قال الطبرسي:
«روي أن يوماً من الأيام قال عثمان بن عفان لعلي بن أبي طالب «عليه
السلام»: إن تربصت بي فقد تربصت بمن هو خير مني ومنك..
قال علي «عليه السلام»:
ومن هو خير مني؟!
قال:
أبو بكر وعمر.
فقال علي «عليه السلام»:
كذبت، أنا خير منك ومنهما، عبدت الله قبلكم، وعبدته بعدكم»([1]).
ونقول:
أولاً:
يلاحظ: إنه «عليه السلام» لم يعر اهتماماً لإتهام عثمان إياه بالتربص
به، فإن أمثال هذه الإتهامات التي لا تستند إلى دليل لا تحتاج إلا إلى
إلإهمال، وعدم الإكتراث بها.
يضاف إلى ذلك:
أن لصاحب الحق أن يتربص بالغاصب حقه لاسترجاعه منه، بالطرق المشروعة
التي يرضاها الله تعالى..
ثانياً:
إنه «عليه السلام» تصدى لرد دعوى لها تأثيرها على إيمان الناس، وهي أن
في الأمة من هو أفضل من علي «عليه السلام»، فلو سكت علي «عليه السلام»
عن ذلك لاعتبر الناس ذلك إقراراً منه، ولزعموا: أن هذا كان من المسلمات
في ذلك العهد..
وهذا يمثل إخلالاً بأحد شرائط الإمامة، فإن الإمام يجب
أن يكون أفضل الخلق بعد الرسول «صلى الله عليه وآله»، فإذا ظهر أن هناك
من هو أفضل من علي، فذلك الأفضل يكون هو الإمام لا علي «عليه السلام»..
فكان لا بد من التصدي لهذا الإدعاء، وبيان بطلانه.
ثالثاً:
لم يقتصر «عليه السلام» على مجرد إنكار ما ادعاه عثمان، إذ قد يقال: إن
دعاوى الأفضلية قد اختلفت، فقبول قول علي ليس بأولى من قبول قول عثمان،
لا سيما وأن علياً «عليه السلام» يجر النار إلى قرصه، وليس كذلك حال
عثمان..
فكان لا بد من إبطال دعوى عثمان بالدليل والحجة، وهذا
ما فعله «عليه السلام»، حين استدل بقوله: «عبدت الله قبلكم، وعبدته
بعدكم».
وهنا أسئلة ثلاثة تقول:
أولاً:
هل مجرد السبق إلى العبادة، وطول زمانها يوجب الأفضلية؟!..
ثانياً:
هل استمرار العبادة إلى زمان لاحق على زمان الآخرين يوجب الأفضلية
أيضاً؟!.
ثالثاً:
ما معنى أن يكون علي «عليه السلام» قد عبد الله بعد عثمان؟ مع أنه هو
وعثمان كانا لا يزالان على قيد الحياة، ولا دليل على أنه «عليه السلام»
سيبقى حياً إلى ما بعد عثمان، ولا يصح الإحتجاج على شخص إلا بما هو
مقبول عنده، ومسلّم ومعلوم لديه.
ونجيب:
أولاً:
بالنسبة لسبق العبادة، فالمقصود: هو أنه «عليه السلام» منذ خلقه الله
لم يعبد غير الله تبارك وتعالى.. أما الآخرون فعبدوا الأصنام، وظلموا
أنفسهم، قبل إسلامهم، وقد قال تعالى حكاية عن إبراهيم «عليه السلام»:
﴿وَإِذِ
ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ
إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ
لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾([2]).
فلا يحق لغير علي «عليه السلام» ـ بمقتضى هذه الآية أن
يتصدى لإمامة الأمة.
ثانياً:
بالنسبة لعبادته لله تعالى بعدهم نقول:
إنه «عليه السلام» يشير فيه إلى أن عبادته لله لم
تنقطع، بل استمرت إلى تلك اللحظة، وقد أثبتت الوقائع والتضحيات أنه
«عليه السلام» كان في موقع التسليم والرضا بكل ما يجري عليه..
أما الآخرون..
فلا شيء يثبت أنهم أخلصوا العبادة لله، بل قال تعالى عنهم: أنهم أهمتهم
أنفسهم حين كان علي «عليه السلام» باذلاً نفسه في سبيل الله.
وكان «عليه السلام» الراضي والمسلم والمطيع لحرفية
وصايا الرسول «صلى الله عليه وآله» حين كان الآخرون يجهدون في أخذ حقه،
ويعرضون أنفسهم لغضب ابنة رسول الله «صلى الله عليه وآله» التي يغضب
الله لغضبها ويرضى لرضاها، حتى ماتت وهي مهاجرة لهم..
كما أن عثمان لا يزال يهيمن على شؤون الخلافة التي هي
حق علي «عليه السلام»، وعلي يسكت، بل ويدافع عن الدين والأمة، ويكفل
إيمان الناس، وأمن المجتمع من الفتن حتى لو لزم من ذلك الدفاع عن غاصب
حقه وهو عثمان نفسه..
فهو لم يغير ولم يبدل، بل وفى بما عاهد عليه الله، ولكن
غيره لم يكن كذلك..
عن علي «عليه السلام»، قال:
أرسل إليَّ عثمان في الهاجرة، فتقنعت بثوبي وأتيته، فدخلت وهو على
سريره ـ وفي يده قضيب وبين يديه مال دثر، صبرتان من ورق وذهب ـ فقال:
دونك خذ من هذا حتى تملأ بطنك، فقد أحرقتني.
فقلت:
وصلتك رحم!
إن كان هذا المال ورثته، أو أعطاكه معط، أو اكتسبته من
تجارة، كنت أحد رجلين: إما آخذ وأشكر، أو أوفر وأجهد.
وإن كان من مال الله، وفيه حق المسلمين، واليتيم، وابن
السبيل، فوالله ما لك ان تعطينيه، ولا لي أن آخذه.
فقال:
أبيت والله إلا ما أبيت. ثم قام إلي بالقضيب فضربني، والله ما أرد يده
حتى قضى حاجته.
فتقنعت بثوبي، ورجعت إلى منزلي،
وقلت:
الله بيني وبينك، إن كنت أمرتك بمعروف، ونهيتك عن منكر([3]).
ونقول:
1 ـ
المال الدثر:
الكثير.
2 ـ
لقد أراد عثمان أن يشتري علياً «عليه السلام» بالمال..
ففشلت المحاولة، وبقي «عليه السلام» ذلك النور الذي لا يخبو، والخير ـ
الذي ـ لا ينتهي، وماء الحياة حيث لا ينضب، ولا يمكن أن يكون إلا العذب
الزلال..
وتبقى الوصمة على جبين أولئك الذين يظنون به الظنون،
وعليه يتجنون، وبمقامه يستخفون..
3 ـ
قد أظهر عثمان أنه من مدرسة أخرى غير مدرسة علي «عليه
السلام»، التي هي مدرسة النبوة والوحي.. فهو يحاول أن يرشو علياً «عليه
السلام» بالمال، فإذا فشلت محاولته تعدى عليه بالضرب، فأظهر بذلك أنه
ممن لا يقيمون وزناً للرجال، ولا يرون لهم قيمة إلا بمقدار حفنة من
المال، يبذلونها لشراء ضمائرهم، ويسممون بها وجدانهم، وتمرض بها
قلوبهم، وتمسخ بها أرواحهم وحقيقتهم الإنسانية، ولا يبقى منها سوى مجرد
صورة تحمل في حناياها مضموناً آخر، لا يشبه الإنسان في شيء، ولا تستطيع
تلك الصورة أن تحكيه، أو أن تنطق به، أو أن تعبر عنه..
4 ـ
لقد كان أسلوب عثمان، وهو يحاول إعطاء المال لعلي
مقيتاً وقاسياً، ومهيناً، والغريب أنه بدا وكأنه واثق من تعلق علي
«عليه السلام» بذلك المال، واندفاعه إليه، بمجرد عرضه عليه.. وكان يحسب
أنه متلهف له شديد الشره إليه، ولذلك قال له: «خذ هذا حتى تملأ بطنك»..
وهل كان عثمان يظن أن زهد علي «عليه السلام» كان
مصطنعاً، يخفي وراءه حب الدنيا، والتعلق بها. وأنه متى قدر عليها،
فسيكف عن إظهار الخلاف، وسيحيد عن جادة العدل والإنصاف؟!
5 ـ
إن عثمان لم يحمل العصا بيد والجزرة بيد، بل هو قد حمل
العصا في الحالتين. فهو يريد أن يعطي المال بالقوة، وبتوجيه الإهانات،
وبالتعدي وانتهاك الحرمات لمن يعطيه.
فهو يضرب أقدس البشر حين يأخذ المال، ويضربه إن امتنع
عن أخذه.
وهذا غاية ما وصل إليه هؤلاء القوم في أساليبهم لقهره
«صلوات الله وسلامه عليه».
6 ـ
ما معنى قوله: «حتى تملأ بطنك»؟! فإن كان علي «عليه
السلام» نهماً إلى المال، شديد الشره إليه، لم يكن بمقدور عثمان ولا
غير عثمان أن يشبعه منه.
فقد روي عن علي «عليه السلام» نفسه
قوله:
منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب مال([4]).
7 ـ
وكانت الفاجعة الأشد إيلاماً لعثمان، والحرقة التي لا
يجد ما يطفئوها هي أن يرى علياً «عليه السلام» ليس فقط لا يقبل عطيته،
وإنما هو يقرعه ويؤنبه عليها أشد التأنيب، ويثبت له أنه قد أخطأ
المرمى، وخانه التوفيق فيما أقدم عليه.. ولذلك بادر إلى إهانته مرة
أخرى، ولكن بالضرب هذه المرة!!
8 ـ
ثم إنه «عليه السلام» وضع عثمان أمام معادلة تتمثل
بخيارين ليس له فيهما إلا المساءة، وهما:
الخيار الأول:
أن يكون هذا المال حلالاً قد حازه عثمان بالإرث من أسلافه، أو أعطاه
إياه معطٍ، أو اكتسبه من تجارة، فهو وإن كان له أن يعطيه لمن شاء، لكن
ذلك لا يُلْزِمُ الآخر بقبول تلك العطية، فإن رأى أن قبولها لا يضيره،
ولا يرتب عليه أية مسؤولية، فله أن يقبله، وإن رأى أنها عطية تخفى
وراءها نوايا، ومطالب، فبإمكانه أن يردها على معطيها..
وقد أظهرت طريقة عثمان في العطاء،
وأقواله حينها:
أن الأمر ليس بعيداً عن هذه المعاني السلبية..
الخيار الثاني:
أن يكون هذا المال للمسلمين، ولا يراعي عثمان فيه أحكام الشرع الشريف،
بل هو يأخذه من اليتيم وابن السبيل، وسائر المسلمين، ويريد أن يعطيه
لهذا وذاك، حسبما يحلو له.. والحال أنه ليس لعثمان أن يعطيه لغير أهله،
ولا يجوز لعلي أن يأخذه إذا كان لغيره..
9 ـ
واللافت: أن عثمان لم يدع أن المال ماله، لا بالوراثة،
ولا بالكسب بالتجارة، ولا بغير ذلك، بل بادر إلى استعمال عضلاته، ليضيف
إلى مخالفاته تلك كلها مخالفة جديدة، ألا وهي العدوان على وصي النبي
«صلى الله عليه وآله»، من دون أي داع إلى ذلك، إذ لا يجب على علي «عليه
السلام» أن يقبل من عثمان عطاياه، حتى لو كانت من ماله الخالص، فلماذا
كان هذا العدوان الذي يتعرض له يا ترى؟!..
10 ـ
لم يكن علي «عليه السلام» عاجزاً عن رد الصاع صاعين،
وعثمان وجميع الناس يعلمون أنه قادر على ذلك، ولكنه «عليه السلام» يرى
أن هذا سيكون بمثابة انتقام لنفسه ممن يظلمه.. وهو لا يريد أن يثأر
لنفسه، حتى لو كان مظلوماً.. كيف وهو يقول: (لأسلمن (أو لأسالمن) ما
سلمت أمور المسلمين، ولم يكن جور إلا علي خاصة)([5]).
كما أنه «عليه السلام» قد تعرض لما هو أفحش من ضرب
عثمان له، وذلك حين هجموا عليه في بيته، وأحرقوا بابه، وضربوا زوجته،
وعصروها بين الباب والحائط، ولطموها على خدها، ورفسوها حتى اسقطت
جنينها، و.. و.. إلخ..
ومن البديهي:
أن الضرب بالسوط أهون بمراتب كثيرة من ذلك كله.. ولا سيما إذا كان ذلك
مكافأة له على أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر.. كما صرح به «عليه
السلام» حين قال:
«الله بيني وبينك إن كنت أمرتك بمعروف ونهيتك عن منكر»([6]).
11 ـ
وهذه الحادثة تظهر لنا أيضاً مدى عظمة علي «عليه
السلام» وبعد نظره، وثاقب فكره.. وتظهر أيضاً طبيعة الناس الذين فرضت
عليه الظروف أن يتعامل معهم، ومدى البون الشاسع بينه وبينهم..
علي
يرفع العصا على عثمان:
روى الطبراني من طريق سعيد بن المسيب، قال:
كان لعثمان آذن، فكان يخرج بين يديه
إلى الصلاة، قال:
فخرج يوما فصلى والآذن بين يديه. ثم جاء فجلس الآذن ناحية، ولف ردائه
فوضعه تحت رأسه واضطجع، ووضع الدرة بين يديه، فأقبل علي في إزار ورداء
وبيده عصا، فلما رآه الآذن من بعيد قال: هذا علي قد أقبل.
فجلس عثمان فأخذ عليه رداءه، فجاء
حتى قام على رأسه، فقال:
اشتريت ضيعة آل فلان و لوقف رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
في مائها حق؟! أما إني قد علمت إنه لا يشتريها غيرك.
فقام عثمان وجرى بينهما كلام لا أذكره حتى ألقى الله عز
وجل، وجاء العباس فدخل بينهما، ورفع عثمان على علي الدرة، ورفع علي على
عثمان العصا، فجعل العباس يسكنهما، ويقول لعلي: أمير المؤمنين.
ويقول لعثمان:
ابن عمك.
فلم يزل حتى سكتا.
فلما أن كان من الغد رأيتهما وكل منهما آخذ بيد صاحبه
وهما يتحدثان([7]).
ونقول:
لا بأس بالتأمل في الأمور التالية:
1ـ
قال العلامة الأميني:
يعلمنا الحديث:
أن الخليفة ابتاع الضيعة وماءها، وفيه حق لوقف رسول الله لا يجوز
ابتياعه، فإن كان يعلم بذلك؟! ـ وهو المستفاد من سياق الحديث حيث إنه
لم يعتذر بعدم العلم، وهو الذي يلمح إليه قول الإمام
«عليه السلام»:
وقد علمت أنه لا يشتريها غيرك ـ فبأي مبرر استساغ ذلك الشراء؟
وإن كان لا يعلم؟! فقد أعلمه الإمام
«عليه السلام»،
فما هذه المماراة والتلاحي ورفع الدرة؟! الذي اضطر الإمام إلى رفع
العصا، حتى فصل بينهما العباس، أوفي الحق مغضبة؟
وهل يكون تنبيه الغافل، أو إرشاد الجاهل مجلبة لغضب
الإنسان، الديني؟! فضلاً عمن يقله أكبر منصة في الإسلام([8]).
2 ـ
إن ذيل الرواية، وإن كان أريد به إظهار أن حالة من
الصفاء والوئام كانت تهيمن على العلاقة بين علي «عليه السلام» وعثمان..
ولكن يعسر على الإنسان المنصف أن يقنع نفسه بذلك، فإنه يعلم أن عثمان
لم يقدِّم ما يدل على أنه قد خضع لحكم الله، ولم يرجع الأمور إلى
نصابها.
والكل يعلم أيضاً:
أن علياً «عليه السلام» لا يقنعه ولا يرضيه ما هو أقل من ذلك، فمن أين
يأتي الوئام والصفاء للعلاقة بين رجلين غضب أحدهما لنفسه، وغضب الآخر
لله؟!..
3 ـ
ليت ابن المسيب ذكر لنا ذلك الكلام الذي جرى بين علي
«عليه السلام» وعثمان لننظر فيه، ونستفيد من مضامينه الفكرة والعبرة
والموقف..
غير أن ما نود أن نعرفه أيضاً هو السبب الذي دعا ابن
المسيب إلى كتمانه، وإلى أن يتعهد بأن لا يذكره طيلة حياته.
فهل اتخذ هذا القرار استفظاعاً للمضامين التي وردت فيه،
أو لما تضمنته من فضائح، لا يريد البوح بها حفاظاً على ماء الوجه لمن
صدرت منه؟! علماً بأننا على يقين بأن علياً «عليه السلام» قد غضب لله
تعالى.. وبأنه مع الحق والقرآن، والحق والقرآن معه بنص رسول الله «صلى
الله عليه وآله»، فلم يصدر منه إلا الحق..
فهل أفصح علي «عليه السلام» عما دل على وجود مخالفات
كبيرة وفضائح خطيرة لدى عثمان؟! ولا يحب ابن المسيب إنقاص قدر عثمان
بإطلاع الناس عليها؟!
أم أنه كتمها خوفاً وتقية من حزب عثمان، حتى لا يوصلوا
إليه الأذى بسبب ذلك؟!
أم أنه قد صدر من عثمان في مواجهة علي «عليه السلام»،
ما يضيف مخالفات جديدة إلى مخالفاته الكبيرة، الأمر الذي يؤكدها،
ويزيدها وضوحاً، ويثبت إصراره على مخالفة أحكام الله تعالى.. ويضيف إلى
مخالفته التي يطالبه علي «عليه السلام» بها مثيلات لها تضارعها أو تزيد
عليها، في الهجنة والغرابة؟!
4 ـ
أضاف عثمان في موقفه هنا إلى تعديه على وقف رسول الله
«صلى الله عليه وآله» مخالفات عديدة، ومنها: إصراره على ذلك، ثم
مخاصمته من جاء لينصحه ويرده إلى الحق، وينجيه من المؤاخذة الإلهية،
وهي مخاصمة وصلت إلى حد المبادرة إلى العنف، واستعمال الدرة، مع أن
المتوقع منه هو أن يستحي ويعتذر من إقدامه على التصرف في الوقف، وأن
يشكر الذي جاء لينصحه ويجنبه المؤاخذة الإلهية!!
قال المعتزلي:
وروى شيخنا أبو عثمان الجاحظ، عن زيد بن أرقم، قال: سمعت عثمان وهو
يقول لعلي
«عليه السلام»:
«أنكرت علي استعمال معاوية، وأنت تعلم أن عمراً استعمله».
قال علي «عليه السلام»:
«نشدتك الله! ألا تعلم أن معاوية كان أطوع لعمر من يرفأ غلامه! إن عمر
كان إذا استعمل عاملاً وطئ على صماخه، وإن القوم ركبوك وغلبوك،
واستبدوا بالأمر دونك».
فسكت عثمان([9]).
ونقول:
1 ـ
إن هذا يشير إلى عمق تأثير عمر في الناس، حتى إنهم
كانوا يحتجون بأفعاله لتبرير أفعالهم، بل هم يحتجون بها على التشريع
والأحكام، حتى مع مخالفتها لنص القرآن، ولما سنه رسول الله «صلى الله
عليه وآله»..
وقد تحدثنا عن هذا الأمر في موضع آخر من هذا الكتاب..
2 ـ
قد بين أمير المؤمنين «عليه السلام» الفرق بين عمر
وعثمان فيما يرتبط بمعاملة الولاة، والهيمنة عليهم، فلا حاجة إلى
المزيد من البسط في ذلك.
عن صهيب مولى العباس قال:
إن العباس قال لعثمان: أذكرك الله في أمر ابن عمك، وابن خالك، وصهرك،
وصاحبك مع رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فقد بلغني أنك تريد أن تقوم
به وبأصحابه..
فقال:
أول ما أجيبك به أني قد شفعتك، إن علياً لو شاء لم يكن أحد عندي إلا
دونه، ولكنه أبى إلا رأيه..
ثم قال لعلي «عليه السلام» مثل قوله لعثمان.
فقال علي «عليه السلام»:
لو أمرني عثمان أن أخرج من داري لخرجت([10]).
ونقول:
1 ـ
إن شكاوى عثمان من علي قد بدأت قبل تحرك المصريين،
وقدوم أهل الأمصار إلى المدينة، ومحاصرته، وقد صرحوا: بأنها بدأت بعد
أن مضت ست سنين من خلافته([11]).
ونحن نقول:
بل بدأت من أول أيام خلافته، حيث منع من الإقتصاص من عبيد الله بن عمر،
لقتله الهرمزان، وجفينه، وبنت أبي لؤلؤة، حسبما قدمناه.. ثم توالت
المخالفات بتوليته بعض من لا مجال للسكوت على توليته، وبغير ذلك من
أمور.
2 ـ
إن مراد علي «عليه السلام» بقوله: لو أمرني عثمان أن
أخرج من داري لخرجت هو التدليل على أنه «عليه السلام» لا يطلب
بإعتراضاته على عثمان إلا إصلاح الأمور، وحفظ عثمان وإعادته إلى طريق
العدل، ومراعاة أحكام الشريعة في ممارساته السلطوية، وبيان أنه «عليه
السلام» ليس فقط لا يطلب الحصول على منفعة شخصية، وإنما هو على استعداد
للتضحية بكل ما يملك من أجل إصلاح الأمور..
3 ـ
إن علياً «عليه السلام» لو كان يستطيع السكوت على تلك
المخالفات لفعل.. ولكن ماذا يصنع إذا كان الأمر بالمعروف ودفع الظلم،
والتعديات، وحمل الناس على مراعات الأحكام الشرعية واجب شرعي، لا مجال
للتخلي عنه بأي حال ؟!
4 ـ
قد أظهر هذا النص أن عثمان كان مصمماً على مهاجمة علي
«عليه السلام» وأصحابه. وأن ذلك قد بلغ العباس بن عبد المطلب، فطالبه
به، ولم ينكره عثمان.
وهذا يدل أن عثمان ومن معه كانوا يشعرون بأنهم يملكون
من القوة والمنعة، والسلطان ما يخولهم الدخول في مخاطرة كهذه..
5 ـ
إن مبادرة عثمان إلى توسيط العباس أظهرت: أنه لم يكن
مطمئناً إلى أن نتيجة ما سيقدم عليه ستأتي وفق هواه..
6 ـ
إن كلمات عثمان للعباس عن علي تشير إلى أنه يطمح إلى أن
يصبح علي «عليه السلام» في خدمة مشروعه، ويريد منه أن يكون السامع
المطيع، وأن يتخلى عن قناعاته، وعما يفكر فيه، ويصير تابعاً وخاضعاً.
7 ـ
بالنسبة لقوله: لو أمرني أن أخرج من داري لخرجت، نقول:
ذكر الثقفي في تاريخه، عن عبد الله
شيدان السلمي، أنه قال لأبي ذر:
ما لكم ولعثمان؟! ما تهوِّن عليه.
فقال:
بلى والله، لو أمرني أن أخرج من داري لخرجت ولو حبوا، ولكنه أبى أن
يقيم كتاب الله([12]).
فنسب هذه الفقرة الأخيرة إلى أبي ذر، مع أن النص
المتقدم نسبها إلى علي «عليه السلام»..
غير أننا نقول:
لا مانع من أن يقولها علي «عليه السلام» وأبو ذر معاً،
حين تقتضي المناسبة ذلك، لا سيما وأن أبا ذر ملتزم بخط علي «عليه
السلام»، ويتعلم منه، ويأخذ عنه..
والتوافق في أمثال هذه الأمور كثير، وشائع..
8 ـ
ذكر الثقفي في تاريخه نصاً آخر، يبدو أنه قد تعرض
للتلاعب. وهو: أن عثمان قد وصف أبا ذر بأنه «كذاب»، فلما اعترض عليه
علي «عليه السلام» أكد عثمان ذلك، مستشهداً ومستنداً إلى الفقرة
المذكورة، قال الثقفي: إن أبا ذر ألقي بين يدي عثمان، فقال يا كذاب!.
فقال علي «عليه السلام»:
ما هو بكذاب.
قال:
بلى، والله، لو أمرني أن أخرج من داري لخرجت ولو حبوا، ولكنه أبى أن
يقيم كتاب الله([13]).
ومن الواضح:
أن هذا الكلام لا معنى له.. فإن عثمان هو المتهم بأنه أبى أن يقيم كتاب
الله، وأبو ذر وعلي «عليه السلام» وسائر الصحابة هم الذين يطالبون
عثمان بالعودة إلى كتاب الله تعالى، والعمل بسنة رسوله «صلى الله عليه
وآله»..
قال العلامة الأميني:
«وبعد هذه كلها يزحزحه «عليه السلام» عن مدينة الرسول «صلى الله عليه
وآله» ويقلقه من عقر داره، ويخرجه إلى ينبع مرة بعد أخرى قائلاً لابن
عباس:
قل له فليخرج إلى ماله بالينبع، فلا أغتم به ولا يغتم
بي. ألا مسائل الرجل عما أوجب أولوية الإمام الطاهر المنزه عن الخطل،
المعصوم من الزلل بالنفي ممن نفاهم من الأمة الصالحة ؟!
أكان ـ بزعمه ـ علي «عليه السلام» شيوعياً إشتراكياً،
شيخاً كذاباً([14])،
كأبي ذر، الصادق المصدق؟!
أم كان عنده دويبة سوء، كابن مسعود، أشبه([15])
الناس هدياً ودلاً، وسمتا برسول الله «صلى الله عليه وآله»؟!
أم كان الرجل يراه ابن مَتْكاء، عاضاً أير أبيه، طاغياً
كذاباً، يجترئ عليه، ويجرئ عليه الناس([16])،
كعمار جلدة ما بين عيني النبي «صلى الله عليه وآله»؟!
أم كان يحسبه معالجاً نيرنجاً ككعب بن عبدة، الصالح
الناسك؟!
أم كان يراه تاركاً الجبن، واللحم، والجمعة، والتزويج،
كعامر بن عبد قيس، القارئ الزاهد المتعبد؟!
أم كان الإمام متكلما بألسنة الشياطين، غير عاقل ولا
دين له، كصلحاء الكوفة المنفيين؟!([17]).
حاشا صنو النبي الأقدس عن أن يرمى بسقطة في القول أو في
العمل بعد ما طهره الجليل، واتخذه نفساً لنبيه، واختارهما من بين بريته
نبياً ووصياً.
وحاشا أولئك المنفيون من الصحابة الأولين الأبرار،
والتابعين لهم بإحسان عن تلكم الطامات والأفائك، والنسب المفتعلة.
نعم..
كان يرى الرجل (أي عثمان) كلاً من أولئك الصفوة البررة، الآمرين
بالمعروف والناهين عن المنكر، طاغياً اتخذ علياً «عليه السلام» سلماً.
ويعده كهفاً وملجأً، يدافع عنهم بوادر غضب الخليفة، ويحول بينهم وبين
ما يرومه من عقوبة تلك الفئة الصالحة الناقمة عليه لما ركبه من
النهابير.
فَدَفْع هذا المانع الوحيد عن تحقق هواجس الرجل، كان
عنده أولى بالنفي من أولئك الرجال المنفيين، ولولاه لكان يشفي منهم
غليله، ويتسنى له ما كان يبتغيه من البغي عليهم، والله يدافع عن الذين
آمنوا، وإنه على نصرهم لقدير.
على أنه ليس من المعقول أن يكون من يأوي إلى مولانا
أمير المؤمنين وآواه هو، طاغياً كما يحسبه هذا الخليفة، فإنه لا يأوي
إلى مثله إلا الصالح الراشد من المظلومين. وهو «عليه السلام» لا يحمي
إلا من هو كذلك، وهو ولي المؤمنين، وأمير البررة، وقائد الغر المحجلين،
وإمام المتقين، وسيد المسلمين، كل ذلك نصا من الرسول الصادق الأمين.
وليتني أدري مم كان يغتم عثمان من مكان أمير المؤمنين
«عليه السلام» بالمدينة؟!
ووجوده رحمة ولطف من الله سبحانه وتعالى على الأمة
جمعاء، لا سيما في البيئة التي تقله، يكسح عن أهلها الفساد، ويكبح جماح
المتغلبين، ويقف أمام نعرات المتهوسين، و يسير بالناس على المنهج
اللاحب سيراً سجحاً»([18]).
انتهى كلام العلامة الأميني «رحمه الله».
ونضيف إلى ما تقدم:
1 ـ
إننا نلاحظ: هذا التردد الظاهر لعثمان في قراراته،
الدال على عدم وضوح الرؤية لديه، فلا يدري ما هو من مصلحته مما لا يكون
منها..
2 ـ
إنه لم يحسب عواقب تردده هذا، وماله من أثر على نظرة
الناس إليه، وتعاملهم معه..
3 ـ
إنه يدل على مدى تحمل أمير المؤمنين «عليه السلام»،
ومدى تواضعه وصبره على هذا الرجل الذي لا يعرف أقدار الرجال، ولا
يعطيهم بعضاً من حقهم في أن يكون لهم رأيهم وقرارهم، وفي أن تحفظ
كرامتهم.
فهو يتعامل مع أفضل الخلق وأكرمهم على الله، وكأنه
يريده ألعوبة في يده، بلا قرار، وبلا رأي، وبلا حرية، إنه يريد أن
يتصرف به كيف يشاء، دون أن يكون له ولو حق إبداء الرأي، وإسداء النصيحة
له..
4 ـ
إن أحداً من الناس مهما كان شأنه لا يرضى بأن يصبح
ألعوبة في يد أحد، فإن هذا ثقيل على النفوس، فكيف يجوز أن يطلب عثمان
ذلك من إمام الأحرار، وسيد الأبرار، لا سيما إذا كان المطلوب هو حماية
التصرفات الخاطئة، وتبريرها من دون أن يكون هناك أي أمل بالتراجع
عنها..
إنه يريده حاملاً لأثقاله، ساعياً في تنفيذ رغباته،
واضعاً عقله وحكمته وفهمه للأمور جانباً، يريده بلا وجدان، وبلا ضمير،
وبلا إحساس بالمسؤولية الشرعية والإنسانية..
([1])
الإحتجاج (ط النجف سنة 1386 هـ) ج1 ص229 وبحار الأنوار ج31
ص464.
([2])
الآية
124 من سورة البقرة.
([3])
شرح نهج البلاغة للمعنزلي ج9 ص16 وأخبار الموفقيات للزبير بن
بكار ص612 وبحار الأنوار ج31 ص452 والإمام علي بن أبي طالب
للهمداني ص730.
([4])
نهج البلاغة (بشرح عبده) ج4 ص105 والخصال ص53 ومشكاة الأنوار
للطبرسي ص246 وبحار الأنوار ج1 ص168 وج70 ص161 وميزان الحكمة
ج1 ص587 وج3 ص2071.
([5])
راجع: نهج البلاغة (بشرح عبده) ج1 ص124 وبحار الأنوار ج29 ص612
= = والإمام علي بن أبي طالب «عليهم السلام» للهمداني ص703
وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص166.
([6])
راجع: بحار الأنوار ج31 ص452 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9
ص16.
([7])
المعجم الأوسط للطبراني ج8 ص363 حديث7740، والغدير ج8 ص230 و
231 ومجمع الزوائد ج7 ص226 وراجع: أنساب الأشراف (ط مؤسسة
الأعلمي) ص132.
([9])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9 ص24 وراجع: العبر وديوان المبتدأ
والخبر ج2 ق2 ص143 وجواهر المطالب لابن الدمشقي ج2 ص183
والنصائح الكافية ص208 وتاريخ الأمم والملوك ج3 ص377 ونهج
السعادة ج1 ص167 والكامل في التاريخ ج3 ص152 والغدير ج9 ص159.
([10])
أنساب الأشراف ج5 ص14 والغدير ج9 ص76 وراجع: بحار الأنوار ج31
ص268 و 271 ومجمع الزوائد ج4 ص208 و 209 والمصنف لابن أبي شيبة
ج8 ص686 وتقريب المعارف لأبي الصلاح الحلبي ص261.
([11])
راجع: كنز العمال ج5 ص714 وإمتاع الأسماع ج5 ص297 وأنساب
الأشراف ج6 ص133 والطبقات الكبرى لابن سعد ج3 ص64 وتاريخ
الإسلام للذهبي ج3 ص431 وفتح الباري ج13 ص185 وراجع: بحار
الأنوار ج33 ص350 ومستدرك سفينة البحار ج1 ص305 وشرح نهج
البلاغة للمعتزلي ج2 ص274 وج5 ص80 والأعلام للزركلي ج4 ص226
ونفس الرحمن في فضائل سلمان ص259.
([12])
بحار الأنوار ج31 ص271 وتقريب المعارف لأبي الصلاح الحلبي
ص264.
([13])
بحار ج31 ص271 والمصنف لابن أبي شيبة ج8 ص686 وتاريخ مدينة
دمشق ج39 ص263 و 264 و 265 وتاريخ الإسلام للذهبي ج3 ص432
وتقريب المعارف لأبي الصلاح الحلبي ص264.
([14])
هذه أقوالهم في أبي ذر.
([15])
هذا ما رواه أهل السنة في حق ابن مسعود، مع أن هذه الصفات هي
صفات جعفر بن أبي طالب «رضوان الله تعالى عليه».
([16])
هذه كلمات عثمان في عمار بن ياسر «رحمه الله».
([17])
الأوصاف السيئة أطلقها عثمان على هؤلاء وأولئك.
([18])
راجع: الغدير ج9 ص61 و 62.
|