صفحة :111-144 

1-الفصل الرابع: البيعة: حديث.. ورواية..

 2- صيغة البيعة:

وقد دلنا ما جرى للإمام الرضا «عليه السلام» حين بويع بولاية العهد على أمور هامة ترتبط بصيغة البيعة، وبصحة بعض صيغها وبطلانه، فلاحظ ما يلي:

1 ـ قال أبو الفرج عن البيعة للإمام الرضا «عليه السلام» بولاية العهد: «فلما كان ذلك اليوم ركب الناس من القواد والقضاة، وغيرهم من الناس في الخضرة، وجلس المأمون، ووضع للرضا وسادتين عظيمتين حتى لحق بمجلسه وفرشه. وأجلس الرضا عليهما في الخضرة، وعليه عمامة وسيف.

ثم أمر ابنه العباس بن المأمون فبايع له أول الناس، فرفع الرضا يده، فتلقى بظهرها وجه نفسه وببطنها وجوههم.

فقال له المأمون: ابسط يدك للبيعة.

فقال له: إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» هكذا كان يبايع، فبايعه الناس([1]).

2 ـ روي: أن الناس كلهم بايعوا للإمام الرضا «عليه السلام» في ذلك المجلس، فكانوا يصفقون بأيمانهم على يمينه من أعلى الإبهام إلى الخنصر، ويخرجون، حتى بايع في آخر الناس فتى من الأنصار، فصفق بيمينه من أعلى الخنصر إلى أعلى الإبهام، فتبسم أبو الحسن الرضا «عليه السلام» ثم قال:  «كل من بايعنا بايع بفسخ البيعة غير هذا الفتى، فإنه بايعنا بعقدها».

فقال المأمون: وما فسخ البيعة وما عقدها؟!

قال أبو الحسن «عليه السلام»: عقد البيعة هو من أعلى الخنصر إلى أعلى الإبهام. وفسخها من أعلى الإبهام إلى أعلى الخنصر.

قال: فماج الناس في ذلك، وأمر المأمون بإعادة الناس إلى البيعة على ما وصفه أبو الحسن «عليه السلام».

وقال الناس: كيف يستحق الإمامة من لا يعرف عقد البيعة؟! إن من علم لأولى بها ممن لا يعلم.

قال فحمله ذلك على ما فعله من سمه([2]).

ونقول:

ألف: قد تضمنت الروايتان حدثين هامين حصلا في مجلس البيعة للإمام الرضا «عليه السلام»، وقد أشارت أولاهما إلى أحدهما، والثانية إلى الحدث الآخر.

ونحن نشير إلى كل واحدة منهما على النحو التالي:

ألف: بالنسبة للرواية الأولى نقول:

1 ـ من الواضح: أن نفس اختيار المأمون العباسي، الذي أوغل آباؤه في دماء آل أبي طالب أيّما إيغال، حتى لقد أنسوا الناس ما فعله بنو أمية فيهم؛ إن هذا الإختيار كان مثيراً إلى أقصى درجات الإثارة، وهو يهم كل فرد فردٍ في أقطار الدولة الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها، وسيهتمون برصد كل حركة تجري في مجلس البيعة، وقبله وبعده، بدقة متناهية، وسيسعون إلى فهم مراميه ومعانيه بعمق، وستطير الأخبار بكل حركة، ولفتة في كل اتجاه.

2 ـ إذا رأى الناس أن أول حركة في البيعة وفي أبسط حالاتها، وهو رفع اليد، أو بسطها قد جاءت مغايرة لما عرفوه وألفوه، وظهر لهم أن الخليفة وأسلافه كانوا يجهلون وجه الصواب فيها، فإن ذلك سيثير لديهم سيلاً من الأسئلة، وسيرفد مخيلتهم بكثير من الصور المتزاحمة عن مدى صحة خلافة المأمون، وخلافة أسلافة، وعن جامعيتها لشرائط القبول وعدمه.

3 ـ يؤكد مشروعية هذه الخواطر أن جهل الخليفة وأسلافة قد ظهر في أمر فعله رسول الله «صلى الله عليه وآله» مرات عديدة مع ألوف من المسلمين المنتشرين في أقطار الدولة الإسلامية، فإنه قد بايعه المسلمون عدة مرات، بدأً من بيعتي العقبتين الأولى والثانية، ثم بيعة الرضوان، انتهاءً ببيعة الغدير التي يقال: إن الذين حضروها وشاركوا فيها ومارسوها قد أنافوا على المائة وعشرين ألفاً، اجتمعوا إليه من كل بلد، وصقع، وحي، وعشيرة دخل الإسلام إليه وإليها.

فإذا كان بدء البيعة في شكلها الظاهري، وفي حركتها الأولى قد جاء خطأ، فما بالك بسائر تفاصيلها.

ويؤكد هذه الحقيقة نفس اعتراض المأمون وطلبه من الإمام أن يبسط يده للبيعة.

فأجابه «عليه السلام» بقوله: إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» هكذا كان يبايع.

ب: وأما بالنسبة للحدث الآخر الذي تضمنته الرواية الثانية، فنقول:

1 ـ إنه بالرغم من أن بيعة الناس كانت بفسخ البيعة، فإن الإمام «عليه السلام» لم يبادر إلى التصحيح والتوضيح من أول الأمر، بل سكت إلى أن بايع جميع الناس، بما فيهم القواد والقضاة وتحقق من فسخ بيعتهم للمأمون أولاً، وله هو «عليه السلام» ثانياً. وبايعه آخر شخص بعقد البيعة، فحينئذٍ قال «عليه السلام» ما قال.

وبذلك وجد المأمون نفسه معزولاً عن مقام الخلافة تلقائياً، ولم يعد له بيعة عند أحد، حتى ولو موهومة. وهذا يعد كارثة بالنسبة إليه.

2 ـ قد ظهر لكل أحد أن سبب هذا المأزق الذي وقع فيه المأمون هو جهله، وعدم معرفته بكيفية عقد البيعة الشرعية، وأصبح هو بحاجة إلى التماسها من الناس الذين يمكن أن لا يعطوها له بعد أن أصبحوا في حل منها إلا بالتذرع بالقوة والبطش، والإكراه، وهو يريد أن يتظاهر بخلاف هذا.

3 ـ ظهر أيضاً: أن البيعة لأسلافه كانت فسخاً للبيعة لا عقداً لها.

4 ـ إنه لم يعد له أي فضل أو منة على الإمام الرضا «عليه السلام»، بل صار مصير خلافته مرتبطاً باختيار الناس، كما أنه لم يعد هو الذي جعل ولاية العهد له «عليه السلام».

5 ـ إذا كان المأمون يحتج بأسلافه، ويعتمد على نظرية إرث الخلافة منهم، فقد ظهر أن أسلافه قد فرطوا بهذا الأمر، بسبب جهلهم، وأفسحوا المجال للناس بفسخ بيعتهم لهم وله مرة بعد أخرى.

6 ـ إن أمر المأمون بإعادة البيعة فضيحة ما بعدها فضيحة، حيث لا يمكن التغاضي عن بيعة أي فرد منهم، وإعادة البيعة سوف يعرِّف كل فرد فرد بأنه هو المتفضل على المأمون، وأنه إن كان هناك عهد موهوم، فقد زال.

7 ـ إن إعادة البيعة تشتمل على اعتراف من المأمون بفسخ البيعة فعلاً، كما أنه لو لم يفعل ذلك، فإن شيوع هذه الكلمة عن الإمام «عليه السلام» سيؤدي إلى زلزلة الأرض تحت قدميه، وإلى بلبلة كبيرة، وإفساح المجال أمام التشكيك، وسيسهل على مناوئي المأمون تحويل ولاء الناس عنه إلى غيره، ما دام أن أصل البيعة صار موضع ريب وشك، لا سيما على لسان نفس الذي رضيه المامون شريكاً له في الحكم.

3- طلحة أول من بايع:

عن أبي المليح قال: خرج علي «عليه السلام» إلى السوق، وذلك يوم السبت لثماني عشرة خلت من ذي الحجة ـ فاتبعه الناس، وبهشوا([3]) في وجهه، فدخل حايط بني عمرو بن مبذول. وقال لأبي عمرة بن محصن: أغلق الباب.

فجاء الناس، فقرعوا الباب، فدخلوا، وفيهم طلحة والزبير، فقالا: يا علي، أبسط يدك.

فبايعه طلحة والزبير.

فنظر حبيب بن ذؤيب إلى طلحة حين بايع، فقال: أول من بدأ بالبيعة يد شلاء. لا يتم هذا الأمر.

وخرج علي إلى المسجد، فصعد المنبر وعليه إزار وطاق([4]) وعمامة خز، ونعلاه في يده، متوكئاً على قوس، فبايعه الناس وجاؤوا بسعد، فقال علي «عليه السلام»: بايع.

قال: لا أبايع حتى يبايع الناس، والله ما عليك مني بأس.

قال: خلوا سبيله، وجاؤوا بابن عمر، فقال: بايع.

قال: لا أبايع حتى يبايع الناس.

قال: ائتني بحميل.

قال: لا أرى حميلاً.

قال الأشتر: خلِّ عني أضرب عنقه.

قال علي «عليه السلام»: دعوه، أنا حميله، إنك ما علمت لسيِّء الخلق صغيراً وكبيراً([5]).

ونقول:

يرجى إمعان النظر بالأمور التالية:

4- اغلق الباب:

إنه «عليه السلام» أمرهم باغلاق الباب، ليفهمهم: أن رفضه البيعة ليس مجرد كلام يطلقه على سبيل المجاملة والتعزز، بل هو رفض له مبرراته الحقيقية. وها هو يؤكد لهم ذلك بتواريه عنهم داخل البستان، ثم يأمره بإغلاق الباب في وجههم، ليقطع الطريق على أهل الكيد والشنآن، لكي لا يشيعوا أنه «عليه السلام» هو الذي دعاهم إلى ذلك المكان، المنعزل عن الناس، لينفرد بهم، وليفرض عليهم قراره، ورأيه..

فإغلاق الباب، ثم قرع الناس له، واستفتاحهم يدل على أنهم هم الذين كانوا يطلبونه، ويسعون خلفه من مكان إلى مكان، حتى وجدوه في هذا المكان، الذي آثر أن يختفي به عنهم..

ويلاحظ: أن النص لم يصرح بأن الباب قد فتح لهم من قبل أصحاب القرار في فتحه وغلقه. ولا أشار إلى استئذان الناس بالدخول، فحصلوا على الأذن ممن يحق له أن يأذن، وأن لا يأذن..

بل النص يقول: قرعوا الباب، فدخلوا، فلعلهم تكاثروا على الباب، وعالجوه وفتحوه، ودخلوا من غير اذن.

ولعل الراوي اختصر الكلام، وطوى بعضه اعتماداً على معرفة الناس بالحال التي جرت عليها الأمور..

وظاهر النص: أن البيعة الأولى كانت في داخل ذلك البستان.

5- تشاؤم لا مورد له:

لقد خاب فأل حبيب، وتم الأمر لعلي «عليه السلام»، وحارب أعداء الله. وقام بالأمر أكثر من خمس سنوات..

ونكثُ الناكثين لبيعته، وحربُ القاسطين والمارقين له لا يضره «عليه السلام».. كما لم يضر النبي «صلى الله عليه وآله» حربه للمشركين في بدر وأحد، والأحزاب، وحنين، وسواها.. وكذلك حربه لليهود في فينقاع، والنضير وخيبر. وحربه للنصارى في مؤتة..

وهذا الحال ينسحب على الكثيرين من الحكام والخلفاء الذين حاربوا من اعتبروهم اعداء لهم.. سواء أكانوا محقين في حربهم أم مبطلين..

6- اليد الشلاء:

زعموا: أن طلحة كان أول من بايع علياً «عليه السلام»، وكانت يده شلاء.. فنظر إليه حبيب بن ذؤيب، فقال: أول من بدأ بالبيعة يد شلاء. لا يتم هذا الأمر([6]).

وفي نص آخر: أنه «عليه السلام» صعد المنبر، فصعد إليه طلحة بن عبيد الله، فصفق على يده، ورجل من بني أسد يزجر الطير قائم ينظر إليه. فلما رأى أول يده صفقت على يد أمير المؤمنين «عليه السلام» يد طلحة، وهي شلاء قال: إنا لله، وإنا إليه راجعون. أول يد صفقت على يده شلاء يوشك أن لا يتم هذا الأمر.

ثم نزل طلحة والزبير، وبايعه الناس بعدهما([7]).

ونقول:

إن هذا الحديث يستوقفنا من جهات:

أولاً: هل الذي تطير باليد الشلاء هو حبيب بن ذؤيب أو قبيصة بن ذؤيب، أو قبيصة بن جابر([8]). أو رجل من بني أسد؟!

ثانياً: إن هذا التطير لا أثر له، فقد تم الأمر لعلي «عليه السلام»، وحارب أعداءه، وحكم الناس عدة سنوات، ثم تم الأمر لولده الحسن من بعده.

ثالثاً: ورد النهي عن الطيرة، والتطير. وقد روي أنه «صلى الله عليه وآله» كان لا يتطير من شيء([9]). وكان «صلى الله عليه وآله» يحب الفأل الحسن، ويكره الطيرة([10]).

وحديث: لا عدوى ولا طيرة روي في صحاح أهل السنة وغيرها([11]).

رابعاً: إن صح هذا الحديث، فلا بد أن يحمل على أنه قيل من عدو وحاقد، أو معاند يريد أن يضعف أمر علي «عليه السلام»، ويزعزع ثقة الناس بحكومته.

7-علي يخبر.. ولا يتطير:

وروي عن علي «عليه السلام» أيضاً: أن أول من صعد المنبر طلحة، فبايعه بيده. وكانت أصابعه شلاء، فتطير منها علي «عليه السلام»، فقال: ما أخلقها أن تنكث.

ثم بايعه الزبير وسعد، وأصحاب النبي «صلى الله عليه وآله» جميعاً([12]).

وفي نص آخر: أنه «صلى الله عليه وآله» قال: «يد شلاء، أمر لا يتم. ما أخلقه أن ينكث بيعته»([13]).

ونقول:

أولاً: إن علياً «عليه السلام» لا يمكن أن يتطير بعد أن ورد النهي عن الطيرة([14]) كما تقدم.

ثانياً: لا مجال للقبول بأنه «عليه السلام» قد قال ذلك حين البيعة حتى على سبيل الإخبار بالغيب، لأن ذلك خلاف الحكمة وخلاف السياسة، ولا يرضاه منه عقلاء الناس، بل يعتبرونه عدواناً على طلحة، واتهاماً بلا مبرر معقول أو مقبول.

وسيكون طلحة معذوراً حين يكون سلبياً ـ إلى حد ما ـ في تعامله مع أمير المؤمنين «عليه السلام»..

وربما يكون هذا من دواعي التصرف أو الجعل والتزييف في هذه القضية.

ثالثاً: إن القول بأنه «عليه السلام» قد تطير إنما هو اجتهاد من الراوي وتكهن ورجم بالغيب، لأن الله تعالى لم يطلعه على قلب علي «عليه السلام» ليرى فيه التطير أو غيره..

فإن كان «عليه السلام» قد قال شيئاً يشير إلى ذلك، فلا بد أن يكون بعد أن ظهرت بوادر النكث لدى طلحة، وذلك حين خرج إلى مكة. أو في مناسبة أخرى.. تشير إلى الشروع في مقدمات إعلان العصيان.

8- لباس علي :

وقد لفت نظرنا: الكيفية التي ظهر فيها أمير المؤمنين «عليه السلام» حين البيعة في المسجد.. فكان لباسه «عليه السلام» في غاية التواضع والبساطة، ليس فيه أي شيء يشير إلى مظهر غير عادي، أو يختلف عن مظهره في سائر الأيام.. بل لعله أضاف إلى ذلك المظهر الطبيعي أنه جاء إلى المسجد ونعلاه في يده متوكئاً على قوس، ربما ليشير إلى ما ينتظرهم من مسؤوليات ومهمات، ربما تحتاج إلى استعداد، وإعداد للقوة.. وتهيئة لأسبابها..

9- جاؤوا بسعد وبابن عمر!!:

وقد أوحت رواية أبي المليح: بأن ثمة ممارسة لأساليب الترهيب والقهر ضد الناس، حيث قالت: جاؤوا بسعد، فقال علي «عليه السلام»: بايع.

إلى أن قالت: وجاؤوا بابن عمر، فقال: بايع. الخ.. وإنهما قد امتنعا عن البيعة.. وأن الأشتر «رحمه الله» قال: خل عني أضرب عنقه.

ولا شك في أن هذا من التزوير الرخيص والكذب الصراح..

فأولاً: ذكرنا في موضع آخر: أن جميع الصحابة وغيرهم ممن كان في المدينة قد بايع مختاراً..

ثانياً: إن الرواية نفسها تدل على ما نقول. فقد قالت: إنه «عليه السلام» جاء متوكئاً على قوس، فبايعه الناس. فجاؤوا بسعد، فقال علي «عليه السلام»: بايع.

قال: لا أبايع حتى يبايع الناس.. وكذلك قال ابن عمر.

فإذا كان الناس قد بايعوا فما معنى هذا التعلل من سعد، ومن ابن عمر؟!

وقد كان المفروض ـ حسب سياق الرواية ـ هو أن يجيبهما علي «عليه السلام» بقوله: ألا تريان الناس قد بايعوا؟! فما معنى هذا التعلل منكما؟!

ثالثاً: لا معنى لقول الأشتر: خل عني أضرب عنقه، فإن أحداً لم يكن ممسكاً بالأشتر ليصح قوله: خل عني الخ.. إذ التعبير المناسب في مثل هذه الحال هو أن يقول: خلني.. أو ائذن لي أضرب عنقه.

رابعاً: إن علياً «عليه السلام» قد اشترط عليهم أن يبايعوه طائعين، فكيف يقول الأشتر هذا القول مع وجود هذا الإشتراط؟! ألا يخشى من أن يتخلى علي «عليه السلام» عن هذا الأمر، بحجة أنهم قد نقضوا ما اشترطه عليهم في أول لحظة؟!

ولماذا لم يعترض علي «عليه السلام» على الأشتر، ولم يتهدده بذلك؟!

10- بيعة الزبير وطلحة لعلي ×:

سبق أن قلنا: إن عمر بن الخطاب بايع أبا بكر ليكون له الأمر من بعده. فكان الأمر كذلك، حتى إن عثمان كتب اسم عمر في وصية أبي بكر في حال غشية أبي بكر، فلما أفاق لم يعترض عليه، بل أيد وأكد..

وإنما فعل عثمان ذلك، لأنه أراد أن يرد له عمر هذا الجميل من بعده، فكان له ذلك.. فدبر أمر الشورى، وجعل ابن عوف حكماً.

فحكم ابن عوف لعثمان أيضاً، ليرد إليه عثمان الأمر أيضاً من بعده، ويكون شريكه فيه، كما كان عمر مع أبي بكر فخاب فأله، وتلاشى أمله..

وكان عمر قد حذر عثمان من أن يقدم أقاربه على غيرهم ـ ولعل عمر يقصد بذلك الغير ابن عوف نفسه ـ فلم تنفع وصية عمر هذه، واختار أقاربه، وقدمهم بالفعل..

وربما يكون تحذير عمر لعثمان من ذلك خوفاً من أن تصل الأمور إلى حد ينتقض الأمر على عثمان، وتفلت الأمور من يده، وينتقض الأمر على معاوية بسبب حمل عثمان على رقاب الناس، حيث يظهر من بعض النصوص أن عمر كان له هوى بمعاوية. ويجب أن يصل الأمر إليه فخاف أن تجري الأمور بعكس ذلك.

ومهما يكن من أمر، فإن ابن عوف لما أدرك أنه لن يصل إلى ما أمَّل، نابذ عثمان، وصار يسعى في عزله إلى أن مات قبله.. وتحقق مصداق قول علي «عليه السلام» لهما: «دق الله بينكما عطر منشم».

ثم قتل طلحة والزبير عثمان، طمعاً في أن يكون لهما الأمر من بعده أيضاً، فوجدا أن ذلك مستحيل مع وجود علي «عليه السلام»، فإن الناس تداكوا عليه لبيعته، حتى لقد كاد بعضهم يقتل بعضاً. فاضطرا إلى أن يبايعاه، على أمل أن يشركهما في شيء مما في يده، ثم أن يكون لهما الأمر من بعده.

فلما وجدا أن آمالهما تتبخر أيضاً، نابذاه واتهماه، وحارباه. وقد صرح الزبير بقوله: ما اللوم إلا علينا، كنا معه أهل الشورى ثلاثة (وهم: طلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص)، فكرهه أحدنا ـ يعنى سعداً ـ وبايعناه، فأعطيناه ما في أيدينا، ومنعنا ما في يده، فأصبحنا قد أخطأنا اليوم ما رجوناه أمس، ولا نرجو غداً ما أخطأنا اليوم([15]).

11- طلب ورفض:

قال اليعقوبي ما ملخصه:

وقد بايعه «عليه السلام» الناس إلا ثلاثة من قريش: مروان بن الحكم، وسعيد بن العاص، والوليد بن عقبة، وكان لسان القوم، فقال له: يا هذا، إنك قد وترتنا جميعاً: أما أنا فقتلتَ أبي يوم بدر صبراً. وأما سعيد فقتلتَ أباه يوم بدر، وكان أبوه نور قريش. وأما مروان فشتمت أباه، وعبت على عثمان حين ضمه إليه.

إلى أن قال: وتبايعنا على أن تضع عنا ما أصبنا، وتعفي لنا عما في أيدينا، وتقتل قتلة صاحبنا.

فغضب علي «عليه السلام» وقال: أما ذكرت من وتري إياكم، فالحق وتركم. وأما وضعي عنكم ما أصبتم، فليس لي أن أضع حق الله.

وأما إعفائي عما في أيديكم، فما كان لله وللمسلمين، فالعدل يعدل بينكم.

وأما قتلة عثمان، فلو لزمني قتلهم اليوم لزمني قتالهم غداً.

ولكم أن أحملكم على كتاب الله وسنة رسوله، فمن ضاق عليه الحق، فالباطل عليه أضيق، وإن شئتم فالحقوا بملاحقكم([16]).

وقال المعتزلي: «قد كان عثمان أقطع كثيراً من بني أمية، وغيرهم من أوليائه وأصحابه قطائع من أرض بيت المال، صلة لرحمه»([17]).

وقال ابن أعثم:

وذكروا: أن علياً «عليه السلام» بعث إلى مروان بن الحكم، وسعيد بن العاص، والوليد بن عقبة، فقال لهم: ما لي أراكم قد أبطأتم عن بيعتي؟!

قال: فتكلم الوليد بن عقبة، فقال: يا أبا الحسن، إنك وترتنا بأجمعنا، أما أنا فقتلت أبي صبراً يوم مكة([18])، وخذلت أخي عثمان بن عفان فلم تنصره، وأما سعيد بن العاص، فقتلت أباه يوم بدر وكان سيد بني أمية، وأما مروان فسحقت أباه عند عثمان لما رده إلى المدينة وضمه إليه.

ونحن نبايعك الآن على أن تقتل من قتل صاحبنا عثمان، وعلى أنك تسوغنا ما يكون منا، وعلى أنَّا إن خفناك على أنفسنا لحقنا بالشام عند ابن عمنا معاوية.

فقال علي «عليه السلام»: أما ما ذكرتم أني وترتكم فإن الحق وتركم.

وأما وضعي عنكم ما يكون منكم فليس لي أن أضع عنكم حقاً لله تعالى قد وجب عليكم.

وأما قتلي لقتلة عثمان فلو لزمني اليوم قتلهم لقتلتهم أمس.

وأما خوفكم إياي فإني أؤمنكم مما تخافون.

قال: فقال له مروان: أفرأيت إن نحن لم نبايعك ماذا تصنع بنا؟!

فقال علي «عليه السلام»: أصنع بكم أني أحبسكم حتى تدخلوا فيما دخل فيه المسلمون، وإن طعنتم ذلك عاقبتكم أشد العقوبة.

قالوا: فإننا نبايع.

قال: فبايع مروان، والوليد بن عقبة، وسعيد بن العاص صاغرين.

ثم إن الوليد بن عقبة أنشأ أبياتاً مطلعها:

تـقـدمـت لمـا لم أجـد لي مـقـدمـاً                أمامي ولا خلفي من الموت مرحلاً

إلى آخرها([19]).

قال: فبلغ علياً هذا الشعر، فأرسل إلى الوليد بن عقبة، وإلى صاحبيه مروان وسعيد بن العاص، فقال: إن خفتم من أمري شيئاً أمنتكم منه، وإن أبيتم إلا ما في أنفسكم فالحقوا بأي بلدة شئتم.

فقال مروان: لا بل نقيم.

فقال علي «عليه السلام»: ذاك إليكم.

قال: فأقام القوم بالمدينة، فقال رجل: يا مروان! كم أتت عليك من السنين؟! فلست من أعمارنا، وذلك لأنَّا لا نأمن علياً على أنفسنا.

قال: فقال الرجل: يا مروان! احذر علياً ولا يبلغه عنك هذا.

فقال مروان: والله ما أبالي أن قصَّر عني يده، وإن طوَّل عليَّ لسانه.

فقال له الرجل: مهلاً! فإنه إن طال عليك لسانه طال عليك سيفه.

فقال مروان: كلا، إن اللسان أدب، والسيف خطر.

قال: ثم انصرف مروان إلى منزله، وجعل يقول أبياتاً مطلعها:

إن تـكـن يا عـلي لم تـصـب الـذن‍ــ               ـب جـهـــاراً فــإن ذلــك ســراً

إلى آخرها.

قال: ففشا هذا الشعر بالمدينة، وهمَّ المسلمون بقتل مروان، فقال علي «عليه السلام»: دعوه فإنه لم يرد بهذا الشعر غيري.

قال: وبلغ الوليد بن عقبة ما قاله مروان، فعذله على ذلك، وبعث إليه أبياتاً مطلعها:

حـلـلـت المـديـنـة رخـو الخنـاق                 وقـد كـانـت النفس عند الحقم([20])

إلى آخرها.

قال: ففشا هذا الشعر وبلغ علياً، فقال: كل ما قال حسن إلا البيت الأخير، فإنه يخوفنا فيه بحربه إيانا.

قال: فكف مروان بن الحكم، ولم يقل شيئاً([21]).

ومما يدل على بيعة مروان لأمير المؤمنين «عليه السلام» أنه بعد هزيمتهم في حرب الجمل أراد مروان أن يبايع الإمام «عليه السلام»، فلم يرض «عليه السلام» وقال: أولم يبايعني بعد قتل عثمان؟! لا حاجة لي في بيعته، إنها كف يهودية([22]).

ولعله «عليه السلام» يقصد تشبيهه باليهود الذين ينكثون عهودهم باستمرار..

ونقول:

1 ـ إن مجرد السؤال عن سبب الإبطاء عن البيعة لا يعد إكراهاً. ولم نجد ما يدل على أن المسؤولين كانوا خائفين من شيء، بل كانوا يعيشون بأمن وسلام في بيوتهم، ولعل سياق ما جرى يدل على أنهم كانوا بانتظار هذا السؤال ليساوموا على هذه البيعة، وليحصلوا على امتيازات بسببها ومن خلالها.

2 ـ والغريب هنا: أن يبلغ الأمر بالوليد بن عقبة في أمنه لجانب علي «عليه السلام»: أن يعتذر له عن تخلفه عن بيعته بأعذار من هذا القبيل، فإن العذر الذي ساقه الوليد عن نفسه وعن صاحبيه يتضمن أمرين:

أحدهما: أنه «عليه السلام» خذل عثمان، وقد تجاهله «عليه السلام»، ولم يجبه عليه. ربما لأنه لم يرد أن يصرح له بأن نصره لم يكن يجب عليه. لا سيما بعد أن أصر عثمان على مواقفه، وتراجع عن توباته التي أعلنها، ولم يف بوعوده التي قطعها، مع علم الوليد وغيره بالجهد الذي بذله «عليه السلام» في سبيل إصلاح الوضع.

الثاني: إنه وترهم جميعاً، فقتل أباه يوم بدر. وقتل العاص أبا سعيد، واتخذ موقفاً سلبياً من إعادة الحكم بن العاص من منفاه.

وقد أجاب «عليه السلام» عن هذا كله بكلمة واحدة، وهي: أن الحق هو الذي وترهم، وهو إنما كان ينفذ هذا الحق، فمعاداتهم يجب أن تكون للحق لا للذي ينفذ أحكامه.. ولا يستطيع أحد أن يقول: إنني لا أريد الحق، ولا أرضاه.

3 ـ ثم يتضاعف العجب، حين ان هؤلاء الثلاثة ـ وهم يعرفون مدى التزامه بالحق وشدته فيه ـ يطلبون منه أن لا يجري عليهم أحكام الله تعالى.

وقد رد «عليه السلام» طلبهم بالاستناد إلى الدليل، لا بالعنف والزجر والتقريع. وبين لهم: أنه لا يستطيع أن يسوِّغهم ما ليس له الحق في تسويغه. إلا إذا كان يريد أن يكون خائناً للأمانة والعياذ بالله. وهذا ما لا يمكن تصوره في حقه مع تطهير الله له.

4 ـ قد يقال: إنه حين سأله مروان عما يفعله بهم إن لم يبايعوه. أجابه «عليه السلام» بأنه يحبسهم، فإن طعنوا عاقبهم أشد العقوبة.. وهذا معناه: أنه يريد أن يكرههم على البيعة.

وقد يجاب:

أولاً: أن هذا أيضاً لا يعني أنه بصدد إكراههم على البيعة. بل هو حكم المتمرد على أحكام الله، الممتنع عن القيام بواجباته الشرعية.

فإن من تكون الأمور واضحة له، وليس له أي عذر في الإمتناع عن البيعة سوى أنه يريد أن يقبض ثمنها انتهاكاً للحرمات، وتعدياً على المحرمات، ويرى أن له الحق في الخلاف، وفي فعل أي شيء ما دام أنه لم يبايع ـ إن من يكون كذلك ـ فلا بد من حبسه، لمنعه عن الإفساد والفساد، وحمله على الإلتزام بأوامر الله تبارك وتعالى، والخضوع لأحكامه..

وقد يشهد لذلك: بأنه «عليه السلام» لم يقل لمروان: أجبركم على البيعة، أو أحبسكم حتى تبايعوا، بل قال له: أحبسكم حتى تدخلوا فيما دخل فيه المسلمون، فيمكن أن يكون المراد بالحبس المنع، ولعله يريد به المنع من السفر، والتنقل في البلاد لإضلال العباد لا وضعهم في الحبس المعروف. وأن يكون المراد بالدخول فيما دخل فيه المسلمون هو القبول بالإلتزام بأحكام الله، والعمل بشرائعه. ثم أن يكون المراد بالطعن شق العصا، والتمرد والخروج، وإعلان الحرب عليه.

ثانياً: يمكن أن يكون قوله «عليه السلام»: «أحبسكم حتى تدخلوا فيما دخل فيه المسلمون» مدسوساً في كلام علي «عليه السلام»، أو محرفاً تحريفاً أريد له أن يكون شنيعاً. يصل بها إلى حد المناقضة لأقواله الأخرى الناطقة بأنه لا يكره أحداً على البيعة.

أما ما نسب إليه من أنه قال: لو كرهه رجل واحد لم يرض بالخلافة من الأساس.. فهو غير مقبول إن كان المقصود ظاهره، لأن طلحة والزبير مثلاً قد بايعاه، ولكنهما كانا كارهين لبيعته، وإن كانا غير مكرهين عليها.

إلا إن كان المقصود الكراهة التي تحتاج إلى إكراه.. لا مجرد الكراهة القلبية.

والشاهد على أن المطلوب هو الطعن في خلافته «عليه السلام» على النحو الذي ذكرناه، ما يلي:

ألف: قول الرواية نفسها بعد ذلك: «فبايع مروان والوليد بن عقبة، وسعيد بن العاص صاغرين.

ب: إن الشعر المنسوب للوليد بن عقبة يدل على ما نقول أيضاً، فقد قال:

تـقـدمـت لمـا لـم أجـد لي مقدماً         أمامي ولا خلفي من الموت مرحلاً

إلا إن كان يريد أنه تقدم في الدفاع عن عثمان حين ضاقت الأمور، ولم يجد بداً من مواجهة الموت.

ولكن إرسال علي «عليه السلام» إليهم بما يطمئنهم يدل على أنهم يريدون التعبير عن خوفهم من علي «عليه السلام» نفسه.

ج: لو أن علياً «عليه السلام» يريد أن يحبسهم لمجرد عدم بيعتهم له، لم يقل لهم: إن خفتم من أمري شيئاً أمنتكم منه، وإن أبيتم إلا ما في أنفسكم فالحقوا بأي بلدة شئتم.

بل كان يقول لهم: إن أبيتم إلا ما في أنفسكم عاقبتكم، أو حبستكم حتى تتراجعوا عنه.. فإن الحبس إنما يحتاج إليه من يريد أن يحبس في أمثال هذه الحال..

5 ـ يبدو أن ثمة سقطاً في الرواية المتقدمة أيضاً، وذلك في قول ذلك الرجل لمروان: فلست من أعمارنا، وذلك لأنا لا نأمن علياً على أنفسنا. حيث يبدو أن جواب مروان قد سقط قسم منه. إذ إن كلام الرجل قد تم بقوله: فلست من أعمارنا.. ثم ابتدأت إجابة مروان، وكان آخرها قوله: وذلك لأنا لا نأمن علياً على أنفسنا.. ولذلك عقب ذلك الرجل بقوله: يا مروان، إحذر علياً، ولا يبلغه عنك هذا.

6 ـ ويلاحظ: أن مروان لم يستطع أن يتهم علياً «عليه السلام» بشيء يمكنه أن يأتي عليه بأدنى شاهد، فحاول أن يدعي: أنه «عليه السلام» قد أصاب الذنب سراً.. واعترف بأنه لم يصبه جهاراً.

وذلك يشير إلى حرصه على اتهام علي «عليه السلام» ولو من دون دليل.

ولكن ظهور تنزه علي «عليه السلام» عن أي خطأ، وطهارته من أي ذنب قد أثار حفيظة المسلمين على مروان إلى حد أنهم هموا بقتله. لولا أن علياً «عليه السلام» كان هو المنقذ له، تفضلاً منه وتكرماً.

7 ـ الكلمات المطموسة في البيت الأخير في الهامش هي بيت القصيد، وهي التي لم تعجب علياً «عليه السلام»، ولعل المطموس كان هكذا: «وقرنا لحرب لنا قد نجم». ليدل على أن على مروان أن يبقى في موقع المهادنة لعلي «عليه السلام»، وإظهار الرضا والملاينة، ليتم استعدادهم لحربه «عليه السلام»، ويكون هذا البيت من أدلة تبييتهم نوايا النكث والغدر. وهذا ما حصل وتجسد بالفعل من خلال الوقائع بعد ذلك.

12-عثمان يصل رحمه:

وتقدم: أن المعتزلي زعم أن عثمان كان يُقْطِعُ أقاربه من أرض بيت المال صلة لرحمه.

ونقول:

أولاً: كان على عثمان أن يصل رحمه من ماله، لا من بيت مال المسلمين.. وهل هذا إلا من قبيل من يسرق المال ثم يتصدق به، ويقول: السرقة سيئة واحدة، والصدقة بعشر حسنات، فيبقى لي تسع حسنات!!..

ثانياً: إن التأمل فيما فعله علي «عليه السلام» يعطي: أنه تعامله مع ما تركه عثمان من مال وسلاح يشبه تعامله مع أصحاب الجمل، فإنه «عليه السلام» اعتبر ما حواه العسكر وما قاتلوه به من الغنائم. ولكنه لم يتعرض لسائر ما تركوه من مال وسلاح وغيره مما لم يتقووا به..

وهكذا فعل «عليه السلام» مع عثمان، فإنه أخذ السلاح، وسائر ما تقوى به على المسلمين، دون ما عداه. وترك أمواله التي وجدت في داره وغير داره.

ولكنه لم يأخذ سلاح الذين هاجموا عثمان، وقتلوه، ولا أخذ ما تقووا به عليه، ولا تعرض لهم بشيء.

فهل هذا يدل على أنه يعتبرهم محقين في قتالهم لعثمان، وفي قتلهم إياه؟! ويعتبر موقف عثمان الرافض لأي تراجع عن المخالفات التي كانوا يطالبونه بالتراجع عنها، يبيح لهم قتله، لأنه يرفض الانصياع لضروريات الدين، ولصريح القرآن.. ويجعل قتاله لهم بغياً منه عليهم؟!..

ربما.. ولعل.. ولعل.. وربما..

ثالثاً: إنه «عليه السلام» قد قبض الأموال التي للمسلمين، واسترد ما أجاز به عثمان أصحابه وأقاربه.. واسترجع نجائب الصدقة. ولم يرض بما عرضه عليه الوليد، ومروان، وسعيد، بأن يترك لهم ما أصابوه، لأنه لا يحق له التخلي عن أموال المسلمين.. وتعهد لهم بأن يعاملهم بالعدل، وأن يحملهم على كتاب الله وسنة رسوله.

13- بايعني الذين بايعوا عثمان:

وربما يقال: إن بيعة عثمان صحيحة.. وكذلك البيعة لأبي بكر وعمر، لأن علياً «عليه السلام» استدل على صحة بيعته بقوله: «إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر، وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضا»([23]).

وزاد المعتزلي على ذلك: أن هذا يدل أيضاً على أن الإجماع على الإمام غير مطلوب، فإن إمامة أبي بكر قد ثبتت مع مخالفة سعد بن عبادة، إذ لم يبايعه سعد، ولا أحد من أهل بيته وولده، ولم يبايعه في بدء الأمر علي «عليه السلام» وبنو هاشم، ومن انضوى إليهم..

وحمله الإمامية على التقية، إذ لم يكن يمكنه «عليه السلام» أن يصرح لمعاوية بأنه منصوص عليه من النبي «صلى الله عليه وآله» بلا فصل.

قال المعتزلي: «وهذا القول من الإمامية دعوى لو عضدها دليل لوجب أن يقال بها، ويصار إليها، ولكن لا دليل لهم على ما يذهبون إليه»([24]).

ونقول:

أولاً: إنه لا ريب في أن الاحتجاج على الخصم بما هو مسلم عنده أسلوب عقلائي صحيح ومقبول.. وهو أقرب الطرق إلى حسم الأمور، وتحقيق النتائج المتوخاة. فليكن كلام أمير المؤمنين «عليه السلام» هنا جارياً على قاعدة إلزام الخصم بما ألزم به نفسه.. وليس هذا من قبيل التقية، كما نقله المعتزلي عن الشيعة.

ثانياً: لا يصح قول المعتزلي: لا دليل للإمامية على النص على أمير المؤمنين «عليه السلام»، إذ كفى بيوم الغدير دليلاً لهم، فضلاً عن حديث المنزلة: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، وغير ذلك مما يورده الإمامية من كتب خصومهم..

والشبهات التي يثيرها خصومهم حول تلك الأدلة، قد أظهر علماء الإمامية زيفها.. ولم يأتهم جواب من أحد على ذلك.

ثالثاً: قوله «عليه السلام» عن المهاجرين والأنصار: «فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضا»، لا يدل على صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان.. ولكنه يصحح خلافة علي «عليه السلام» فقط، لأن المقصود باجتماع المهاجرين والأنصار هو اجتماع الفئات المتباينة في نظرتها وفي توجهاتها. وفي نهجها. ولم يجتمع المهاجرون والأنصار على أبي بكر لمخالفة فريق سعد بن عبادة، وفريق بني هاشم ومن تابعهم..

وخلافة عمر فرع عن خلافة أبي بكر، كما أن خلافة عثمان قد استندت إلى خلافة أبي بكر أيضاً، فإذا لم تصح هذه لم يصح ما بني عليها، واستند إليها..

بل إن خلافة عثمان باطلة بنفسها، لأن مخالفة علي «عليه السلام» فيها الذي يمثل فريق بني هاشم، ومن تابعهم ـ بل ومعه طلحة والزبير أيضاً ـ تكفي لإسقاطها..

والرضا بها تحت وطأة التهديد بالسيف الذي لم يكن إلا بيد ابن عوف، لا يجدي في تصحيحها، فإنه لا بيعة لمكره.

أما خلافة أمير المؤمنين «عليه السلام» بعد قتل عثمان، فقد اجتمعت عليها جميع الفئات، باستثناء ثلاثة رجال من قريش هم: مروان، وسعيد بن العاص، والوليد بن عقبة([25]). وربما بعددهم من غيرهم. وهؤلاء لا يمثلون فريقاً يسقط البيعة عن مشروعيتها.. ولم يكن هناك مرشح آخر تكون دعوة هؤلاء له.. كي تعارض دعوتهم إليه إجماع الصحابة على أمير المؤمنين «عليه السلام».

رابعاً: بقي أن نشير إلى سؤال يقول:

إن الذين بايعوا عثمان لم يبايعوا علياً لأن ابن عوف وعثمان كانا قد ماتا. وسعد ابن أبي وقاص لم يبايعه لحسده له، فلم يبق إلا طلحة والزبير. فما معنى قوله «عليه السلام»: بايعني الذين بايعوا عثمان؟!

ويجاب: بأن المقصود هو صحابة رسول الله «صلى الله عليه وآله» بصورة عامة.. وامتناع شخص واحد هو سعد ـ الذي كان حسوداً ـ لا يضر في صحة البيعة وفي شمولها.. ولو أضر ذلك، لم تصح بيعة أبي بكر، فإن الذين لم يرضوا بخلافته وبايعوه تحت التهديد كانوا جماعات كثيرة..


([1]) مقـاتـل الطـالبيـين ص563 و 564 و (ط2 المكتبـة الحيدريـة سنة 1385هـ = = 1965م) ص 376 ومناقب آل أبي طالب ج4 ص369 و 364 و (ط المكتبة الحيدرية سنة  1376هـ 1956م) ج3 ص473 وبحار الأنوار ج49 ص146 والإرشاد للمفيد ج2 ص261 ومسند الإمام الرضا للعطاردي ج1 ص100 و 121 وأعيان الشيعة ج2 ص19 وإعلام الورى ج2 ص73 والدر النظيم ص679 وكشف الغمة ج3 ص70.

([2])  بحـار الأنـوار ج49 ص144 وج64 ص184 و 185 وعلل الشـرائـع ج1 = = ص228 و (ط المكتبة الحيدرية سنة  1385هـ 1966م) ج1 ص239 وعيون أخبار الرضا ج2 ص238 و (ط مؤسسة الأعلمي سنة  1404هـ 1984م) ج1 ص265 ومناقب آل أبي طالب (ط المكتبة الحيدرية سنة  1376هـ 1956م) ج3 ص477 و 478 ومسند الإمام الرضا للعطاردي ج1 ص101 و 128 وتفسير نور الثقلين ج5 ص60 وشرح ميمية أبي الفراس ص204. وعلل الشرائع، وعيون أخبار الرضا، ونور الأبصار، ونزهة الجليس.

([3]) بهشوا: بهش؛ إذا تهيأ للضحك، فأصل البهش: الإقبال على الشيء.

([4]) الطاق: الطيلسان.

([5]) تاريخ الأمم والملوك ج4 ص428 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص451 وراجع: الكامل في التاريخ ج3 ص191 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي ـ بيروت) ج7 ص253.

([6]) تاريخ الأمم والملوك ج4 ص428 و 435 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص451 و 456 والفصول المهمة لابن الصباغ ج1 ص351 وراجع: تاريخ مختصر الدول ص105 ونهاية الأرب ج20 ص10 وبحار الأنوار ج32 ص7 ونور الأبصار (ط اليوسفية) ص88 وراجع: العقد الفريد ج4 ص310 والمغني لعبد الجبار ج20 ق2 ص66 والكامل في التاريخ ج3 ص191 والبداية والنهاية ج7 ص238 و (ط دار إحياء التراث العربي ـ بيروت) ج7 ص253 وتذكرة الخواص ج1 ص347 وأنساب الأشراف (تحقيق المحمودي) ج2 ص205 و 206 وراجع: الفصول المختارة ص181 و 182.

([7]) الجمل للشيخ المفيد ص130 و (ط مكتبة الدواري ـ قم) ص65 وراجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ح4 ص7 وتاريخ الأمم والملوك ج4 ص435 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص451 و 456 والكامل في التاريخ ج3 ص194.

([8]) الفتوح لابن أعثم ج2 ص246 وأنساب الأشراف (تحقيق المحمودي) ج2 ص205 و 206.

([9]) مسند أحمـد ج1 ص257 و 304 و 319 وج5 ص347 ومجمع الزوائـد ج8 = = ص47 ومسند أبي داود الطيالسي ص350 وأمالي المحاملي ص281 والمعجم الكبير للطبراني ج11 ص114 وكنز العمال (ط مؤسسة الرسالة) ج7 ص136 وفيض القدير ج5 ص183 والكامل لابن عدي ج5 ص255 والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج2 ص231 وسن أبي داود (كتاب الطب) باب 24.

([10]) راجع: مكارم الأخلاق، الطبعة الأولى ج1 ص191 والبحار ج92 ص2 و 3 وفي ج74 ص165: إن الله تعالى يحب الفأل الحسن، وعوالي اللآلي ج1 ص291 وميزان الحكمة ج2 ص1760 وج3 ص2348 ومسند أحمد ج2 ص332 وسنن ابن ماجة ج2 ص117 وعن فتح الباري ج10 ص181 والمصنف لابن أبي شيبة ج6 ص225 وصحيح ابن حبان ج13 ص49 وشرح النهج للمعتزلي ج14 ص230 وموارد الظمآن ص346 والجامع الصغير ج5 ص294 وكنز العمال ج7 ص136 وج10 ص115 وفيض القدير ج5 ص294 وكشف الخفاء ج1 ص66 ومعجم البلدان ج5 ص102 وسبل الهدى والرشاد ج5 ص117 والكنى والألقاب ج1 ص293.

([11]) راجع: صحيح البخاري (ط دار الفكر) ج7 ص17 و 27 و 31 و 32 وصحيح مسلم (ط دار الفكر) ج7 ص31 و 32 و 33 و 34 ومسند أحمد ج1 ص180 و 269 وج2 ص24 و 153 و 222 و 420 و 434 و 507 وج3 ص130 و 154 و 173 و 178 و 251 و 276 و 278 و 293 وسنن ابن مـاجـة ج1 = = ص34 وسنن أبي داود ج2 ص231 و 232 وسنن الترمذي ج3 ص85 والسنن الكبرى للبيهقي ج7 ص216 وج8 ص139 وبحار الأنوار ج60 ص18 و 315 وج62 ص82 وج72 ص131 وج55 ص318 وكنز العمال (ط الهند) ج10 ص68 ـ 73 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج11 ص506 و (ط دار الإسلامية) ج8 ص370 والأمالي للمرتضى ج2 ص44 وج4 ص110 والفصول المهمة للحر العاملي ج3 ص281 ومصادر أخرى كثيرة.

([12]) راجع: المستدرك للحاكم ج3 ص114 والمعيار والموازنة ص22 و 51 والطبقات الكبرى لابن سعد ج3 ص31 والإمامة والسياسة ج1 ص66 والعقد الفريد ج3 ص311 والمناقب للخوارزمي ص49 وأسد الغابة ج4 ص31 وكشف الغمة ج1 ص150 وتذكرة الخواص ج1 ص346 وجواهر المطالب للباعوني ج1 ص294.

([13]) راجع: تذكرة الخواص ج1 ص346.

([14]) راجع: باب النهي عن الطيرة في بحار الأنوار ج55 ص312 فما بعدها.. ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج11 ص361 باب استحباب ترك التطير والخروج يوم الأربعاء ونحوه خلافاً على أهل الطيرة، وتوكلا على الله.. و (ط دار الإسلامية) ج8 ص262 وراجع: ومسند أبي داود ص150 وشرح معاني الآثار ج4 ص313 ومسند أحمد ج3 ص477 وج5 ص60 وسنن أبي داود ج2 ص230 والسنن الكبرى للبيهقي ج8 ص139 والمصنف لابن أبي شيبة ج6 ص225 وصحيح ابن حبان ج13 ص502 والمعجم الكبير للطبراني ج18 ص369 ورياض الصالحين للنووي ص654 وموارد الظمآن ج4 ص414 والجامع الصغير للسيوطي ج2 ص196 والعهود المحمدية للشعراني ص879 وتهذيب التهذيب ج3 ص60 وتهذيب الكمال ج7 ص474 وسبل الهدى والرشاد ج12 ص173 وكشاف القناع للبهوتي ج6 ص394 ومكارم الأخـلاق للطـبرسي ص350 والفصول المهمـة للحر العامـلي ج3 ص340 = = والغدير ج3 ص44 وسنن النبي «صلى الله عليه وآله» للسيد الطباطبائي ص135 والنص والإجتهاد للسيد شرف الدين ص308.

([15]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج7 ص42 والإمامة والسياسة (تحقيق الزيني) ج1 ص51 و (تحقيق الشيري) ج1 ص71.

([16]) تاريخ اليعقوبي ج2 ص178 و 179 بتصرف، وراجع: نهج السعادة ج1 ص216 و 217.

([17]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص269.

([18]) الصحيح: يوم بدر.

([19]) في موضعها خمسة أبيات لكنها مطموسة، وفي الترجمة ص164.

تـقـدمـت لمـا لم أجـد لي مـقـدمـاً                أمامي ولا خلفي من الموت مرحل
وأودي ابـن أمـي والحـوادث  جمة             فوافى المنــايـا والكتـاب المـؤجـل
أتـيـت عـلـيـاً كـنـت راض بأمره        ولانـاظـر فـيـه مـحـق ومـبـطـل

لعله: أتيت علياً «عليه السلام» ليس راض بأمره.

وأقول: لعلها: لست راض.

([20]) قال محقق الكتاب في الهامش: في د: موضعها أبيات كما يليه:

يـقـول عـلي بـرخــو الخــنــــاق                 ومـن ذا يـنــــــاظــره إن عــزم

في د: رخو وصححناه ليستقيم الوزن.

فــإيـــــاك إيـــاك لا تـــغــــره             بـنـفـسـك عـنـد انـقـطاع  الحزم
فـــإن عــلــيــــاً لـــه صـــورة            إذا مــا نَــتَــبّــعْ فــداء حـســم

في د: داء. فزدنا فيه حرفاً ليستقيم الوزن.

فــإن قــال قـــولاً لـــه عــلـــة            فـقـل عـنــد أول حـــرف نـعـم
وإن غـــرك الــقــوم (في) حلمـه                فـلا تــأمــن الليث وقـت  الأحم
وإن جــرَّؤوك عـــلـــى حــربـه          فـقـل فـي لـســانــي عـنـها بكم
ولا يـبـسـطـن إلـيــه الـيــديــن          ولا يـنـقـلــن إلــيـــه الــقـــدم
إلــى أن تــرى الـكف فيها البنان                وقــرنـــا... لــنـــا قـــد نـجم

موضع النقاط مطموس في د.

([21]) كتاب الفتوح لابن أعثم ج2 ص259 ـ 262 و (ط دار الأضواء سنة 1411) ج2 ص442 ـ 444.

([22]) نهج البلاغة الخطبة رقم 73 والخرائج والجرائح ج1 ص197 ح35.

([23]) نهج البلاغة (بشرح عبده) ج3 ص7 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج3 ص28 وج4 ص23 وكتاب سليم بن قيس (تحقيق الأنصاري مجلد واحد) ص292 وبحار الأنوار ج32 ص368 وج33 ص76 و 144 والغدير ج10 ص316 وموسوعة أحاديث أهل البيت «عليهم السلام» للنجفي ج5 ص453 ونهج السعادة ج4 ص90 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج3 ص75 وج14 ص35 ونور الثقلين ج1 ص551 والأخبار الطوال ص156 و 157 وتاريخ مدينة دمشق ج59 ص128 وصفين للمنقري ص29 والإمامة والسياسة ص93 و (تحقيق الزيني) ج1 ص84 و (تحقيق الشيري) ج1 ص113 وكتاب الفتوح لابن أعثـم ج2 ص494 والمنـاقب للخوارزمي ص202 وجـواهـر = = المطالب لابن الدمشقي ج1 ص367 والنجاة في القيامة في تحقيق أمر الإمامة لابن ميثم ص84 والعقد الفريد ج5 ص8.

([24]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج14 ص36 و 37.

([25]) تاريخ اليعقوبي ج2 ص178 ونهج السعادة ج1 ص216 وراجع: كتاب الفتوح لابن أعثم ج2 ص442.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان