث لا يبقى له معه أي اختيار، في حين أن عثمان نفسه منقاد لمروان إلى حد أنه ليس له أي اختيار معه!! مع أن مروان يورد عثمان المهالك، وهو السبب في كثير مما يجري له، أما علي «عليه السلام»، فهو الذي لم يزل يسعى ليجنب عثمان تلك المهالك، ويرشده إلى ما يصلحه، ويخفف من مآسيه..

خامساً: والسؤال الأهم هو الذي يقول:

ما معنى قوله «عليه السلام»: حتى خشيت أن أكون آثماً؟ ألا يدل ذلك على الأمور التالية:

الأول: إمكانية أن يرتكب علي «عليه السلام» بعض المآثم.

الثاني: إنه «عليه السلام» لا يعرف حدود تكليفه الشرعي؟!

الثالث: إنه إذا كان لا يعرف إن كان هذا الأمر جائزاً له أم لا.. ألا تجري في حقه الأصول والقواعد المقررة للشاك؟! فلماذا لا يستند إليها؟!

ونجيب:

إن علياً وهو يتعامل مع الناس العاديين ينزِّل نفسه منزلتهم، ويضع نفسه في موضعهم، لأن هذه هي نظرة الناس إليه، وهي أساس تعاملهم معه. والناس إذا بلغوا هذا الحد من الدفاع عن شخص يصرّ على مخالفات كبيرة من النوع الذي كان يصدر من عثمان وعماله، فإنهم يخافون ويتوجسون من أن يكونوا قد تجاوزوا الحدود المسموح بها شرعاً، ويحاولون سؤال أهل المعرفة عن ذلك..

وبذلك يتضح الجواب عن السؤال الثاني والثالث أيضاً، فإنه «عليه السلام» ينزل نفسه منزلة غير العارف، ليتمكن من بيان المستوى الذي بلغه في الدفاع عن هذا الرجل.

وقد اتضح بذلك: أنه «عليه السلام» ليس بجاهل ولا شاك بما يجب عليه، وما لا يجب، ليحتاج إلى اللجوء إلى الأصول والقواعد المقررة لأمثال هؤلاء.

سميته باسم عثمان بن مظعون:

عن هبيرة بن مريم، قال: كنا جلوساً عند علي «عليه السلام»، فدعا ابنه عثمان، فقال له: يا عثمان: ثم قال: إني لم أسمه باسم عثمان الشيخ الكافر، إنما سميته باسم عثمان بن مظعون([25]).

ونقول:

ألف: إن هذا النص قد تضمن وصف عثمان بالشيخ الكافر.. وهذا أمر لا يصدر منه «عليه السلام»، لا سيما وأنه «عليه السلام» كان ينهى أصحابه عن التفوه بأمثال هذه الأمور..

وحين سمع في صفين ابن الحنفية يتحامل على عبيد الله بن عمر وأبيه، قال له: لا تذكر أباه، ولا تقل فيه إلا خيراً([26]).

بل إن معاوية نفسه قد كتب لعثمان: إن أبا ذر يذكر أبا بكر وعمر بأحسن القول، ولكنه حين يذكر عثمان يقع فيه، ويذكر عيوبه ومخالفاته فراجع([27]).

بل إن هذا النوع من التعابير لو صدر منه «عليه السلام»، فإن من شأنه أن يعطي الآخرين الذريعة والحجة أمام الناس في محاربته، ويمكنهم من حشد المزيد من الناس ضده.

إلا أن كان يقصد به كفران النعمة كما في قوله تعالى: ﴿بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللهِ كُفْراً([28]). ولعل الناس كانوا لا يمانعون من إطلاق هذا الوصف بهذا المعنى على عثمان، ولا سيما في ذلك الزمان الذي نقم الناس فيه على عثمان..

وقد رأينا الصحابة وغيرهم يخاطبونه بخطابات حادة وصعبة.. مما يدل على أن الهالة قد صنعت له بعد قتله، وبعد تسلط بني أمية على الناس.

ب: ذكرنا في بعض فصول الجزء الأول من هذا الكتاب ما يفيد في معرفة أسباب تسمية علي «عليه السلام» بعض أبنائه بأسماء مناوئيه: أبي بكر وعمر وعثمان.. فلا بأس بالرجوع إليه..

ج: إن التسمية باسم الأحباء وهم أحياء بِرٌّ بهم، وصلة لهم.. والتسمية بأسمائهم بعد موتهم، وفاء لهم، وإحياء لذكرهم.. وعلي هو خير من وصل، وبرّ ووفا لأمثال عثمان بن مظعون..


([1]) الآية 150 من سورة الأعراف.

([2]) كتاب سليم بن قيس ج2 ص665 ـ 667 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج3 ص3 ـ 10 ومستدرك الوسائل ج11 ص74 ـ 76 وجامع أحاديث الشيعة ج13 ص40 ـ 41 وراجع: إرشاد القلوب ص394 وبحار الأنوار ج29 ص465 ـ 469.

([3]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص191 والغدير ج 9 ص 73 و 74 عنه، والغارات للثقفي ج2 ص495 والأمالي للمفيد ص148 وبحار الأنوار ج34 ص157 ونهج السعادة ج2 ص528 والإمامة والسياسة (تحقيق الزيني) ج1 ص131 و (تحقيق الشيري) ج1 ص172.

([4]) نهج البلاغة (بشرح عبده) ج4 ص72 وتاريخ الأمم والملوك ج3 ص330 وتاريخ مدينة دمشق ج63 ص246 وبحار الأنوار ج72 ص212 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج19 ص202.

([5]) راجع: الغارات للثقفي ج1 ص272 وبحار الأنوار ج32 ص373 والغدير ج2 ص142 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص64و67 والأخبار الطوال ص158وراجع: نهج السعادة ج2 ص149 وتاريخ اليعقوبي ج2 ص186 وتاريخ الأمم والملوك ج4 ص74 والكامل في التـاريخ ج3 ص355 وصفين للمنقري = = ص37 والإمامة والسياسة (تحقيق الزيني) ج1 ص88 و (تحقيق الشيري) ج1 ص118 وجواهر المطالب لابن الدمشقي ج1 ص368 وج2 ص74.

([6]) راجع: تاريخ الأمم والملوك ج3 ص451 وأنساب الأشراف ص218 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج11 ص17 وراجع ج19 ص22 وراجع: نهج البلاغة (بشرح عبده) ج4 ص46 وخصائص الأئمة ص114 وكشف المحجة ص181 وبحار الأنوار ج30 ص17 وج32 ص31 و 48 ونهج السعادة ج5 ص225.

([7]) راجع: المحصول للرازي ج4 ص343 وكتاب الفتوح لابن أعثم ج2 ص437.

([8]) الكافئة للمفيد ص9 و 10 وبحار الأنوار ج31 ص492 والجمل للمفيد ص232.

([9]) نهج الحق (مطبوع مع دلائل الصدق) ج3 ق1 ص187 وبحار الأنوار ج31 ص163 و 164 و 308 و 165 والشافي ج4 ص230 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص128.

([10]) إحقاق الحق (الأصل) ص257 و 258 وراجع: بحار الأنوار ج31 ص165 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج3 ص66 والشافي في الإمامة ج4 ص308.

([11]) نهج الحق (مطبوع مع دلائل الصدق) ج3 ق1 ص187 بحار الأنوار ج31 ص165 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج3 ص66 والشافي في الإمامة ج4 ص308.

([12]) نهج الحق (مطبوع مع دلائل الصدق) ج3 ق1 ص187 وراجع: إحقاق الحق (الأصل) ص257.

([13]) نهج البلاغة (بشرح عبده) ج1 ص35 (الخطبة رقم 23) والإحتجاج ج1 ص287 والطرائف لابن طاووس ص418 وكتاب الأربعين للشيرازي ص168 وبحار الأنوار ج29 ص536 ومناقب أهل البيت للشيرواني ص458 والنص والإجتهاد ص384 والغدير ج7 ص82 وج9 ص315 و 357 و 381 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص197 والدرجات الرفيعة ص35.

([14]) بحار الأنوار ج31 ص164 والشافي ج4 ص307 و 308 وأنساب الأشراف ج5 ص101 والغدير ج9 ص70 و 315 و 375 ونهج السعادة ج1 ص176 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج3 ص65.

([15]) راجع: بحار الأنوار ج31 ص164 وأنساب الأشراف ج5 ص98 والغدير ج9 ص69 و 375 والشافي في الإمامة ج4 ص308 ونهج السعادة ج1 ص214 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج3 ص66 وراجع ج1 ص200 وتاريخ المدينة لابن شبة ج4 ص1263 وراجع ص1221 و 1265 وراجع: المصنف لابن أبي شيبة ج8 ص685 والفصول المختارة ص229 وتفسير ابن أبي حاتم ج10 ص3324 وتمهيد الأوائل ص515 و 528 و 555 وتفسير القرآن العظيم ج4 ص292 والطبقات الكبرى لابن سعد ج3 ص69 والثقات لابن حبان ج4 ص352 وتاريخ مدينة دمشق ج12 ص295 وج39 ص370 و 453 والصحاح للجوهري ج1 ص73 ولسان العرب ج1 ص160 وتاج العروس ج1 ص253.

([16]) راجع: نهج البلاغة (بشرح عبده) ج1 ص75 و 76 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج4 ص81 وكشف المحجة لابن طاووس ص181 وبحار الأنوار ج31 ص499 والغدير ج9 ص69 ونهج السعادة ج5 ص222 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص126 وسير أعلام النبلاء ج2 ص527.

([17]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص158 وتمهيد الأوائل ص526 والطبقات الكبرى لابن سعد ج3 ص74 وتاريخ مدينة دمشق ج39 ص409 وراجع ج45 ص499 وتاريخ الإسلام للذهبي ج3 ص456 وتاريخ الأمم والملوك ج4 ص394 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص424 وراجع ج4 ص197 والكامل في التاريخ ج3 ص179 والبداية والنهاية ج7 ص207 وتاريخ المدينة لابن شبة ج4 ص1232 والغدير ج9 ص207.

([18]) الجمل للشيخ المفيد ص99 وراجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9 ص22 و 23 وبحار الأنوار ج31 ص461 وكتاب الأربعين للشيرازي ص202 والتحفة العسجدية ص131 وحياة الإمام الحسين للقرشي ج1 ص235.

([19]) الآية 23 من سورة الأحزاب.

([20]) الخصال ج2 ص 375 ـ 376 وج38 ص177 ـ 178 وبحار الأنوار ج31 ص348 ـ 350 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج3 ص140 والإختصاص للمفيد ص174 وحلية الأبرار ج2 ص372.

([21]) راجع: الغدير ج9 ص179 و 184 والفتنة ووقعة الجمل لسيف بن عمر الضبي ص21 والعثمانية للجاحظ ص243 والفصول المختارة ص246 والصراط المستقيم ج3 ص117 وبحار الأنوار ج30 ص505 وتاريخ الأمم والملوك ج3 ص405 و 409.

([22]) الآية 91 من سورة يونس.

([23]) نهج البلاغة (بشرح عبده) ج2 ص233 والغدير ج8 ص381 وج9 ص69 وشرح نهج البلاغة ج13 ص296 وبحار الأنوار ج31 ص473 وأعيان الشيعة ج1 ص443 وتاريخ الأمم والملوك ج3 ص398 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص433 وعن العقد الفريد ج2 ص274 و (ط أخرى) ج4 ص309 ومصادر نهج البلاغة ج3 ص189 عن العديد من المصادر، وبهج الصباغة ج6 ص79 عن الطبري، وفيه: والله، ما زلت أذب عنه حتى إني لأستحي الخ..

([24]) النصائح الكافية ص114 والغدير ج7 ص147 وج8 ص264 عن الصواعق المحرقة ص33 و (ط أخرى) ص55 عن الدارقطني. وراجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج13 ص220 والعثمانية للجاحظ ص283.

([25]) بحار الأنوار ج31 ص307 وتقريب المعارف ص294.

([26]) راجع: صفين للمنقري ص221 والفتوح لابن أعثم ج3 ص128.

([27]) الفتوح لابن أعثم ج2 ص153 ـ 155 و (ط دار الأضواء) ج2 ص374.

([28]) الآية 28 من سورة إبراهيم.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان