صفحة : 53-82   

الفصل الثاني: لماذا يمتنع علي ؟!

 بين الوزارة والإمارة:

وروى أبو إسحاق بن إبراهيم بن محمد الثقفي، عن عثمان بن أبي شيبة، عن [عبد الله بن] إدريس، عن محمد بن عجلان، عن زيد بن أسلم قال: جاء طلحة والزبير إلى علي «عليه السلام» وهو متعوذ بحيطان المدينة، فدخلا عليه وقالا: ابسط يدك نبايعك، فإن الناس لا يرضون إلا بك.

فقال لهما: «لا حاجة لي في ذلك، ولئن أكون لكما وزيراً خير من أن أكون لكما أميراً، فليبسط من شاء منكما يده أبايعه».

فقالا: إن الناس لا يؤثرون غيرك، ولا يعدلون عنك إلى سواك. فابسط يدك نبايعك أول الناس.

فقال: «إن بيعتي لا تكون سراً، فامهلا حتى أخرج إلى المسجد».

فقالا: بل نبايعك هنها، ثم نبايعك في المسجد.

فبايعاه أول الناس، ثم بايعه الناس على المنبر أولهم طلحة بن عبيد الله([1]).

وقال «عليه السلام» لما أريد على البيعة بعد قتل عثمان:

«دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول، وإن الآفاق قد أغامت، والمحجة قد تنكرت. واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل، وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً»([2]).

كراهة علي للولاية لماذا؟!:

أظهرت النصوص الكثيرة: أن الناس بعد قتل عثمان أرادوا علياً «عليه السلام» على البيعة، فامتنع، فما زالوا يصرون عليه مرة بعد أخرى حتى رضي، ولكن بشروط، وذلك بعد مضي عدة أيام من قتل عثمان..

وقد صرح هو «عليه السلام» بكراهته لهذه البيعة في نفس خطبة البيعة، حيث قال:

«أما بعد، فإني قد كنت كارهاً لهذه الولاية ـ يعلم الله في سماواته وفوق عرشه ـ على أمة محمد «صلى الله عليه وآله» حتى اجتمعتم على ذلك، فدخلت فيه»([3]).

وفي نص آخر: «إني قد كنت كارهاً لأمركم، فأبيتم إلا أن أكون عليكم»([4]).

ومن كلماته المعروفة حين أرادوه على البيعة: «دعوني والتمسوا غيري. فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان. لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول الخ..»([5]).

ومن أقواله «عليه السلام» لهم حين عرضوا الولاية عليه: «لا تفعلوا فإني أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً»([6]).

وقال: «لم أرد الناس حتى أرادوني، ولم أبايعهم حتى أكرهوني»([7]).

وقال «عليه السلام» في جواب طلحة والزبير: «والله، ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية إربة. ولكنكم دعوتموني إليها، وحملتموني عليها»([8]).

وعنه «عليه السلام»: «عدا الناس على هذا الرجل وأنا معتزل، فقتلوه، ثم ولوني وأنا كاره، ولولا خشية على الدين لم أجبهم»([9]).

دعوني، والتمسوا غيري:

ولنا هنا سؤال يقول: لا ريب في أن علياً «عليه السلام» لم يزل يلهج بأن الآخرين الذين سبقوه قد غصبوا حقه، وخالفوه على أمره، فلماذا يقول للناس الآن ـ وهو يرى انثيال الناس عليه للبيعة ـ: إن كونه لهم وزيراً خير لهم منه أميراً، ويقول: «دعوني، والتمسوا غيري»؟!

ولماذا يفر منهم إلى حيطان المدينة، حتى مضت خمسة أيام؟!

هل يريد أن يتعزز عليهم، لعلمه بأنه لا غنى لهم عنه، أو أنه أراد أن يزيد من حماسهم لهذا الأمر؟!

أم أنه خاف من تحمل المسؤولية في مثل تلك الظروف الصعبة، أم ماذا؟!

ونجيب:

إن الهدف قد يكون أموراً عديدة، لعل منها:

أولاً: إنه «عليه السلام» كان يرى أن هذه البيعة التي جاءته بعد مقتل عثمان سوف تواجه بالرفض من بني أمية وأعوانهم، الذين رأوا أنهم خسروا مجداً، وفاتتهم منافع هائلة كان يمكنهم الحصول عليها، لو بقيت السلطة في أيديهم.. وسيكون عدوهم الأكبر هو من تصل الأمور إليه، لا من قتل شيخهم عثمان، فإن قتله لم يكن يهمهم بقدر ما كان يهمهم استعادة ما فقدوه.. والتوثب على سلطان أهل بيت النبوة «عليهم السلام»، للتوصل إلى ثروات البلاد، والتسلط على العباد.

ولذلك لم ينجده معاوية ولا أي من عماله، بل تركوه يقتل، رغم أن ذلك كان بمقدورهم.

وواضح: أن هؤلاء الناس سيجدون من قتل عثمان ذريعة لجمع الناس من حولهم، وسيجدون في الناس من يستجيب للإثارات العاطفية، وتضخيم موضوع قتل عثمان إلى أقصى حد ممكن. وسيصورون لهم ان المتهم الأول عندهم هو علي «عليه السلام».

ثانياً: إنه «عليه السلام» سيواجه مهمة محفوفة بالمعوقات والمثبطات عن القيام بأي إصلاح يذكر في الأمة، بل يلوح في الأفق ما يشير إلى أنه سوف يتعرض لتحديات كبرى، تنتهي بحروب كبيرة، وفتن خطيرة.

وهو الذي يقول:

«اللهم إنك تعلم: أني لم أرد الإمرة، ولا علو الملك والرياسة، وإنما أردت القيام بحدودك، والأداء لشرعك، ووضع الأمور في مواضعها، وتوفير الحقوق على أهلها، والمضي على منهاج نبيك، وإرشاد الضال إلى أنوار هدايتك»([10]).

وبعد.. فإن حمل الناس على مر الحق سيكون صعباً، ولن تكون المهمة سهلة، وسيدفع ذلك الكثيرين من طلاب الدنيا إلى إثارة المشكلات في كل اتجاه، وسيضع وفاء الذين يرون أنفسهم متضررين من العمل بالحق على المحك، كما أن ذلك سيكون ثقيلاً على النفوس الأمارة بالسوء.

وبتعبير أوضح: إن إعادة الأمور إلى نصابها، ونقض سياسات الخلفاء قبله، والعودة بالأمور إلى عهد رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وإحياء سننه، وإفشاء حديثه، ودعوة الناس إلى التأسي به «صلى الله عليه وآله»، وإدانة التمييز العنصري والقبلي وغير ذلك؛ سوف تنتج عنه هزات كبيرة وخطيرة في الواقع السياسي والإجتماعي الذي أقيم على أسس خاطئة ومرفوضة في الشرع والدين.

إن الناس الذين أسخطتهم سياسات عثمان حتى قتلوه أو رضوا بقتله لن ترضيهم سياسة العدل الإلهية، ولن يكون من السهل إخضاعهم لأحكام الشريعة حين تخالف رغباتهم أو تتصادم مع أهوائهم. خصوصاً وأن سخط الكثيرين من عثمان لم يكن لأجل حرص على رعاية أحكام الله. بل كان اتباعاً للهوى، وحرصاً على الدنيا، وما فاتهم من حطامها بعد أن خص به بني أبيه.

ثالثاً: إنه يريد للناس أن يروا هذا الإندفاع إليه، وهذا الإصرار عليه، وأن يشاهدوا بأم أعينهم الحرص من أعدائه قبل أصدقائه على البيعة له، لكي يروا بعد ذلك نكث الناكثين، وبغي الباغين عليه، لتكون الحجة له عليهم أبلغ، ولتكون الأمور في غاية الوضوح للناس كلهم، للذكي والغبي، والعالم والجاهل، والكبير والصغير..

رابعاً: إن ذلك يثبت للناس عدم صحة الدعايات التي سوف يطلقها أعداؤه ومناوؤوه، ومحاربوه من الزبيريين، والأمويين، وبعض نساء النبي «صلى الله عليه وآله» وسواهم، من أنه «عليه السلام» هو الذي حرك الناس لقتل عثمان، لتكون له الخلافة من بعده.

خامساً: يريد للناس أن يعرفوا أن نظرته للخلافة ليست نظرة من يريد الحصول على المكاسب، بل هي نظرة من يرى أن الخلافة لا تساوي عنده جناح بعوضة، أو أهون من عفطة عنز.. إلا أن يقيم حقاً، أو يبطل باطلاً.

سادساً: إنه يريد أن يأخذ منهم تعهدات بالعمل بشرع الله فيهم، حتى لا يتخذوا ذلك ذريعة لخداع الناس، وجرهم لحربه، وللخلاف عليه، بحجة أنه خالف فلاناً من الناس، أو وافقه..

سابعاً: إنه «عليه السلام» كان يعلم: أن أكثر الذين يبايعونه لا يبايعونه لأنهم يرونه إماماً مفترض الطاعة من الله، منصوباً من قبل الله ورسوله، وأن الأمر قد عاد إلى أهله ويجب على الناس عدم تحويله عن مقره. إنه «عليه السلام» يريد أن يعرفهم: أن أي إخلال ببيعته إنما يلحق الضرر بهم، وبإيمانهم وعقيدتهم، قبل أن يلحق الضرر بإمامهم.

ولأجل ذلك كان «عليه السلام» يريد تغليظ الأمر عليهم، لا سيما مع وجود الشائنين والحاقدين، والمتربصين بينهم. حتى إذا حصل النكث في المستقبل، عرفوا من أين يأتي البلاء، ومن المخادع الطامع، ومن الزاهد المجاهد المضحي، والباذل نفسه في سبيل حفظ الدين وأهله..

ثامناً: قال المجلسي «رحمه الله»: «كنت كارهاً أي طبعاً، وإن أحبها شرعاً. أو كنت كارها قبل دعوتكم لعدم تحقق الشرائط.

والمراد بالوالي: الوالي بغير الإستحقاق، والعامل بغير أمر الله فيها.

فعلى الوجه الأول: التعليل للكراهة طبعاً، لعسر العمل بأمر الله فيها.

وعلى [الوجه] الثاني: التعليل لعدم التعرض قبل تحقق الشرائط، لأنها تكون حينئذ ولاية جور أيضاً»([11]).

تاسعاً: إن الخلافة بحد ذاتها ليست هدفاً يسعى له علي «عليه السلام»، وإنما هي وسيلة لإقامة الحق وإبطال الباطل. ولم يكن علي «عليه السلام» يجامل الناس حين حاول إبعادهم عن نفسه، بل هو إنما يفعل ذلك لقناعته بأن المصلحة تكمن في ذلك، لأن الأمور قد تغيرت، والمفاهيم قد تبدلت في أذهان الناس. ونشأت عوضاً عنها مفاهيم عوجاء وتفسيرات خاطئة للدين، وأحكامه، وشرائعه، ومفاهيمه، كرسها الحكام في سياساتهم وممارساتهم، أصبحت هي المانع الأكبر من إحقاق الحق، وإقامة العدل، ونشر الدين.

عاشراً: إن نصب الخليفة إنما يكون من قبل الله تعالى ورسوله، وليس للناس أي دور فيه، ولكن الخلفاء بعد رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد نقضوا هذا القرار الإلهي، وجعلوا نصب الخليفة بأيدي الناس، فهم ينصبون ويعزلون، وأصبح ذلك تابعاً للأهواء والميول، ويتأثر بالمصالح الفردية والفئوية، وما إلى ذلك..

حادي عشر: إن خضوع الطامعين والطامحين لحكومة علي «عليه السلام» وقبولهم بها بعد قتل عثمان إنما جاء انحناءاً أمام التيار، حيث وجدوا أنه ليس باستطاعتهم مقاومة هذا المد العارم المُطالب بتولي أمير المؤمنين «عليه السلام» لمقام الخلافة.

إن هؤلاء الطامحين إنما قتلوا عثمان طمعاً بهذا الأمر بالذات، فإذا وجدوا أن علياً «عليه السلام» سوف يكرس سياسة تضرّ بطموحاتهم، وستخضعهم لسنة العدل، ولأحكام الشريعة، فإن ذلك سيثيرهم، وسيتداعون لمقاومته وإسقاط حكمه، والتخلص منه. وهذا سيجر البلاء العظيم على الناس. فلذلك كره «عليه السلام» ولايته عليهم.

ثاني عشر: إنهم إذا كانوا يرون: أن صلاحهم هو في التزام خط الخلفاء الذين سبقوا علياً «عليه السلام»، فلا شك في أن إمارته «عليه السلام» وولايته سوف تتصادم مع واقعهم هذا وستنقلهم إلى واقع آخر لا ينسجم مع قناعاتهم ومفاهيمهم هذه..

وهذا ما سوف يرفضونه ويقاومونه، ويعرضون أنفسهم للمهالك بسببه. وسيكون ما يصيبهم كارثة حقيقية عليهم في الدنيا والآخرة، لأن مقاومتهم للتغيير إنما هي تحدٍّ لإرادة الله، ورفض لما كان على عهد رسول الله «صلى الله عليه وآله».

وفي هذا الهلاك والبوار في الدنيا وفي الآخرة.

أما تركهم في واقعهم هذا، وبقاؤه «عليه السلام» في موقع المشير والوزير، الذي يقبل قوله تارةً ويرفض أخرى، فإنه يحمل معه احتمالات إصلاح الوضع بالتوبة والإنابة إلى الحق في يوم من الأيام.

ثالث عشر: إنه «عليه السلام» بكلامه هذا، وبسائر ما أورده في خطبته حين البيعة يريد أن يستعيد الناس استذكار المعايير الصحيحة للتعامل، ليختاروا مستقبلهم، ونهجهم، وطريقهم بأناة ووعي، وليكونوا على بصيرة من أمرهم، لكي لا يقول أحد: لو علمت بأن الأمور تصير إلى ما صارت إليه لم أدخل فيما دخلت فيه.

رابع عشر: إنه «عليه السلام» أراد أن لا يمتن عليه احد بأنه قد سعى لإيصاله إلى الخلافة، فله أن يطالبه بحصة له فيها.. فإن تعالي الصيحات لبيعته إنما تعني حاجة الناس إليه، ولا تعني أن يكون لهم فضل عليه. ولا يجيز لهم ذلك فرض آرائهم، ولا تبرر لهم حمله على العمل بما يتوافق مع أهوائهم..

خامس عشر: إنه «عليه السلام» يرى: أن الثورة على عثمان لم تكن لدى الأكثرية الثائرة لأجل إعادة الأمور إلى ما كانت عليه على عهد الرسول «صلى الله عليه وآله»، وإلزام الحاكم بالعمل بأحكام الشرع والدين، بل هي ثورة زادت الطين بلة، والخرق اتساعاً.. وتكونت بسببها ذهنيات عوجاء، ومفاهيم عرجاء، وسياسات هوجاء كانت لها آثار سلبية كثيرة على النفسيات، وعلى العلاقات، وعلى كل الواقع الذي كان يعيشه الناس.

يكرهها فلماذا يقبلها؟!:

وقد بين الإمام «عليه السلام» أسباب قبوله للولاية كما يلي:

1 ـ كتب «عليه السلام» لأهل الكوفة: « والله يعلم أني لم أجد بداً من الدخول في هذا الأمر، ولو علمت أن أحداً أولى به مني لما تقدمت إليه»([12]).

2 ـ وقال «عليه السلام»: «والله ما تقدمت عليها (أي على الخلافة) إلا خوفاً من أن ينزو على الأمر تيس من بني أمية، فيلعب بكتاب الله عز وجل»([13]).

3 ـ وعنه «عليه السلام»: «عدا الناس على هذا الرجل وأنا معتزل، فقتلوه، ثم ولوني وأنا كاره، ولولا خشية على الدين لم أجبهم»([14]).

4 ـ وقال «عليه السلام» في خطبته المعروفة بالشقشقية: «أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز»([15]).

5 ـ وعنه «عليه السلام»: «اللهم إنك تعلم أني لم أرد الإمرة، ولا علو الملك والرياسة، وإنما أردت القيام بحدودك، والأداء لشرعك، ووضع الأمور في مواضعها، وتوفير الحقوق على أهلها، والمضي على منهاج نبيك، وإرشاد الضال إلى أنوار هدايتك»([16]).

6 ـ وقال «عليه السلام» ـ فيما روي عنه ـ: «اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك»([17]).

سياسات لا يمكن المساس بها:

قلنا في فصل سابق: إن السياسات التي اتبعت بعد رسول الله «صلى الله عليه وآله», قد تركت آثارها في الناس, وأصبح التخلي عنها صعباً والمنع عنها خطراً للغاية, وقد شكى علي «عليه السلام» من هذا الأمر, وبين مدى خطورة المساس بها والتصدي لها, وأنه قد يؤدي إلى الإطاحة بكل شيء..

وكان التمييز العنصري، وتفضيل الرؤساء في العطاء وفي غيره، وتقديم طلاب الدنيا، وتفويض أمور الناس إليهم، وتخصيصهم بالولايات، وإطلاق أيديهم في التصرفات وحمايتهم حتى في قبال أحكام الشرع الشريف قد أذكى الطموحات، وأخرج الأمور عن دائرة السيطرة..

يضاف إلى ذلك، سياسات عديدة أخرى استهدفت الجذور، أشرنا إلى بعضها في كتابنا: الحياة السياسية للإمام الحسن «عليه السلام»، وفي كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم، في الجزء الأول منه.

ومنها: إن إحراق ما كتبوه من حديث الرسول «صلى الله عليه وآله» والمنع من روايته، ومن السؤال عن معاني القرآن، ومن الفتوى إلا للأمراء، وإفساح المجال لعلماء اليهود والنصارى للرواية عن بني إسرائيل، قد نشأ عنه شيوع الأباطيل والترهات والأضاليل حتى حجبت غيومها شمس الحق وعميت السبل إلى الحقائق لولا جهود أهل البيت «عليهم السلام».

وقد رأينا كيف أن نقمة الكثيرين على عثمان إنما كانت لأجل استئثاره أو استئثار عماله بالأموال وبالولايات، وإن كان الثائرون عليه يحاولون الاستفادة من سائر المخالفات لإذكاء الشعور بالنقمة عليه وعلى عماله..

ثم لما جاءت حكومة علي «عليه السلام» كان أول ما أخذوه على علي «عليه السلام» مساواته وعدله قي القسم والعطاء، ورفضه التمييز العنصري فيه، وقالوا له: آسيت بيننا وبين الأعاجم؟! رغم أنه «عليه السلام» لم يزد على أن سار فيهم بسنة رسول الله «صلى الله عليه وآله». وهي التي جرى عليها أبو بكر، وكذلك عمر شطراً من خلافته.

ثم ولأجل ذلك، صرح «عليه السلام» في أول خطبة له: بأن الآفاق قد أغامت، والمحجة قد تنكرت. وقال لهم: دعوني والتمسوا غيري، وأعلمهم بأنهم مستقبلون أموراً لها وجوه وألوان، لا يصبرون عليها..

وأخبرهم بأنه سوف لا يستجيب إلى مطامعهم، ولن يصغي إلى قول القائل، وعتب العاتب، بل سوف يقيمهم على المحجة البيضاء، ويسير فيهم بسيرة رسول الله «صلى الله عليه وآله»..

شكوى علي :

ويوضح ما ذكرناه ما رواه علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عثمان، عن سليم بن قيس الهلالي، قال: خطب أمير المؤمنين «عليه السلام»، فحمد الله وأثنى عليه، ثم صلى على النبي «صلى الله عليه وآله»، ثم قال:

ألا إن أخوف ما أخاف عليكم خلتان: اتباع الهوى، وطول الأمل.

أما اتباع الهوى فيصد عن الحق.

وأما طول الأمل فينسي الآخرة.

ألا إن الدنيا قد ترحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة. ولكن لكل واحدة بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وإن غداً حساب ولا عمل.

وإنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع، وأحكام تبتدع، يخالف فيها حكم الله، يتولى فيها رجال رجالاً.

ألا إن الحق لو خلص لم يكن اختلاف، ولو أن الباطل خلص لم يخف على ذي حجى، لكنه يؤخذ من هذا ضغث، ومن هذا ضغث، فيمزجان فيجللان معاً، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه، ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى.

إني سمعت رسول الله «صلى الله عليه وآله» يقول: كيف أنتم إذا لبستم فتنة يربو فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، يجري الناس عليها ويتخذونها سنة، فإذا غير منها شيء قيل: قد غيرت السنة، وقد أتى الناس منكراً.

ثم تشتد البلية، وتسبى الذرية، وتدقهم الفتنة كما تدق النار الحطب، وكما تدق الرحا بثفالها، ويتفقهون لغير الله، ويتعلمون لغير العمل، ويطلبون الدنيا بأعمال الآخرة.

ثم أقبل بوجهه وحوله ناس من أهل بيته وخاصته وشيعته، فقال: قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله «صلى الله عليه وآله»، متعمدين لخلافه، ناقضين لعهده، مغيرين لسنته.

ولو حملت الناس على تركها، وحولتها إلى مواضعها، وإلى ما كانت في عهد رسول الله «صلى الله عليه وآله» لتفرق عني جندي حتى أبقى وحدي، أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي، وفرض إمامتي من كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله «صلى الله عليه وآله».

أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم «عليه السلام»، فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله «صلى الله عليه وآله».

ورددت فدك إلى ورثة فاطمة «عليها السلام».

ورددت صاع رسول «صلى الله عليه وآله» كما كان.

وأمضيت قطائع أقطعها رسول الله «صلى الله عليه وآله» لأقوام لم تمض لهم ولم تنفذ.

ورددت دار جعفر إلى ورثته، وهدمتها من المسجد.

ورددت قضايا من الجور قضي بها.

ونزعت نساءاً تحت رجال بغير حق فرددتهن إلى أزواجهن، واستقبلت بهن الحكم في الفروج والأرحام.

وسبيت ذراري بني تغلب.

ورددت ما قسم من أرض خيبر.

ومحوت دواوين العطايا.

وأعطيت كما كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» يعطي بالسوية، ولم أجعلها دولة بين الأغنياء.

وألقيت المساحة.

وسويت بين المناكح.

وأنفذت خمس الرسول كما أنزل الله عز وجل وفرضه.

ورددت مسجد رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى ما كان عليه.

وسددت ما فتح فيه من الأبواب، وفتحت ما سد منه.

وحرمت المسح على الخفين.

وحددت على النبيذ.

وأمرت بإحلال المتعتين.

وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات.

وألزمت الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.

وأخرجت من أدخل مع رسول الله «صلى الله عليه وآله» في مسجده ممن كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» أخرجه.

وأدخلت من أخرج بعد رسول الله «صلى الله عليه وآله» ممن كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» أدخله.

وحملت الناس على حكم القرآن وعلى الطلاق على السنة.

وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها.

ورددت الوضوء، والغسل، والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها.

ورددت أهل نجران إلى مواضعهم.

ورددت سبايا فارس وسائر الأمم إلى كتاب الله وسنة نبيه «صلى الله عليه وآله»؟!

إذاً لتفرقوا عني.

والله لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلا في فريضة، وأعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة، فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي: يا أهل الإسلام، غيرت سنة عمر، ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوعاً!! ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري.

ما لقيت من هذه الأمة من الفرقة، وطاعة أئمة الضلالة والدعاة إلى النار!! وأعطيت من ذلك سهم ذي القربى الذي قال الله عز وجل: ﴿..إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ..([18]). فنحن والله عنى بذي القربى الذي قرننا الله بنفسه وبرسوله «صلى الله عليه وآله» فقال تعالى: ﴿..فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ (فينا خاصة) كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا الله (في ظلم آل محمد) إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ([19]). لمن ظلمهم، رحمة منه لنا، وغنى أغنانا الله به، ووصى به نبيه «صلى الله عليه وآله»، ولم يجعل لنا في سهم الصدقة نصيباً، أكرم الله رسوله «صلى الله عليه وآله» وأكرمنا أهل البيت أن يطعمنا من أوساخ الناس.

فكذبوا الله، وكذبوا رسوله، وجحدوا كتاب الله الناطق بحقنا، ومنعونا فرضا فرضه الله لنا.

ما لقي أهل بيت نبي من أمته، ما لقينا بعد نبينا «صلى الله عليه وآله»، والله المستعان على من ظلمنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم([20]).

زاد العلامة الطبرسي «رحمه الله» هنا قوله: فقال له رجل: إني سمعت من سلمان وأبي ذر والمقداد أشياء من تفسير القرآن والرواية عن النبي «صلى الله عليه وآله»، وسمعت منك تصديق ما سمعت منهم، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة في تفسير القرآن والأحاديث عن النبي «صلى الله عليه وآله» وأنتم تخالفونهم، وتزعمون: أن ذلك باطل، فترى الناس يكذبون متعمدين على النبي «صلى الله عليه وآله»، ويفسرون القرآن بآرائهم؟!

قال: فأقبل علي «عليه السلام» عليه، فقال له: سألت فافهم الجواب:

إن في أيدي الناس حقاً وباطلاً، وصدقاً وكذباً، وناسخاً ومنسوخاً، وخاصاً وعاماً، ومحكماً ومتشابهاً، وحفظاً ووهماً، وقد كذب على رسول الله وهو حي، حتى قام خطيباً فقال: «أيها الناس، قد كثرت علي الكذابة، فمن كذب علي متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار». وإنما أتاك بالحديث: أربعة رجال ليس لهم خامس.

رجل منافق: مظهر للإيمان، متصنع بالإسلام، لا يتأثم، ولا يتحرج، يكذب على رسول الله «صلى الله عليه وآله» متعمداً، فلو علم الناس: أنه منافق، كاذب، لم يقبلوا منه، ولم يصدقوا قوله، ولكنهم قالوا: «صاحب رسول الله، رآه وسمع منه، ولقف عنه» فيأخذون بقوله، وقد أخبرك الله تعالى عن المنافقين بما أخبرك، ووصفهم بما وصفهم به لك، ثم بقوا بعده «صلى الله عليه وآله» فتقربوا إلى أئمة الضلالة، والدعاة إلى النار بالزور والبهتان، فولوهم الأعمال، وجعلوهم حكاماً على رقاب الناس، وأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس مع الملوك والدنيا، إلا من عصم الله تعالى، فهذا أحد الأربعة.

ورجل: سمع من رسول الله «صلى الله عليه وآله» شيئاً لم يحفظه على وجهه فوهم فيه، ولم يتعمد كذباً فهو في يديه، يرويه، ويعمل به، ويقول: إنما سمعت من رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فلو علم المسلمون أنه وهم فيه، لم يقبلوه منه، ولو علم هو أنه كذلك لرفضه.

ورجل ثالث: سمع من رسول الله «صلى الله عليه وآله» شيئاً يأمر به، ثم نهى عنه، وهو لا يعلم، أو سمعه نهى عن شيء ثم أمر به وهو لا يعلم، فحفظ المنسوخ، ولم يحفظ الناسخ، فلو علم أنه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه.

وآخر: لم يكذب على الله، ولا على رسوله، مبغض للكذب خوفاً لله تعالى، وتعظيماً لرسول الله «صلى الله عليه وآله»، ولم يهم به، بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به على ما سمعه، لم يزد فيه ولم ينقص منه، وحفظ الناسخ فعمل به، وحفظ المنسوخ وجنب عنه، وعرف الخاص والعام فوضع كل شيء موضعه، وعرف المتشابه والمحكم.

وقد كان يكون من رسول الله «صلى الله عليه وآله» الكلام له وجهان: فكلام خاص، وكلام عام، فيسمعه من لا يعرف ما عنى الله تعالى به، ولا ما عنى به رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فيحمله السامع ويوجهه على غير معرفة بمعناه، ولا ما قصد به، وما خرج من أجله.

وليس كل أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله» يسأله ويستفهمه، حتى أن كانوا ليحبون أن يجيء الأعرابي أو الطاري فيسأله «صلى الله عليه وآله» حتى يسمعوا كلامه، وكان لا يمر بي من ذلك شيء إلا سألته عنه، وحفظته، فهذه وجوه ما عليه الناس في اختلافهم، وعللهم في رواياتهم([21]).

 

دعوني والتمسوا غيري مرة أخرى:

قد يقال: إذا كان «عليه السلام» هو صاحب الحق، فبيعة الناس له تكون واجبة، فما معنى قوله لهم: دعوني، والتمسوا غيري؟! أليس هذا نهياً لهم عن فعل ما يجب عليهم؟!

ونجيب:

بأنه «عليه السلام» يريد: أنهم إذا كانوا يريدون بيعته ليسير فيهم وفق السياسات التي اتبعها أسلافه، ووفق أهوائهم وعصبياتهم، فلا يراعي فيهم أحكام الشرع، ولا يعمل فيهم بكتاب الله وسنة نبيه، فيجب عليه ردعهم ومنعهم عن بيعة تستبطن هذه الشروط..

وليس هؤلاء ـ والحال هذه ـ هم الذين يمكنه أن ينتصر ويستعين بهم على إقامة الحق، وكبح جماح الباطل..

وهذا ما أراده «عليه السلام» بقوله في الخطبة الشقشقية: «لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها».

دعوني والتمسوا غيري مرة ثالثة:

1 ـ قد يقال: من الواضح: أن الإمام «عليه السلام» منصوص عليه، ومنصوب من قبل الله سبحانه وتعالى.. ولا خيار له في هذا الأمر، وليس له أن يتخلى عن هذا المقام بأي وجه..

فالإمامة كالنبوة، لا يبطلها كف اليد ولا بسطها، فلا معنى لقوله: دعوني والتمسوا غيري، إذا كان يقصد بذلك ترك التصدي لما فرض الله عليه التصدي له:

وأما إذا كان يقصد رفض نصب الناس له، وعدم الرضا بأن يكون سلطانه مأخوذاً منهم ومستنداً إليهم، ومن خلال بيعتهم له، فإن رفضه لهذه السلطنة يكون في محله.. لأن له كل الحق أن يرفض سلطنتهم المصطنعة والموهومة، والتي يريدون التوسل بها إلى أغراضهم الدنيوية..

2 ـ وبالنسبة لتعهده بأن يكون أطوعهم لمن ولوه أمرهم، نقول:

لا بد أن يفهم على أنه قرار فرضته التقية والمداراة في الحدود التي لا توقعه في محذور المخالفة لأحكام الله وشرائعه..

3 ـ وأما كونه لهم وزيراً خير لهم منه أميراً، فإنما لوحظ فيه حالتهم التي هم عليها، والتي لا يريدون الخروج منها، فإن إمارته سوف تصادم أهواءهم ورغباتهم، ولربما يزين لهم الشيطان أن يخرجوا عليه ويحاربوه. ولا شك في أن هذا سيؤدي بهم إلى الهلاك المحتم في الدنيا والآخرة..

فبقاءهم في الدرجات الدنيا من المخالفة خير لهم من أن ينتقلوا إلى الدرجات العليا منها، التي هي غاية في الخزي والشقاء.

وربما يكون المقصود إجراء الكلام حسب زعمهم واعتقادهم، ووفق ما يفكرون به، ويرونه لأنفسهم، وهذا أسلوب معهود في المحاورات..

والله العالم بالحقائق..

تجنيات المعتزلي:

قال المعتزلي: «هذا الكلام يحمله أصحابنا على ظاهره، ويقولون: إنه «عليه السلام» لم يكن منصوصاً عليه بالإمامة، وإن كان أولى الناس بها، لأنه لو كان منصوصاً عليه لما جاز أن يقول: دعوني، والتمسوا غيري».

ثم ذكر أن الإمامية قالوا في تأويل هذا الكلام:

ألف: إنه أراد أن يقول: إنه سوف لا يسير فيهم بسيرة الخلفاء، ويفضل بعضهم على بعض في العطاء.

ب: أن الكلام جار مجرى التضجر والتسخط لأفعال الذين أعرضوا عنه في السابق للأغراض الدنيوية.

ج: إنه كلام خرج مخرج التهكم، كقوله تعالى: ذق إنك أنت العزيز الكريم. أي بزعمك.

ثم قال: واعلم أن ما ذكروه ليس ببعيد أن يحمل الكلام عليه لو كان الدليل قد دل على ذلك، فأما إذا لم يدل عليه دليل، فلا يجوز صرف اللفظ عن ظاهره([22]).

ونجيب المعتزلي على كلامه هذا:

بما ذكره العلامة المجلسي رضوان الله تعالى عليه، حيث قال ما محصله:

أولاً: إن المعتزلي وأصحابه يقولون بأفضلية علي «عليه السلام» على غيره. ولكن كلامه هذا يقتضي أن تكون خلافته «عليه السلام» مرجوحة، وأن كونه وزيراً أولى من كونه أميراً. وهذا ينافي القول بأفضليته «عليه السلام».. لأن أفضليته تعني أنه لا يصح تفضيل المفضول عليه.

ولا يجوز للناس أن يعدلوا عنه إلى غيره.

ولا يجوز له هو «عليه السلام» أن يأمرهم بتركه، والتماس غيره، مع عدم ضرورة تدعو إلى ترك هذا الأفضل.

ثانياً: لنفترض أن الضرورة دعت إلى تقديم المفضول، فلا فرق بين قول الإمامية وقول غيرهم، إذ كما يجوز تقديم المفضول على الأفضل في الإمامة الواجبة بالدليل لأجل تلك الضرورة، كذلك يجوز تقديم المفضول على الأفضل في الإمامة الواجبة بالنص ـ لأجل الضرورة أيضاً.

فالتأويل لازم على قول الإمامية والمعتزلة على حد سواء..

ولا نعلم أحداً قال بتفضيل غيره عليه، ورجحان العدول إلى أحد سواه في ذلك الزمان.

ثالثاً: إن ظاهر الكلام، بل صريحه، أنه «عليه السلام» حين قال لهم: دعوني والتمسوا غيري قد بيَّن: أن سبب قوله هذا هو أن الآفاق قد أغامت، والمحجة قد تنكرت، وأنهم مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، وأنه إن أجابهم حملهم على المحجة.

وذلك يعني: أن السبب هو وجود المانع من القبول، وليس هو عدم النص ولا أنه لم يكن متعيناً للإمامة، أو لم يكن أحق وأولى بها([23]).

وكانه «عليه السلام» يقول لهم: إن تصميمكم على متابعة شهواتكم، وعدم تراجعكم عنه يجعل من الأفضل لكم تركي، لأن إصراركم هذا يمنع من قبولي ما تعرضونه عليَّ. وأما بعد إصراركم، فإن الموضوع يكون قد تغير بسبب هذا الإصرار، وصار هذا القبول واجباً.

لعلي أسمعكم وأطوعكم:

ومن الواضح: أن قوله «عليه السلام»: «لعلي أسمعكم وأطوعكم» يشير إلى أن الظروف كانت لا تزال تفرض المجارات في هذا الأمر، رعاية لمصلحة الإسلام العليا.. كما أنه يشير بكلمة «لعل»، إلى أن طاعته مشروطة بأمرين:

أحدهما: ما إذا تفاقم الأمر، إلى حد المساس بأسس الإسلام، وإلحاق ضرر به أعظم من ضرر مخالفتهم ومعصيتهم.

الثاني: ما إذا كان عصيانهم لا يشكل أي خطر، بل يكون مفيداً في تصحيح الخطأ، أو في أي مجال آخر.. كما جرى حين مخالفته لعمر في لباس إحرامه، ولعثمان في إتمام الصلاة بمنى، حيث لم يترتب على تلك المخالفة إلا ما هو خير وصلاح للدين..

أنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً:

وقد ذكرنا أيضاً: أنه «عليه السلام» أراد بـ «الخيرية» في قوله: أنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً: أنهم إذا كانوا مصممين على الاستمرار في النهج الذي كرسه الخلفاء السابقون، وظهرت بعض نتائجه في عهد عثمان، ويريدون البيعة لعلي «عليه السلام» على هذا الأساس، فمن الواضح: أن ذلك سوف يقود إلى أحداث بالغة الخطورة، لا يمكن تلافيها إلا بأن يصرفوا النظر عن علي «عليه السلام» الذي لن يرضى بأن يكون مطية لهم لتنفيذ أهوائهم، والسير في طريق لا يرضاه الله سبحانه..

فترك علي «عليه السلام» لهم أوفق بما يطمحون إليه، ويوفر عليهم مواجهة أخطار لا يحبون مواجهتها، وكونه ـ في هذه الحال ـ وزيراً يشير على الأمير بالحق، ويقلل من وقوع المخالفات، ويعلن حكم الله ويبينه لهم، ويقيم الحجة عليه وعليهم، ويواجههم بالحق، ليحيا من حيي عن بينة.. إن هذا خير لهم، بحسب ما يفكرون فيه، ويطمحون إليه. وليهلك من هلك عن بينة..

وهذا في الحقيقة انصياع لقاعدة الأهم والمهم، فإن حفظ الكيان العام من التصدع أهم من الوقوع في مخالفة بعض الأحكام، شرط أن لا يتحول الانحراف والباطل ليصبح هو الشرع والحق.

وهذا إنما يصح في صورة ما لو كانت وزارة علي «عليه السلام» تعطيه الفرصة في بيان ما هو حق وشرع، والمنع من التباس الحق بالباطل..

كما أن هذا البيان والتصدي يصبح مشروعاً ومطلوباً، ويكرَّس في الأمة على أنه نهج وطريقة متبعة في مجالات التعامل، وإجراء السياسات العامة..

والشاهد على أن هذا هو ما يرمي إليه «عليه السلام»: أنه حين بويع «عليه السلام» بادر طلحة والزبير، ومن معهما إلى نكث البيعة، وخوض حرب طاحنة، ثم كان تمرد القاسطين والمارقين، لأنهم يريدون أن يكون علي «عليه السلام» كما كان عثمان وغيره لهم.

فظهر أن إمارته «عليه السلام» سوف تحمل معها مسؤوليات لا يحبون تحملها.. لأن علياً «عليه السلام» لا يرضى إلا بمرِّ الحق، ولن يقر له قرار حتى يحملهم على الجادة..

إذا كان علي أميراً:

لقد بات واضحاً: أن تكليف علي «عليه السلام» حين يكون إماماً مبسوط اليد يختلف عن تكليفه حين تُكفُّ يده، ويغتصب حقه. فإذا أصبح إماماً مبسوط اليد صار مسؤولاً عن كل ما يجري، ولا بد من متابعته وإقامة الحق والعدل بكل صورة ممكنة.. وإن كان قد يحتاج إلى إجراء قاعدة الأهم والمهم في بعض الموارد، ولكن لا بصورة انتقائية، أو بدوافع شخصية، بل لا بد أن ينبع المحرك والداعي لاعتماد هذه القاعدة من المعطيات الواقعية، وفق المعايير والموازيين الصحيحة، التي يعرفها علي «عليه السلام» أكثر من كل أحد.

أما حين يكون علي «عليه السلام» في خارج دائرة الحكم، فإن مسؤولياته تصبح مقصورة على حفظ الشريعة ومصالح الأمة، بالمقدار الذي لا يخل بالكيان، ولا يسقطه، وتكون المعونة على حفظه، والمشورة في نطاق حفظ الدين، وصيانة أحكام الشريعة هي المجال المفتوح أمام حركته العملية «صلوات الله وسلامه عليه»..

لهم الخيار:

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن قوله «عليه السلام» دعوني والتمسوا غيري، قد جاء على سبيل إرجاع الخيار لهم، لأنهم هم الذين يقررون إن كانوا سيتخلون عن مطامعهم، وعن النهج الذي تكرس على خلاف ما سنه الله ورسوله، أو لا يتخلون عنه.

فإن اختاروا التخلي عن ذلك وبايعوه كان لهم الفضل العظيم، والمقام الكريم عند الله، وكانت لهم السعادة والفلاح، والسداد والنجاح في الدنيا والآخرة، كما أشار «عليه السلام» في إحدى خطبه المذكورة فيما تقدم([24]).

وإن أصروا على متابعة طريقهم، فهم أمام خيارين:

أحدهما: أن يصروا على البيعة له «عليه السلام»، وحينئذٍ يتوجب عليهم أن يتحملوا أعباء وتبعات ما تجنيه أيديهم، حيث سيجدون في علي «عليه السلام» السد المنيع أمام أهوائهم وأطماعهم، حتى لو كلفه ذلك خوض اللجج، وبذل المهج، حين ينكثون بيعتهم وحين يبغون عليه، ويسعون للفساد في الأرض..

الثاني: أن يصرفوا النظر عن البيعة له، ويرضوا به وزيراً معيناً لهم في دفع الأخطار عن الإسلام وأهله، ومشيراً عليهم بما هو حق وصدق، حين تجدي المشورة، أو مجاهراً بالحق ونصرته، وبإدانة الباطل والإنحراف، بمقدار ما تيسَّر وأفاد، وفي حدود حفظ الكيان العام..


([1]) الجمل للشيخ المفيد ص130 و (ط مكتبة الداوري ـ قم) ص65.

([2]) نهج البلاغة (بشرح عبده) ج1 ص181 بحار الأنوار ج32 ص35 و 36 وج41 ص116 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج7 ص33 وموسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي ج12 ص157 وراجع: مناقب آل أبي طالب ج1 ص378.

([3]) راجع: بحار الأنوار ج32 ص26 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج10 ص6.

([4]) راجع: بحار الأنوار ج32 ص8 وتاريخ الأمم والملوك ج4 ص427 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص451 والكامل في التاريخ ج3 ص193 وحياة الإمام الحسين «عليه السلام» للقرشي ج1 ص401 وراجع: العبر وديوان المبتدأ والخبر ج2 ق1 ص151.

([5]) راجع: مناقب آل أبي طالب ج1 ص378 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج7 ص33 وج11 ص9 وأعيان الشيعة ج1 ص444 وبحار الأنوار ج32 ص8 و 23 و 35 وج41 ص116 والفتنة ووقعة الجمل ص93 وتاريخ الأمم والملوك ج3 ص456 والكامل في التاريخ ج3 ص193.

([6]) راجع: بحار الأنوار ج32 ص7 وتاريخ الأمم والملوك ج3 ص450 والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج2 ق1 ص150 وأنساب الأشراف ج3 ص11 و شرح إحقاق الحق (الأصل) ج18 ص148.

([7]) راجع: نهج البلاغة (بشرح عبده) ج3 ص111 وبحار الأنوار ج32 ص120 و 126 و 135 وكشف الغمة ج1 ص238 و (ط دار الأضواء) ج1 ص240 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج4 ص165 و 169 ومناقب آل أبي طالب ج2 ص338 وموسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي ج7 ص13 ونهج السعادة ج4 ص63 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج17 ص131 والإمامة والسياسة (تحقيق الزيني) ج1 ص66 و (تحقيق الشيري) ج1 ص90 وكتاب الفتوح لابن أعثم ج2 ص465 والمناقب للخوارزمي ص183 ومطالب السؤول ص212 والفصول المهمة لابن الصباغ ج1 ص386 وسفينة النجاة للتنكابني ص271.

([8]) راجع: نهج البلاغة (بشرح عبده) ج2 ص184 والأمالي للشيخ الطوسي ص340 و (ط دار الثقافة ـ قم سنة 1414هـ) ص732 وبحار الأنوار ج32 = = ص30 و 50 والمعيار والموازنة ص114 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج11 ص7 وفضائل أمير المؤمنين «عليه السلام» لابن عقدة الكوفي ص94.

([9]) راجع: فتح الباري ج13 ص48 وتاريخ الأمم والملوك ج4 ص491 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص505.

([10]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج20 ص299 والإمام علي بن أبي طالب للهمداني ص728 والدرجات الرفيعة ص38.

([11]) بحار الأنوار ج32 ص23.

([12]) الجمل للشيخ المفيد ص259 و (ط مكتبة الداوري ـ قم) ص140 مصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج4 ص183 ونهج السعادة ج4 ص60.

([13]) أنساب الأشراف للبلاذري ج2 ص353 و (ط مؤسسة الأعلمي سنة 1394هـ 1974م) ص103 وحياة الإمام الحسين «عليه السلام» للقرشي ج1 ص400.

([14]) راجع: فتح الباري ج13 ص48 وتاريخ الأمم والملوك ج4 ص491 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص505.

([15]) نهج البلاغة (بشرح عبده) ج1 ص37 وعلل الشرائع ج1 ص51 والإرشاد ج1 ص289 والإفصاح للشيخ المفيد ص46 والأمالي للشيخ الطوسي ص374 والإحتجاج للطبرسي ج1 ص288 ومناقب آل أبي طالب ج2 ص49 والطرائف لابن طاووس ص419 وكتاب الأربعين للشيرازي ص168 وحلية الأبرار ج2 ص290 وبحار الأنوار ج29 ص499 وتذكرة الخواص (ط النجف) ص125 ونثر الدر ج1 ص275 ومعاني الأخبار ص362.

([16]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج20 ص299 والدرجات الرفيعة ص38 والإمام علي بن أبي طالب «عليه السلام» للهمداني ص728.

([17]) نهج البلاغة (بشرح عبده) ج2 ص13 وكتاب الأربعين للشيرازي ص194 والمعيار والموازنة ص277 وتحف العقول ص239 وبحار الأنوار ج34 ص110 وج74 ص295 والسقيفة للمظفر ص158 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج8 ص263 وحياة الإمام الحسين «عليه السلام» للقرشي ج1 ص310.

([18]) الآية 41 من سورة الأنفال.

([19]) الآية 7 من سورة الحشر.

([20]) الكافي ج8 ص58 ـ 63 وبحار الأنوار ج34 ص 172 ـ 175 والإمام علي بن أبي طالب للهمداني ص734 ـ 736 الاحتجاج ج1 ص626 ـ 628.

([21]) الاحتجاج ج1 ص629 ـ 631 و (ط دار النعمان) ج1 ص393 ـ 395 وراجع: بحار الأنوار (ط حجرية) ج8 ص651 و (ط جديد) ج34 ص169 وج1 ص62 والخصال ج1 ص255 والغيبة للطوسي (ط بيروت) ص49 وعن كتاب سليم بن قيس ص124 مختصراً.

([22]) راجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج7 ص35 وبحار الأنوار ج32 ص37.

([23]) بحار الأنوار ج32 ص37 و 38.

([24]) راجع الخطبة المتقدمة.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان