قالوا:
ثم بلغ علياً أنهم يريدون قتل عثمان، فقال: إنما أردنا
منه مروان، فأما قتل عثمان فلا. وقال للحسن والحسين: اذهبا بسيفكما حتى
تقوما على باب عثمان، فلا تدعا أحداً يصل إليه، وبعث الزبير ابنه، وبعث
طلحة ابنه.
وبعث عدة من أصحاب النبي
«صلى الله
عليه وآله»
أبناءهم يمنعون الناس أن يدخلوا على عثمان، ويسألونه
إخراج مروان.
فلما رأى الناس ذلك رموا باب عثمان بالسهام، حتى خضب
الحسن بن علي بدمائه، وأصاب مروان سهم وهو في الدار، وكذلك محمد بن
طلحة، وشج قنبر مولى علي.
ثم إن بعض من حصر عثمان (وهو محمد بن أبي بكر) خشي أن
يغضب بنو هاشم لأجل الحسن والحسين، فتنتشر الفتنة.
فأخذ بيد رجلين فقال لهما:
إن جاء بنو هاشم فرأوا الدم على وجه الحسن كشفوا الناس عن عثمان، وبطل
ما تريدون، ولكن اذهبوا بنا نتسور عليه الدار فنقتله من غير أن يعلم
أحد.
فتسوروا من دار رجل من الأنصار، حتى دخلوا على عثمان،
وما يعلم أحد ممن كان معه، لأن كل من كان معه كان فوق البيت، ولم يكن
معه إلا امرأته، فقتلوه، وخرجوا هاربين من حيث دخلوا، وصرخت امرأته،
فلم يسمع صراخها من الجلبة.
فصعدت إلى الناس فقالت:
إن أمير المؤمنين قتل. فدخل عليه الحسن والحسين ومن كان معهما فوجدوا
عثمان مذبوحاً، فانكبوا عليه يبكون، ودخل الناس فوجدوا عثمان مقتولاً.
فبلغ علياً، وطلحة، والزبير، وسعداً، ومن كان بالمدينة،
فخرجوا وقد ذهبت عقولهم حتى دخلوا على عثمان فوجدوه مقتولاً،
فاسترجعوا. وقال علي لابنيه: كيف قتل أمير المؤمنين وأنتما على
الباب؟!.
ورفع يده فلطم الحسن، وضرب صدر الحسين، وشتم محمد بن
طلحة. ولعن عبد الله بن الزبير، وخرج علي وهو غضبان، فلقيه طلحة فقال:
مالك يا أبا الحسن! ضربت الحسن والحسين؟
وكان يرى أنه أعان على قتل عثمان.
فقال:
عليك كذا وكذا، رجل من أصحاب رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»،
بدري، لم تقم عليه بينة ولا حجة.
فقال طلحة:
لو دفع مروان لم يقتل.
فقال علي «عليه السلام»:
لو أخرج إليكم مروان لقتل قبل أن تثبت عليه حكومة.
وخرج علي «عليه السلام» فأتى منزله، وجاء الناس كلهم
إلى علي ليبايعوه، فقال لهم:
ليس هذا إليكم إنما هو إلى أهل بدر فمن رضي به أهل بدر
فهو الخليفة، فلم يبق أحد من أهل بدر إلا قال: ما نرى أحق لها (بها
.ظ.) منك.
فلما رأى علي ذلك جاء المسجد، فصعد المنبر وكان أول من
صعد إليه، وبايعه طلحة والزبير، وسعد، وأصحاب محمد
«صلى الله
عليه وآله»،
وطلب مروان فهرب، وطلب نفراً من ولد مروان بني أبي معيط فهربوا([1]).
وروى ابن الجوزي في التبصرة، من
طريق ابن عمر قال:
جاء علي «عليه السلام» إلى عثمان يوم الدار، وقد أغلق الباب، ومعه
الحسن بن علي «عليهما السلام»، وعليه سلاحه، فقال للحسن: ادخل إلى أمير
المؤمنين فاقرأه السلام وقل له: إنما جئت لنصرتك فمرني بأمرك.
فدخل الحسن، ثم خرج، فقال لأبيه:
إن أمير المؤمنين يقرئك السلام ويقول لك: لا حاجة لي بقتال وإهراق
الدماء.
قال:
فنزع علي عمامة سوداء ورمي بها، بين يدي الباب، وجعل ينادي: ﴿ذَلِكَ
لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لاَ
يَهْدِي كَيْدَ الخَائِنِينَ﴾([2]).
وعن شداد بن أوس، نزيل الشام، والمتوفى بها في عهد
معاوية، أنه قال:
لما اشتد الحصار بعثمان يوم الدار رأيت علياً خارجاً من
منزله، معتماً بعمامة رسول الله، متقلداً سيفه، وأمامه ابنه الحسن
والحسين، وعبد الله بن عمر في نفر من المهاجرين والأنصار، فحملوا على
الناس وفرقوهم، ثم دخلوا على عثمان فقال علي: السلام عليك يا أمير
المؤمنين! إن رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
لم يلحق هذا الأمر حتى ضرب بالمقبل المدبر، وإني والله
لا أرى القوم إلا قاتليك، فمرنا فلنقاتل.
فقال عثمان:
انشد الله رجلا رأى لله عز وجل عليه حقاً، وأقر أن لي عليه حقاً: أن
يهريق في سببي ملء محجمة من دم، أو يهريق دمه في.
فأعاد علي «عليه السلام» القول، فأجاب عثمان بمثل ما
أجاب، فرأيت عليا خارجا من الباب وهو يقول: اللهم إنك تعلم أنا قد
بذلنا المجهود.
ثم دخل المسجد، وحضرت الصلاة،
فقالوا له:
يا أبا الحسن!
تقدم فصل بالناس، فقال:
لا أصلي بكم والإمام محصور، ولكن أصلي وحدي، فصلى وحده وانصرف إلى
منزله، فلحقه ابنه وقال: والله يا أبت! قد اقتحموا عليه الدار قال: إنا
لله وإنا إليه راجعون، هم والله قاتلوه.
قالوا:
أين هو يا أبا الحسن؟!
قال:
في الجنة والله زلفى.
قالوا:
وأين هم يا أبا الحسن؟!
قال:
في النار والله. ثلاثاً([3]).
ومن طريق محمد بن طلحة، عن كنانة
مولى صفية:
شهدت مقتل عثمان، فأخرج من الدار أمامي أربعة من شباب قريش مضرجين
بالدم، محمولين. كانوا يدرؤون عن عثمان وهم: الحسن بن علي، وعبد الله
بن الزبير، ومحمد بن حاطب، ومروان، فقلت له: هل تدري محمد بن أبي بكر
بشيء من دونه؟!
قال:
معاذ الله، دخل عليه فقال له عثمان: يا ابن أخي! لست بصاحبي. وكلمه
بكلام، فخرج([4]).
قال العلامة الأميني:
في الإسناد كنانة ذكره الأزدي في الضعفاء([5])،
وقال: لا يقوم إسناد حديثه([6]).
وقال الترمذي:
ليس إسناده بذاك([7]).
وقال أيضا:
ليس إسناده بمعروف([8]).
ومن طريق كنانة مولى صفية قال:
كنت أقود بصفية لتردَّ عن عثمان، فلقيها الأشتر، فضرب وجه بغلتها حتى
قالت: ردوني، لا يفضحني هذا الكلب.
وكنت فيمن حمل الحسن جريحاً، ورأيت قاتل عثمان من أهل
مصر، يقال له: جبلة([9]).
وفي رواية أخرى عن أمامة الباهلي بعد أن ذكر نحو ما
تقدم عن شداد بن أوس، قال: ودخلوا على عثمان وهو محصور، فقال له علي
«عليه السلام»: السلام عليك يا أمير المؤمنين! إنك إمام العامة، وقد
نزل بك ما ترى، وإني أعرض عليك خصالاً ثلاثاً إختر إحداهن:
إما أن تخرج فتقاتلهم ونحن معك، وأنت على الحق وهم على
الباطل.
وإما أن تخرق بابا سوى الباب الذي هم عليه، فتركب
رواحلك، وتلحق بمكة، فإنهم لن يستحلوك وأنت بها.
وإما أن تلحق بالشام، فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية.
فقال عثمان:
أما أن أخرج إلى مكة، فإني سمعت رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
يقول: يلحد رجل من قريش بمكة، يكون عليه نصف عذاب العالم. فلن أكون
أنا.
وأما أن ألحق بالشام، فلن أفارق دار هجرتي، ومجاورة
رسول الله
«صلى الله عليه وآله»([10]).
قال:
فأذن لنا أن نقاتلهم ونكشفهم عنك.
قال:
فلا أكون أول من يأذن في محاربة أمة محمد
«صلى الله
عليه وآله».
فخرج علي وهو يسترجع.
وقال للحسن والحسين «عليهما
السلام»:
إذهبا بسيفكما حتى تقوما على باب عثمان، فلا تدعا أحداً يصل إليه،
وبعث الزبير ابنه.
وبعث طلحة ابنه.
وبعث عدة من أصحاب محمد أبناءهم، يمنعون الناس أن
يدخلوا على عثمان، ويسألونه إخراج مروان.
فلما رأى ذلك محمد بن أبي بكر، وقد رمى الناس عثمان
بالسهام حتى خضب الحسن بالدماء على بابه وغيره، فخشي محمد بن أبي بكر
أن يغضب بنو هاشم لحال الحسن، ويكشفوا الناس عن عثمان، فأخذ بيد رجلين
من أهل مصر، فدخلوا من بيت كان بجواره، لأن من كان مع عثمان كانوا فوق
البيوت، ولم يكن في الدار عند عثمان إلا امرأته، فنقبوا الحائط، فدخل
عليه محمد بن أبي بكر، فوجده يتلو القرآن، فأخذ بلحيته.
فقال له عثمان:
والله لو رآك أبوك لساءه فعلك. فتراخت يده، ودخل الرجلان عليه فقتلاه،
وخرجوا هاربين من حيث دخلوا.
وقيل:
جلس عمرو بن الحمق على صدره، وضربه حتى مات، ووطأ عمير بن ضابئ على
بطنه فكسر له ضلعين من أضلاعه، وصرخت امرأته فلم يسمع صراخها لما كان
حول الدار من الناس، وصعدت امرأته فقالت: إن أمير المؤمنين قد قتل،
فدخل الناس فوجدوه مذبوحاً، وانتشر الدم على المصحف على قوله تعالى: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ
اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾([11]).
وبلغ الخبر علياً، وطلحة والزبير، وسعداً، ومن كان
بالمدينة، فخرجوا وقد ذهبت عقولهم للخبر الذي أتاهم حتى دخلوا على
عثمان، فوجدوه مقتولاً فاسترجعوا.
وقال علي لابنيه:
كيف قتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب؟ ورفع يده فلطم الحسن، وضرب
على صدر الحسين، وشتم محمد بن طلحة، وعبد الله بن الزبير، وخرج وهو
غضبان حتى أتى منزله، وجاء الناس يهرعون إليه فقالوا له: نبايعك، فمد
يدك، فلا بد لنا من أمير.
فقال علي:
والله أني لأستحي أن أبايع قوما قتلوا عثمان، وإني لأستحي من الله
تعالى أن أبايع وعثمان لم يدفن بعد،
فافترقوا، ثم رجعوا فسألوه البيعة
فقال:
اللهم إني مشفق مما أقدم عليه، فقال لهم: ليس ذلك إليكم إنما ذلك لأهل
بدر، فمن رضي به أهل بدر فهو خليفة، فلم يبق أحد من أهل بدر حتى أتى
عليا فقالوا: ما نرى أحدا أحق بها منك، مد يدك نبايعك. فبايعوه، فهرب
مروان وولده.
وجاء علي وسأل امرأة عثمان فقال
لها:
من قتل عثمان؟
قالت:
لا أدري، دخل عليه محمد بن أبي بكر ومعه رجلان لا أعرفهما، فدعا محمدا
فسأله عما ذكرت امرأة عثمان.
فقال محمد:
لم تكذب والله دخلت عليه وأنا أريد قتله، فذكر لي أبي فقمت عنه وأنا
تائب إلى الله تعالى، والله ما قتلته ولا أمسكته.
فقالت امرأته:
صدق، ولكنه أدخلهما عليه([12]).
ونقول:
تستوقفنا أمور كثيرة في هذه النصوص، ولكن بما أن الأمور
أصبحت واضحة، ودلائل التزوير في أمثال هذه الرواية لائحة. ولأن استقصاء
الكلام في رد أمثال هذه الترهات والأباطيل معناه استنزاف الوقت، وبعثرة
جهد الباحث والقارئ، وتفويت ما هو أهم، ونفعه أعم، فقد رأينا أن نقتصر
على لمحات يسيرة، عازفين عن التفصيل، قانعين بالقليل..
فنقول، ونتوكل على خير مأمول، وأكرم مسؤول..
تقول الرواية المتقدمة:
«ثم بلغ علياً أنهم يريدون قتل عثمان فقال: إنما أردنا منه مروان، فأما
قتل عثمان فلا. ثم بعث بولديه لنصرته.. وبعث طلحة بولده، وكذلك الزبير،
وبعث عدة من الصحابة أبناءهم».
ونقول:
أولاً:
إن
علياً لم يكن هو صاحب القرار في قيام الناس ضد عثمان، ولم يكن هو الذي
حدد الأهداف للثائرين، والذين طالبوا بمروان هم المصريون، بعد أن وجدوا
الكتاب المرسل إلى عامل مصر، وفيه الأمر بقتلهم والتنكيل بهم.
وقد طلبوا من عثمان أن يتخلى عن حماية مروان، ليبحثوا
عن أمر الكتاب.
ثانياً:
إن الرواية نفسها تقول: إن علياً «عليه السلام» قال لطلحة: لو خرج
إليكم مروان لقتل قبل أن يثبت عليه حكومة، فكيف يقول: أردنا منه مروان،
ثم ينقض قوله هذا بما يدل على عدم إمكان تسليم مروان لهم، لأنه سيقتل
قبل أن يسأل عن شيء، فهل يطلب علي «عليه السلام» أمراً سينتهي إلى هذه
النتيجة؟!
عرفنا أن الصحابة وجدوا كتاباً مع غلام عثمان، مختوماً
بختمه، مرسلاً إلى
عامله على مصر، يأمره فيه بقتل بعض وفد مصر، والتنكيل
ببعضهم الآخر فغضبوا وطلبوا منه أن يدفع إليهم مروان، وكان عنده في
الدار، لكي يسألوه عن موضوع الكتاب، فأبى أن يدفعه إليهم، فخرجوا
غضاباً.
وقالوا:
«كيف
يؤمر بقتل رجال من أصحاب رسول الله
«صلى الله عليه وآله» بغير حق. فإن كان عثمان كتبه
عزلناه، وإن يكن مروان كتبه عن لسان عثمان نظرنا ما يكون منا في أمر
مروان.
فلزم الصحابة بيوتهم، فحاصر الناس عثمان، ومنعوه الماء
إلخ..»([13]).
ونقول:
1 ـ
إن كان عثمان خاف على حياة مروان، من غضب الناس، فقد
كان يمكنه أن يستجوبه بنفسه، بحضورهم. ثم يتخذ القرار المناسب بحقه..
كما أنه كان يستطيع أن يبعده عن محيطه، ويكف ألسنة
الناس،
ويسلم من نقدهم واتهامهم..
2 ـ
إن كان ذلك الكتاب كتب بغير علم الخليفة، ففاعل ذلك
يستحق العقوبة، لأنه تضمن أموراً خطيرة، تودي بحياة أناس مسلمين. وربما
ينتهي الأمر بفتنة يعرف أولها، ولا يعرف آخرها..
وإن كان كتب بعلم عثمان، فالمصيبة أعظم. ولعله
إن أراد معاقبة مروان في هذه الحال لأقرَّ مروان على
عثمان بمشاركته له، وبأنه كتبه بأمره.. وهنا الخطر الأعظم الذي لا قبل
لعثمان به.
لا سيما وأن مروان لا يتورع عن اتهام عثمان بذلك، حتى
لو كان عثمان بريئاً.. ولربما يكون قد هدد عثمان بأنه إن أراد التخلي
عنه، فسيتهمه بهذه التهمة، حتى لو لم يكن لها أصل.
أما بالنسبة لإرسال علي ولديه «عليهم السلام» لنصرة
عثمان، وكذلك طلحة والزبير فنقول:
أولاً:
إن طلحة والزبير هما اللذين كانا يسعيان في قتل عثمان، فكيف يرسلان
بولديهما لنصرته، والدفاع عنه؟!
ثانياً:
لماذا
يرسل علي وطلحة والزبير وطائفة من الصحابة أبناءهم للدفاع عن عثمان،
ولا يبادرون هم إلى ذلك بأنفسهم. وقد كان يكفي أن يحضر أولئك الكبار
والأعيان من الصحابة إلى المكان، ويحجزوا الناس عن مهاجمة الرجل. وكان
علي «عليه السلام» وحده قد رد الناس عن عثمان أكثر من مرة..
أما بالنسبة للزبير وابنه، فالأمر مختلف.. فإن الزبير
كان يحرض على عثمان بلا ريب، كما تدل عليه الشواهد الكثيرة. وقد اشتد
الحصار بعثمان، فنادى: أيها الناس! أسقونا شربة من الماء، وأطعمونا مما
رزقكم الله.
فناداه الزبير بن العوام:
يا نعثل! لا والله، لا تذوقه([14]).
وقد صرح علي «عليه السلام» بمناوأة الزبير لعثمان في
كثير من كلماته. وذكر العلامة الأميني في كتابه الغدير شواهد كثيرة على
ذلك.
أما ولده عبد الله، فلم يكن تابعاً لأبيه، بل كان يسعى
ـ فيما يظهر ـ للحصول على ما يبرر له ادعاء الخلافة، ولو بادعاء
الوصاية له من قبل عثمان. وهذا ما حصل بالفعل، فقد ادعى: أن عثمان أوصى
إليه يوم الدار([15]).
ولعل سبب ذلك:
أن عبد الله كان يعلم: أن أمير المؤمنين «عليه السلام» هو الأوفر حظاً
بهذا الأمر لو قتل عثمان.. وكان عبد الله شديد البغض له «عليه السلام»،
ويسعى لتضعيف أمره، وكان ـ كأبيه ـ طامحاً للخلافة. فرأى أن ادعاء
الوصاية له من قبل عثمان أقرب إلى قبول الناس، من المنافسة مع الآخرين
في الجهات والأحوال والمؤهلات الأخرى..
وهذا ما قاله معاوية صراحة لابن الزبير([16]).
ويؤيد ذلك قول الزبير:
ما أكره أن يقتل عثمان ولو بدئ بابني([17]).
وفي جميع الأحوال نقول:
إن النصوص الكثيرة لا تدع مجالاً للشك ليس فقط في أن
المهاجرين والأنصار لم ينصروا عثمان ـ كما صرح به أبو الطفيل الكناني([18]).
بل هم قد ساعدوا وألبوا الناس عليه، وشاركوا في قتله، وقد اعتبرهم
عثمان مرتدين.
قال عمار بن ياسر في صفين عن عثمان:
«إنما قتله الصالحون المنكرون للعدوان الآمرون بالإحسان»([19]).
وقد دعاهم إلى قتله الصحابة:
المهاجرون والأنصار منهم على حد سواء. فضلاً عن قول عائشة الشهير:
اقتلوا نعثلاً فقد كفر.
خلاصة جامعة:
ويمكننا أن نوجز ما ذكرناه بإيراد ما في كتاب الغدير
للعلامة الأميني، فقد قال ما ملخصه:
هذه الموضوعات اختلقت في مقابل التاريخ الصحيح المتسالم
عليه المأخوذ من مئات الآثار الثابتة، المعتضد بعضها ببعض،
ويدفعها ما أسلفناه في البحث عن آراء أعاظم الصحابة في
عثمان، وما جرى بينهم وبينه من سئ القول والفعل، وفيهم بقية أصحاب
الشورى وعدد من العشرة المبشرة وعدة من البدريين، وقد جاء فيه ما يربو
على مائة وخمسين حديثاً.
وتكذبها أحاديث جمة عن أن المهاجرين والأنصار هم قتلة
عثمان.
ويكذب أيضاً حديث كتاب أهل المدينة إلى الصحابة في
الثغور وفيه أن الرجل أفسد دين محمد، فهلموا وأقيموا دين محمد
«صلى الله
عليه وآله».
وكتاب أهل المدينة إلى عثمان، يدعونه إلى التوبة،
ويقسمون له بالله أنهم لا يمسكون عنه أبداً حتى يقتلوه، أو يعطيهم ما
يلزمه من الله.
وحديث كتاب المهاجرين إلى مصر أن تعالوا إلينا،
وتداركوا خلافة رسول الله قبل أن يسلبها أهلها، فإن كتاب الله قد بدل،
وسنة رسوله قد غيرت.
وحديث الحصار الأول.
وكتاب المصريين إلى عثمان:
إنا لن نضع سيوفنا عن عواتقنا حتى تأتينا منك توبة مصرحة، أو ضلالة
مجلحة مبلجة.
وحديث عهد الخليفة على نفسه أن يعمل بالكتاب والسنة.
وحديث توبته مرة بعد أخرى.
وحديث الحصار الثاني.
وكتاب عثمان إلى معاوية في أن أهل المدينة قد كفروا،
وأخلفوا الطاعة.
و كتابه إلى الشام عامة:
إني في قوم طال فيهم مقامي، واستعجلوا القدر في. وخيروني بين أن
يحملوني على شارف من الإبل الدحيل، وبين أن أنزع لهم رداء الله.
وكتابه إلى أهل البصرة.
وكتابه إلى أهل الأمصار مستنجداً يدعوهم إلى الجهاد مع
أهل المدينة، واللحوق به لنصره.
وكتابه إلى أهل مكة ومن حضر الموسم ينشد الله رجلا من
المسلمين بلغه كتابه إلا قدم عليه. إلخ.
وحديث يوم الدار، والقتال فيه، وحديث من قتل في ذلك
المعترك.
ومقتل عثمان وتجهيزه ودفنه بحش كوكب، بدير سلع مقابر
اليهود.
ومما ثبت من أحوال هؤلاء الذين زعمت الرواية: أنهم
بعثوا أبنائهم للدفاع عن عثمان، هو أنهم لم يفتأوا مناوئين له إلى أن
قتل، وبعد مقتله إلى أن قبر في أشنع الحالات.
أما علي أمير المؤمنين «عليه السلام» فمن المتسالم عليه
أنه لم يحضر مقتل الرجل في المدينة، فكيف يزعمون دخوله عليه قبيل ذلك،
واستيذانه منه للذب عنه، وبعد مقتله، وبكاءه عليه، وصفعه، ودفعه، وسبه،
ولعنه، وحواره حول الواقعة.
قال الهيثمي رداً على الحديث:
الظاهر: أن هذا ضعيف، لأن علياً لم يكن بالمدينة حين حصر عثمان، ولا
شهد قتله([20]).
وقد سأله عثمان أن يخرج إلى ماله بينبع، ليقلَّ هتف
الناس باسمه للخلافة، و كان ذلك مرة بعد أخرى.
وفي إحداهما قال لابن عباس:
قل له فليخرج إلى ماله بينبع، فلا أغتم به ولا يغتم بي.
فأخبر ابن عباس علياً، فقال «عليه
السلام»:
يا ابن عباس! ما يريد عثمان إلا أن يجعلني جملاً ناضحاً بالغرب، أقبل
وأدبر، بعث إلي أن أخرج، ثم بعث إلي أن أقدم، ثم هو الآن يبعث إلي أن
أخرج.
وعلي «عليه السلام» هو الذي مر حديث رأيه في عثمان مما
يدل على أنه صلوات الله عليه لم يكن كالواله الحزين، ولم يكن ذاهبا
عقله يوم الدار.
وأما طلحة فكان أشد الناس على عثمان نقمة، وله أيام
الحصارين وفي يومي الدار والتجهيز خطوات واسعة، ومواقف هائلة، خطرة
ثائرة على الرجل.
وقد قال مولانا أمير المؤمنين «عليه
السلام»:
والله ما استعجل متجرداً للطلب بدم عثمان إلا خوفاً من أن يطالب بدمه
لأنه مظنته، ولم يكن في القوم أحرص عليه منه، فأراد أن يغالط مما أجلب
فيه، ليلبس الأمر، ويقع الشك.
وقوله:
لحا الله ابن الصعبة، أعطاه عثمان ما أعطاه، وفعل به ما فعل. إلى
أقواله الأخرى التي أوقفناك عليها.
وسل عنه عثمان نفسه، فله فيه كلمات تعرب عن جلية الحال،
وسل عنه مروان لماذا قتله؟
وما معنى قوله ـ حين قتله ـ لأبان
بن عثمان:
قد كفيتك بعض قتلة أبيك؟
وسل عنه سعداً، ومحمد بن طلحة، وغيرهما ممن مر حديثهم.
وأما الزبير فقد قال مولانا أمير
المؤمنين«عليه السلام» له:
أتطلب مني دم عثمان وأنت قتلته؟ سلط الله على أشدنا عليه اليوم ما
يكره.
وقال فيه وفي طلحة:
إنهم يطلبون حقا هم تركوه، ودما هم سفكوه، فإن كنت شريكهم فيه فإن لهم
نصيبهم منه، وإن كان ولوه دوني فما الطلبة إلا قبلهم. إلى غير ذلك من
كلماته «عليه السلام».
وقد مر قول ابن عباس:
أما طلحة والزبير فإنهما أجلبا عليه، وضيقا خناقه.
وقول عمار بن ياسر في خطبة له:
إن طلحة والزبير كانا أول من طعن، وآخر من أمر.
وقول سعيد بن العاص لمروان:
هؤلاء قتلة عثمان معك، إن هذين الرجلين قتلا عثمان: طلحة والزبير. وهما
يريدان الأمر لأنفسهما، فلما غُلبا عليه قالا: نغسل الدم بالدم،
والحوبة بالحوبة.
وأما سعد بن أبي وقاص فهو القائل:
وأمسكنا نحن، ولو شئنا دفعنا عنه. ولكن عثمان غير وتغير، وأحسن وأساء،
فإن كنا أحسنا فقد أحسنا، وإن كنا أسأنا فنستغفر الله.
واعطف على هؤلاء بقية الصحابة الذين حسب واضعوا هذه
الروايات أنهم بعثوا أبناءهم للدفاع عن عثمان، وقد أسلفنا إجماعهم عدا
ثلاثة رجال منهم على مقته المفضي إلى قتله، وهل ترى من المعقول أن
يمقته الآباء إلى هذا الحد الموصوف، ثم يبعثوا أبنائهم للمجالدة عنه؟
إن هذا إلا اختلاق.
وهل من المعقول أن القوم كانوا يمحضون له الولاء،
وحضروا للمناضلة عنه، فباغتهم الرجلان اللذان أجهزا عليه، وفرا ولم
يعلم بهما أحد إلى أن أخبرتهم بهما بنت الفرافصة، ولم تعرفهما هي أيضا،
وكانت إلى جنب القتيل تراهما وتبصر ما ارتكباه منه؟.
وهل عرف مختلق الرواية التهافت الشائن بين طرفي ما وضعه
من تحريه تقليل عدد المناوئين لعثمان المجهزين عليه، حتى كاد أن يخرج
الصحابة الآباء منهم والأبناء عن ذلك الجمهور،
ومما عزاه إلى مولانا أمير المؤمنين
«عليه السلام» من قوله:
لما انثال إليه القوم ليبايعوه: والله إني لأستحي أن أبايع قوما قتلوا
عثمان. الخ؟
وهو نص على أن مبايعيه أولئك هم كانوا قتلوا عثمان، وهم
هم، المهاجرون والأنصار، والصحابة الأولون الذين جاء عنهم يوم صفين لما
طلب معاوية من الإمام «عليه السلام» قتلة عثمان، وأمر «عليه السلام»
بأن يبرزوا أنفسهم، فنهض أكثر من عشرة آلاف قائلين: نحن قتلته، يقدمهم
عمار بن ياسر، ومالك الأشتر، و محمد بن أبي بكر، وفيهم البدريون، فهل
الكلمة المعزوة إلى الإمام «عليه السلام» لمبايعيه عبارة أخرى عن
الرجلين المجهولين اللذين فرا ولم يعرف أحد خبرهما؟
أو هما وأخلاط من الناس الذين كانت الصحابة تضادهم في
المرمى؟
وهل أراد هذا الإنسان الوضاع أن ينحت عذراً مقبولاً
لأولئك الصحابة العدول، الذابين عن عثمان بأنفسهم وأبنائهم، الناقمين
على من ناوآه في تأخيرهم دفنه ثلاثاً، وقد ألقي في المزبلة حتى زج
بجثمانه إلى حش كوكب، دير سلع، مقبرة اليهود، ورمي بالحجارة، وشيع
بالمهانة، وكسر ضلع من أضلاعه، وأودع الجدث بأثيابه من غير غسل ولا
كفن، ولم يشيعه إلا أربعة، ولم يمكنهم الصلاة عليه؟
فهل كل هذا مشروع في الاسلام، والصحابة العدول يرونه
ويعتقدون بأنه خليفة المسلمين، وأن من قتله ظالم، ولا ينبسون فيه ببنت
شفة، ولا يجرون فيه أحكام الاسلام؟!
أو أنهم ارتكبوا ذلك الحوب الكبير وهم لا يتحوبون
متعمدين؟!
معاذ الله من أن يقال ذلك.
ومن الكذب الصريح في هذه الروايات عد سعد بن أبي وقاص
في الرعيل الأول ممن بايع علياً «عليه السلام»، وهو من المتقاعدين عن
بيعته إلى آخر نفس لفظه. وهذا هو المعروف منه، والمتسالم عليه عند رواة
الحديث ورجال التاريخ. وقد نحتت يد الإفتعال في ذلك له عذراً أشنع من
العمل([21]).
ومن المضحك جداً ما حكاه البلاذري عن ابن سيرين من
قوله:
لقد قتل عثمان وإن في الدار لسبعمائة منهم الحسن وابن
الزبير، فلو أذن لهم لأخرجوهم من أقطار المدينة([22]).
وعن الحسن البصري قال:
أتت الأنصار عثمان فقالوا: يا أمير المؤمنين! ننصر الله مرتين، نصرنا
رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
وننصرك.
قال:
لا حاجة لي في ذلك، ارجعوا.
قال الحسن:
والله لو أرادوا أن يمنعوه بأرديتهم لمنعوه([23]).
أي عذر معقول أو مشروع هذا؟!
يقتل خليفة المسلمين في عقر داره، بين ظهراني سبعمائة
صحابي عادل، وهم ينظرون إليه.
ومحمد بن أبي بكر قابض على لحيته عال بها حتى سمع وقع
أضراسه، وشحطه من البيت إلى باب داره.
وعمرو بن الحمق يثب ويجلس علي صدره.
وعمير بن ضابئ يكسر أضلاعه.
وجبينه موجوء بمشقص كنانة بن بشر.
ورأسه مضروب بعمود التجيبي.
والغافقي يضرب فمه بحديد، ترد عليه طعنة بعد أخرى حتى
أثخنته الجراح وبه حياة، فأرادوا قطع رأسه، فألقت زوجتاه بنفسيهما
عليه.
كل هذه الأمور تحدث بين يدي أولئك المئات العدول، أنصار
الخليفة، غير أنهم ينتظرون حتى اليوم أن يأذن القتيل، وإلا كانوا
أخرجوهم من أقطار المدينة، ولو أرادوا أن يمنعوه بأرديتهم لمنعوه.
أين هذه الأضحوكة من الإسلام، والكتاب والسنة، والعقل،
والعاطفة، والمنطق، والإجماع، والتاريخ الصحيح؟!([24]).
وتقدم:
أن محمد بن أبي بكر خشي أن يتحرك بنوهاشم لنصرة عثمان بسبب جرح الإمام
الحسن «عليه السلام».. فنقب البيت عليه، وكان السبب في تعجيل قتله.
ويلاحظ هنا:
أولاً:
لماذا
خشي محمد بن أبي بكر غضب خصوص بني هاشم، ولم يخش من غضب الزبيريين
والتيميين، وغيرهم ممن جرح أبناؤهم في تلك المعركة..
ثانياً:
إن هؤلاء الذين خشي غضبهم كانوا يعرفون أن الحسنين أصبحا في موضع
الخطر، لأن الإمام «عليه السلام» أمرهما بالدفع عن عثمان بسيفيهما.
فلماذا رضوا بذلك؟! ثم لماذا لم يتبرع أي من بني هاشم بالقيام بهذه
المهمة عوضاً عن الحسنين «عليهما السلام»؟ أو لم يحضر أحد منهم
لمساعدتهما، أو للحفاظ عليهما من أن ينهالهما أحد بسوء؟!..
ولماذا غاب بنو هاشم وبنو تيم وسواهم عن كل ما يجري؟!..
ثالثاً:
إذا كان بنو هاشم قادرين على كشف الناس عن دار عثمان، وعلي يريد إبطال
ما يريده الثائرون، فلماذا يرسل علي «عليه السلام» غير القادرين. ولا
يرسل القادرين لحسم مادة الخلاف؟!
رابعاً:
قد ذكرت بعض الروايات: أن عدد الثائرين كان بعد بالمئات والألوف، فهل
يقدر بنو هاشم على دفع هذه الأعداد الهائلة؟! وكيف؟!
ما ذكرته الرواية من أن محمد بن أبي بكر هو الذي خاف من
أن يغصب بنو هاشم للحسن «عليه السلام»، فيكشفون الناس عن عثمان.. غير
مسلّم ولا مقبول أيضاً، فقد قال ابن أبي الحديد المعتزلي:
«رووا: أنه لما امتنع على
الذين حصروه الدخول من باب الدار، حملهم طلحة إلى دار لبعض الأنصار،
فأصعدهم إلى سطحها، وتسوروا منها على عثمان داره فقتلوه([25]).
فلماذا يُبرَّأُ طلحة في هذه الواقعة، ويستبدل بمحمد بن
أبي بكر؟! هل لأجل قرب محمد هذا من علي، لتأكيد تواطؤه معه «عليه
السلام» في أمر عثمان؟! أم لأجل التخفيف من ذنب طلحة، لكي يتسنى لهم
توجيه طلبه بدم عثمان؟! أم للأمرين معاً؟!
وقد ذكرت الرواية المتقدمة:
أن الذين قتلوا عثمان بقيادة محمد بن أبي بكر قد نقبوا الحائط عليه من
دار لبعض الأنصار.
غير أننا نقول:
1 ـ
قد عرفنا: أن طلحة ـ وليس محمد بن أبي بكر ـ هو الذي
قادهم إلى دار عثمان من دار الأنصاري.
2 ـ
إن طلحة أصعدهم إلى سطح دار الأنصاري، وتسوروا منها على
عثمان داره..
3 ـ
بل في الطبري، عن عبد الرحمان بن أبزى، قال: رأيت اليوم
الذي دخل فيه على عثمان، فدخلوا من دار عمرو بن حزم، من خوخة هناك.
فوالله، ما نسيت أن خرج سودان بن حمران يقول: أين طلحة، قد قتلنا ابن
عفان([26]).
وهذا يشير إلى أن طلحة قد أدخلهم على عثمان، وخلى بينهم
وبينه، وخرج لمتابعة الأمور، تحسباً لردات الفعل على قتل عثمان.
4 ـ
إنه «عليه السلام» أمرهم بإغلاق الباب حين لحقوه لكي لا
يدخل عليه الذين لحقوه، وذلك ليبايعوه، ليقطع الطريق على أهل الكيد
والشنآن، فلا يشيعوا أنه «عليه السلام» هو الذي دعاهم إلى ذلك المكان،
المنعزل عن الناس، لينفرد بهم، وليفرض عليهم قراره ورأيه..
فإغلاق الباب، ثم قرع الناس له، واستفتاحهم يدل على
أنهم هم الذين كانوا يطلبونه ويسعون خلفه من مكان إلى مكان، حتى وجدوه
في هذا المكان الذي آثر أن يختفي به عنهم.
ويلاحظ:
أن النص لم يصرح بأن الباب قد فتح لهم من قبل أصحاب القرار في فتحه
وغلقه. ولم يشر إلى استئذان الناس بالدخول، ولا إلى أنه قد أذن لهم من
يحق له أن يأذن، وأن لا يأذن..
بل النص يقول:
قرعوا الباب، فدخلوا.. فلعلهم تكاثروا على الباب، وعالجوه وفتحوه،
ودخلوا من غير إذن، ولعل الراوي اختصر الكلام، وطوى بعضه اعتماداً على
معرفة الناس بالحال التي تجري عليها في الموارد المشابهة..
3 ـ
بالنسبة لتشاؤم حبيب بن ذؤيب باليد الشلاء نقول: لقد
خاب فأل حبيب، وتم الأمر لعلي «عليه السلام»، وحارب أعداء الله. وقام
بالأمر أكثر من خمس سنوات..
ونكث الناكثين لبيعته، وحرب القاسطين والمارقين لا يضره
«عليه السلام».. كما لم يضر النبي «صلى الله عليه وآله» حربه للمشركين
في بدر وأُحد، والأحزاب، وحنين، وسواها.. وكذلك حربه لليهود في قينقاع،
والنضير، وخبير. وحربه للنصارى في مؤتة..
وهذا الحال ينسحب على الكثيرين من الحكام والخلفاء،
الذين حاربوا من اعتبروهم أعداء لهم، سواء أكانوا محقين في حربهم أم
مبطلين..
ذكرت الرواية التي ذكرناها أولاً:
أنه لما قتل عثمان بلغ علياً «عليه السلام»، وطلحة والزبير، وسعداً،
ومن كان بالمدينة، فخرجوا، وقد ذهبت عقولهم، حتى دخلوا على عثمان،
فوجدوه مقتولاً، فاسترجعوا.
ونقول:
أولاً:
أن من يلاحظ الروايات يجد أن ثمة اهتماماً بالغاً بالجمع بين هؤلاء
الأربعة في مختلف المواضع. وهم: علي، وطلحة، الزبير، وسعد، وهو أمر
مثير الريب..
ثانياً:
زعم هذا النص: أن هؤلاء ومن كان بالمدينة.. ذهبت عقولهم لمقتل عثمان،
مما يعني أن أهل المدينة كلهم كانوا يحبون عثمان، وقد عزَّ مقتله
عليهم.. مع أن عثمان نفسه يكتب لعماله: إن أهل المدينة قد كفروا، وأنهم
بمثابة المشركين الذين تألبوا على المسلمين في أحد وغيرها.
ولو صح ما ذكر عن أهل المدينة،
فالسؤال البديهي هو:
لماذا سمحوا إذن لتلك القلة القليلة بزعمهم بمحاصرة عثمان شهرين أو أقل
أو أكثر، وأن تمنع الماء عنه.. ثم قتلوه بعد ذلك؟!
ثالثاً:
لو كان طلحة في جملة من هرع إلى عثمان حين قتل، وقد ذهب عقله. فما معنى
قول الرواية نفسها عن طلحة: «وكان يرى أنه أعان على قتل عثمان»؟!
ويشير إلى ذلك قول الرواية نفسها:
إن
علياً «عليه السلام» قال لطلحة: لو خرج إليكم مروان لقتل. فجعل طلحة في
جملة المجلبين المحاصرين لعثمان.
نسبت الرواية المشار إليها إلى علي
«عليه السلام»:
قوله لطلحة مستغرباً قتل عثمان: رجل من أصحاب رسول الله «صلى الله عليه
وآله»، بدري، لم تقم عليه بينة ولا حجة؟!
وهو كلام لايصح..
أولاً: إن عثمان لم يكن بدرياً.
وزعموا أنه تخلف على زوجتة ليمرضها.. وهذا لا يصح،
فراجع كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» وغيره
من مؤلفاتنا.
ثانياً:
لا معنى للقول: بأنه لم تقم على عثمان حجة ولا بينة، فإن علياً «عليه
السلام» نفسه قد طلب من عثمان أن يتوب مما فعل، وقد تاب على المنبر، ثم
تراجع عن توبته.
كما أنه أعطى العهود والمواثيق، وحلف الإيمان على إصلاح
الأمور، ثم لم يف بوعده وعهده.
ما زعمته رواية بن الجوزي، عن ابن عمر، والرواية التي
بعدها، من أن علياً جاء لنصرة عثمان، فلم يرض، لأنه لا يريد إراقة
الدماء، غير مقبول.
أولاً:
لأنه كان كما صرحت الروايات الأخرى يعد السلاح، ويهيئ الرجال، وكتب إلى
عماله في سائر الأمصار ليرسلوا الرجال إليه، ليقاتل بهم أهل المدينة،
لأنهم كفروا بحسب زعمه..
ثانياً:
إن الدفاع عن المظلوم، والمنع من قتل البريء، لا يحتاج إلى إجازة أحد،
ولا يطاع النهي عنه، لأن النهي عن فعل الواجب ساقط عن الاعتبار..
ما ذكرته رواية شداد بن أوس، من أن
علياً «عليه السلام» قال:
لا أصلي بكم والإمام محصور، ولكن أصلي وحدي.. غير صحيح أيضاً، لأنه
«عليه السلام» قد صلى بهم يوم النحر([27]).
وكان عثمان محصوراً، وقتل في نفس اليوم، أو بعده بيوم أو يومين على
الأكثر الأظهر.. وقد ذكرنا ذلك في موضع آخر من هذا الكتاب..
علي
يقول: عثمان في الجنة:
وتقول رواية شداد بن أوس:
أنهم سألوا الإمام علياً «عليه السلام» عن عثمان وقاتليه، فقالوا: أين
هو يا أبا الحسن؟!
فقال:
في الجنة والله زلفى..
قالوا:
وأين هم يا أبا الحسن؟!
قال:
في النار والله ـ ثلاثاً.
ونقول:
أولاً:
كيف نوفق بين هذه الأيمان التي يدَّعون أنه «عليه السلام» كان يقسمها،
ليؤكد بها أن قاتلي عثمان في النار. والحال أنهم يقولون: إن الصحابة
كلهم عدول، وأنهم مجتهدون مثابون عن الخطأ والصواب. وكلهم في الجنة.
ثانياً:
لا ريب في أن طلحة كان من أشد الناس على عثمان.. كما أن عائشة قد أمرت
بقتله، وقالت: اقتلوا نعثلاً فقد كفر.. وأن الزبير حرض، وكذلك عمرو بن
العاصن وسعد. هذا فضلاً عن عمار وغيره من الصحابة الأخيار..
فكيف يكون عثمان في الجنة، وعائشة تحكم بكفره، وتأمر
بقتله وقد أكفره أيضاً عمار وسواه؟! وكيف تكون عائشة والزبير وطلحة
وسواهم في النار؟!
مع أنهم زعموا:
أن الزبير وطلحة من العشرة المبشرة بالجنة.
وزعموا أيضاً:
أن أزواجه «صلى الله عليه وآله» بالجنة.
ومن الأمور التي يندى لها الجبين هنا هذا التجني على
مالك الأشتر، الذي أخبر النبي «صلى الله عليه وآله» أنه من الصالحين.
في قوله لأبي ذر: إنه يموت في أرض غربة، ويلي غسله ودفنه، والصلاة عليه
رجال من أمته صالحون، أو تشهده عصابة من المؤمنين([28]).
كان علي «عليه السلام» يتلهف ويتأوه
حزناً لموت الأشتر، وقال فيه:
رحم الله مالكاً، فلقد كان لي كما كنت لرسول الله([29]).
وإذ بهم يضعون على لسان صفية هنا،
أنها قالت:
ردوني لا يفضحني هذا الكلب!!
فاقرأ، واعجب، فما عشت أراك الدهر عجباً..
وذكرت الرواية الأخيرة:
أن عثمان لم يرض بالذهاب إلى مكة حين اقترح علي «عليه السلام» ذلك
عليه، لأنه يخشى أن يكون هو الرجل القرشي الذي يلحد بمكة. «يكون عليه
نصف عذاب العالم».
وهذا معناه:
أن ما يروونه عن النبي «صلى الله عليه وآله» في حق عثمان من أنه من
العشرة المبشرة بالجنة، وأنه يدخل الجنة لأجل حفره بئر رومة. أو
لتجهيزه جيش العسرة، أو لأنه يقتل مظلوماً..
إن ذلك كله يصبح إما مكذوباً، وأما هو مشروط بعدم
التغيير والتبديل، وإن كنا نرجح أنه مكذوب لأسباب ذكرناها في هذا
الكتاب، وفي كتابنا: الصحيح من سيرة التي الأعظم «صلى الله عليه
وآله»..
وقد ذكرت الرواية الأخيرة:
أن عثمان رفض أن يكون أول من يأذن بمحاربة أمة محمد «صلى الله عليه
وآله»..
ونقول:
1 ـ
إن رسائله إلى عماله قد تضمنت إكفاره أهل المدينة، وقد
طلب أن تأتيه الجنود من الأمصار لمحاربتهم، فمن كان كافراً يخرج من أمة
محمد.. فيجوز قتاله..
2 ـ
ذكرت الروايات الأخرى: انه كان يعد السلاح، ويجمع
الرجال للحرب، بعد أن أعطى عهده لعلي «عليه السلام» بإصلاح الأمور، ثم
أخلف، وتخلف..
3 ـ
إن أبا بكر سبقه إلى محاربة أمة محمد، حين حارب مالك بن
نويره وقتله هو وقومه، وكانوا من أمة محمد.. أو هو على الأقل قد حمى
قاتلهم!!
4 ـ
قلنا آنفاً: إن دفع الناس عن قتل النفس المحترمة واجب،
ولا يحتاج إلى إذن.. بل إن عدم الإذن في هذه الحال يكون محرماً، إذا
كان يمنع من دفع الفساد والإفساد، ويفسح المجال لارتكاب المنكر، الذي
هو قتل النفس المحترمة.
5 ـ
إن إرسال علي ولديه للدفاع عن عثمان هو بذاته مخالفة
لعثمان، الذي رفض ذلك، فلماذا يطيع علي «عليه السلام» الأمر في نفسه،
ويخالفه في ولديه؟!
([1])
الغدير ج9 ص236 و 237 وفي هامشه عن: الرياض النضرة ج2 ص125
وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص108 نقلاً عن ابن عساكر، وتاريخ
الخميس ج2 ص261 و 262 نقلاً عن الرياض. وراجع: تاريخ مدينة
دمشق ج39 ص418 وتاريخ المدينة لابن شبة ج4 ص1304.
([2])
الآية 52 من سورة يوسف.
([3])
الغدير ج9 ص238 و 239 والرياض النضرة ج3 ص60 وتاريخ الخميس ج2
ص262.
([4])
الغدير ج9 ص238 و 239 عن تاريخ البخاري ج4 قسم1 ص237 وتهذيب
الكمال ج19 ص456 والوافي بالوفيات ج20 ص30 والعدد القوية ص203
والإستيعاب (ط دار الجيل) ج3 ص1046 وتهذيب التهذيب ج7 ص129.
([6])
الغدير ج9 ص239 وتهذيب التهذيب ج8 ص404.
([9])
الغدير ج9 ص238 و 239 وتاريخ البخاري ج4 قسم1 ص237 و (ط
المكتبة الإسلامية ـ دياربكر) ج7 ص237 وراجع: مسند ابن الجعد
ص390 والطبقات الكبرى لابن سعد ج8 ص128 وتاريخ مدينة دمشق ج39
ص415 وسير أعلام النبلاء ج2 ص237 وتاريخ المدينة لابن شبة ج4
ص1311.
([10])
الغدير ج9 ص240 ـ 241 ومجمع الزوائد ج7 ص229 وتاريخ مدينة دمشق
ج39 ص381 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج7
ص236.
([11])
الآية 137 من سورة البقرة.
([12])
الغدير ج9 ص240 ـ 242 وراجع: تاريخ مدينة دمشق ج39 ص418.
([13])
الغدير ج9 ص181 والثقات لابن حبان ج2 ص259 و 260 وتاريخ مدينة
دمشق ج39 ص417 وتاريخ المدينة لابن شبة ج4 ص1160 والسيرة
الحلبية (ط دار المعرفة) ج2 ص271.
([14])
راجع: الجمل لابن شدقم ص19 والجمل للشيخ المفيد ص75.
([15])
راجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص166 والعثمانية للجاحظ
ص223.
([16])
راجع: تاريخ الأمم والملوك ج4 ص389 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي
ج20 ص126 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج8
ص372 وتاريخ مدينة دمشق ج28 ص201.
([17])
راجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9 ص36 والغدير ج9 ص102 و 230
ومناقب أهل البيت للشيرواني ص374 وبحار الأنوار ج31 ص85
والمصنف لابن أبي شيبة ج8 ص584 و 681 وشرح نهج البـلاغـة ج2
ص166 وج9 = = ص29 و 110 والطبقات الكبرى لابن سعد ج3 ص70
وتاريخ مدينة دمشق ج39 ص395 وتاريخ الإسلام للذهبي ج3 ص453.
([18])
راجع: الإمامة والسياسة ج1 ص192 و 193 و (تحقيق الزيني) ج1
ص165 و (تحقيق الشيري) ج1 ص214 ومختصر أخبار شعراء الشيعة
للمرزباني الخراساني ص26 والغدير ج9 ص151 وتاريخ مدينة دمشق
ج26 ص116 و 117.
([19])
صفين للمنقري 38 و 39 و (ط المؤسسة العربية الحديثة ـ القاهرة)
ص319 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج5 ص252 والدرجات الرفيعة ص269
وبحار الأنوار ج32 ص489 والغدير ج9 ص110 و 111 و 114.
([20])
مجمع الزوائد ج7 ص230 والغدير ج9 ص244.
([21])
راجع: المستدرك للحاكم ج3 ص116 وخلاصة عبقات الأنوار ج7 ص104
والغدير ج1 ص39 وأعيان الشيعة ج1 ص445 .
([22])
راجع: أنساب الأشراف ج5 ص 93 والغدير ج9 ص246.
([23])
راجع: إزالة الخفاء ج2 ص242 والمصنف لابن أبي شيبة ج8 ص692
والغدير ج9 ص246 وراجع: تاريخ المدينة لابن شبة ج4 ص1271.
([24])
الغدير ج9 ص242 ـ 247 بتصرف وتلخيص.
([25])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9 ص35 و 36 ومناقب أهل البيت
للشيرواني ص373.
([26])
تاريخ الأمم والملوك ج 4 ص 379 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص411.
([27])
الغدير ج9 ص239 والرياض النضرة ج2 ص127 وتاريخ الخميس ج2 ص262.
([28])
راجع: أنساب الأشراف ج5 ص55 وحلية الأولياء ج1 ص170 والمستدرك
للحاكم ج3 ص337 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج15 ص99 والإستيعاب
ج1 ص83 وقاموس الرجال ج7 ص463 و 464 عن الكشي، وعن الإستيعاب.
([29])
بحار الأنوار ج42 ص176 والغدير ج9 ص40 والأعلام للزركلي ج5
ص259 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج30 ص453 و (ط دار
الإسلامية) ج20 ص306 وشجرة طوبى ج2 ص332 ومستدرك سفينة البحار
ج5 ص351 و 352 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص214 وج15 ص98
وينابيع المودة ج2 ص28 ونهج الإيمان ص551 وخـلاصة الأقـوال = =
ص276 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج3 ص318 ورجال ابن داود ص157
ونقد الرجال للتفرشي ج4 ص81 وجامع الرواة للأردبيلي ج2 ص37
وطرائف المقال للبروجردي ج2 ص105 ومستدركات علم رجال الحديث ج6
ص331 وقاموس الرجال ج 7 ص 464.
|