صفحة :213-230   

الفصل الثالث: التزوير للدعاية..

التزوير الرخيص:

قال الطبري:

عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان، قالوا: لما كان في شوال سنة خمس وثلاثين خرج أهل مصر في أربع رفاق على أربعة أمراء، المقلل يقول ستمائة، والمكثر يقول ألف، على الرفاق عبد الرحمن بن عديس البلوى، وكنانة بن بشر الليثي، وسودان بن حمران السكوني، وقتيرة بن فلان السكوني، وعلى القوم جميعاً الغافقي بن حرب العكي، ولم يجترئوا أن يعلموا الناس بخروجهم إلى الحرب، وإنما أخرجوا كالحجاج، ومعهم ابن السوداء.

وخرج أهل الكوفة في أربع رفاق، وعلى الرفاق زيد بن صوحان العبدي، والأشتر النخعي، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد الله بن الأصم أحد بني عامر ابن صعصعة، وعددهم كعدد أهل مصر، وعليهم جميعاً عمرو بن الأصم.

وخرج أهل البصرة في أربع رفاق، وعلى الرفاق حكيم بن جبلة العبدي، وذريح بن عباد العبدي، وبشر بن شريح الحطم بن ضبيعة القيسي، وابن المحرش بن عبد بن عمرو الحنفي، وعددهم كعدد أهل مصر، وأميرهم جميعاً حرقوص بن زهير السعدي، سوى من تلاحق بهم من الناس..

فأما أهل مصر فإنهم كانوا يشتهون علياً.

وأما أهل البصرة فإنهم كانوا يشتهون طلحة.

وأما أهل الكوفة فإنهم كانوا يشتهون الزبير.

فخرجوا، وهم على الخروج جميع، وفي الناس شتى لا يشك كل فرقة إلا أن الفلج معها وأن أمرها سيتم دون الأخريين، فخرجوا حتى إذا كانوا من المدينة على ثلاث.

تقدم ناس من أهل البصرة، فنزلوا ذا خشب وناس من أهل الكوفة فنزلوا الأعوص، وجاءهم ناس من أهل مصر، وتركوا عامتهم بذي المروة ومشى فيها بين أهل مصر وأهل البصرة زياد بن النضر، وعبد الله بن الأصم، وقالا:

لا تعجلوا ولا تعجلونا حتى ندخل لكم المدينة، ونرتاد، فإنه بلغنا أنهم قد عسكروا لنا. فوالله، إن كان أهل المدينة قد خافونا، واستحلوا قتالنا، ولم يعلموا علمنا، فهم إذا علموا علمنا أشد، وإن أمرنا هذا لباطل، وإن لم يستحلوا قتالنا، ووجدنا الذي بلغنا باطلاً لنرجعن إليكم بالخبر.

قالوا: اذهبا.

فدخل الرجلان، فلقيا أزواج النبي «صلى الله عليه وآله» وعلياً «عليه السلام» وطلحة والزبير وقالا: إنما نأتم هذا البيت، ونستعفى هذا الوالي من بعض عمالنا ما جئنا إلا لذلك.

واستأذناهم للناس بالدخول فكلهم أبى ونهى.

وقال: بيض ما يفرخن فرجعا إليهم.

فاجتمع من أهل مصر نفر فأتوا علياً، ومن أهل البصرة نفر فأتوا طلحة، ومن أهل الكوفة نفر فأتوا الزبير، وقال كل فريق منهم: إن بايعوا صاحبنا وإلا كدناهم، وفرقنا جماعتهم، ثم كررنا حتى نبغتهم.

فأتى المصريون علياً وهو في عسكر عند أحجار الزيت، عليه حلة أفواف، معتم بشقيقة حمراء يمانية، متقلد السيف، ليس عليه قميص، وقد سرح الحسن إلى عثمان فيمن اجتمع إليه، فالحسن جالس عند عثمان وعلي عند أحجار الزيت، فسلم عليه المصريون، وعرضوا له.

فصاح بهم وأطردهم، وقال: لقد علم الصالحون أن جيش ذي المروة وذي خشب ملعونون على لسان محمد «صلى الله عليه وآله»، فارجعوا لا صحبكم الله.

قالوا: نعم.

فانصرفوا من عنده على ذلك.

وأتى البصريون طلحة، وهو في جماعة أخرى إلى جنب علي، وقد أرسل ابنيه إلى عثمان، فسلم البصريون عليه، وعرضوا له.

فصاح بهم وأطردهم، وقال: لقد علم المؤمنون إن جيش ذي المروة في ذي خشب والأعوص ملعونون على لسان محمد «صلى الله عليه وآله».

وأتى الكوفيون الزبير وهو في جماعة أخرى، وقد سرح ابنه عبد الله إلى عثمان، فسلموا عليه، وعرضوا له، فصاح بهم وأطردهم وقال: لقد علم المسلمون أن جيش ذي المروة وذي خشب والأعوص ملعونون على لسان محمد «صلى الله عليه وآله».

فخرج القوم، وأروهم أنهم يرجعون، فانفشوا عن ذي خشب والأعوص حتى انتهوا إلى عساكرهم، وهي ثلاث مراحل كي يفترق أهل المدينة ثم يكروا راجعين. فافترق أهل المدينة لخروجهم.

فلما بلغ القوم عساكرهم كروا بهم فبغتوهم، فلم يفجأ أهل المدينة إلا والتكبير في نواحي المدينة، فنزلوا في مواضع عساكرهم، وأحاطوا بعثمان وقالوا: من كف يده فهو آمن.

وصلى عثمان بالناس أياماً، ولزم الناس بيوتهم، ولم يمنعوا أحداً من كلام.

فأتاهم الناس فكلموهم، وفيهم علي، فقال: ما ردكم بعد ذهابكم ورجوعكم عن رأيكم؟!

قالوا: أخذنا مع بريد كتاباً بقتلنا.

وأتاهم طلحة، فقال البصريون مثل ذلك.

وأتاهم الزبير، فقال الكوفيون [مثل ذلك.

وقال الكوفيون] والبصريون: فنحن ننصر إخواننا ونمنعهم جميعاً. كأنما كانوا على ميعاد.

فقال لهم علي «عليه السلام»: كيف علمتم يا أهل الكوفة! ويا أهل البصرة! بما لقي أهل مصر وقد سرتم مراحل ثم طويتم نحونا، هذا والله أمر أبرم بالمدينة.

قالوا: فضعوه على ما شئتم، لا حاجة لنا في هذا الرجل، ليعتزلنا.

وهو في ذلك يصلي بهم، وهم يصلون خلفه، ويغشى من شاء عثمان. وهم في عينه أدق من التراب، وكانوا لا يمنعون أحداً من الكلام. وكانوا زمراً بالمدينة، يمنعون الناس من الاجتماع إلخ..([1]).

قال الأميني:

«تعطي هذه الرواية أن الذي رد الكتائب المقبلة من مصر والبصرة والكوفة هو زعماء جيش أحجار الزيت: أمير المؤمنين علي، وطلحة، والزبير، يوم صاحوا بهم وطردوهم.

ورووا رواية اللعن عن النبي «صلى الله عليه وآله»، وفيهم البدريون وغيرهم من أصحاب محمد العدول، فما تمكنت الكتائب من دخول المدينة.

وقد أسلفنا إصفاق المؤرخين على أنهم دخلوها، وحاصروا الدار مع المدنيين أربعين يوماً، أو أكثر أو أقل، حتى توسل عثمان بعلي أمير المؤمنين «عليه السلام»، فكان هو الوسيط بينه وبين القوم.

وجرى هنالك ما مر تفصيله من توبة عثمان على صهوة المنبر، ومن كتاب عهده إلى البلاد على ذلك، فانكفأت عنه الجماهير الثائرة بعد ضمان علي«عليه السلام» ومحمد بن مسلمة بما عهد عثمان على نفسه.

لكنهم ارتجعوا إليه بعد ما وقفوا على نكوصه، وكتابه المتضمن بقتل من شخص إليه من مصر، فوقع الحصار الثاني المفضي إلى الإجهاز عليه.

وأنت إذا عطفت النظرة إلى ما سبق من أخبار الحصارين، وأعمال طلحة والزبير فيهما، وقبلهما وبعدهما نظرة ممعنة لا تكاد أن تستصح دفاعهما عنه في هذا الموقف.

وكان طلحة أشد الناس عليه، حتى منع من إيصال الماء إليه، ومن دفنه في مقابر المسلمين.

لكن رواة السوء المتسلسلة في هذه الأحاديث راقهم إخفاء مناوأة القوم لعثمان، فاختلقوا له هذه وأمثالها([2]).

ونزيد نحن هنا:

أولاً: تقول الرواية: إن علياً «عليه السلام» كان في عسكر عند أحجار الزيت.

والسؤال هو: من أين أتى هذا العسكر؟! ولماذا وجد؟! وممن ومتى تكوَّن؟! ولماذا لم يدافع عن عثمان حين تألبت تلك الجموع عليه، إن كان يريد دفع القتل عنه؟! أو لماذا لم يشارك في الهجوم على عثمان؟! إن كان يعمل على التخلص منه، كما يدعيه بنو أمية؟؟

ثانياً: إن موقف طلحة من عثمان ومنعه الماء لا يحتاج إلى بيان. وقد قتله مروان في حرب الجمل، لأنه أراد أن يثأر لعثمان بذلك.

ثالثاً: ما هذا التقسيم البديع للبلاد الثلاثة، الذي جعل مصر لعلي «عليه السلام»، والكوفة للزبير، والبصرة لطلحة؟! وهل هو تقسيم صحيح ودقيق؟!

ولماذا اختص هذا بهذا البلد، وذاك بالبلد الآخر؟! مع العلم بأن الناس يقولون: إن الكوفة كانت لعلي «عليه السلام»، ومنها نفي صلحاء الكوفة إلى الشام.

رابعاً: ما هذا التوافق في الأعداد بين الذين جاؤوا من مصر، والذين جاؤوا من الكوفة، والذين جاؤوا من البصرة؟!.

فقد صرحت الرواية: أن العدد كان هو العدد!! وأبدع منه التوافق في الرفاق الأربعة، وفي الأمراء الأربعة لهؤلاء، وأولئك، وأولئك!!

ولكن الإختلاف جاء فقط في الهوى والميل، فهؤلاء يميلون إلى علي «عليه السلام»، وأولئك يشتهون طلحة، والآخرون يشتهون الزبير!! حسب تعبير الرواية.

واللافت: أن المرشحين الثلاثة كانوا أيضاً قد أرسل كل واحد منهم ولده إلى عثمان لنصرته، ثم توافقت أجوبة الثلاثة للفرقاء الثلاثة على نسق واحد أيضاً.

خامساً: والأبدع من هذا التوافق.. أن راوي الرواية لا يعرف مقدار العدد لكل فريق، لأن الرواة اختلفوا بين رقمين متباعدين بصورة لافتة، فالمقل يقول: ست مئة، والمكثر يقول ألف!!

سادساً: إذا كانت الفرق مختلفة إلى هذا الحد فيما بينها، وكان أهل المدينة يخالفونهم أيضاً، فهل من المعقول أن تقول تلك الرواية: «لا يشك كل فرقة إلا أن الفلج معها، وأمرها سيتم دون الآخرين.. فما المبرر لهذا اليقين الذي لا يتزعزع لدى كل فرقة، مع أن مقابلها فئات أكبر وأقدر منها تخالفها الرأي..

سابعاً: إن سياق الأحداث الوارد في الرواية، لا بد أن يخل بعزمهم، ويظهر لهم أنهم على الباطل، ولا سيما بعد أن طردهم علي «عليه السلام» وطلحة والزبير، ولم يعد لهم نصير، ولا ظهير.

كما أنه إذا كان الذين يريد هؤلاء قتل عثمان من أجلهم قد طردوهم، وأصبحوا ضدهم، فلمن إذن يعملون، ولماذا يقتلون عثمان؟!

ثامناً: إن حجة علي «عليه السلام» قد فضحت مؤامرتهم، وبينت أنه أمر أبرم بالمدينة، فكيف سكت، وسكت معه الناس عنهم، ومكنوهم من حصار عثمان شهرين أو أقل أو أكثر حتى قتلوه؟!

هوى أهل الكوفة في الزبير:

وزعمت الرواية المتقدمة: أن هوى الكوفيين كان في الزبير..

وهذا غير صحيح، فإن الأشتر الذي كان لعلي«عليه السلام» كما كان علي«عليه السلام» لرسول الله «صلى الله عليه وآله» كان رئيس أهل الكوفة، ومعه زيد بن صوحان، الذي قيل فيه: دينه دين علي «عليه السلام».

فكيف يمكن أن يكون هوى هؤلاء في الزبير؟!

وما هو الرابط بين الزبير وبين أهل الكوفة؟!

وما السبب في هذا التعلق المفاجئ لهم به؟!

أضف إلى ذلك: أن عمار بن ياسر «رحمه الله» الذي تولى على الكوفة، كان من حواريّي علي «عليه السلام».

وزعمت تلك الرواية أيضاً: أن هوى أهل البصرة كان مع طلحة..

وهذا غير صحيح أيضاً، فإن زعيم البصريين كان حكيم بن جبلة، الذي حارب طلحة في البصرة قبل قدوم أمير المؤمنين «عليه السلام».. وقد استشهد حكيم، وجماعة كانوا معه..

ويبدو: أنهم يريدون بهذه الأباطيل أن يبرروا طمع الزبير بولاية الكوفة، وطمع طلحة بولاية البصرة. وأن طلبهما من علي «عليه السلام» أن يوليهما إياهما، كان في محله، لا سيما وأن أهل الكوفة والبصرة يريدانهما، فرفض «عليه السلام» ذلك، ولا مبرر لهذا الرفض.

نصيحة المغيرة لعلي :

قال المغيرة بن شعبة لعلي «عليه السلام»: إن هذا الرجل مقتول. وإنه إن قتل وأنت بالمدينة اتخذوا أو اتحدوا فيك، فاخرج فكن بمكان كذا وكذا. فإنك إن فعلت وكنت في غار باليمن طلبك الناس. فأبى([3]).

ونقول:

1 ـ كأن المغيرة بن شعبة يريد أن يوحي بأن علياً «عليه السلام» لا يريد مغادرة المدينة خوفاً من فوات الخلافة منه، وعدم بيعة الناس له، فإنهم إذا لم يجدوه قريباً منهم عدلوا إلى غيره فبايعوه. مع أن علياً «عليه السلام» لم يكن يفكر في هذا الأمر.

أولاً: لأنه كان يعلم حال الناس، فهو حاضر بينهم، ويعيش في متن الأمور، ويعرف الناس وميولهم أكثر من المغيرة الغادر.

ثانياً: إنه «عليه السلام» إنما يقيم بالمدينة ليعالج الفتنة، وليخفف من وقعها السيء، ويمنع من تطورها. ومن انفلات الأمور بصورة خطيرة. ومن قتل عثمان بهذه الصورة إن أمكن..

ثالثاً: قد يكون المغيرة بصدد خداع علي «عليه السلام»، وتوطئة الأمر لغيره، كطلحة مثلاً.. لأنه يعلم أن وجود علي «عليه السلام» في المدينة لا يبقي لغيره أية فرصة أو منفذ لهذا الأمر.

2 ـ ذكر ما يشبه هذه القضية بين الإمام علي «عليه السلام» وبين الإمام الحسن «عليه السلام».. وهي التالية:

مشورة الإمام الحسن على أبيه :

قالوا: وقال الحسن بن علي «عليهما السلام» لعلي «عليه السلام» حين أحاط الناس بعثمان: اخرج من المدينة واعتزل، فإن الناس لا بد لهم منك، وإن هم ليأتونك (لعله: وإنهم ليأتونك) ولو كنت بصنعاء اليمن، وأخاف أن يقتل هذا الرجل وأنت حاضره.

فقال: يا بني، أخرج عن دار هجرتي؟! وما أظن أحداً يجترئ على هذا القول كله([4]).

ونقول:

إن كان رأي الإمام الحسن «عليه السلام» هو الصواب، فلا بد أن يختاره علي «عليه السلام»، ويجب أن يلتفت إليه من أول الأمر،ولا حاجة إلى أن يشير به احد عليه.. حتى الإمام الحسن «عليه السلام»

وإن أشار به عليه الإمام الحسن «عليه السلام»، وظهر له أنه الحق بعد خفائه لم يجز له العدول عنه، ولكن هذا يوجب الطعن في إمامته «عليه السلام» وعلمه وحكمته..

وإن لم يظهر له صواب هذا الرأي، فإن أحدهما: هو، أو ولده ليس أهلاً لمقام الإمامة والهداية، لأن أحدهما مخطئ.. بلا ريب.

وإن كان الحق مع علي «عليه السلام»، فالحسن «عليه السلام» لا يشير عليه بغير الحق لأنه الإمام المعصوم. وإن أشار به لم يكن معصوماً ولا إماماً.

من أجل ذلك نقول:

الصحيح: هو أن هذه القضية قد حدثت بين علي «عليه السلام» وبين المغيرة بن شعبة كما ذكرناه..

لعل هذا هو الصحيح:

ولو سلمنا جدلاً أن شيئاً من هذا القبيل قد حدث بين الإمام «عليه السلام» وبين ولده الحسن «عليه السلام»، فلا بد أن يكون الغرض من هذا الخطاب، وذلك الجواب هو إسماع الناس هذا الجواب، وتعريفهم بأنه «عليه السلام» لم يكن غافلاً عما ربما يدور في خلدهم، أو فقل عما يتداولونه فيما بينهم، فإنه إنما يتصرف وفق ما يمليه عليه الواجب.

ويدل على أن الكلام مسوق في هذا الإتجاه قول علي «عليه السلام»: ما أظن أحداً يجترئ على هذا القول كله.. مشيراً بذلك إلى أن الإمام الحسن «عليه السلام» كان يتحدث بلسان غيره. مما قيل، أو يحتمل أن يقال، أو مما لا يصرح به البعض، لأنه يتضمن جرأة على الحق والحقيقة.

والذي يدعو علياً «عليه السلام» للمقام في المدينة، رغم أن بوادر قتل عثمان كانت ظاهرة: هو أن خروجه «عليه السلام» منها قد يكون أدعى لترويج التهمة الباطلة ضده، والتي تقول: إنه «عليه السلام» قد حرض الناس عليه، ثم تظاهر بأنه غير معني بالأمر، وابتعد عن الساحة في الظاهر، مع أنه هو الذي حركها ويحركها في الباطن.

وقد يتوسل بعض أهل الأهواء لتأكيد هذه التهمة بقول عمرو بن العاص حين قتل عثمان: إني إذا نكأت قرحة أدميتها.

يعني: أنه كان وهو بفلسطين يحرك الناس في المدينة على عثمان.

علي ومغالطة طلحة:

من كلام لمولانا أمير المؤمنين «عليه السلام» في طلحة: والله ما استعجل متجردا للطلب بدم عثمان إلا خوفا من أن يطالب بدمه، لأنه مظنته، ولم يكن في القوم أحرص عليه منه، فأراد أن يغالط بما أجلب فيه، ليلبس الأمر، ويقع الشك.

ووالله ما صنع في أمر عثمان واحدة من ثلاث: لئن كان ابن عفان ظالما ـ كما كان يزعم ـ لقد كان ينبغي له أن يوازر قاتليه، أو ينابذ ناصريه.

ولئن كان مظلوماً لقد كان ينبغي له أن يكون من المنهنهين عنه، والمعذرين فيه.

ولئن كان في شك من الخصلتين لقد كان ينبغي له أن يعتزله، ويركد جانباً، ويدع الناس معه.

فما فعل واحدة من الثلاث، وجاء بأمر لم يعرف بابه، ولم تسلم معاذيره.

قال ابن أبي الحديد: فإن قلت: يمكن أن يكون طلحة إعتقد إباحة دم عثمان أولاً، ثم تبدل ذلك الإعتقاد بعد قتله، فاعتقد أن قتله حرام، وأنه يجب أن يقتص من قاتليه.

قلت: لو اعترف بذلك لم يقسِّم علي«عليه السلام» هذا التقسيم، وإنما قسمه لبقائه على اعتقاد واحد، وهذا التقسيم مع فرض بقائه على اعتقاد واحد صحيح لا مطعن فيه، وكذا كان حال طلحة، فإنه لم ينقل عنه أنه قال: ندمت على ما فعلت بعثمان.

فإن قلت: كيف قال أمير المؤمنين: فما فعل واحدة من الثلاث؟

وقد فعل واحدة منها، لأنه وازر قاتليه حيث كان محصوراً.

قلت: مراده: أنه إن كان عثمان ظالماً وجب أن يوازر قاتليه بعد قتله، يحامي عنهم، ويمنعهم ممن يروم دماءهم، ومعلوم أنه لم يفعل ذلك.

وإنما وازرهم وعثمان حي، وذلك غير داخل في التقسيم([5]).

عثمان يتعوذ بالمصحف:

قالوا: وبعد أن حصر عثمان، وأحرق الباب عليه، «خرج الناس كلهم، ودعا بالمصحف، يقرأ فيه، والحسن عنده؛ فقال: إن أباك الآن لفي أمر عظيم، فأقسمت عليك لما خرجت»([6]).

ونقول:

لعل عثمان تعوذ بالمصحف حقاً، وجعله ردءاً يمنع مهاجميه من قتله، ولكن، هل صحيح أن الدماء قد سالت على المصحف، وخصوصاً على قوله تعالى: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾([7]).

ولكننا نشك في صحة ذلك.

فأولاً: لو صح ذلك لأخذ معاوية هذا المصحف ونصبه في الشام ليحرض به الناس على علي «عليه السلام». ومن معه كما أخذ قميص عثمان، ونصبه للناس في دمشق لأجل ذلك.

ثانياً: ما زعمته بعض الروايات من أن الغافقي أحد قاتلي عثمان ضرب المصحف برجله فاستدار المصحف فاستقر بين يديه وسالت عليه الدماء([8]). لا يبعد أن يكون مصنوعاً من قبل بني أمية وحزبهم بهدف الدعاية والتحريض.. وإلا، فإن الإشكال يتوجه على عثمان حيث عرض المصحف، لما لا ينبغي تعريضه له في ظروف كهذه، مع أنه كان بإمكانه أن يدفع كل ما يجري ويتخلص من هذا البلاء بالالتزام بالعمل بما في المصحف، والتراجع عن مخالفاته لأحكامه..

ثالثاً: إن ما أريد الإيحاء به من أن الله تعالى سينتقم لعثمان من قاتليه.. غير موفق، فإن الآية تريد أن تقول للنبي «صلى الله عليه وآله»: إن الله سيدفع عنك أعداءك، وسوف تنجو من كيدهم، ولن ينالك بطشهم، في حين أن ما جرى لعثمان كان عكس ذلك، فإن الله لم يكف أعداءه، ولم يدفعهم عنه، ولم ينجه منهم.

رابعاً: بالنسبة لحضور الإمام الحسن عنده وطلبه منه أن يخرج، نقول: عرفنا مدى حرص عثمان على جمع الأنصار حوله.. وكم من مرة استنجد بأبيه علي «عليه السلام»، فأنجده، فلما تكرر منه نقضه لعهوده تركه.

وقد قال عبد الرحمان بن الأسود: «ثم انصرف إلى بيته، فلم أزل أرى علياً منكباً عنه، لا يفعل ما كان يفعل»([9])، فما معنى أن يرسل ولده للدفاع عنه!!


([1]) راجع: تاريخ الأمم والملوك ج4 ص348 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص386 والغدير ج9 ص225 ـ 226 والفتنة ووقعة الجمل لسيف بن عمر الضبي ص59 وتاريخ مدينة دمشق ج39 ص318 والبداية والنهاية ج7 ص195.

([2]) الغدير ج9 ص312.

([3]) تاريخ الأمم والملوك ج4 ص392 وج 3 ص422 والغدير ج9 ص234 والفتنة ووقعة الجمل ص74 وتاريخ مدينة دمشق ج39 ص410.

([4]) الأمالي للطوسي ج2 ص324 و 325 و (ط دار الثقافة ـ قم) ص714 وبحار الأنوار ج31 ص487 عنه.

([5]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج10 ص9 والغدير ج9 ص91.

([6]) تاريخ الأمم والملوك ج4 ص392 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص422 والفتنة ووقعة الجمل ص74 والغدير ج9 ص234 وتاريخ مدينة دمشق ج39 ص410.

([7]) الآية 137 من سورة البقرة.

([8]) راجع: الغدير ج9 ص233 والفتنة ووقعة الجمل ص72 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص157 وتاريخ مدينة دمشق ج39 ص439 وج70 ص138 وتاريخ الأمم والملوك ج3 ص421 والكامل في التاريخ ج3 ص178 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج7 ص210.

([9]) تاريخ الأمم والملوك ج4 ص363 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص398 والغدير ج9 ص175.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان